رد: كتـــــاب العجــــــل في أجـــــــــــزاء
وعندما ألح أهل مكة وقريش بالأذى على رسول (ص) ، أضطر إلى الهجرة ، وهاجر أولاً إلى الطائف ، إلى ثقيف الذين كان يأمل منهم الإيمان به ونصرته ، ولكنهم خذلوه ولم يقبلوا دعوته ، بل وآذوه فجلس يتحسر على قومه الذين يدعوهم إلى ما يحييهم ، وهم يريدون هلاكه والقضاء عليه . ورفع رأسه إلى السماء وتفوه بتلك الكلمات المملوءة بالألم: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلاّ بك) ([1]) .
وشاء الله بعد هذه المدة أن يقيّض لرسول الله (ص) جماعة من الأوس والخزرج ، ليحملوه إلى يثرب ، المدينة التي أسست لانتظاره ، مدينة اليهود الذين يترقبون ظهوره وقيامه .
فهذه المدينة أسسها اليهود لينتظروا النبي الخاتم (ص) الذي بشّر به أنبياءهم ، ولينصروه حسب زعمهم ، فهاجروا من بلاد الشام إلى الجزيرة العربية بحثاً عن المكان الموعود الموصوف لهم بين جبلي أحد وعِير ، وأخيراً وجدوه واستقروا فيه وأسسوا مدينة يثرب ، ولما جاءهم الملك اليمني تبع بجيشه سألهم عن سبب هجرتهم ، فأخبروه أنهم ينتظرون نبي يبعث ويستقر في هذا المكان ، فأبقى من ذريته في يثرب لينصروا النبي (ص) عند بعثه ، وهؤلاء هم الأوس والخزرج ، فكان اليهود كل ما وقع خلاف بينهم وبين الأوس والخزرج هددوهم بالنبي الأمي (ص) الذي سيبعث ، وحسب زعمهم إنهم ينتظرونه وسيكونون أتباعه وأنصاره وحواريه .
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ([2]) .
وهاجر المسلمون إلى المدينة بعد مرحلة عناء طويلة قضوها في مكة ، وتبعهم النبي (ص) وهو يحمل صورة مؤلمة ومزرية لأهل مكة ، قومه الذين كذبوه وآذوه ومن آمن معه وأخيراً أخرجوه خائفاً يترقب وتوجه تلقاء المدينة ، وكان المفروض أن يكون اليهود أول المستقبلين له والمرحبين بقدومه المبارك إلى مدينتهم التي أسسوها لاستقباله ، وأن يكونوا أول من يؤمن به وينصره ، ولكنهم خذلوه وكذّبه علماؤهم وحاولوا استخفاف الناس وحملهم على الكفر به وبنبوته ، فلم ينتفعوا بالعلم الذي كان عندهم ، بل جعلوه سبباً لتكبرهم وتعاليهم على النبي (ص) ، وضرب الله لهم بلعم بن باعورا مثلاً في القرآن ([3]) ؛ ليرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى ربهم ، ولكنهم ازدادوا عناداً وتكبراً كالجيفة عندما ينـزل عليها المطر الطاهر تزداد نتـناً وعفونة .
ولو أمعنا النظر في حال اليهود لوجدناهم قد فوجئوا بأمور:
الأول: إنّ النبي (ص) ليس إسرائيلياً ، فإذا كانوا قد اعترضوا على طالوت (ع) لعدم كونه من ذرية يوسف بيت الملك ولا من ذرية لآوى بيت النبوة ([4]) ، مع أنّ طالوت من ذرية بنيامين شقيق يوسف ، أي: إنّه إسرائيلي ، فإنّ اعتراضهم على النبي (ص) أمر متوقع ، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ ([5]) .
أمّا الأمر الثاني: فهو أنّ بعض العقائد والأحكام الشرعية التي أتى بها رسول الله (ص) تختلف عن عقائدهم وأحكامهم الشرعية المحرّفة التي كانوا يدعون إنها شريعة موسى (ع) ، مع أنّ علماءهم قد حرّفوا الكثير منها حتى قبل بعث عيسى (ع) .
والثالث: إنّ رسول الله (ص) سيسلب من علماء بني إسرائيل مكانتهم ورئاستهم الدينية الباطلة ، كما أنّ عدالته في توزيع الأموال ستسلبهم الخصوصية التي كانوا يتمتعون بها ، فإن اتبعوه لن يتمكنوا من الاستئثار بأموال الصدقات . ورد في تفسير: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ([6]) .
