رد: كتـــــاب العجــــــل في أجـــــــــــزاء
وللإجابة هناك عدّة فروض منها:
1- الخوف من اغتياله من قبل الطواغيت:
وهذا يمكن أن يكون صحيحاً إذا كان الإمام ظاهراً للجميع ، أمّا إذا كان غائباً غيبة غير تامة ، أي بوجود سفير فيكون الإمام (ع) بعيد عن أعين الطواغيت ومكرهم السيئ ، خصوصاً أنّه (ع) مؤيد من الله . وفي نفس الوقت يتصل بالمؤمنين ويوصل إليهم الأحكام الشرعية والتوجيهات التي يحتاجونها ، إذن للتخلّص من خطر الطواغيت يكفي الغيبة غير التامة مع السفارة ، فلا داعي للغيبة التامة ، والله أعلم .
2- عدم وجود شخص مؤهل للسفارة والنيابة الخاصة عن الإمام (ع):
حيث إنّ السفير عند الإمام يجب أن يتمتع بكثير من صفات الإمام (ع) ، فلا أقل من درجة عالية من الزهد والتقوى والورع ومخافة الله والمقدرة على إدارة شؤون الأمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، وأن يكون فقيهاً ، أي: إنّه على دراية بحديث المعصومين (ع) ، لا أن يكون فقيهاً بالمعنى المتعارف اليوم .
فالسفير لا يقوم باستنباط الأحكام الشرعية ، بل هو مؤمن مخلص يقوم بنقل الأحكام الشرعية من الإمام (ع) إلى الأمة ، كما أنّه مع وجود سفير للإمام (ع) لا يجوز لأحد استنباط حكم فقهي برأيه ، وإن كان فقيهاً جامعاً للشرائط المتعارفة اليوم .
وهذا يمكن أن يكون سبباً للغيبة التامة ، ولكن عدم وجود شخص واحد مؤهل للسفارة أمر بعيد ، هذا وقد ورد في حديثهم (ع) ما معناه: إنّ الإمام لا يستوحش من وحدته (ع) في زمن الغيبة مع وجود ثلاثين مؤمن من الصالحين ([148]) .
3- إعراض الأمة عن الإمام (ع):
وعدم الاستفادة منه استفادة حقيقية ، وعدم التفاعل معه كقائد للأمة ، فتكون الغيبة التامة عقوبة للأمة ، وربما يكون من أهدافها إصلاح الأمة بعد تعرضها لنكبات ومآسي بسبب غياب القائد المعصوم . فتكون الغيبة الكبرى شبيهة بتيه بني إسرائيل في صحراء سيناء ، أي: إنها عقوبة إصلاحية ، الهدف منها خروج جيل من هذه الأمة مؤهل لحمل الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض ، جيل لا يرضى إلاّ بالمعصوم قائداً ، ولا يرضى إلاّ بالقرآن دستوراً وشعاراً ومنهاجاً للحياة .
قال أمير المؤمنين (ع) في وصف إعراض هذه الأمة عن الإمام والقرآن: (وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله !! وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيءٌ أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حُملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذٍ وأهله منفيان طريدان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو !! فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم ؛ لأنّ الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ، فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة ، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ! فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطه وزبره !! ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثله ، وسمّوا صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة) ([149]) .
والدال على أنّ سبب الغيبة التامة هو إعراض الأمة عدّة أمور ، منها:
أ- التوقيعات الصادرة عنه (ع) عن طريق سفرائه قليلة جدّاً ، مما يدل على أنّ الأسئلة الموجهة إليه قليلة أيضاً .
ولعل قائل يقول: إنّ التوقيعات كثيرة ، ولكن لم يصل لنا منها إلاّ هذا العدد الضئيل .
والحق: إنّ هذا الاعتراض لا ينطلي على من تدبر قليلاً ، فلو كانت التوقيعات كثيرة لوصل لنا منها الكثير وإن ضاع منها شيء ، فحتماً أنّ أحاديث الرسول (ص) والإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام) لم تصل لنا جميعها ، ولكن وصل لنا منها الكثير ، وأحاديث الإمام (ع) ليست ببدع من أحاديث الأئمة (ع) ، والظروف التي أحاطت بها ليست بأعظم من الظروف التي أحاطت بخطب الإمام أمير المؤمنين (ع) حتى وصل لنا منها كتاب نهج البلاغة .
