رد: الرد على الوهابي في طعنه على كتاب مع العبد الصالح (ع)
13. هل طالب الإمام علي (عليه السلام) بحقه بالخلافة ؟
قال الوهابي:
(ولو سلمنا معكم جدلا بأن الوصية الثالثة كانت لولاية علي رضي الله عنه فأين كان علي وقتها ؟ لماذا لم يحاججهم بها ويقول لهم قد أوصى الرسول لكم بثلاث وصايا الثالثة هي ولايتي عليكم ؟؟ أين حاجج الإمام علي رضي الله عنه الأمة بالوصية الثالثة ؟ وهل كان معهم إذ أوصاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوصايا الثلاث ؟ لو أجاب اليماني على سؤال واحد لسقط ما يدعوا إليه ولعلمتم جميعا بأن ما دسه اليماني بقوله أن الوصية الثالثة هي الولاية لعلي رضي الله عنه وأرضاه).
أقول: ما هو الذي دسسناه يا هذا ؟! هل تعرف معنى الدس يا فهيم ؟! الإمام (عليه السلام) أوضح للمسلمين الثالثة التي زعم "أحولكم" نسيانها، وقد بينت لكل طالب حق حقيقتها وهي لا تعدو ما كشفه المهدي أحمد الحسن (عليه السلام). هذا أولاً.
وثانياً: أراك تكثر من الكلام وتعدد – بنظرك – الأسئلة التي تكررها ولا تعي قولك، فهل ترى أن كل القراء عوران مثلك ؟؟ الآن أجبني أنت: ما الفرق بين سؤالك الأول: (أين كان علي وقتها) والرابع: (هل كان معهم إذ أوصاهم) ؟؟ وما هو الفرق بين سؤالك الثاني: (لماذا لم يحاججهم بها) والثالث: (أين حاجج الإمام علي بالوصية الثالثة) ؟؟ الحمد لله على نعمة العقل والهداية والابتعاد عن السفه والجهل.
ثالثاً: هذه بعض مواضع احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناشدته من اغتصبه حقه ظلماً وعدواناً، وهي مجرد أمثلة لمن يطلب حقاً.
1- قال ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة تحت عنوان "إباية علي كرم الله وجهه بيعة أبي بكر": (ثم إن عليا كرم الله وجهه أتى به إلى أبي بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، فقيل له بايع أبا بكر ، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً).
يعلق الدكتور طه محمد الزيني (محقق الكتاب والأستاذ بالأزهر) على "احلب حلباً لك شطره": (أي أفعل فعلاً يكون لك منه نصيب فأنت تبايعه اليوم ليبايعك غداً) الإمامة والسياسة: ج1 ص18، تحقيق الدكتور طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع.
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) في احتجاجه هذا – وهو الحكيم – يلزم القوم بما ألزموا به أنفسهم (وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار)، فهل تراهم أجابوه ؟!! أو تريد من باب مدينة علم الرسول أن يحتج عليهم بالوصية فيه ولا زالت كلمات السوء (هجر، غلبه الوجع) ومواقف قلة الأدب من رفع الأصوات والتنازع لم يمر عليها سوى ساعات قلائل !!!
يكمل ابن قتيبة عن مطالبة الإمام علي (عليه السلام) بحقه: (فقال علي كرم الله وجهه: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته، إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان.
قال: وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما لله حسيبهم وطالبهم) المصدر السابق: ص19.
2- مناشدته (عليه السلام) يوم الشورى، وقد أخرجها عدة من الحفاظ بطرق شتى تنتهي إلى أبي ذر وأبي الطفيل (عامر بن واثلة)، إلا أن منهم من أشار إليه إشارة كالبخاري في التاريخ الكبير: ج2 ص382، ومنهم من اقتطع منه محل حاجته كالذهبي في كتاب الغدير برقم 37 من طريق الطبري، وابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة: ق3 ص1098 رقم 1855، وابن حجر في الصواعق المحرقة: ص126 و156.