عن الإمام العسكري (ع): (وكان هؤلاء قوم من رؤساء اليهود وعلمائهم احتجبوا أموال الصدقات والمبرّات ، فأكلوها واقتطعوها ثم حضروا رسول الله (ص) وقد حشروا عليه عوامهم ، يقولون: أنّ محمد تعدّى طوره وادعى ما ليس له …) .
ثم قال الأمام العسكري (ع): (قال رسول الله (ص) مخاطباً اليهود وعلماءهم: يا معاشر اليهود هؤلاء رؤساؤكم كافرون ولأموالكم محتجبون ولحقوقكم باخسون ولكم في قسمة ما اقتطعوه ظالمون يخفضون ويرفعون ، فقالت رؤساء اليهود: حدثّ عن موضع الحجة بنبوتك ووصاية أخيك هذا ، ودع دعواك الأباطيل وإغرائك قومنا بنا ، فقال رسول الله (ص): لا ، ولكن الله عزّ وجل قد آذن لنبيه أن يدع بالأموال التي خنتموها لهؤلاء الضعفاء ومن يليهم) ([7]) .
وكانت النتيجة أن أخذ حب الأنا واتباع الهوى من علماء بني إسرائيل كل مأخذ ، ومنعهم التكبر من اتباع النبي الأمي (ص) ، ولم يؤمن بالنبي منهم إلاّ قليل . وهكذا فشل المنتظرون مرّة أخرى في الانتظار ،كما فشلوا في انتظار عيسى وموسى (عليهما السلام) من قبله .
والحقيقة التي يجب أن يلتفت إليها هي: أنّ هؤلاء اليهود الذين فشلوا في انتظار النبي محمد (ص) هم ذراري أولئك الذين هاجروا في سبيل الله وأسسوا مدينة يثرب لانتظار النبي الخاتم (ص) ، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ ([8]) .
أمّا النصارى ، فقد كان لغلوهم بعيسى (ع) ولتحريفهم لسيرته وتعاليمه ، أو ما يسمى بـ (الإنجيل أو العهد الجديد) ، كما كان لفهمهم الخاطئ في بعض الأحيان لكلامه (ع) ، والأنبياء (ع) يتكلمون أحياناً بالرموز والأمثال والحكم ليقربوا بعض الحقائق للناس .
أقول: إنّ مجموع هذه الأمور تضافرت ليجد القوم في طياتها السبل للخروج عن جادة الصراط المستقيم ، وتأليه عيسى (ع) ، ثم عدم الإيمان بنبوة محمد (ص) ووصاية علي (ع) مع أن بعضهم آمنوا بالنبي (ص) كما مرّ أنّ أول وفد آمن بالنبي (ص) هو وفد من نصارى الحبشة ، وفي التوراة والأناجيل الأربعة الموجودة اليوم والمقبولة لدى النصارى توجد بعض الإشارات إلى النبي محمد (ص) وعلي (ع) ، وكثير من الإشارات إلى المهدي (ع) من ولده .
أمّا في إنجيل برنابا فهناك تصريح من عيسى (ع) أنّه جاء ليبشر بمحمد (ص) ورجل آخر رمز له بالمختار ، أو واحد من المختارين والذي سيظهر دين محمد (ص) ، كما قال(ع) أنّه جاء ليمهد الطريق لمحمد (ص) ، ولشريعته التي ستكون في زمن نزول عيسى (ع) شريعة أهل الأرض جميعاً .
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ([9]) ، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ ([10]) ، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ([11]) .
وما بقاء عيسى (ع) إلى اليوم إلاّ لنصرة دين الله عندما ينزل في زمن ظهور الإمام المهدي (ع) ويصلي خلفه ، وتعد شريعته الإسلامية الحنيفية السمحاء ، كما روى الفريقان عن صاحب الشريعة (ص) .
________________________________________
[1]- مناقب ابن شهر آشوب: ج1 ص61 ، وعنه : بحار الانوار: ج19 ص22 ، مجمع الزوائد للهيثمي: ج6 ص35.
[2] - البقرة: 89 .
[3] - يشير (ع) إلى قول الله تبارك وتعالى في عالم بني إسرائيل بلعم ابن باعورا الذي جاء ذكره في سورة الأعراف: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الأعراف: 175 ـ 176.
[4] - روى الشيخ الكليني: عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (ع) في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ قال : (لم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ،...) الكافي:ج8 ص316.
[5] - آل عمران : 19.
-[6] البقرة: 44.
[7]- تفسير الإمام العسكري: ص235 ، بحار الأنوار: ج9 ص309.
[8] - مريم: 59.
[9] - التوبة: 33.
[10] - الفتح: 28.
[11] - الصف: 8 - 9.
