بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما
للإمامالصادق ( عليه السلام) مناظراتجمّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبدالكريم من الملاحدة المشهورين ، واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديثالنبي ( صلى الله عليه وآله) ، وكفى في معرفةحاله هذه المناظرات ، وقد قُتِل على الإلحاد كما قُتِل صاحبه ابن المقفّع .
فمن تلك المناظرات : أنّه كان يوماً هو وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام ،فقال ابن المقفّع : ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحدأوجب له اِسم الإنسانية إِلاّ ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمّد(عليهما السلام ) - وأمّا الباقون فرعاع وبهائم
فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ؟ فقال : لأنّي رأيت عنده ما لم أره عندهم ، فقال ابن أبي العوجاء : لا بدّ من اختبار ما قلتفيه منه ، فقال له ابن المقفّع : لا تفعل فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك .
فقال : ليس ذا رأيك ، لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إِحلالك إِيّاه هذا المحلّالذي وصفت ، فقال ابن المقفّع : أمّا إذا توسّمت عليّ فقم إليه ، وتحفّظ من الزلل ،ولا تثن عنانك إلى استرسال فيسلّمك إلى عقال ، وسمة ما لك وعليك ، فقام ابن أبيالعوجاء ، فلمّا رجع قال : ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر ، وإِن كان في الدنياروحاني يتجسّد إذا شاء ظاهراً ، ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا .
فقال له : كيف ذلك ؟ فقال : جلست إليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال : إِن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء ، وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقدسلموا وعطبتم ، وإِن يكن الأمر كما تقولون ، وليس كما تقولون ، فقد استويتم وهم،فقلت : يرحمك الله وأيّ شيء نقول ؟ وأيّ شيء يقولون ؟ ما قولي وقولهم إِلاّ واحد .
فقال : ( وكيف يكون قولك وقولهم واحداً ، وهم يقولون : إِنّ لهم معاداً وثواباًوعقاباً ، ويدينون بأنّ للسماء إِلهاً ، وأنّها عمران ، وأنتم تزعمون أنّ السماءخراب ليس فيها أحد ) ، قال : فاغتنمتها منه ، فقلت له : ما منعه إِن كان الأمر كمايقولون : أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته ، حتّى لا يختلف فيه اثنان ؟ لِمَ احتجبعنهم وأرسل إليهم الرسل ؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به .
فقال لي : ( ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك ؟ نشوَّك ولم تكن ، وكبركبعد صغرك ، وقوَّتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوَّتك ، وسقمك بعد صحّتك ، وصحّتك بعدسقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبّكبعد بغضك ، وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إِنابتك ، وإِنابتك بعد عزمك ، وشهوتك بعدكراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاءك بعديأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك لما لم يكن في وهمك ، وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك) .
وما زال يعد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنّه سيظهرفيما بيني وبينه .
ودخل على الإمام الصادق ( عليه السلام ) يوماً ، فقال : أليس تزعم أنّ اللهتعالى خالق كلّ شيء ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( بلى ) ، فقال : أنا أخلق ، فقال له(عليه السلام ) : ( كيف تخلق ؟ ) فقال : أحدث في الموضع ، ثمّ ألبث عنه فيصيردواباً ، فكنت أنا الذي خلقتها .
فقال ( عليه السلام ) : ( أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه ؟ ) قال : بلى ، قال(عليه السلام ) : ( فتعرف الذكر من الأنثى ؟ وتعرف عمرها ؟ ) فسكت .
وللإمام لصادق ( عليه السلام ) نظير ذلك مع الجعد بن درهم ، وكان من أهل الضلالوالبدع ، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك ، قال ابن شهراشوب : قيل إِنّ الجعد بندرهم جعل في قارورة ماءً وتراباً فاستحال دوداً وهواماً ، فقال لأصحابه : أنا خلقتذلك لأنّي كنت سبب كونه ، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد ( عليهما السلام)
فقال : ( ليقل كم هي ؟ وكم الذكران منه والإناث إِن كان خلقه ، وكم وزن كلّواحدة منهنّ ، وليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره ) ، فانقطع وهرب .
ثمّ أنّ ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني ، فجلس وهو ساكت لا ينطق ،فقال ( عليه السلام ) : ( كأنّك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه ) ، فقال : أردت ذلك ياابن رسول الله ، فقال ( عليه السلام ) : ( ما أعجب هذا تنكر الله ، وتشهد أنّي ابنرسول الله ( صلى الله عليه وآله ! ) فقال : العادة تحملني على ذلك .
فقال له ( عليه السلام ) : ( فما يمنعك من الكلام ؟ ) قال : إِجلال لك ومهابة ،ما ينطق لساني بين يديك ، فإنّي شاهدت العلماء ، وناظرت المتكلّمين فما تداخلنيهيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قال ( عليه السلام ) : ( يكون ذلك ، ولكن أفتحعليك سؤالاً ) ، وأقبل عليه .