ومنهم من رواه بطوله على اختلاف يسير في اللفظ كغيره من الأحاديث. وممن أخرجه ابن جرير الطبري، رواه عنه الذهبي، ورواه الحافظ الطبراني بطوله، وعنه الخوارزمي في المناقب: ح314، ورواه الحافظ الدارقطني والحاكم في كتابه في حديث الطير، والحافظ ابن مردويه. وأخرجه بطوله ابن المغازلي في كتاب المناقب: ح155. والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدة طرق بالأرقام 1140 و1141 و1142 تنتهي إلى أبي الطفيل، وفي ترجمة عثمان أيضاً. وأورده السيوطي بطوله عن أبي ذر في جمع الجوامع: ج2 ص165، وعن أبي الطفيل: ج2 ص166، وفي مسند فاطمة: ص21، والهندي في كنز العمال: ج5 ص717 - 726 ح14241 و14243.
وهذا بعض مناشدته مما نقله ابن عساكر في تاريخه: (قال علي بن أبي طالب يوم الشورى والله لأحتجن عليهم بما لا يستطيع قرشيهم ولا عربيهم ولا عجميهم رده ولا يقول خلافه، ثم قال لعثمان بن عفان ولعبد الرحمن بن عوف والزبير ولطلحة وسعد وهم أصحاب الشورى وكلهم من قريش وقد كان قدم طلحة: أنشدكم بالله الذي لا إله ألا هو أفيكم أحد وحّد الله قبلي ؟ قالوا: اللهم لا . . قال: أنشدكم بالله أفيكم أحد أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري إذ آخى بين المؤمنين فآخى بيني وبين نفسه وجعلني منه بمنزلة هارون من موسى إلا أني لست نبي ؟ قالوا: لا. قال: أنشدكم بالله أفيكم مطهر غيري إذ سد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوابكم وفتح بابي وكنت معه في مساكنه ومسجده . . ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد أحب إلى الله وإلى رسوله مني إذ دفع الراية إلي يوم خيبر فقال لأعطين الراية إلى من يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . . ؟ قالوا: اللهم لا . . قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحم ومن جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وأبناه أبناءه ونساءه نساءه غيري ؟ قالوا: اللهم لا . . قال: نشدتكم بالله أفيكم احد ولي غمض رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الملائكة غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد ولي غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع الملائكة يقلبونه لي كيف أشاء غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكمم أحد كان آخر عهده برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضعه في حفرته غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد قضى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ديونه ومواعيده غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: وقد قال الله تعالى: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) تاريخ دمشق: ج42 ص431.
وفيما أخرجه ابن مردويه عن عامر بن واثلة ما يلي: (قال أنشدكم بالله أمنكم من نصبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم للولاية غيري ؟ قالوا: اللهم لا) مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه: ص135. وابن مردويه هو: الإمام أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الأصفهاني المتوفى سنة 410 ه، قال الذهبي: (الحافظ المجود العلامة، محدث أصبهان، كان من فرسان الحديث، فهما يقظا متقنا، كثير الحديث جدا، ومن نظر في تواليفه عرف محله من الحفظ) سير أعلام النبلاء: ج17 ص308. وقال الصفدي: (الحافظ العلامة، خرج حديث الأئمة، وسمع الكثير بأصبهان والعراق) الوافي بالوفيات: ج8 ص801. وقال ابن تغري بردى: (كان إماما حافظا ثقة سمع الكثير) النجوم الزاهرة: ج4 ص245.
3- أخرج ابن مردويه بسنده عن ابن عباس: (كنا مع علي (عليه السلام) بالرحبة، فجرى ذكر الخلافة ومن تقدم عليه فيها، فقال: أما والله، لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير. فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده.
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر
فيا عجبا ! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم. فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم. فيالله وللشورى ! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكنني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن. إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته) المصدر السابق.
وهناك الكثير من الاحتجاجات التي أقامها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبناؤه الطاهرين وكبار الصحابة والتابعين من أوليائهم في كل فرصة سانحة، لا يسع المجال لذكرها وهي مذكورة في كتب الفريقين، ولتتميم الفائدة أضيف اثنتين منها واحدة لأهل البيت (عليهم السلام) والأخرى لابن عباس:
4- جاء الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: (انزل عن مجلس أبي)، ووقع للإمام الحسين (عليه السلام) نحو ذلك مع عمر وهو على المنبر أيضاً. راجع الصواعق المحرقة: ص160، إذ نقل ابن حجر كلتا القضيتين في المقصد الخامس، مما أشارت إليه آية المودة في القربى، وهي الآية 14 من آيات الباب 11، وقد أخرج الدارقطني قضية الحسن مع أبي بكر، وأخرج ابن سعد في ترجمة عمر من طبقاته قضية الحسين مع عمر.
