كتب جبران خليل جبران في (مساء العيد) :
ولما بلغت الحديقة العمومية جلست على مقعد خشبي أنظر من خلال أغصان الأشجار العارية نحو الشوارع المزدحمة وأسمع عن بعد أناشيد المعيدين السائرين في موكب اللهو والخلو... وبعد ساعة مفعمة بالأفكار التفت وإذا برجل جالس بقربي على المقعد وفي يده عصا يرسم بطرفها خطوط ملتبسة على التراب ... فقلت في نفسي هو مستوحش مثلي ثم تفرست فيه متبصراً شكله فألقيته رغم أثوابه القديمة وشعره المسترسل المشوش ذا هيبة ووقار .....وقال بصوت عميق هادئ مساء الخير فأرجعت التحية اسعد الله مساءك .
هل أنت غريب بهذه المدينة ؟ - فأجاب أنا غريب في هذه المدينة وفي كل مدينة أخرى .
قلت إن الغريب في مثل هذه المواسم يتناسى ما في الغربة من الضيم والوحشة لما يجده في الناس من الأنس والانعطاف – فأجاب أنا غريب في مثل هذه الأيام أكثر مني في غيرها .
قال هذا ونظر إلى الفضاء الرمادي فاتسعت عيناه وارتعشت شفتاه كأنه رأى على صفحة الفضاء رسوم وطن بعيد..
قلت إن القوم في هذه المواسم يعطف بعضهم على بعض ..... – فأجاب : وما رحمة الغني بالفقير سوى نوع من حب الذات وليس انعطاف القوي على الضعيف إلاّ شكلاً من التفوق والافتخار .
قلت قد تكون مصيباً ولكن ماذا يهم الفقير الضعيف ما يجول في باطن الغني القوي ...؟ - فأجاب إن الموهوب لا يفكر أما الواهب فيجب عليه أن يفكر ويفكر طويلاً.
وبعد سكينة نظرت إليه قائلاً يلوح لي أنك في حاجة هلاّ قبلت درهماً أو درهمين ؟ - فأجاب وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة محزنة : نعم أنا بحاجة ولكن إلى غير المال .. قلت وماذا تحتاج ؟ - فقال : أنا بحاجة إلى مأوى .. أنا بحاجة إلى مكان أسند إليه رأسي . – قلت خذ مني درهمين واذهب إلى النزل واستأجر غرفة .
فأجاب : ذهبت إلى كل نزل........... فلم أجد مأوى وطرقت كل باب فلم أرَ صديقاً ودخلت كل مطعم فلم أعط َ خبزاً !................
لم أهمس لفظة مجنون في أذن روحي حتى حدّق إلي شاخصاً .. نعم أنا مجنون
قلت مستدركاً مستغفراً سامح ظنوني فأنا لا أعرف من أنت ... فهلا قبلت دعوتي وذهبت معي لتصرف الليلة في منزلي؟ - فأجاب قد طرقت بابك ألف مرة ولم يفتح لي .
قلت وقد تحققت من جنونه تعال الآن واصرف الليلة في منزلي .
فرفع رأسه وقال : لو عرفت من أنا لما دعوتني – قلت ومن أنت ؟
قال وفي صوته هدير مياه غزيرة : أنا الثورة التي تقيم ما أقعدته الأمم ،أنا العاصفة التي تقلع الأنصاب التي أنبتتها الأجيال أنا الذي جاء ليلقي في الأرض سيفاً لا سلاماً .
ووقف منتصباً وتعالت قامته وسطع وجهه وبسط ذراعيه فظهر أثر المسامير في كفيه فارتميت راكعاً أمامه وصرخت قائلاً يا يسوع الناصري.....
فسمعته يقول العالم يعيد لاسمي وللتقاليد التي حاكتها الأيام حول اسمي أما أنا فغريب أطوف تائهاً في مغارب الأرض ومشارقها وليس بين الشعوب من يعرف حقيقتي !
للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وليس لابن الانسان أن يسند رأسه . ( أعمال جبران العربية – العواصف "مساء العيد " ص405)
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك .
ولما بلغت الحديقة العمومية جلست على مقعد خشبي أنظر من خلال أغصان الأشجار العارية نحو الشوارع المزدحمة وأسمع عن بعد أناشيد المعيدين السائرين في موكب اللهو والخلو... وبعد ساعة مفعمة بالأفكار التفت وإذا برجل جالس بقربي على المقعد وفي يده عصا يرسم بطرفها خطوط ملتبسة على التراب ... فقلت في نفسي هو مستوحش مثلي ثم تفرست فيه متبصراً شكله فألقيته رغم أثوابه القديمة وشعره المسترسل المشوش ذا هيبة ووقار .....وقال بصوت عميق هادئ مساء الخير فأرجعت التحية اسعد الله مساءك .
هل أنت غريب بهذه المدينة ؟ - فأجاب أنا غريب في هذه المدينة وفي كل مدينة أخرى .
قلت إن الغريب في مثل هذه المواسم يتناسى ما في الغربة من الضيم والوحشة لما يجده في الناس من الأنس والانعطاف – فأجاب أنا غريب في مثل هذه الأيام أكثر مني في غيرها .
قال هذا ونظر إلى الفضاء الرمادي فاتسعت عيناه وارتعشت شفتاه كأنه رأى على صفحة الفضاء رسوم وطن بعيد..
قلت إن القوم في هذه المواسم يعطف بعضهم على بعض ..... – فأجاب : وما رحمة الغني بالفقير سوى نوع من حب الذات وليس انعطاف القوي على الضعيف إلاّ شكلاً من التفوق والافتخار .
قلت قد تكون مصيباً ولكن ماذا يهم الفقير الضعيف ما يجول في باطن الغني القوي ...؟ - فأجاب إن الموهوب لا يفكر أما الواهب فيجب عليه أن يفكر ويفكر طويلاً.
وبعد سكينة نظرت إليه قائلاً يلوح لي أنك في حاجة هلاّ قبلت درهماً أو درهمين ؟ - فأجاب وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة محزنة : نعم أنا بحاجة ولكن إلى غير المال .. قلت وماذا تحتاج ؟ - فقال : أنا بحاجة إلى مأوى .. أنا بحاجة إلى مكان أسند إليه رأسي . – قلت خذ مني درهمين واذهب إلى النزل واستأجر غرفة .
فأجاب : ذهبت إلى كل نزل........... فلم أجد مأوى وطرقت كل باب فلم أرَ صديقاً ودخلت كل مطعم فلم أعط َ خبزاً !................
لم أهمس لفظة مجنون في أذن روحي حتى حدّق إلي شاخصاً .. نعم أنا مجنون
قلت مستدركاً مستغفراً سامح ظنوني فأنا لا أعرف من أنت ... فهلا قبلت دعوتي وذهبت معي لتصرف الليلة في منزلي؟ - فأجاب قد طرقت بابك ألف مرة ولم يفتح لي .
قلت وقد تحققت من جنونه تعال الآن واصرف الليلة في منزلي .
فرفع رأسه وقال : لو عرفت من أنا لما دعوتني – قلت ومن أنت ؟
قال وفي صوته هدير مياه غزيرة : أنا الثورة التي تقيم ما أقعدته الأمم ،أنا العاصفة التي تقلع الأنصاب التي أنبتتها الأجيال أنا الذي جاء ليلقي في الأرض سيفاً لا سلاماً .
ووقف منتصباً وتعالت قامته وسطع وجهه وبسط ذراعيه فظهر أثر المسامير في كفيه فارتميت راكعاً أمامه وصرخت قائلاً يا يسوع الناصري.....
فسمعته يقول العالم يعيد لاسمي وللتقاليد التي حاكتها الأيام حول اسمي أما أنا فغريب أطوف تائهاً في مغارب الأرض ومشارقها وليس بين الشعوب من يعرف حقيقتي !
للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وليس لابن الانسان أن يسند رأسه . ( أعمال جبران العربية – العواصف "مساء العيد " ص405)
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك .
Comment