كما أنّ علماء الشيعة في زمن الغيبة الصغرى كانوا يهتمون في كتابة أحاديث الأئمة (ع) ، وعرض كتبهم على الإمام (ع) عن طريق السفراء ، ومن هذه الكتب الكافي للكليني (رحمه الله) ، فلماذا لم يهتم أحد منهم بكتابة التوقيعات الصادرة منه (ع) ؟!
والحقيقة أنهم اهتموا بكتابتها ، ولكنها قليلة .
ويدل على إعراض الناس عن العلم والإمام ما قدّم الكليني في كتابه الكافي . هذا والكليني عاش في زمن الغيبة الصغرى ، ومات في نهاية أيامها على الأصح ، فقد مات في شعبان سنة 329 هـ ق ، أي في نفس الشهر والسنة التي مات بها علي بن محمد السمري ، آخر السفراء الأربعة .
قال الكليني (رحمه الله): (أمّا بعد ، فقد فهمت ما شكوت اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة ، وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأصوله ، حتى كاد العلم معهم إن يأزر كلّه ، وينقطع مواده ، لِما قد رضوا إن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله) ([150]) .
وقال: (فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتاً مستقراً سبّب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه (ص) بعلم يقين وبصيرة ، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معاراً مستودعاً - نعوذ بالله منه - سبّب له الأسباب للاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في مشيئة الله إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه وإن شاء سلبه إياه ، ولا يؤمن عليه إن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ؛ لأنّه كلما رأى كبيراً من الكبراء مال معه ، وكلما رأى شيئاً استحسن ظاهره قبله . وقد قال العالم (ع) ([151]): (إنّ الله عزّ وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء ، وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلاّ أوصياء ، وأعار قوماً الإيمان فإن شاء أتمه لهم ، وإن شاء سلبهم إياه ، قال: وفيهم جرى قوله: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾) ([152]) .
فاعلم يا أخي أرشدك الله أنّه لا يسع أحد تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء (ع) برأيه ، إلاّ على ما أطلقه العالم بقوله: (اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزّ وجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه) ، وقوله (ع): (دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم) ، وقوله (ع): (خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) . ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ قلة ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم (ع) ([153]) ، وقبول ما أوسع من الأمر فيه بقوله: (بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم) ([154]) .
ب- ورد عنهم (ع) إنه مظلوم ، وإنه أخملهم ذكراً:
قال الباقر (ع): (الأمر في أصغرنا سناً ، وأخملنا ذكراً) ([155]) .
فخمول ذكره بين الشيعة دال على أعراضهم عنه (ع) .
ج - خرج منه (ع) توقيع إلى سفيره العمري ، جاء فيه: ( … وأمّا علة ما وقع من الغيبة ، فإنّ الله عزّ وجل قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ ([156])) ([157]) .
وربما يفهم من هذا الحديث أنكم سبب من أسباب الغيبة ، والحر تكفيه الإشارة .
وبعد جوابه على مسائل الحميري التي سألها ، قال (ع): (بسم الله الرحمن الرحيم ، لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون ، ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ ([158]) ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) ([159]) .
ولا يخفى ما في كلامه (ع) من ألم سببه إعراض هذه الأمة عن الحق وعنه (ع) ، ونحن أيّها الأحبة لو كنا موقنين أنّه حجة الله علينا لعملنا ليلاً ونهاراً لتعجيل فرجه ، ولقدّمناه على النفس والمال والولد .
د- ركون الأمة للطاغوت وإعانته بأي شكل كان ولو بالأعمال المدنية التي يعتقد الناس إباحتها ، وهذا بيّنٌ لمن تصفّّح التاريخ وخصوصاً في زمن الغيبة الكبرى . فقد أعان الطاغوت كثير من العلماء والجهلاء على السواء ، مع أنّ الإمام الكاظم (ع) اعترض على صفوان (رضي الله عنه) ؛ لأنّه أَجّر جماله للطاغوت العباسي هارون ليذهب بها إلى الحج .
قال تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ ([160]) .