فقال له : ( أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟ ) ، فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غيرمصنوع ، فقال له ( عليه السلام ) : ( فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟ ) فبقيعبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً ، وولع بخشبة كانت بين يديه ، وهو يقول : طويلعريض عميق قصير متحرّك ساكن ، كلّ ذلك من صفة خلقه .
فقال له ( عليه السلام ) : ( فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسكمصنوعاً لما تجد في نفسك ، ممّا يحدث من هذه الأُمور ) ، فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها .
فقال له ( عليه السلام ) : ( هبك علمت أنّك لم تُسأل فيما مضى فما علمك إِنّك لمتُسأل فيما بعد ؟ على أنّك يا عبد الكريم نقضت قولك ، لأنّك تزعم أنّ الأشياء منالأوّل سواء ، فكيف قدّمت وأخّرت ؟ يا عبد الكريم : أنزيدك وضوحاً ؟ أرأيت لو كانمعك كيس فيه جواهر ، فقال لك قائل : هل في الكيس دينار ، فنفيت كون الدينار فيالكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار ؟ وكنت غير عالم بصفته ، هل لك أن تنفي كونالدينار في الكيس وأنت لا تعلم ؟) .
قال : لا ، فقال ( عليه السلام ) : ( فالعالَم أكبر وأطول وأعرض من الكيس ،فلعلّ في العالَم صنعة من حيث لا تعلم ، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة ) ،فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه ، وبقي معه بعض .
فعاد في اليوم الثالث ، فقال : أقلب السؤال ، فقال ( عليه السلام ) : ( سل عمّاشئت ) ، فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام ؟
فقال : ( إِنّي ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إِلاّ وإذا ضمّ إليه مثله صار أكبر ،وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ، ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأنّالذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفيكونه في الأُولى دخوله في العدم ، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد) .
فقال عبد الكريم : هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت علىحدوثها ، فلو بقيّت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إِنّما نتكلّم على هذا العالَم الموضوع ، فلو رفعناهووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إِيّاه ووضعنا غيره ، ولكنأجبت من حيث قدرت إِنّك تلزمنا وتقول : إِنّ الأشياء لو دامت على صغرها لكان فيالوهم أنّه متى ما ضمّ شيء منه إلى مثله كان أكبر ، وفي جواز التغيّر عليه خروجه منالقدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث ، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم ) ، فانقطعوخزي .
أقول : إِنّ خلاصة كلام الإمام الصادق ( عليه السلام ) : أنّ هذا العالَم إِذاضمّ شيء منه إِلى شيء آخر حدث شيء أكبر ، وفي ذلك زوال عن الحالة الأُولى وانتقالإلى حال أُخرى ، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات ، ولو كان ذلك التأليف بالفرضوالوهم ، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر ،لأنّه من الأُمور البديهية ، بل أبده البديهيّات أنّه بضمّ شيء إِلى شيء تحصل زيادةعلى كلّ من الشيئين ، وهذه إِحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضية كلّها .
فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالَم إلى أوضح بديهيّة في العقول التي لايختلف فيها اثنان ، على أنّه ( عليه السلام ) مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرضالمحال ، وهو أنّ الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها إلى بعض ، أجاب بأنّ هذاالفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه ، وخروجه من القِدم ودخوله في الحدث ، لأنّالمفروض أنّ العالَم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها إلى بعض ، فلو فرضناهعالماً آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالَم وتغييره ، فيتحقّق فيه الاستدلالعلى المطلوب .
ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه ، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي .
ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إِنّ ابنأبي العوجاء قد أسلم ، فقال ( عليه السلام ) : ( هو أعمى من ذلك لا يسلم ) ، فلمّابصر بالصادق ( عليه السلام ) قال : سيّدي ومولاي ، فقال له : ( ما جاء بك إلى هذاالموضع ؟) .
فقال : عادة الجسد وسنّة البلد ، ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورميالحجارة ، فقال له ( عليه السلام ) : ( أنت بعدُ على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم ) ، فذهب يتكلّم).
وناظر الإمام الصادق ( عليه السلام ) يوماً في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًاغَيْرَهَا ) ، هب هذه الجلود عصت فعذّبت ، فما بال الغير يعذّب ؟
قال ( عليه السلام ) : ( ويحَك هي هي ، وهي غيرها ) ، قال : اعقلني هذا القول ،فقال له ( عليه السلام ) : ( أرأيت لو أنّ رجلاً عهد إلى لبنة فكسرها ، ثمّ صبّعليها الماء وجبلها ، ثم ردّها إلى هيئتها الأولى ، ألم تكن هي هي ، وهي غيرها ؟ ) فقال : بلى ، أمتع الله بك)
اللهم صل على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما
للإمامالصادق ( عليه السلام) مناظراتجمّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبدالكريم من الملاحدة المشهورين ، واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديثالنبي ( صلى الله عليه وآله) ، وكفى في معرفةحاله هذه المناظرات ، وقد قُتِل على الإلحاد كما قُتِل صاحبه ابن المقفّع .