5- أخرج صاحب تاريخ بغداد – كما نقل ابن أبي الحديد عنه - محاورة جرت بين عمر وابن عباس، وسؤال الأول له: (كيف خلفت ابن عمك، قال: فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قال: فقلت: خلفته مع أترابه، قال: لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قال: قلت: خلفته يمتح بالغرب وهو يقرأ القرآن. قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة ؟ قال: قلت: نعم. قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه ؟ قال ابن عباس: قلت: وأزيدك سألت أبي عما يدعي - من نص رسول الله عليه بالخلافة - فقال: صدق، فقال عمر: كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك . .) شرح النهج: ج12 ص20.
6- هذه بعض أقوال أمير المؤمنين (عليه السلام) مما ورد في نهج البلاغة:
- (لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة) خطبة: 2.
- (أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم. وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم.. أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل) خطبة: 183.
- (والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا) خطبة: 33.
ثم أقول: إنّ علياً (عليه السلام) الذي لم يدخر شيئاً لله، كان كذلك في مواقفه كلها رغم قساوة الدهر عليه وجهالة الأعراب لقدره.
وهذه كلمة للسيد شرف الدين (رحمه الله) يوضح فيها حال الإمام (عليه السلام)،
يقول: (إنه مُني في تلك الأيام بما لم يمن به أحد إذ مثل على جناحيه خطبان فادحان، الخلافة بنصوصها ووصاياها إلى جانب تستصرخه وتستفزه بشكوى تدمي الفؤاد وحنين يفتت الأكباد، والفتن الطاغية إلى جانب آخر تنذره بانتقاض شبه الجزيرة، وانقلاب العرب، واجتياح الإسلام، وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة، وقد مردوا على النفاق، وبمن حولهم من الأعراب، وهم منافقون بنص الكتاب، بل هم أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قويت شوكتهم بفقده صلى الله عليه وآله وسلم، وأصبح المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الأفاك، وسجاح بنت الحرث الدجالة، وأصحابهم الرعاع الهمج، قائمون - في محق الإسلام وسحق المسلمين - على ساق، والرومان والأكاسرة والقياصرة وغيرهم، كانوا للمسلمين بالمرصاد .. فوقف علي بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدم حقه قرباناً لحياة المسلمين، لكنه أراد الاحتفاظ بحقه في الخلافة، والاحتجاج على من عدل عنه بها على وجه لا تشق بهما للمسلمين عصا، ولا تقع بينهم فتنة ينتهزها عدوهم، فقعد في بيته حتى أخرجوه كرهاً بدون قتال، ولو أسرع إليهم ما تمت له حجة، ولا سطع لشيعته برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من خلافة المسلمين ..) المراجعات: ص385، فما بعد.
الإمام علي (عليه السلام) الذي لم يغب عنه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) له ووصاياه، إذ أخرج ابن حنبل - بإسناد صحيح كما يقول أحمد شاكر - عنه قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيكون بعدي اختلاف أو أمر فإن استطعت أن تكون السلم فافعل) مسند أحمد بن حنبل: ج1 ص469 حديث695، تحقيق أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1416هــ ، 1995م، هل يرى حاسدوه اليوم أنه يعدو ما وصّاه به معلّمه محمد (صلى الله عليه وآله) ؟!! كلا ورب محمد وعلي.
وهل توفر له الناصر والمعين الذي يقوى به على تنفيذ حاكمية الله في أرضه، وكم قال: (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم) نهج البلاغة: خطبة 26. وذكره المعتزلي في شرح النهج: ج2 ص20.
وأختم بما أورده في بيان حاله (عليه السلام) في كتاب له بعثه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها، إذ قال: (أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقي في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذه الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحّوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت أن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب) نهج البلاغة: خطبة 62. وذكره المعتزلي في شرح النهج: ج6 ص95.
فسلام عليك يا أبا الحسن .. هارون أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، الذي شبّهك - وليس عبثا وحاشاه - به فقال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، سلام على الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، والحمد لله رب العالمين.