قال الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله): (هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت (ع) ، وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين الاتصال بهم ومشاركتهم في أي عمل كان ومعاونتهم ولو بشق تمرة ، ولا شك أن أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور والتغاضي عن مساوئهم والتعامل معهم ، فضلاً عن ممالئتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم ، وما جر الويلات على الجامعة الإسلامية إلا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحق ، حتى ضعف الدين بمرور الأيام فتلاشت قوته ووصل إلى ما عليه اليوم فعاد غريباً وأصبح المسلمون أو ما يسمون أنفسهم بالمسلمين وما لهم من دون الله أولياء ، ثم لا ينصرون حتى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم كاليهود الأذلاء فضلاً عن الصليبيين الأقوياء .
لقد جاهد الأئمة (ع) في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين ، وشددوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالئتهم ، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين إلى محمد بن مسلم الزهري بعد أن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم: (أو ليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم ، داعياً إلى غيهم سالكاً سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دونما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم ، فما أقل ما أعطوك في قدر ما اخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر إليها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول) ([161]) .
وقال: (وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمال مع الإمام موسى الكاظم (ع) ، وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثوقين ، قال - حسب رواية الكشي في رجاله - بترجمة صفوان ، دخلت عليه فقال لي: (يا صفوان كل شيء منك حسن جميل خلا شيئاً واحداً ، قلت: جعلت فداك أي شيء ؟ قال (ع): إكراك جمالك من هذا الرجل – يعني هارون – قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق – يعني مكة – ولا أتولاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني ، قال: يا صفوان أيقع كراك عليهم ؟ قلت: نعم ، جعلت فداك . قال (ع): أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك ؟ قلت: نعم ، قال (ع): فمن أحب بقائهم فهو منهم ، ومن كان منهم فهو كان ورد النار ، قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن أخرها) ([162]) .
فإذا كان نفس حب حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنـزلة ! فكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم . إذا كان معاونة الظالمين لو بشق تمرة بل حب بقائهم من أشد ما حذر عنه الأئمة (ع) ، فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولايتهم ، بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم ، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم (وذلك إن ولاية الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد كما جاء في حديث تحف العقول) ([163]) .
إنّ العمل في الدوائر المدنية فضلاً عن الحربية في دولة الطاغوت إعانة للطاغوت على البقاء في الحكم ، وبالتالي فهي إعانة لأعداء الإمام المهدي (ع) ، ولا تستهينوا بهذا الأمر ففي الدول التي تتمتع شعوبها بشيء من الحرية إذا أراد جماعة معينة الضغط على حكومة ذلك البلد لتحقيق مطالب معينة أعلنوا إضراباً عن العمل .
فالحكومات الطاغوتية متقومة بكم أيها العمّال والمهندسون والموظفون ، أنتم العمود الرئيسي الذي يرتكز عليه الطاغوت .
ولعل بعضكم يقول: ماذا نفعل ؟ والحال اليوم أنهم متسلطون على رقابنا .
أقول: إنهم متسلطون على رقابنا منذ وفاة رسول الله (ص) لا لعيب في الأوصياء – الإمام علي وولده (ع) - ، ولكن العيب فينا نحن إننا دائماً متخاذلون عن نصرة الحق ، وربما عند ظهور الإمام المهدي (ع) سيقول كثيرون هذا ليس المهدي (ع) ؛ ليعطوا أنفسهم عذراً لتركهم نصرة الإمام المهدي (ع) كما فعل أهل مكة واليهود مع رسول الله (ص) ، مع أنّهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم في خلقه العظيم وأمانته وصدقه وتنـزهه عن الكذب في أمور الدنيا ، فكيف يكذب على الله سبحانه ؟! كما أنّهم عرفوه بالآيات والمعجزات التي أيده الله بها ، ولكنهم وجدوه يمثل جبهة الحق التي تصطدم بمصالحهم ، ووجدوه يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله مما يعرض حياتهم للخطر ، فخذلوه ونصره الله سبحانه . وسيخذل كثيرون الإمام المهدي (ع) وسينصره الله سبحانه .
فعن الإمام الصادق (ع): (لينصرن الله هذا الأمر بمن لا خلاق له ، ولو قد جاء أمرنا لقد خرج منه من هو اليوم مقيم على عبادة الأوثان) ([164]) .
