رد: قصة تجعلك ترى بعين ملكوتية
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم قال ابن الملك للحكيم : فرغ لي ذهنك فقد أردت مساءلتك عن أهم الاشياء إلي بعد إذ بصرني الله عزوجل من أمري ما كنت به جاهلا ، ورزقني من الدين ما كنت منه آيسا .
قال الحكيم : سل عما بدالك ، قال ابن الملك : أرأيت من أوتي الملك طفلا ودينه عبادة الاوثان وقد غذي بلذات الدنيا واعتادها ونشأ فيها إلى أن كان رجلا وكهلا ، لا ينتقل من حالته تلك في جهالته بالله تعالى ذكره وإعطائه نفسه شهواتها متجردا لبلوغ الغاية فيما زين له من تلك الشهوات مشتغلا بها ، مؤثرا لها ، جريا عليها ، لا يري الرشد إلا فيها ، ولا تزيده الايام إلا حبالها واغترارا بها ، وعجبا وحبا لاهل ملته ورأيه .
وقد دعته بصيرته في ذلك إلى أن جهل أمر آخرته وأغفلها فاستخف
بها وسها عنها قساوة قلب وخبث نية وسوء رأي ، واشتدت عداوته لمن خالفه من أهل الدين والاستخفاء بالحق والمغيبين لاشخاصهم انتظارا للفرج من ظلمه و عداوته هل يطمع له إن طال عمره في النزوع عما هو عليه ؟ والخروج منه إلى ما الفضل فيه بين والحجة فيه واضحة ؟ والحظ جزيل من لزوم ما أبصر من الدين فيأتي ما يرجى له ( به ) مغفرة لما قد سلف من ذنوبه وحسن الثواب في مآبه . قال الحكيم : قد عرفت هذه الصفة ، وما دعاك إلى هذه المسألة .
قال ابن الملك : ما ذاك منك بمستنكر لفضل ما أوتيت من الفهم وخصصت به من العلم .
قال الحكيم : أما صاحب هذه الصفة فالملك والذي دعاك إليه العناية بما سألت عنه ، والاهتمام به من أمره ، والشفقة عليه من عذاب ما أوعد الله عزوجل من كان على مثل رأيه وطبعه وهواه ، مع ما نويت من ثواب الله تعالى ذكره في أداء حق ما أوجب الله عليك له ، وأحسبك تريد بلوغ غاية العذر في التلطف لانقاذه وإخراجه عن عظيم الهول ودائم البلاء الذي لا انقطاع له من عذاب الله إلى السلامة وراحة الابد في ملكوت السماء .
قال ابن الملك : لم تجرم حرفا عما أردت فأعلمني رأيك فيما عنيت من أمر الملك وحاله التي أتخوف أن يدركه الموت عليها فتصيبه الحسرة والندامة حين لا أغني عنه شيئا فاجعلني منه على يقين وفرج عما أنا به مغموم شديد الاهتمام به فإني قليل الحيلة فيه .
قال الحكيم : أما رأينا فإنا لا نبعد مخلوقا من رحمة الله خالقه عزوجل ولا نأيس له منها ما دام فيه الروح ، وإن كان عاتيا طاغيا ضالا لما قد وصف ربنا تبارك وتعالى به نفسه من التحنن والرأفة والرحمة ودل عليه من الايمان وما أمر به من
الاستغفار والتوبة وفي هذا فضل الطمع لك في حاجتك إن شاء الله ، وزعموا أنه كان في زمن من الازمان ملك عظيم الصوت في العلم ، رفيق سايس يحب العدل في أمته والاصلاح لرعيته ، عاش بذلك زمانا بخير حال ، ثم هلك فجزعت عليه أمته وكان بامرأة له حمل فذكر المنجمون والكهنة أنه غلام وكان يدبر ملكهم من كان يلي ذلك في زمان ملكهم فاتفق الامر كما ذكره المنجمون والكهنة وولد من ذلك الحمل غلام فأقاموا عند ميلاده سنة بالمعازف والملاهي والاشربة والا طعمة ، ثم إن أهل العلم منهم والفقة والربانيين قالوا لعامتهم : إن هذا المولود إنما هو هبة من الله تعالى وقد جعلتم الشكر لغيره وإن كان هبة من غير الله عزوجل فقد أديتم الحق إلى من أعطاكموه واجتهدتم في الشكر لمن رزقكموه ، فقال لهم العامة : ما وهبه لنا إلا الله تبارك وتعالى ، ولاامتن به علينا غيره ، قال العلماء : فإن كان الله عزوجل هو الذي وهبه لكم فقد أرضيتم غير الذي أعطاكم وأسخطهم الله الذي وهبه لكم فقالت لهم الرعية : فأشيروا لنا أيها الحكماء وأخبرونا أيها العلماء فنتبع قولكم ونتقبل نصيحتكم ، ومرونا بأمركم ، قالت العلماء : فإنا نرى لكم أن تعدلوا عن اتباع مرضات الشيطان بالمعازف والملاهي والمسكر إلى ابتغاء مرضات الله عزوجل وشكره على ما أنعم به عليكم أضعاف شكركم للشيطان حتى يغفر لكم ما كان منكم قالت الرعية : لا تحمل أجسادنا كل الذي قلتم وأمرتم به ، قالت العلماء : يا أولى الجهل كيف أطعتم من لاحق له عليكم وتعصون من له الحق الواجب عليكم وكيف قويتم على ما لا ينبغي وتضعفون عما ينبغي ؟ ! قالوا لهم : يا أئمة الحكماء عظمت فينا الشهوات وكثرت فينا اللذات فقوينا بما عظم فينا منها على العظيم من شكلها و ضعفت منا النيات فعجزنا عن حمل المثقلات فارضوا منا في الرجوع عن ذلك يوما فيوما ، ولا تكلفونا كل هذا الثقل . قالوا لهم : يا معشر السفهاء ألستم أبناء الجهل وإخوان الضلال حين خفت عليكم الشقوة وثقلت عليكم السعادة ، قالوا لهم : أيها السادة الحكماء والقادة العلماء إنا نستجير من تعنيفكم إيانا بمغفرة الله عزوجل
ونستتر من تعييركم لنا بعفوه فلا تؤنبونا ولا تعيرونا بضعفنا ولا تعيبوا الجهالة علينا فإنا إن أطعنا الله مع عفوه وحمله وتضعيفه الحسنات واجتهدنا في عبادته مثل الذي بذلنا لهوانا من الباطل بلغنا حاجتنا وبلغ الله عزوجل بنا غايتنا ورحمنا كما خلقنا ، فلما قالوا ذلك أقر لهم علماؤهم ورضوا قولهم فصلوا وصاموا وتعبدوا وأعظموا الصدقات سنة كاملة ، فلما انقضى ذلك منهم قالت الكهنة : إن الذي صنعت هذه الامة على هذا المولود يخبر أن هذا الملك يكون فاجرا ويكون بارا ، ويكون متجبرا و يكون متواضعا ويكون مسيئا ويكون محسنا .
وقال المنجمون مثل ذلك ، فقيل لهم : كيف قلتم ذلك ؟ قال الكهنة : قلنا هذا من قبل اللهو والمعازف والباطل الذي صنع عليه ، وما صنع عليه من ضده بعد ذلك ، وقال المنجمون : قلنا ذلك من قبل استقامة الزهرة والمشتري ، فنشأ الغلام بكبر لا توصف عظمته ، ومرح لا ينعت ، وعدوان لا يطاق ، فعسف وجار وظلم في الحكم وغشم وكان أحب الناس إليه من وافقه على ذلك وأبغض الناس إليه من خالفه في شيء من ذلك ، واغتر بالشباب والصحة والقدرة والظفر والنظر فامتلا سرورا وإعجابا بما هو فيه ورأى كلما يحب وسمع كلما اشتهى حتى بلغ اثنين وثلاثين سنة ثم جمع نساء من بنات الملوك وصبيانا والجواري والمخدرات وخيله المطهمات العناق وألوان مراكبه الفاخرة ووصائفه وخدامه الذين يكونون في خدمته فأمرهم أن يلبسوا أجد ثيابهم ويتزينوا بأحسن زينتهم وأمر ببناء مجلس مقابل مطلع الشمس صفائح أرضه الذهب ، مفضضا بأنواع الجواهر ، طوله مائة وعشرون ذراعا وعرضه ستون ذراعا ، ومزخرفا سقفه وحيطانه ، قد زين بكرائم الحلي وصنوف الجوهر و اللؤلؤء النظيم وفاخره ، وأمر بضروب الاموال فاخرجت من الخزائن ونضدت سماطين أمام مجلسه ، وأمر جنوده وأصحابه وقواده وكتابه وحجابه وعظماء
أهل بلاده وعلمائهم فحضروا في أحسن هيئتهم وأجمل جمالهم وتسلح فرسانه وركبت خيوله في عدتهم ، ثم وقفوا على مراكزهم ومراتبهم صفوفا وكراديس ، وإنما أراد بزعمه أن ينظر إلى منظر رفيع حسن تسر به نفسه وتقر به عينه ، ثم خرج فصعد إلى مجلسه فأشرف على مملكته فخروا له سجدا ، فقال لبعض غلمانه : قد نظرت في أهل مملكتي إلى منظر حسن وبقي أن أنظر إلى صورة وجهي فدعا بمرآة فنظر إلى وجهه فبينا هو يقلب طرفه فيها إذ لاحت له شعرة بيضاء من لحيته كغراب أبيض بين غربان سود ، واشتد منها ذعره وفزعه وتغير في عينه حاله وظهرت الكآبة والحزن في وجهه وتولى السرور عنه .
ثم قال في نفسه : هذا حين نعي إلى شبابي وبين لي أن ملكي في ذهاب واوذنت بالنزول عن سرير ملكي ، ثم قال : هذه مقدمة الموت ورسول البلى لم يحجبه عني حاجب ، ولم يمنعه عني حارس ، فنعى إلي نفسي وآذنني بزوال ملكي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي وذهاب سروري ، وهدم قوتي ، لم يمنعه مني الحصون ولم تدفعه عني الجنود ، هذا سالب الشباب والقوة ، وما حق العز والثروة ، ومفرق الشمل وقاسم التراث بين الاولياء والأعداء ؛ مفسد المعاش ، ومنغّص الّلذات ومخرّب العمارات ومشتّت الجمع ، وواضح الرفيع ، ومذلّ المنيع ، قد أناخت بي أثقاله ونصب لي حباله .