فمن تلك المناظرات : أنّه كان يوماً هو وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام ،فقال ابن المقفّع : ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحدأوجب له اِسم الإنسانية إِلاّ ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمّد(عليهما السلام ) - وأمّا الباقون فرعاع وبهائم
فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ؟ فقال : لأنّي رأيت عنده ما لم أره عندهم ، فقال ابن أبي العوجاء : لا بدّ من اختبار ما قلتفيه منه ، فقال له ابن المقفّع : لا تفعل فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك .
فقال : ليس ذا رأيك ، لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إِحلالك إِيّاه هذا المحلّالذي وصفت ، فقال ابن المقفّع : أمّا إذا توسّمت عليّ فقم إليه ، وتحفّظ من الزلل ،ولا تثن عنانك إلى استرسال فيسلّمك إلى عقال ، وسمة ما لك وعليك ، فقام ابن أبيالعوجاء ، فلمّا رجع قال : ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر ، وإِن كان في الدنياروحاني يتجسّد إذا شاء ظاهراً ، ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا .
فقال له : كيف ذلك ؟ فقال : جلست إليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال : إِن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء ، وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقدسلموا وعطبتم ، وإِن يكن الأمر كما تقولون ، وليس كما تقولون ، فقد استويتم وهم،فقلت : يرحمك الله وأيّ شيء نقول ؟ وأيّ شيء يقولون ؟ ما قولي وقولهم إِلاّ واحد .
فقال : ( وكيف يكون قولك وقولهم واحداً ، وهم يقولون : إِنّ لهم معاداً وثواباًوعقاباً ، ويدينون بأنّ للسماء إِلهاً ، وأنّها عمران ، وأنتم تزعمون أنّ السماءخراب ليس فيها أحد ) ، قال : فاغتنمتها منه ، فقلت له : ما منعه إِن كان الأمر كمايقولون : أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته ، حتّى لا يختلف فيه اثنان ؟ لِمَ احتجبعنهم وأرسل إليهم الرسل ؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به .
فقال لي : ( ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك ؟ نشوَّك ولم تكن ، وكبركبعد صغرك ، وقوَّتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوَّتك ، وسقمك بعد صحّتك ، وصحّتك بعدسقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبّكبعد بغضك ، وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إِنابتك ، وإِنابتك بعد عزمك ، وشهوتك بعدكراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاءك بعديأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك لما لم يكن في وهمك ، وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك) .
وما زال يعد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنّه سيظهرفيما بيني وبينه .
ودخل على الإمام الصادق ( عليه السلام ) يوماً ، فقال : أليس تزعم أنّ اللهتعالى خالق كلّ شيء ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( بلى ) ، فقال : أنا أخلق ، فقال له(عليه السلام ) : ( كيف تخلق ؟ ) فقال : أحدث في الموضع ، ثمّ ألبث عنه فيصيردواباً ، فكنت أنا الذي خلقتها .
فقال ( عليه السلام ) : ( أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه ؟ ) قال : بلى ، قال(عليه السلام ) : ( فتعرف الذكر من الأنثى ؟ وتعرف عمرها ؟ ) فسكت .
وللإمام لصادق ( عليه السلام ) نظير ذلك مع الجعد بن درهم ، وكان من أهل الضلالوالبدع ، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك ، قال ابن شهراشوب : قيل إِنّ الجعد بندرهم جعل في قارورة ماءً وتراباً فاستحال دوداً وهواماً ، فقال لأصحابه : أنا خلقتذلك لأنّي كنت سبب كونه ، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد ( عليهما السلام)
فقال : ( ليقل كم هي ؟ وكم الذكران منه والإناث إِن كان خلقه ، وكم وزن كلّواحدة منهنّ ، وليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره ) ، فانقطع وهرب .
ثمّ أنّ ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني ، فجلس وهو ساكت لا ينطق ،فقال ( عليه السلام ) : ( كأنّك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه ) ، فقال : أردت ذلك ياابن رسول الله ، فقال ( عليه السلام ) : ( ما أعجب هذا تنكر الله ، وتشهد أنّي ابنرسول الله ( صلى الله عليه وآله ! ) فقال : العادة تحملني على ذلك .
فقال له ( عليه السلام ) : ( فما يمنعك من الكلام ؟ ) قال : إِجلال لك ومهابة ،ما ينطق لساني بين يديك ، فإنّي شاهدت العلماء ، وناظرت المتكلّمين فما تداخلنيهيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قال ( عليه السلام ) : ( يكون ذلك ، ولكن أفتحعليك سؤالاً ) ، وأقبل عليه .