وعبادة الأوثان ، أي طاعة الطواغيت ومسايرتهم ، بل واتباع الهوى .
وعن الإمام الصادق (ع): (إذا خرج القائم ، خرج من هذا الأمر من كان يُرى أنّه من أهله ، ودخل فيه شبه عبدة الشمس والقمر) ([165]) ، أي: يخرج من نصرة الإمام (ع) بعض الذين يدّعون التشيع ويرون أنهم من أنصار الإمام المهدي (ع) ، ويدخل في صفوف أنصاره قوم من غير الشيعة ، بل لعلهم من غير المسلمين بعد أن يعرفوا الحق ويشايعوا آل محمد (ع) . قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ([166]) .
وفي واقعة كربلاء وقف عمر بن سعد (لعنه الله) بين يدي الإمام الحسين (ع) يعتذر عن بقائه مع الطاغوت ، بأنّه يخاف القتل ويخاف أن تهدم داره ويخاف أن تسبى نساؤه ويخاف … ويخاف … ويخاف .
فلنحذر جميعاً أن نكون اليوم وغداً كعمر بن سعد (لعنه الله) ، نخذل الحق ونعتذر بأعذار قبيحة وحجج واهية .
وأكتفي بهذا القدر ، على أن سبب الغيبة هو: تقصير الأمة ، وإلاّ فالأدلة أكثر مما ذكرت . فإذا عرفنا أنّ أهم أسباب الغيبة التامة هو إعراض الأمة عن الإمام (ع) أصبح واجبنا جميعاً العمل لظهوره ورفع أسباب غيبته التامة ، بإعلاء ذكره وإظهار حقّه وتهيئة الأمة للاستعداد لنصرته عند ظهوره وقيامه ، ونشر الدين وطمس معالم الضلال والشرك ، والقضاء على الطواغيت وأعوانهم ، الذين يمثلون أهم أعداء الأمام المهدي (ع) ([167]) .
* * *
[148]- روى الشيخ الكليني: عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (ع) قال: (لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، ولابد له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة ، وما بثلاثين من وحشة) الكافي: ج1 ص340 ، غيبة النعماني: ص 194 ، غيبة الطوسي: ص 162 . وما في غيبة الطوسي فيه اختلاف يسير .
[149]- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج2 ص 31 ، بحار الأنوار: ج34 ص233 .
[150]- الكافي: ج1 ص5 .
[151]- المقصود به الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) ، فهذا أحد ألقابه .
[152]- الأنعام : 98 .
[153]- أي الإمام صاحب الأمر ، منه (ع) .
[154]- الكافي: ج1 ص8 .
[155]- غيبة النعماني: ص191 ، بحار الأنوار: ج51 ص43 .
[156]- المائدة: 101 .
[157]- كمال الدين: ص485 ، غيبة الطوسي: ص292 ، الاحتجاج: ج2 ص284 ، بحار الأنوار: ج52 ص92 .
[158]- القمر: 5 .
[159]- الاحتجاج: ج2 ص316 ، بحار الأنوار: ج91 ص2 ، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج4 ص349 .
[160]- هود: 113 .
[161]- عقائد الإمامية: ص113 .
[162]- اختيار معرفة الرجال: ج2 ص470 ، وسائل الشيعة: ج17 ص182 .
[163]- عقائد الأمامية: ص114 .
[164]- غيبة الطوسي: ص450 ، بحار الأنوار: ج52 ص329 ، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج3 ص423 .
[165]- غيبة النعماني: ص332 ، بحار الأنوار: ج52 ص364 ، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج3 ص501 .
[166]- التوبة:42 .
[167]- عن مروان الأنباري قال: خرج من أبى جعفر (ع): (إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم) علل الشرائع: ج1 ص244 .