ثم نزل عن مجلسه حافياً ماشياً ، وقد صعد إليه محمولاً ، ثمّ جمع إليه جنوده ودعا إليه ثقاته فقال : أيها الملأ ماذا صنعت فيكم وما ( ذا ) أتيت إليكم منذ ملكتكم ووليت أموركم ؟ قالوا له : أيها الملك المحمود عظم بلاؤك عندنا وهذه أنفسنا مبذولة
في طاعتك ، فمرنا بأمرك ، قال : طرقني عدو مخيف لم تمنعوني منه حتى نزل بي وكنتم عدتي وثقاتي ، قالوا : أيها الملك أين هذا العدو ؟ أيرى أم لا يرى ؟ قال : يرى بأثر ولا يرى عينه ، قالوا أيها الملك هذه عدتنا كما ترى وعندنا سكن وفينا ذووا الحجى والنهي ، فأرناه نكفك ما مثله يكفى ، قال : قد عظم الاغترار مني بكم ووضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتكم وجعلتكم لنفسي جنة ، وإنما بذلت لكم الاموال ورفعت شرفكم وجعلتكم البطانة دون غيركم لتحفظوني من الاعداء وتحرسوني منهم ، ثم أيدتكم على ذلك بتشييد البلدان وتحصين المدائن والثقة من السلاح ونحيت عنكم الهموم وفرغتكم للنجدة والاحتفاط ، ولم أكن أخشى أن أراع معكم ولا أتخوف المنون على بنياني وأنتم عكوف مطيفون به فطرقت وأنتم حولي واتيت وأنتم معي ، فلئن كان هذا ضعف منكم فما أخذت أمري بثقة وإن كانت غفلة منكم فما أنتم بأهل النصيحة ولا علي بأهل الشفقة ، قالوا : أيها الملك أما شى نطيق دفعه بالخيل والقوة فليس بواصل إليك إن شاء الله ونحن أحياء وأما ما لا يرى فقد غيب عنا علمه وعجزت قوتنا عنه .
قال : أليس اتخذتكم لتمنعوني من عدوي ، قالوا : بلى قال : فمن أي عدو تحفظوني من الذي يضرني أو من الذي لا يضرني ؟ قالوا : من الذي يضرك ؟ قال : أفمن كل ضار لي أو من بعضهم ؟ قالوا : من كل ضار ، قال : فإن رسول البلى قد أتاني ينعى إلي نفسي وملكي ويزعم أنه يريد خراب ما عمرت وهدم ما بنيت وتفريق ما جمعت وفساد ما أصلحت وتبذير ما أحرزت وتبديل ما عملت وتوهين ما وثقت ، وزعم أن معه الشماتة من الاعداء وقد قرت بي أعينهم فإنه يريد أن يعطيهم مني شفاء صدورهم وذكر أنه سيهزم جيشي ويوحش انسي ويذهب عزي ويؤتم ولدي ويفرق جموعي ، يفجع بي إخواني وأهلي وقرابتي ويقطع أوصالي ويسكن مساكني
أعدائي ، قالوا : أيها الملك إنما نمنعك من الناس والسباع والهوام دواب الارض فأما البلى فلا طاقة لنا به ولا قوة لنا عليه ولا امتناع لنا منه ، فقال : فهل من حيلة في دفع ذلك عني ؟ قالوا : لا ، قال : فشيء دون ذلك تطيقونه ، قالوا : وما هو ؟ قال : الاوجاع والاحزان والهموم ، قالوا : أيها الملك إنما قد قدر هذه الاشياء قوي لطيف وذلك يثور من الجسم والنفس وهو يصل إليك إذا لم يوصل ولا يحجب عنك وإن حجب قال : فأمر دون ذلك ، قالوا : وما هو ؟ قال : ما قد سبق من القضاء . قالوا : أيها الملك ومن ذا غالب القضاء فلم يغلب ؟ ومن ذا كابره فلم يقهر ؟ قال : فماذا عندكم ؟ قالوا : ما نقدر على دفع القضاء ، وقد أصبت التوفيق والتسديد فماذا الذي تريد ، قال : اريد أصحابا يدوم عهدهم ويفوا لي وتبقى لي اخوتهم ولا يحجبهم عني الموت ولا يمنعهم البلى عن صحبتي ولا يستحيل بهم الامتناع عن صحبتي ولا يفردوني إن مت ، ولا يسلموني إن عشت ، ويدفعون عني ما عجزتم عنه ، من أمر الموت .
قالوا : أيها الملك ومن هؤلاء الذين وصفت ، قال : هم الذين أفسدتهم باستصلاحكم ، قالوا : أيها الملك أفلا تصطنع عندنا وعندهم معروفا فإن أخلاقك تامة ورأفتك عظيمة ؟ قال : إن في صحبتكم إياي السم القاتل ، والصمم والعمي في طاعتكم ، والبكم من موافقتكم ، قالوا : كيف ذاك أيها الملك ؟ قال : صارت صحبتكم إياي في الاستكثار وموافقتكم على الجمع ، وطاعتكم إياي في الاغتفال فبطأتموني عن المعاد وزينتم لي الدنيا ولو نصحتموني ذكرتموني الموت ولو أشفقتم علي ذكرتموني البلى ، وجمعتم لي ما يبقي ، ولم تستكثروا لي ما يفنى ، فإن تلك المنفعة التي ادعيتموها ضرر ، وتلك المودة عداوة ، وقد رددتها عليكم لا حاجة لي فيها منكم .