فقال له : ( أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟ ) ، فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غيرمصنوع ، فقال له ( عليه السلام ) : ( فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟ ) فبقيعبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً ، وولع بخشبة كانت بين يديه ، وهو يقول : طويلعريض عميق قصير متحرّك ساكن ، كلّ ذلك من صفة خلقه .
فقال له ( عليه السلام ) : ( فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسكمصنوعاً لما تجد في نفسك ، ممّا يحدث من هذه الأُمور ) ، فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها .
فقال له ( عليه السلام ) : ( هبك علمت أنّك لم تُسأل فيما مضى فما علمك إِنّك لمتُسأل فيما بعد ؟ على أنّك يا عبد الكريم نقضت قولك ، لأنّك تزعم أنّ الأشياء منالأوّل سواء ، فكيف قدّمت وأخّرت ؟ يا عبد الكريم : أنزيدك وضوحاً ؟ أرأيت لو كانمعك كيس فيه جواهر ، فقال لك قائل : هل في الكيس دينار ، فنفيت كون الدينار فيالكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار ؟ وكنت غير عالم بصفته ، هل لك أن تنفي كونالدينار في الكيس وأنت لا تعلم ؟) .
قال : لا ، فقال ( عليه السلام ) : ( فالعالَم أكبر وأطول وأعرض من الكيس ،فلعلّ في العالَم صنعة من حيث لا تعلم ، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة ) ،فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه ، وبقي معه بعض .
فعاد في اليوم الثالث ، فقال : أقلب السؤال ، فقال ( عليه السلام ) : ( سل عمّاشئت ) ، فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام ؟
فقال : ( إِنّي ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إِلاّ وإذا ضمّ إليه مثله صار أكبر ،وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ، ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأنّالذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفيكونه في الأُولى دخوله في العدم ، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد) .
فقال عبد الكريم : هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت علىحدوثها ، فلو بقيّت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إِنّما نتكلّم على هذا العالَم الموضوع ، فلو رفعناهووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إِيّاه ووضعنا غيره ، ولكنأجبت من حيث قدرت إِنّك تلزمنا وتقول : إِنّ الأشياء لو دامت على صغرها لكان فيالوهم أنّه متى ما ضمّ شيء منه إلى مثله كان أكبر ، وفي جواز التغيّر عليه خروجه منالقدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث ، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم ) ، فانقطعوخزي .
أقول : إِنّ خلاصة كلام الإمام الصادق ( عليه السلام ) : أنّ هذا العالَم إِذاضمّ شيء منه إِلى شيء آخر حدث شيء أكبر ، وفي ذلك زوال عن الحالة الأُولى وانتقالإلى حال أُخرى ، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات ، ولو كان ذلك التأليف بالفرضوالوهم ، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر ،لأنّه من الأُمور البديهية ، بل أبده البديهيّات أنّه بضمّ شيء إِلى شيء تحصل زيادةعلى كلّ من الشيئين ، وهذه إِحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضية كلّها .
فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالَم إلى أوضح بديهيّة في العقول التي لايختلف فيها اثنان ، على أنّه ( عليه السلام ) مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرضالمحال ، وهو أنّ الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها إلى بعض ، أجاب بأنّ هذاالفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه ، وخروجه من القِدم ودخوله في الحدث ، لأنّالمفروض أنّ العالَم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها إلى بعض ، فلو فرضناهعالماً آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالَم وتغييره ، فيتحقّق فيه الاستدلالعلى المطلوب .
ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه ، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي .
ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إِنّ ابنأبي العوجاء قد أسلم ، فقال ( عليه السلام ) : ( هو أعمى من ذلك لا يسلم ) ، فلمّابصر بالصادق ( عليه السلام ) قال : سيّدي ومولاي ، فقال له : ( ما جاء بك إلى هذاالموضع ؟) .
فقال : عادة الجسد وسنّة البلد ، ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورميالحجارة ، فقال له ( عليه السلام ) : ( أنت بعدُ على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم ) ، فذهب يتكلّم).
وناظر الإمام الصادق ( عليه السلام ) يوماً في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًاغَيْرَهَا ) ، هب هذه الجلود عصت فعذّبت ، فما بال الغير يعذّب ؟
قال ( عليه السلام ) : ( ويحَك هي هي ، وهي غيرها ) ، قال : اعقلني هذا القول ،فقال له ( عليه السلام ) : ( أرأيت لو أنّ رجلاً عهد إلى لبنة فكسرها ، ثمّ صبّعليها الماء وجبلها ، ثم ردّها إلى هيئتها الأولى ، ألم تكن هي هي ، وهي غيرها ؟ ) فقال : بلى ، أمتع الله بك)
Comment