يتبع ...
(ولو سلمنا معكم جدلا بأن الوصية الثالثة كانت لولاية علي رضي الله عنه فأين كان علي وقتها ؟ لماذا لم يحاججهم بها ويقول لهم قد أوصى الرسول لكم بثلاث وصايا الثالثة هي ولايتي عليكم ؟؟ أين حاجج الإمام علي رضي الله عنه الأمة بالوصية الثالثة ؟ وهل كان معهم إذ أوصاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوصايا الثلاث ؟ لو أجاب اليماني على سؤال واحد لسقط ما يدعوا إليه ولعلمتم جميعا بأن ما دسه اليماني بقوله أن الوصية الثالثة هي الولاية لعلي رضي الله عنه وأرضاه).
أقول: ما هو الذي دسسناه يا هذا ؟! هل تعرف معنى الدس يا فهيم ؟! الإمام (عليه السلام) أوضح للمسلمين الثالثة التي زعم "أحولكم" نسيانها، وقد بينت لكل طالب حق حقيقتها وهي لا تعدو ما كشفه المهدي أحمد الحسن (عليه السلام). هذا أولاً.
وثانياً: أراك تكثر من الكلام وتعدد – بنظرك – الأسئلة التي تكررها ولا تعي قولك، فهل ترى أن كل القراء عوران مثلك ؟؟ الآن أجبني أنت: ما الفرق بين سؤالك الأول: (أين كان علي وقتها) والرابع: (هل كان معهم إذ أوصاهم) ؟؟ وما هو الفرق بين سؤالك الثاني: (لماذا لم يحاججهم بها) والثالث: (أين حاجج الإمام علي بالوصية الثالثة) ؟؟ الحمد لله على نعمة العقل والهداية والابتعاد عن السفه والجهل.
ثالثاً: هذه بعض مواضع احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناشدته من اغتصبه حقه ظلماً وعدواناً، وهي مجرد أمثلة لمن يطلب حقاً.
1- قال ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة تحت عنوان "إباية علي كرم الله وجهه بيعة أبي بكر": (ثم إن عليا كرم الله وجهه أتى به إلى أبي بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، فقيل له بايع أبا بكر ، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً).
يعلق الدكتور طه محمد الزيني (محقق الكتاب والأستاذ بالأزهر) على "احلب حلباً لك شطره": (أي أفعل فعلاً يكون لك منه نصيب فأنت تبايعه اليوم ليبايعك غداً) الإمامة والسياسة: ج1 ص18، تحقيق الدكتور طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع.
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) في احتجاجه هذا – وهو الحكيم – يلزم القوم بما ألزموا به أنفسهم (وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار)، فهل تراهم أجابوه ؟!! أو تريد من باب مدينة علم الرسول أن يحتج عليهم بالوصية فيه ولا زالت كلمات السوء (هجر، غلبه الوجع) ومواقف قلة الأدب من رفع الأصوات والتنازع لم يمر عليها سوى ساعات قلائل !!!
يكمل ابن قتيبة عن مطالبة الإمام علي (عليه السلام) بحقه: (فقال علي كرم الله وجهه: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته، إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان.
قال: وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما لله حسيبهم وطالبهم) المصدر السابق: ص19.
2- مناشدته (عليه السلام) يوم الشورى، وقد أخرجها عدة من الحفاظ بطرق شتى تنتهي إلى أبي ذر وأبي الطفيل (عامر بن واثلة)، إلا أن منهم من أشار إليه إشارة كالبخاري في التاريخ الكبير: ج2 ص382، ومنهم من اقتطع منه محل حاجته كالذهبي في كتاب الغدير برقم 37 من طريق الطبري، وابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة: ق3 ص1098 رقم 1855، وابن حجر في الصواعق المحرقة: ص126 و156.