قالوا : أيها الملك الحكيم المحمود قد فهمنا مقالتك وفي أنفسنا أجابتك وليس لنا أن نحتج عليك فقد رأينا مكان الحجة ، فسكوتنا عن حجتنا فساد لملكنا ، وهلاك لدنيانا وشماتة لعدونا ، وقد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيك وأجمع عليه أمرك ، قال : قولوا آمنين واذكروا ما بدا لكم غير مرعوبين فإني كنت إلى اليوم مغلوبا بالحمية والانفة وأنا اليوم غالب لهما ، وكنت إلى اليوم مقهورا لهما وأنا اليوم قاهر لهما ، وكنت إلى اليوم ملكا عليكم فقد صرت عليكم مملوكا ، وأنا اليوم عتيق وأنتم من مملكتي طلقاء ، قالوا : أيها الملك ما الذي كنت مملوكا إذ كنت علينا ملكا ، قال : كنت مملوكا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلك الطاعة عني ونبذتها خلف ظهري ، قالوا : فقل ما أجمعت عليه أيها الملك ؟ قال : القنوع والتخلي لاخرتي وترك هذا الغرور ونبذ هذا الثقل عن ظهري والاستعداد للموت ، والتأهب للبلاء ، فإن رسوله عندي قد ذكر أنه قد أمر بملأ زمتي والاقامة معي حتى يأتيني الموت ، فقالوا : أيها الملك ومن هذا الرسول الذي قد أتاك ولم نره ، وهو مقدمة الموت الذي لا نعرفه ، قال : أما الرسول فهذا البياض الذي يلوح بين السواد ، وقد صاح في جميعه بالزوال ، فأجابوا وأذعنوا ، وأما مقدمة الموت فالبلى الذي هذا البياض طرقه .
قالوا : أيها الملك أفتدع مملكتك ؟ وتهمل رعيتك وكيف لا تخاف الاثم في تعطيل امتك ألست تعلم أن أعظم الاجر في استصلاح الناس وأن رأس الصلاح الطاعة للامة والجماعة ، فكيف لا تخاف من الاثم ، وفي هلاك العامة من الاثم فوق الذي ترجو من الاجر في صلاح الخاصة ، ألست تعلم أن أفضل العبادة العمل وأن أشد العمل السياسة ، فإنك أيها الملك [ ما في يديك ] عدل على رعيتك ، مستصلح لها بتدبيرك ، فإن لك من الاجر بقدر ما استصلحت ، ألست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح امتك فقد أردت فسادهم فقد حملت من الاثم فيهم أعظم مما أنت مصيب من الاجر في خاصة يديك .
ألست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا : من أتلف نفسا فقد استوجب
لنفسه الفساد ، ومن أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه ، وأي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها والاقامة في هذه الامة التي أنت نظامها حاشا لك أيها الملك أن تخلع عنك لباس الملك الذي هو الوسيلة إلى شرف الدنيا والاخرة ، قال : قد فهمت الذي ذكرتم وعقلت الذي وصفتم فإن كنت إنما أطلب الملك عليكم للعدل فيكم والاجر من الله تعالى ذكره في استصلاحكم بغير أعوان يرفدونني ووزراء يكفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيكم ألستم جميعا نزعا إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها ولا آمن أن اخلد إلى الحال التي أرجو أن أدعها وأرفضها ، فإن فعلت ذلك أتاني الموت على غرة ، فأنزلني عن سرير ملكي إلى بطن الارض وكساني التراب بعد الديباج والمنسوج بالذهب ونفيس الجوهر ، وضمني إلى الضيق بعد السعة ، وألبسني الهوان بعد الكرامة ، فأصير فريدا بنفسي ليس معي أحد منكم في الوحدة ، قد أخرجتموني من العمران وأسلمتموني إلى الخراب ، وخليتم بين لحمي وبين سباع الطير وحشرات الارض فأكلت مني النملة فما فوقها من الهوام وصار جسدي دودا وجيفة قذرة ، الذل لي حليف ، والعز مني غريب ، أشدكم حبا إلى أسرعكم إلي دفني ، والتخلية بيني وبين ما قدمت من عملي وأسلفت من ذنوبي ، فيورثني ذلك الحسرة ، ويعقبني الندامة ، وقد كنتم وعدتموني أن تمنعوني من عدوي الضار فإذا أنتم لا منع عندكم ولا قوة على ذلك لكم ولا سبيل ، أيها الملأ إني محتال لنفسي إذ جئتم بالخداع ، ونصبتم لي شراك الغرور ،
فقالوا : أيها الملك المحمود لسنا الذي كنا كما أنك لست الذي كنت ، وقد أبدلنا الذي أبدلك ، وغيرنا الذي غيرك ، فلا ترد علينا توبتنا وبذل نصيحتنا ، قال : أنا مقيم فيكم ما فعلتم ذلك ومفارقكم إذا خالفتموه ، فأقام ذلك الملك في ملكه وأخذ جنوده بسيرته واجتهدوا في العبادة فخصبت بلادهم وغلبوا عدوهم وازداد ملكهم حتى هلك ذلك الملك ، وقد صار فيهم بهذه السيرة اثنين وثلاثين سنة فكان جميع ما عاش أربعا وستين سنة .