أسباب الغيبة
الإمام (ع) لطف إلهي بالمؤمنين ، ووجوده ظاهراً بينهم فيه حثّ كبير لهم على الالتزام الديني ، فإذا امتنع ظهوره لخوف القتل مثلاً ، فإنّ وجود سفير له (ع) أفضل بكثير من غيبته التامة ؛ لأنّ السفير هو القائد البديل للإمام (ع) الذي ينقل أوامره (ع) ، فوجوده - أي السفير - كذلك لطف إلهي ؛ لأنّ وجوده شبه وجود المعصوم ، حيث بوجود السفير يمكن الاتصال بالإمام ومعرفة الأحكام الشرعية الصحيحة ، وخصوصاً ما يستجد منها مع مرور الزمن ، وإذا كان الأمر كذلك فما هو سبب الغيبة التامة ؟! وللإجابة هناك عدّة فروض منها:
1- الخوف من اغتياله من قبل الطواغيت:
وهذا يمكن أن يكون صحيحاً إذا كان الإمام ظاهراً للجميع ، أمّا إذا كان غائباً غيبة غير تامة ، أي بوجود سفير فيكون الإمام (ع) بعيد عن أعين الطواغيت ومكرهم السيئ ، خصوصاً أنّه (ع) مؤيد من الله . وفي نفس الوقت يتصل بالمؤمنين ويوصل إليهم الأحكام الشرعية والتوجيهات التي يحتاجونها ، إذن للتخلّص من خطر الطواغيت يكفي الغيبة غير التامة مع السفارة ، فلا داعي للغيبة التامة ، والله أعلم .
2- عدم وجود شخص مؤهل للسفارة والنيابة الخاصة عن الإمام (ع):
حيث إنّ السفير عند الإمام يجب أن يتمتع بكثير من صفات الإمام (ع) ، فلا أقل من درجة عالية من الزهد والتقوى والورع ومخافة الله والمقدرة على إدارة شؤون الأمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، وأن يكون فقيهاً ، أي: إنّه على دراية بحديث المعصومين (ع) ، لا أن يكون فقيهاً بالمعنى المتعارف اليوم .
فالسفير لا يقوم باستنباط الأحكام الشرعية ، بل هو مؤمن مخلص يقوم بنقل الأحكام الشرعية من الإمام (ع) إلى الأمة ، كما أنّه مع وجود سفير للإمام (ع) لا يجوز لأحد استنباط حكم فقهي برأيه ، وإن كان فقيهاً جامعاً للشرائط المتعارفة اليوم .
وهذا يمكن أن يكون سبباً للغيبة التامة ، ولكن عدم وجود شخص واحد مؤهل للسفارة أمر بعيد ، هذا وقد ورد في حديثهم (ع) ما معناه: إنّ الإمام لا يستوحش من وحدته (ع) في زمن الغيبة مع وجود ثلاثين مؤمن من الصالحين ([148]) .
3- إعراض الأمة عن الإمام (ع):
وعدم الاستفادة منه استفادة حقيقية ، وعدم التفاعل معه كقائد للأمة ، فتكون الغيبة التامة عقوبة للأمة ، وربما يكون من أهدافها إصلاح الأمة بعد تعرضها لنكبات ومآسي بسبب غياب القائد المعصوم . فتكون الغيبة الكبرى شبيهة بتيه بني إسرائيل في صحراء سيناء ، أي: إنها عقوبة إصلاحية ، الهدف منها خروج جيل من هذه الأمة مؤهل لحمل الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض ، جيل لا يرضى إلاّ بالمعصوم قائداً ، ولا يرضى إلاّ بالقرآن دستوراً وشعاراً ومنهاجاً للحياة .
قال أمير المؤمنين (ع) في وصف إعراض هذه الأمة عن الإمام والقرآن: (وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله !! وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيءٌ أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حُملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذٍ وأهله منفيان طريدان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو !! فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم ؛ لأنّ الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ، فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة ، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ! فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطه وزبره !! ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثله ، وسمّوا صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة) ([149]) .
والدال على أنّ سبب الغيبة التامة هو إعراض الأمة عدّة أمور ، منها:
أ- التوقيعات الصادرة عنه (ع) عن طريق سفرائه قليلة جدّاً ، مما يدل على أنّ الأسئلة الموجهة إليه قليلة أيضاً .
ولعل قائل يقول: إنّ التوقيعات كثيرة ، ولكن لم يصل لنا منها إلاّ هذا العدد الضئيل .