ومنهم من رواه بطوله على اختلاف يسير في اللفظ كغيره من الأحاديث. وممن أخرجه ابن جرير الطبري، رواه عنه الذهبي، ورواه الحافظ الطبراني بطوله، وعنه الخوارزمي في المناقب: ح314، ورواه الحافظ الدارقطني والحاكم في كتابه في حديث الطير، والحافظ ابن مردويه. وأخرجه بطوله ابن المغازلي في كتاب المناقب: ح155. والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدة طرق بالأرقام 1140 و1141 و1142 تنتهي إلى أبي الطفيل، وفي ترجمة عثمان أيضاً. وأورده السيوطي بطوله عن أبي ذر في جمع الجوامع: ج2 ص165، وعن أبي الطفيل: ج2 ص166، وفي مسند فاطمة: ص21، والهندي في كنز العمال: ج5 ص717 - 726 ح14241 و14243.
وهذا بعض مناشدته مما نقله ابن عساكر في تاريخه: (قال علي بن أبي طالب يوم الشورى والله لأحتجن عليهم بما لا يستطيع قرشيهم ولا عربيهم ولا عجميهم رده ولا يقول خلافه، ثم قال لعثمان بن عفان ولعبد الرحمن بن عوف والزبير ولطلحة وسعد وهم أصحاب الشورى وكلهم من قريش وقد كان قدم طلحة: أنشدكم بالله الذي لا إله ألا هو أفيكم أحد وحّد الله قبلي ؟ قالوا: اللهم لا . . قال: أنشدكم بالله أفيكم أحد أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري إذ آخى بين المؤمنين فآخى بيني وبين نفسه وجعلني منه بمنزلة هارون من موسى إلا أني لست نبي ؟ قالوا: لا. قال: أنشدكم بالله أفيكم مطهر غيري إذ سد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوابكم وفتح بابي وكنت معه في مساكنه ومسجده . . ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد أحب إلى الله وإلى رسوله مني إذ دفع الراية إلي يوم خيبر فقال لأعطين الراية إلى من يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . . ؟ قالوا: اللهم لا . . قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحم ومن جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وأبناه أبناءه ونساءه نساءه غيري ؟ قالوا: اللهم لا . . قال: نشدتكم بالله أفيكم احد ولي غمض رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الملائكة غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد ولي غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع الملائكة يقلبونه لي كيف أشاء غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكمم أحد كان آخر عهده برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضعه في حفرته غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد قضى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ديونه ومواعيده غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: وقد قال الله تعالى: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) تاريخ دمشق: ج42 ص431.
وفيما أخرجه ابن مردويه عن عامر بن واثلة ما يلي: (قال أنشدكم بالله أمنكم من نصبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم للولاية غيري ؟ قالوا: اللهم لا) مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه: ص135. وابن مردويه هو: الإمام أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الأصفهاني المتوفى سنة 410 ه، قال الذهبي: (الحافظ المجود العلامة، محدث أصبهان، كان من فرسان الحديث، فهما يقظا متقنا، كثير الحديث جدا، ومن نظر في تواليفه عرف محله من الحفظ) سير أعلام النبلاء: ج17 ص308. وقال الصفدي: (الحافظ العلامة، خرج حديث الأئمة، وسمع الكثير بأصبهان والعراق) الوافي بالوفيات: ج8 ص801. وقال ابن تغري بردى: (كان إماما حافظا ثقة سمع الكثير) النجوم الزاهرة: ج4 ص245.
3- أخرج ابن مردويه بسنده عن ابن عباس: (كنا مع علي (عليه السلام) بالرحبة، فجرى ذكر الخلافة ومن تقدم عليه فيها، فقال: أما والله، لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير. فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده.
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر
فيا عجبا ! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم. فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم. فيالله وللشورى ! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكنني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن. إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته) المصدر السابق.
وهناك الكثير من الاحتجاجات التي أقامها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبناؤه الطاهرين وكبار الصحابة والتابعين من أوليائهم في كل فرصة سانحة، لا يسع المجال لذكرها وهي مذكورة في كتب الفريقين، ولتتميم الفائدة أضيف اثنتين منها واحدة لأهل البيت (عليهم السلام) والأخرى لابن عباس:
4- جاء الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: (انزل عن مجلس أبي)، ووقع للإمام الحسين (عليه السلام) نحو ذلك مع عمر وهو على المنبر أيضاً. راجع الصواعق المحرقة: ص160، إذ نقل ابن حجر كلتا القضيتين في المقصد الخامس، مما أشارت إليه آية المودة في القربى، وهي الآية 14 من آيات الباب 11، وقد أخرج الدارقطني قضية الحسن مع أبي بكر، وأخرج ابن سعد في ترجمة عمر من طبقاته قضية الحسين مع عمر.