قال يوذاسف : قد سررت بهذا الحديث جدا ، فزدني من نحوه أزدد سرورا و لربي شكرا
يتبع ان شاء الله
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم قال ابن الملك للحكيم : فرغ لي ذهنك فقد أردت مساءلتك عن أهم الاشياء إلي بعد إذ بصرني الله عزوجل من أمري ما كنت به جاهلا ، ورزقني من الدين ما كنت منه آيسا .
قال الحكيم : سل عما بدالك ، قال ابن الملك : أرأيت من أوتي الملك طفلا ودينه عبادة الاوثان وقد غذي بلذات الدنيا واعتادها ونشأ فيها إلى أن كان رجلا وكهلا ، لا ينتقل من حالته تلك في جهالته بالله تعالى ذكره وإعطائه نفسه شهواتها متجردا لبلوغ الغاية فيما زين له من تلك الشهوات مشتغلا بها ، مؤثرا لها ، جريا عليها ، لا يري الرشد إلا فيها ، ولا تزيده الايام إلا حبالها واغترارا بها ، وعجبا وحبا لاهل ملته ورأيه .
وقد دعته بصيرته في ذلك إلى أن جهل أمر آخرته وأغفلها فاستخف
بها وسها عنها قساوة قلب وخبث نية وسوء رأي ، واشتدت عداوته لمن خالفه من أهل الدين والاستخفاء بالحق والمغيبين لاشخاصهم انتظارا للفرج من ظلمه و عداوته هل يطمع له إن طال عمره في النزوع عما هو عليه ؟ والخروج منه إلى ما الفضل فيه بين والحجة فيه واضحة ؟ والحظ جزيل من لزوم ما أبصر من الدين فيأتي ما يرجى له ( به ) مغفرة لما قد سلف من ذنوبه وحسن الثواب في مآبه . قال الحكيم : قد عرفت هذه الصفة ، وما دعاك إلى هذه المسألة .
قال ابن الملك : ما ذاك منك بمستنكر لفضل ما أوتيت من الفهم وخصصت به من العلم .
قال الحكيم : أما صاحب هذه الصفة فالملك والذي دعاك إليه العناية بما سألت عنه ، والاهتمام به من أمره ، والشفقة عليه من عذاب ما أوعد الله عزوجل من كان على مثل رأيه وطبعه وهواه ، مع ما نويت من ثواب الله تعالى ذكره في أداء حق ما أوجب الله عليك له ، وأحسبك تريد بلوغ غاية العذر في التلطف لانقاذه وإخراجه عن عظيم الهول ودائم البلاء الذي لا انقطاع له من عذاب الله إلى السلامة وراحة الابد في ملكوت السماء .
قال ابن الملك : لم تجرم حرفا عما أردت فأعلمني رأيك فيما عنيت من أمر الملك وحاله التي أتخوف أن يدركه الموت عليها فتصيبه الحسرة والندامة حين لا أغني عنه شيئا فاجعلني منه على يقين وفرج عما أنا به مغموم شديد الاهتمام به فإني قليل الحيلة فيه .
قال الحكيم : أما رأينا فإنا لا نبعد مخلوقا من رحمة الله خالقه عزوجل ولا نأيس له منها ما دام فيه الروح ، وإن كان عاتيا طاغيا ضالا لما قد وصف ربنا تبارك وتعالى به نفسه من التحنن والرأفة والرحمة ودل عليه من الايمان وما أمر به من
الاستغفار والتوبة وفي هذا فضل الطمع لك في حاجتك إن شاء الله ، وزعموا أنه كان في زمن من الازمان ملك عظيم الصوت في العلم ، رفيق سايس يحب العدل في أمته والاصلاح لرعيته ، عاش بذلك زمانا بخير حال ، ثم هلك فجزعت عليه أمته وكان بامرأة له حمل فذكر المنجمون والكهنة أنه غلام وكان يدبر ملكهم من كان يلي ذلك في زمان ملكهم فاتفق الامر كما ذكره المنجمون والكهنة وولد من ذلك الحمل غلام فأقاموا عند ميلاده سنة بالمعازف والملاهي والاشربة والا طعمة ، ثم إن أهل العلم منهم والفقة والربانيين قالوا لعامتهم : إن هذا المولود إنما هو هبة من الله تعالى وقد جعلتم الشكر لغيره وإن كان هبة من غير الله عزوجل فقد أديتم الحق إلى من أعطاكموه واجتهدتم في الشكر لمن رزقكموه ، فقال لهم العامة : ما وهبه لنا إلا الله تبارك وتعالى ، ولاامتن به علينا غيره ، قال العلماء : فإن كان الله عزوجل هو الذي وهبه لكم فقد أرضيتم غير الذي أعطاكم وأسخطهم الله الذي وهبه لكم فقالت لهم الرعية : فأشيروا لنا أيها الحكماء وأخبرونا أيها العلماء فنتبع قولكم ونتقبل نصيحتكم ، ومرونا بأمركم ، قالت العلماء : فإنا نرى لكم أن تعدلوا عن اتباع مرضات الشيطان بالمعازف والملاهي والمسكر إلى ابتغاء مرضات الله عزوجل وشكره على ما أنعم به عليكم أضعاف شكركم للشيطان حتى يغفر لكم ما كان منكم قالت الرعية : لا تحمل أجسادنا كل الذي قلتم وأمرتم به ، قالت العلماء : يا أولى الجهل كيف أطعتم من لاحق له عليكم وتعصون من له الحق الواجب عليكم وكيف قويتم على ما لا ينبغي وتضعفون عما ينبغي ؟ ! قالوا لهم : يا أئمة الحكماء عظمت فينا الشهوات وكثرت فينا اللذات فقوينا بما عظم فينا منها على العظيم من شكلها و ضعفت منا النيات فعجزنا عن حمل المثقلات فارضوا منا في الرجوع عن ذلك يوما فيوما ، ولا تكلفونا كل هذا الثقل . قالوا لهم : يا معشر السفهاء ألستم أبناء الجهل وإخوان الضلال حين خفت عليكم الشقوة وثقلت عليكم السعادة ، قالوا لهم : أيها السادة الحكماء والقادة العلماء إنا نستجير من تعنيفكم إيانا بمغفرة الله عزوجل
ونستتر من تعييركم لنا بعفوه فلا تؤنبونا ولا تعيرونا بضعفنا ولا تعيبوا الجهالة علينا فإنا إن أطعنا الله مع عفوه وحمله وتضعيفه الحسنات واجتهدنا في عبادته مثل الذي بذلنا لهوانا من الباطل بلغنا حاجتنا وبلغ الله عزوجل بنا غايتنا ورحمنا كما خلقنا ، فلما قالوا ذلك أقر لهم علماؤهم ورضوا قولهم فصلوا وصاموا وتعبدوا وأعظموا الصدقات سنة كاملة ، فلما انقضى ذلك منهم قالت الكهنة : إن الذي صنعت هذه الامة على هذا المولود يخبر أن هذا الملك يكون فاجرا ويكون بارا ، ويكون متجبرا و يكون متواضعا ويكون مسيئا ويكون محسنا .
وقال المنجمون مثل ذلك ، فقيل لهم : كيف قلتم ذلك ؟ قال الكهنة : قلنا هذا من قبل اللهو والمعازف والباطل الذي صنع عليه ، وما صنع عليه من ضده بعد ذلك ، وقال المنجمون : قلنا ذلك من قبل استقامة الزهرة والمشتري ، فنشأ الغلام بكبر لا توصف عظمته ، ومرح لا ينعت ، وعدوان لا يطاق ، فعسف وجار وظلم في الحكم وغشم وكان أحب الناس إليه من وافقه على ذلك وأبغض الناس إليه من خالفه في شيء من ذلك ، واغتر بالشباب والصحة والقدرة والظفر والنظر فامتلا سرورا وإعجابا بما هو فيه ورأى كلما يحب وسمع كلما اشتهى حتى بلغ اثنين وثلاثين سنة ثم جمع نساء من بنات الملوك وصبيانا والجواري والمخدرات وخيله المطهمات العناق وألوان مراكبه الفاخرة ووصائفه وخدامه الذين يكونون في خدمته فأمرهم أن يلبسوا أجد ثيابهم ويتزينوا بأحسن زينتهم وأمر ببناء مجلس مقابل مطلع الشمس صفائح أرضه الذهب ، مفضضا بأنواع الجواهر ، طوله مائة وعشرون ذراعا وعرضه ستون ذراعا ، ومزخرفا سقفه وحيطانه ، قد زين بكرائم الحلي وصنوف الجوهر و اللؤلؤء النظيم وفاخره ، وأمر بضروب الاموال فاخرجت من الخزائن ونضدت سماطين أمام مجلسه ، وأمر جنوده وأصحابه وقواده وكتابه وحجابه وعظماء
أهل بلاده وعلمائهم فحضروا في أحسن هيئتهم وأجمل جمالهم وتسلح فرسانه وركبت خيوله في عدتهم ، ثم وقفوا على مراكزهم ومراتبهم صفوفا وكراديس ، وإنما أراد بزعمه أن ينظر إلى منظر رفيع حسن تسر به نفسه وتقر به عينه ، ثم خرج فصعد إلى مجلسه فأشرف على مملكته فخروا له سجدا ، فقال لبعض غلمانه : قد نظرت في أهل مملكتي إلى منظر حسن وبقي أن أنظر إلى صورة وجهي فدعا بمرآة فنظر إلى وجهه فبينا هو يقلب طرفه فيها إذ لاحت له شعرة بيضاء من لحيته كغراب أبيض بين غربان سود ، واشتد منها ذعره وفزعه وتغير في عينه حاله وظهرت الكآبة والحزن في وجهه وتولى السرور عنه .
ثم قال في نفسه : هذا حين نعي إلى شبابي وبين لي أن ملكي في ذهاب واوذنت بالنزول عن سرير ملكي ، ثم قال : هذه مقدمة الموت ورسول البلى لم يحجبه عني حاجب ، ولم يمنعه عني حارس ، فنعى إلي نفسي وآذنني بزوال ملكي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي وذهاب سروري ، وهدم قوتي ، لم يمنعه مني الحصون ولم تدفعه عني الجنود ، هذا سالب الشباب والقوة ، وما حق العز والثروة ، ومفرق الشمل وقاسم التراث بين الاولياء والأعداء ؛ مفسد المعاش ، ومنغّص الّلذات ومخرّب العمارات ومشتّت الجمع ، وواضح الرفيع ، ومذلّ المنيع ، قد أناخت بي أثقاله ونصب لي حباله .