والحق: إنّ هذا الاعتراض لا ينطلي على من تدبر قليلاً ، فلو كانت التوقيعات كثيرة لوصل لنا منها الكثير وإن ضاع منها شيء ، فحتماً أنّ أحاديث الرسول (ص) والإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام) لم تصل لنا جميعها ، ولكن وصل لنا منها الكثير ، وأحاديث الإمام (ع) ليست ببدع من أحاديث الأئمة (ع) ، والظروف التي أحاطت بها ليست بأعظم من الظروف التي أحاطت بخطب الإمام أمير المؤمنين (ع) حتى وصل لنا منها كتاب نهج البلاغة .
كما أنّ علماء الشيعة في زمن الغيبة الصغرى كانوا يهتمون في كتابة أحاديث الأئمة (ع) ، وعرض كتبهم على الإمام (ع) عن طريق السفراء ، ومن هذه الكتب الكافي للكليني (رحمه الله) ، فلماذا لم يهتم أحد منهم بكتابة التوقيعات الصادرة منه (ع) ؟!
والحقيقة أنهم اهتموا بكتابتها ، ولكنها قليلة .
ويدل على إعراض الناس عن العلم والإمام ما قدّم الكليني في كتابه الكافي . هذا والكليني عاش في زمن الغيبة الصغرى ، ومات في نهاية أيامها على الأصح ، فقد مات في شعبان سنة 329 هـ ق ، أي في نفس الشهر والسنة التي مات بها علي بن محمد السمري ، آخر السفراء الأربعة .
قال الكليني (رحمه الله): (أمّا بعد ، فقد فهمت ما شكوت اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة ، وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأصوله ، حتى كاد العلم معهم إن يأزر كلّه ، وينقطع مواده ، لِما قد رضوا إن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله) ([150]) .
وقال: (فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتاً مستقراً سبّب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه (ص) بعلم يقين وبصيرة ، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معاراً مستودعاً - نعوذ بالله منه - سبّب له الأسباب للاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في مشيئة الله إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه وإن شاء سلبه إياه ، ولا يؤمن عليه إن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ؛ لأنّه كلما رأى كبيراً من الكبراء مال معه ، وكلما رأى شيئاً استحسن ظاهره قبله . وقد قال العالم (ع) ([151]): (إنّ الله عزّ وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء ، وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلاّ أوصياء ، وأعار قوماً الإيمان فإن شاء أتمه لهم ، وإن شاء سلبهم إياه ، قال: وفيهم جرى قوله: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾) ([152]) .
فاعلم يا أخي أرشدك الله أنّه لا يسع أحد تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء (ع) برأيه ، إلاّ على ما أطلقه العالم بقوله: (اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزّ وجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه) ، وقوله (ع): (دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم) ، وقوله (ع): (خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) . ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ قلة ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم (ع) ([153]) ، وقبول ما أوسع من الأمر فيه بقوله: (بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم) ([154]) .
ب- ورد عنهم (ع) إنه مظلوم ، وإنه أخملهم ذكراً:
قال الباقر (ع): (الأمر في أصغرنا سناً ، وأخملنا ذكراً) ([155]) .
فخمول ذكره بين الشيعة دال على أعراضهم عنه (ع) .
ج - خرج منه (ع) توقيع إلى سفيره العمري ، جاء فيه: ( … وأمّا علة ما وقع من الغيبة ، فإنّ الله عزّ وجل قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ ([156])) ([157]) .
وربما يفهم من هذا الحديث أنكم سبب من أسباب الغيبة ، والحر تكفيه الإشارة .
وبعد جوابه على مسائل الحميري التي سألها ، قال (ع): (بسم الله الرحمن الرحيم ، لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون ، ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ ([158]) ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) ([159]) .
ولا يخفى ما في كلامه (ع) من ألم سببه إعراض هذه الأمة عن الحق وعنه (ع) ، ونحن أيّها الأحبة لو كنا موقنين أنّه حجة الله علينا لعملنا ليلاً ونهاراً لتعجيل فرجه ، ولقدّمناه على النفس والمال والولد .