الهجرة إلى الله
وعندما ألح أهل مكة وقريش بالأذى على رسول (ص) ، أضطر إلى الهجرة ، وهاجر أولاً إلى الطائف ، إلى ثقيف الذين كان يأمل منهم الإيمان به ونصرته ، ولكنهم خذلوه ولم يقبلوا دعوته ، بل وآذوه فجلس يتحسر على قومه الذين يدعوهم إلى ما يحييهم ، وهم يريدون هلاكه والقضاء عليه . ورفع رأسه إلى السماء وتفوه بتلك الكلمات المملوءة بالألم: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلاّ بك) ([1]) .
وشاء الله بعد هذه المدة أن يقيّض لرسول الله (ص) جماعة من الأوس والخزرج ، ليحملوه إلى يثرب ، المدينة التي أسست لانتظاره ، مدينة اليهود الذين يترقبون ظهوره وقيامه .
فهذه المدينة أسسها اليهود لينتظروا النبي الخاتم (ص) الذي بشّر به أنبياءهم ، ولينصروه حسب زعمهم ، فهاجروا من بلاد الشام إلى الجزيرة العربية بحثاً عن المكان الموعود الموصوف لهم بين جبلي أحد وعِير ، وأخيراً وجدوه واستقروا فيه وأسسوا مدينة يثرب ، ولما جاءهم الملك اليمني تبع بجيشه سألهم عن سبب هجرتهم ، فأخبروه أنهم ينتظرون نبي يبعث ويستقر في هذا المكان ، فأبقى من ذريته في يثرب لينصروا النبي (ص) عند بعثه ، وهؤلاء هم الأوس والخزرج ، فكان اليهود كل ما وقع خلاف بينهم وبين الأوس والخزرج هددوهم بالنبي الأمي (ص) الذي سيبعث ، وحسب زعمهم إنهم ينتظرونه وسيكونون أتباعه وأنصاره وحواريه .
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ([2]) .
وهاجر المسلمون إلى المدينة بعد مرحلة عناء طويلة قضوها في مكة ، وتبعهم النبي (ص) وهو يحمل صورة مؤلمة ومزرية لأهل مكة ، قومه الذين كذبوه وآذوه ومن آمن معه وأخيراً أخرجوه خائفاً يترقب وتوجه تلقاء المدينة ، وكان المفروض أن يكون اليهود أول المستقبلين له والمرحبين بقدومه المبارك إلى مدينتهم التي أسسوها لاستقباله ، وأن يكونوا أول من يؤمن به وينصره ، ولكنهم خذلوه وكذّبه علماؤهم وحاولوا استخفاف الناس وحملهم على الكفر به وبنبوته ، فلم ينتفعوا بالعلم الذي كان عندهم ، بل جعلوه سبباً لتكبرهم وتعاليهم على النبي (ص) ، وضرب الله لهم بلعم بن باعورا مثلاً في القرآن ([3]) ؛ ليرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى ربهم ، ولكنهم ازدادوا عناداً وتكبراً كالجيفة عندما ينـزل عليها المطر الطاهر تزداد نتـناً وعفونة .
ولو أمعنا النظر في حال اليهود لوجدناهم قد فوجئوا بأمور:
الأول: إنّ النبي (ص) ليس إسرائيلياً ، فإذا كانوا قد اعترضوا على طالوت (ع) لعدم كونه من ذرية يوسف بيت الملك ولا من ذرية لآوى بيت النبوة ([4]) ، مع أنّ طالوت من ذرية بنيامين شقيق يوسف ، أي: إنّه إسرائيلي ، فإنّ اعتراضهم على النبي (ص) أمر متوقع ، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ ([5]) .
أمّا الأمر الثاني: فهو أنّ بعض العقائد والأحكام الشرعية التي أتى بها رسول الله (ص) تختلف عن عقائدهم وأحكامهم الشرعية المحرّفة التي كانوا يدعون إنها شريعة موسى (ع) ، مع أنّ علماءهم قد حرّفوا الكثير منها حتى قبل بعث عيسى (ع) .
والثالث: إنّ رسول الله (ص) سيسلب من علماء بني إسرائيل مكانتهم ورئاستهم الدينية الباطلة ، كما أنّ عدالته في توزيع الأموال ستسلبهم الخصوصية التي كانوا يتمتعون بها ، فإن اتبعوه لن يتمكنوا من الاستئثار بأموال الصدقات . ورد في تفسير: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ([6]) .