ثم نزل عن مجلسه حافياً ماشياً ، وقد صعد إليه محمولاً ، ثمّ جمع إليه جنوده ودعا إليه ثقاته فقال : أيها الملأ ماذا صنعت فيكم وما ( ذا ) أتيت إليكم منذ ملكتكم ووليت أموركم ؟ قالوا له : أيها الملك المحمود عظم بلاؤك عندنا وهذه أنفسنا مبذولة
في طاعتك ، فمرنا بأمرك ، قال : طرقني عدو مخيف لم تمنعوني منه حتى نزل بي وكنتم عدتي وثقاتي ، قالوا : أيها الملك أين هذا العدو ؟ أيرى أم لا يرى ؟ قال : يرى بأثر ولا يرى عينه ، قالوا أيها الملك هذه عدتنا كما ترى وعندنا سكن وفينا ذووا الحجى والنهي ، فأرناه نكفك ما مثله يكفى ، قال : قد عظم الاغترار مني بكم ووضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتكم وجعلتكم لنفسي جنة ، وإنما بذلت لكم الاموال ورفعت شرفكم وجعلتكم البطانة دون غيركم لتحفظوني من الاعداء وتحرسوني منهم ، ثم أيدتكم على ذلك بتشييد البلدان وتحصين المدائن والثقة من السلاح ونحيت عنكم الهموم وفرغتكم للنجدة والاحتفاط ، ولم أكن أخشى أن أراع معكم ولا أتخوف المنون على بنياني وأنتم عكوف مطيفون به فطرقت وأنتم حولي واتيت وأنتم معي ، فلئن كان هذا ضعف منكم فما أخذت أمري بثقة وإن كانت غفلة منكم فما أنتم بأهل النصيحة ولا علي بأهل الشفقة ، قالوا : أيها الملك أما شى نطيق دفعه بالخيل والقوة فليس بواصل إليك إن شاء الله ونحن أحياء وأما ما لا يرى فقد غيب عنا علمه وعجزت قوتنا عنه .
قال : أليس اتخذتكم لتمنعوني من عدوي ، قالوا : بلى قال : فمن أي عدو تحفظوني من الذي يضرني أو من الذي لا يضرني ؟ قالوا : من الذي يضرك ؟ قال : أفمن كل ضار لي أو من بعضهم ؟ قالوا : من كل ضار ، قال : فإن رسول البلى قد أتاني ينعى إلي نفسي وملكي ويزعم أنه يريد خراب ما عمرت وهدم ما بنيت وتفريق ما جمعت وفساد ما أصلحت وتبذير ما أحرزت وتبديل ما عملت وتوهين ما وثقت ، وزعم أن معه الشماتة من الاعداء وقد قرت بي أعينهم فإنه يريد أن يعطيهم مني شفاء صدورهم وذكر أنه سيهزم جيشي ويوحش انسي ويذهب عزي ويؤتم ولدي ويفرق جموعي ، يفجع بي إخواني وأهلي وقرابتي ويقطع أوصالي ويسكن مساكني
أعدائي ، قالوا : أيها الملك إنما نمنعك من الناس والسباع والهوام دواب الارض فأما البلى فلا طاقة لنا به ولا قوة لنا عليه ولا امتناع لنا منه ، فقال : فهل من حيلة في دفع ذلك عني ؟ قالوا : لا ، قال : فشيء دون ذلك تطيقونه ، قالوا : وما هو ؟ قال : الاوجاع والاحزان والهموم ، قالوا : أيها الملك إنما قد قدر هذه الاشياء قوي لطيف وذلك يثور من الجسم والنفس وهو يصل إليك إذا لم يوصل ولا يحجب عنك وإن حجب قال : فأمر دون ذلك ، قالوا : وما هو ؟ قال : ما قد سبق من القضاء . قالوا : أيها الملك ومن ذا غالب القضاء فلم يغلب ؟ ومن ذا كابره فلم يقهر ؟ قال : فماذا عندكم ؟ قالوا : ما نقدر على دفع القضاء ، وقد أصبت التوفيق والتسديد فماذا الذي تريد ، قال : اريد أصحابا يدوم عهدهم ويفوا لي وتبقى لي اخوتهم ولا يحجبهم عني الموت ولا يمنعهم البلى عن صحبتي ولا يستحيل بهم الامتناع عن صحبتي ولا يفردوني إن مت ، ولا يسلموني إن عشت ، ويدفعون عني ما عجزتم عنه ، من أمر الموت .
قالوا : أيها الملك ومن هؤلاء الذين وصفت ، قال : هم الذين أفسدتهم باستصلاحكم ، قالوا : أيها الملك أفلا تصطنع عندنا وعندهم معروفا فإن أخلاقك تامة ورأفتك عظيمة ؟ قال : إن في صحبتكم إياي السم القاتل ، والصمم والعمي في طاعتكم ، والبكم من موافقتكم ، قالوا : كيف ذاك أيها الملك ؟ قال : صارت صحبتكم إياي في الاستكثار وموافقتكم على الجمع ، وطاعتكم إياي في الاغتفال فبطأتموني عن المعاد وزينتم لي الدنيا ولو نصحتموني ذكرتموني الموت ولو أشفقتم علي ذكرتموني البلى ، وجمعتم لي ما يبقي ، ولم تستكثروا لي ما يفنى ، فإن تلك المنفعة التي ادعيتموها ضرر ، وتلك المودة عداوة ، وقد رددتها عليكم لا حاجة لي فيها منكم .