د- ركون الأمة للطاغوت وإعانته بأي شكل كان ولو بالأعمال المدنية التي يعتقد الناس إباحتها ، وهذا بيّنٌ لمن تصفّّح التاريخ وخصوصاً في زمن الغيبة الكبرى . فقد أعان الطاغوت كثير من العلماء والجهلاء على السواء ، مع أنّ الإمام الكاظم (ع) اعترض على صفوان (رضي الله عنه) ؛ لأنّه أَجّر جماله للطاغوت العباسي هارون ليذهب بها إلى الحج .
قال تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ ([160]) .
قال الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله): (هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت (ع) ، وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين الاتصال بهم ومشاركتهم في أي عمل كان ومعاونتهم ولو بشق تمرة ، ولا شك أن أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور والتغاضي عن مساوئهم والتعامل معهم ، فضلاً عن ممالئتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم ، وما جر الويلات على الجامعة الإسلامية إلا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحق ، حتى ضعف الدين بمرور الأيام فتلاشت قوته ووصل إلى ما عليه اليوم فعاد غريباً وأصبح المسلمون أو ما يسمون أنفسهم بالمسلمين وما لهم من دون الله أولياء ، ثم لا ينصرون حتى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم كاليهود الأذلاء فضلاً عن الصليبيين الأقوياء .
لقد جاهد الأئمة (ع) في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين ، وشددوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالئتهم ، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين إلى محمد بن مسلم الزهري بعد أن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم: (أو ليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم ، داعياً إلى غيهم سالكاً سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دونما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم ، فما أقل ما أعطوك في قدر ما اخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر إليها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول) ([161]) .
وقال: (وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمال مع الإمام موسى الكاظم (ع) ، وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثوقين ، قال - حسب رواية الكشي في رجاله - بترجمة صفوان ، دخلت عليه فقال لي: (يا صفوان كل شيء منك حسن جميل خلا شيئاً واحداً ، قلت: جعلت فداك أي شيء ؟ قال (ع): إكراك جمالك من هذا الرجل – يعني هارون – قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق – يعني مكة – ولا أتولاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني ، قال: يا صفوان أيقع كراك عليهم ؟ قلت: نعم ، جعلت فداك . قال (ع): أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك ؟ قلت: نعم ، قال (ع): فمن أحب بقائهم فهو منهم ، ومن كان منهم فهو كان ورد النار ، قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن أخرها) ([162]) .
فإذا كان نفس حب حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنـزلة ! فكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم . إذا كان معاونة الظالمين لو بشق تمرة بل حب بقائهم من أشد ما حذر عنه الأئمة (ع) ، فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولايتهم ، بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم ، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم (وذلك إن ولاية الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله وإظهار الظلم والجور والفساد كما جاء في حديث تحف العقول) ([163]) .
إنّ العمل في الدوائر المدنية فضلاً عن الحربية في دولة الطاغوت إعانة للطاغوت على البقاء في الحكم ، وبالتالي فهي إعانة لأعداء الإمام المهدي (ع) ، ولا تستهينوا بهذا الأمر ففي الدول التي تتمتع شعوبها بشيء من الحرية إذا أراد جماعة معينة الضغط على حكومة ذلك البلد لتحقيق مطالب معينة أعلنوا إضراباً عن العمل .
فالحكومات الطاغوتية متقومة بكم أيها العمّال والمهندسون والموظفون ، أنتم العمود الرئيسي الذي يرتكز عليه الطاغوت .
ولعل بعضكم يقول: ماذا نفعل ؟ والحال اليوم أنهم متسلطون على رقابنا .
أقول: إنهم متسلطون على رقابنا منذ وفاة رسول الله (ص) لا لعيب في الأوصياء – الإمام علي وولده (ع) - ، ولكن العيب فينا نحن إننا دائماً متخاذلون عن نصرة الحق ، وربما عند ظهور الإمام المهدي (ع) سيقول كثيرون هذا ليس المهدي (ع) ؛ ليعطوا أنفسهم عذراً لتركهم نصرة الإمام المهدي (ع) كما فعل أهل مكة واليهود مع رسول الله (ص) ، مع أنّهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم في خلقه العظيم وأمانته وصدقه وتنـزهه عن الكذب في أمور الدنيا ، فكيف يكذب على الله سبحانه ؟! كما أنّهم عرفوه بالآيات والمعجزات التي أيده الله بها ، ولكنهم وجدوه يمثل جبهة الحق التي تصطدم بمصالحهم ، ووجدوه يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله مما يعرض حياتهم للخطر ، فخذلوه ونصره الله سبحانه . وسيخذل كثيرون الإمام المهدي (ع) وسينصره الله سبحانه .