5- أخرج صاحب تاريخ بغداد – كما نقل ابن أبي الحديد عنه - محاورة جرت بين عمر وابن عباس، وسؤال الأول له: (كيف خلفت ابن عمك، قال: فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قال: فقلت: خلفته مع أترابه، قال: لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قال: قلت: خلفته يمتح بالغرب وهو يقرأ القرآن. قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة ؟ قال: قلت: نعم. قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه ؟ قال ابن عباس: قلت: وأزيدك سألت أبي عما يدعي - من نص رسول الله عليه بالخلافة - فقال: صدق، فقال عمر: كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك . .) شرح النهج: ج12 ص20.
6- هذه بعض أقوال أمير المؤمنين (عليه السلام) مما ورد في نهج البلاغة:
- (لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة) خطبة: 2.
- (أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم. وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم.. أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل) خطبة: 183.
- (والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا) خطبة: 33.
ثم أقول: إنّ علياً (عليه السلام) الذي لم يدخر شيئاً لله، كان كذلك في مواقفه كلها رغم قساوة الدهر عليه وجهالة الأعراب لقدره.
وهذه كلمة للسيد شرف الدين (رحمه الله) يوضح فيها حال الإمام (عليه السلام)،
يقول: (إنه مُني في تلك الأيام بما لم يمن به أحد إذ مثل على جناحيه خطبان فادحان، الخلافة بنصوصها ووصاياها إلى جانب تستصرخه وتستفزه بشكوى تدمي الفؤاد وحنين يفتت الأكباد، والفتن الطاغية إلى جانب آخر تنذره بانتقاض شبه الجزيرة، وانقلاب العرب، واجتياح الإسلام، وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة، وقد مردوا على النفاق، وبمن حولهم من الأعراب، وهم منافقون بنص الكتاب، بل هم أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قويت شوكتهم بفقده صلى الله عليه وآله وسلم، وأصبح المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الأفاك، وسجاح بنت الحرث الدجالة، وأصحابهم الرعاع الهمج، قائمون - في محق الإسلام وسحق المسلمين - على ساق، والرومان والأكاسرة والقياصرة وغيرهم، كانوا للمسلمين بالمرصاد .. فوقف علي بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدم حقه قرباناً لحياة المسلمين، لكنه أراد الاحتفاظ بحقه في الخلافة، والاحتجاج على من عدل عنه بها على وجه لا تشق بهما للمسلمين عصا، ولا تقع بينهم فتنة ينتهزها عدوهم، فقعد في بيته حتى أخرجوه كرهاً بدون قتال، ولو أسرع إليهم ما تمت له حجة، ولا سطع لشيعته برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من خلافة المسلمين ..) المراجعات: ص385، فما بعد.
الإمام علي (عليه السلام) الذي لم يغب عنه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) له ووصاياه، إذ أخرج ابن حنبل - بإسناد صحيح كما يقول أحمد شاكر - عنه قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيكون بعدي اختلاف أو أمر فإن استطعت أن تكون السلم فافعل) مسند أحمد بن حنبل: ج1 ص469 حديث695، تحقيق أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1416هــ ، 1995م، هل يرى حاسدوه اليوم أنه يعدو ما وصّاه به معلّمه محمد (صلى الله عليه وآله) ؟!! كلا ورب محمد وعلي.
وهل توفر له الناصر والمعين الذي يقوى به على تنفيذ حاكمية الله في أرضه، وكم قال: (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم) نهج البلاغة: خطبة 26. وذكره المعتزلي في شرح النهج: ج2 ص20.
وأختم بما أورده في بيان حاله (عليه السلام) في كتاب له بعثه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها، إذ قال: (أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقي في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذه الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحّوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت أن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب) نهج البلاغة: خطبة 62. وذكره المعتزلي في شرح النهج: ج6 ص95.
فسلام عليك يا أبا الحسن .. هارون أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، الذي شبّهك - وليس عبثا وحاشاه - به فقال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، سلام على الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، والحمد لله رب العالمين.
يتبع ...
Comment