قالوا : أيها الملك الحكيم المحمود قد فهمنا مقالتك وفي أنفسنا أجابتك وليس لنا أن نحتج عليك فقد رأينا مكان الحجة ، فسكوتنا عن حجتنا فساد لملكنا ، وهلاك لدنيانا وشماتة لعدونا ، وقد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيك وأجمع عليه أمرك ، قال : قولوا آمنين واذكروا ما بدا لكم غير مرعوبين فإني كنت إلى اليوم مغلوبا بالحمية والانفة وأنا اليوم غالب لهما ، وكنت إلى اليوم مقهورا لهما وأنا اليوم قاهر لهما ، وكنت إلى اليوم ملكا عليكم فقد صرت عليكم مملوكا ، وأنا اليوم عتيق وأنتم من مملكتي طلقاء ، قالوا : أيها الملك ما الذي كنت مملوكا إذ كنت علينا ملكا ، قال : كنت مملوكا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلك الطاعة عني ونبذتها خلف ظهري ، قالوا : فقل ما أجمعت عليه أيها الملك ؟ قال : القنوع والتخلي لاخرتي وترك هذا الغرور ونبذ هذا الثقل عن ظهري والاستعداد للموت ، والتأهب للبلاء ، فإن رسوله عندي قد ذكر أنه قد أمر بملأ زمتي والاقامة معي حتى يأتيني الموت ، فقالوا : أيها الملك ومن هذا الرسول الذي قد أتاك ولم نره ، وهو مقدمة الموت الذي لا نعرفه ، قال : أما الرسول فهذا البياض الذي يلوح بين السواد ، وقد صاح في جميعه بالزوال ، فأجابوا وأذعنوا ، وأما مقدمة الموت فالبلى الذي هذا البياض طرقه .
قالوا : أيها الملك أفتدع مملكتك ؟ وتهمل رعيتك وكيف لا تخاف الاثم في تعطيل امتك ألست تعلم أن أعظم الاجر في استصلاح الناس وأن رأس الصلاح الطاعة للامة والجماعة ، فكيف لا تخاف من الاثم ، وفي هلاك العامة من الاثم فوق الذي ترجو من الاجر في صلاح الخاصة ، ألست تعلم أن أفضل العبادة العمل وأن أشد العمل السياسة ، فإنك أيها الملك [ ما في يديك ] عدل على رعيتك ، مستصلح لها بتدبيرك ، فإن لك من الاجر بقدر ما استصلحت ، ألست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح امتك فقد أردت فسادهم فقد حملت من الاثم فيهم أعظم مما أنت مصيب من الاجر في خاصة يديك .
ألست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا : من أتلف نفسا فقد استوجب
لنفسه الفساد ، ومن أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه ، وأي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها والاقامة في هذه الامة التي أنت نظامها حاشا لك أيها الملك أن تخلع عنك لباس الملك الذي هو الوسيلة إلى شرف الدنيا والاخرة ، قال : قد فهمت الذي ذكرتم وعقلت الذي وصفتم فإن كنت إنما أطلب الملك عليكم للعدل فيكم والاجر من الله تعالى ذكره في استصلاحكم بغير أعوان يرفدونني ووزراء يكفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيكم ألستم جميعا نزعا إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها ولا آمن أن اخلد إلى الحال التي أرجو أن أدعها وأرفضها ، فإن فعلت ذلك أتاني الموت على غرة ، فأنزلني عن سرير ملكي إلى بطن الارض وكساني التراب بعد الديباج والمنسوج بالذهب ونفيس الجوهر ، وضمني إلى الضيق بعد السعة ، وألبسني الهوان بعد الكرامة ، فأصير فريدا بنفسي ليس معي أحد منكم في الوحدة ، قد أخرجتموني من العمران وأسلمتموني إلى الخراب ، وخليتم بين لحمي وبين سباع الطير وحشرات الارض فأكلت مني النملة فما فوقها من الهوام وصار جسدي دودا وجيفة قذرة ، الذل لي حليف ، والعز مني غريب ، أشدكم حبا إلى أسرعكم إلي دفني ، والتخلية بيني وبين ما قدمت من عملي وأسلفت من ذنوبي ، فيورثني ذلك الحسرة ، ويعقبني الندامة ، وقد كنتم وعدتموني أن تمنعوني من عدوي الضار فإذا أنتم لا منع عندكم ولا قوة على ذلك لكم ولا سبيل ، أيها الملأ إني محتال لنفسي إذ جئتم بالخداع ، ونصبتم لي شراك الغرور ،
فقالوا : أيها الملك المحمود لسنا الذي كنا كما أنك لست الذي كنت ، وقد أبدلنا الذي أبدلك ، وغيرنا الذي غيرك ، فلا ترد علينا توبتنا وبذل نصيحتنا ، قال : أنا مقيم فيكم ما فعلتم ذلك ومفارقكم إذا خالفتموه ، فأقام ذلك الملك في ملكه وأخذ جنوده بسيرته واجتهدوا في العبادة فخصبت بلادهم وغلبوا عدوهم وازداد ملكهم حتى هلك ذلك الملك ، وقد صار فيهم بهذه السيرة اثنين وثلاثين سنة فكان جميع ما عاش أربعا وستين سنة .
قال يوذاسف : قد سررت بهذا الحديث جدا ، فزدني من نحوه أزدد سرورا و لربي شكرا
يتبع ان شاء الله
Comment