فعن الإمام الصادق (ع): (لينصرن الله هذا الأمر بمن لا خلاق له ، ولو قد جاء أمرنا لقد خرج منه من هو اليوم مقيم على عبادة الأوثان) ([164]) .
وعبادة الأوثان ، أي طاعة الطواغيت ومسايرتهم ، بل واتباع الهوى .
وعن الإمام الصادق (ع): (إذا خرج القائم ، خرج من هذا الأمر من كان يُرى أنّه من أهله ، ودخل فيه شبه عبدة الشمس والقمر) ([165]) ، أي: يخرج من نصرة الإمام (ع) بعض الذين يدّعون التشيع ويرون أنهم من أنصار الإمام المهدي (ع) ، ويدخل في صفوف أنصاره قوم من غير الشيعة ، بل لعلهم من غير المسلمين بعد أن يعرفوا الحق ويشايعوا آل محمد (ع) . قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ([166]) .
وفي واقعة كربلاء وقف عمر بن سعد (لعنه الله) بين يدي الإمام الحسين (ع) يعتذر عن بقائه مع الطاغوت ، بأنّه يخاف القتل ويخاف أن تهدم داره ويخاف أن تسبى نساؤه ويخاف … ويخاف … ويخاف .
فلنحذر جميعاً أن نكون اليوم وغداً كعمر بن سعد (لعنه الله) ، نخذل الحق ونعتذر بأعذار قبيحة وحجج واهية .
وأكتفي بهذا القدر ، على أن سبب الغيبة هو: تقصير الأمة ، وإلاّ فالأدلة أكثر مما ذكرت . فإذا عرفنا أنّ أهم أسباب الغيبة التامة هو إعراض الأمة عن الإمام (ع) أصبح واجبنا جميعاً العمل لظهوره ورفع أسباب غيبته التامة ، بإعلاء ذكره وإظهار حقّه وتهيئة الأمة للاستعداد لنصرته عند ظهوره وقيامه ، ونشر الدين وطمس معالم الضلال والشرك ، والقضاء على الطواغيت وأعوانهم ، الذين يمثلون أهم أعداء الأمام المهدي (ع) ([167]) .
* * *
[148]- روى الشيخ الكليني: عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (ع) قال: (لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، ولابد له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة ، وما بثلاثين من وحشة) الكافي: ج1 ص340 ، غيبة النعماني: ص 194 ، غيبة الطوسي: ص 162 . وما في غيبة الطوسي فيه اختلاف يسير .
[149]- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج2 ص 31 ، بحار الأنوار: ج34 ص233 .
[150]- الكافي: ج1 ص5 .
[151]- المقصود به الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) ، فهذا أحد ألقابه .
[152]- الأنعام : 98 .
[153]- أي الإمام صاحب الأمر ، منه (ع) .
[154]- الكافي: ج1 ص8 .
[155]- غيبة النعماني: ص191 ، بحار الأنوار: ج51 ص43 .
[156]- المائدة: 101 .
[157]- كمال الدين: ص485 ، غيبة الطوسي: ص292 ، الاحتجاج: ج2 ص284 ، بحار الأنوار: ج52 ص92 .
[158]- القمر: 5 .
[159]- الاحتجاج: ج2 ص316 ، بحار الأنوار: ج91 ص2 ، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج4 ص349 .
[160]- هود: 113 .
[161]- عقائد الإمامية: ص113 .
[162]- اختيار معرفة الرجال: ج2 ص470 ، وسائل الشيعة: ج17 ص182 .
[163]- عقائد الأمامية: ص114 .
[164]- غيبة الطوسي: ص450 ، بحار الأنوار: ج52 ص329 ، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج3 ص423 .
[165]- غيبة النعماني: ص332 ، بحار الأنوار: ج52 ص364 ، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج3 ص501 .
[166]- التوبة:42 .
[167]- عن مروان الأنباري قال: خرج من أبى جعفر (ع): (إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم) علل الشرائع: ج1 ص244 .
Comment