عن الإمام العسكري (ع): (وكان هؤلاء قوم من رؤساء اليهود وعلمائهم احتجبوا أموال الصدقات والمبرّات ، فأكلوها واقتطعوها ثم حضروا رسول الله (ص) وقد حشروا عليه عوامهم ، يقولون: أنّ محمد تعدّى طوره وادعى ما ليس له …) .
ثم قال الأمام العسكري (ع): (قال رسول الله (ص) مخاطباً اليهود وعلماءهم: يا معاشر اليهود هؤلاء رؤساؤكم كافرون ولأموالكم محتجبون ولحقوقكم باخسون ولكم في قسمة ما اقتطعوه ظالمون يخفضون ويرفعون ، فقالت رؤساء اليهود: حدثّ عن موضع الحجة بنبوتك ووصاية أخيك هذا ، ودع دعواك الأباطيل وإغرائك قومنا بنا ، فقال رسول الله (ص): لا ، ولكن الله عزّ وجل قد آذن لنبيه أن يدع بالأموال التي خنتموها لهؤلاء الضعفاء ومن يليهم) ([7]) .
وكانت النتيجة أن أخذ حب الأنا واتباع الهوى من علماء بني إسرائيل كل مأخذ ، ومنعهم التكبر من اتباع النبي الأمي (ص) ، ولم يؤمن بالنبي منهم إلاّ قليل . وهكذا فشل المنتظرون مرّة أخرى في الانتظار ،كما فشلوا في انتظار عيسى وموسى (عليهما السلام) من قبله .
والحقيقة التي يجب أن يلتفت إليها هي: أنّ هؤلاء اليهود الذين فشلوا في انتظار النبي محمد (ص) هم ذراري أولئك الذين هاجروا في سبيل الله وأسسوا مدينة يثرب لانتظار النبي الخاتم (ص) ، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ ([8]) .
أمّا النصارى ، فقد كان لغلوهم بعيسى (ع) ولتحريفهم لسيرته وتعاليمه ، أو ما يسمى بـ (الإنجيل أو العهد الجديد) ، كما كان لفهمهم الخاطئ في بعض الأحيان لكلامه (ع) ، والأنبياء (ع) يتكلمون أحياناً بالرموز والأمثال والحكم ليقربوا بعض الحقائق للناس .
أقول: إنّ مجموع هذه الأمور تضافرت ليجد القوم في طياتها السبل للخروج عن جادة الصراط المستقيم ، وتأليه عيسى (ع) ، ثم عدم الإيمان بنبوة محمد (ص) ووصاية علي (ع) مع أن بعضهم آمنوا بالنبي (ص) كما مرّ أنّ أول وفد آمن بالنبي (ص) هو وفد من نصارى الحبشة ، وفي التوراة والأناجيل الأربعة الموجودة اليوم والمقبولة لدى النصارى توجد بعض الإشارات إلى النبي محمد (ص) وعلي (ع) ، وكثير من الإشارات إلى المهدي (ع) من ولده .
أمّا في إنجيل برنابا فهناك تصريح من عيسى (ع) أنّه جاء ليبشر بمحمد (ص) ورجل آخر رمز له بالمختار ، أو واحد من المختارين والذي سيظهر دين محمد (ص) ، كما قال(ع) أنّه جاء ليمهد الطريق لمحمد (ص) ، ولشريعته التي ستكون في زمن نزول عيسى (ع) شريعة أهل الأرض جميعاً .
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ([9]) ، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ ([10]) ، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ([11]) .
وما بقاء عيسى (ع) إلى اليوم إلاّ لنصرة دين الله عندما ينزل في زمن ظهور الإمام المهدي (ع) ويصلي خلفه ، وتعد شريعته الإسلامية الحنيفية السمحاء ، كما روى الفريقان عن صاحب الشريعة (ص) .
________________________________________
[1]- مناقب ابن شهر آشوب: ج1 ص61 ، وعنه : بحار الانوار: ج19 ص22 ، مجمع الزوائد للهيثمي: ج6 ص35.
[2] - البقرة: 89 .
[3] - يشير (ع) إلى قول الله تبارك وتعالى في عالم بني إسرائيل بلعم ابن باعورا الذي جاء ذكره في سورة الأعراف: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الأعراف: 175 ـ 176.
[4] - روى الشيخ الكليني: عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (ع) في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ قال : (لم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ،...) الكافي:ج8 ص316.
[5] - آل عمران : 19.
-[6] البقرة: 44.
[7]- تفسير الإمام العسكري: ص235 ، بحار الأنوار: ج9 ص309.
[8] - مريم: 59.
[9] - التوبة: 33.
[10] - الفتح: 28.
[11] - الصف: 8 - 9.
Comment