عوامل نشوء الفرقة الواقفية بين الحقيقة والإفتراء
إتّسم الموقف الإثنيعشري من الوقف والواقفة ، بكونه موقفا متشدّدا جدا وإقصائيا ، للدرجة التي تدعو للتساؤل حول حقيقة الأسباب التي دعتهم إلى تبنّي مثل ذلك الموقف ، فلسنا أوّل فرقة شيعيّة حيّرتها النّصوص فساقتها ، وقسوةُ الظروف ، إلى دربٍ لا يشبه الدروب ، وبالأساس ، فليس هنالك من مركز لنشذ عنه ، فكلنا - نحن الطائفة المهشّمة المرايا - مهمَّشونَ ، بكل وجع الإقصاء وصقيع غربته ، إزاء مركزيّة المختلف وسطوته ..
لسنا ، تعلمون بذاكَ ، بدعا من الفرَق .. كيف نكونُ ، وقد سبقتنا للتّيه كيسانيّةٌ وناووسيّةٌ وإسماعيليّة ، فلمَ صُبّتْ علينا ، دونهم ، اللعنات ؟ ..
ألأنّا قلنا بأنّ سَميّ فالق البحر منقذنا ؟ ..
هنالك نصوص كثيرة جدا ، هي مَن أخذتْ بأيدينا إلى مَن تسمّونها كبوتنا ، وندعوها فردوسنا المشتهى ..
أين تزَنْدَقنا ؟! .. دلّونا على موطن تزندقنا هذا ، أو شركنا بالله ، وكفرنا ...
ألا تمتلأ مصنّفات الحديث العقائدية والفقهية الخاصّة بكم ، برجالنا ؟ .. أليس معظمنا من ثقاة الشيعة وكبار تقاتها حسب اعترافكم أنتم أنفسكم ؟ .. أليس قسما منّا هم ممّن ذهبتم إلى كونهم من أصحاب الإجماع ؟.. أليس بطائنيّنا هو من أصحاب الأصول حسب اعتراف الطوسي في تهذيبه ؟ .. ألستم تستدلون برواتنا ورواياتنا في إثبات قضاياكم العقائدية والفقهية ؟ ..
ما الذي نقمتم علينا إذن ؟ ..
أقولنا بأنّ موسى الكاظم هو مهديّنا المرتجى ؟ ..
هو قول آبائه عليهم السّلام ، لا قولنا ...
فلمَ ، يا سادتي ، كل هذا الموقف السلبي ، والمتشدّد ، بإفراط ، من قبل الإثنيعشرية وأئمتهم ، منا نحن الواقفة ؟! نقول هذا ، طبعا ، مع التسليم بصحة ما ورد عن أهل البيت في ذمّنا ولعننا وطردنا ، وإلاّ فالشكّ وارد فيه بشكل كبير ، فقد يكون موقفا عدائيا لفرقة معادية ، لا لأئمة هذه الفرقة ، خصوصا إذا سلمنا ، كما هو الواقع ، بأنّه لم يُؤثر عنا مروقا عن الدين ، أو زندقة ، أو تعطيلا لفريضة ما ، أو غيرها من الأمور التي اتّهمنا بها ، زورا وبهتانا ، والتي هي من مختصّات الفرق المغالية ، كالسّبأية ، والخطابيّة ، والبيانيّة ، وغيرها ..
ولننظر الآن ، ومن خلال ذات السّياق ، إلى عوامل نشوء فرقتنا الواقفيّة ، وأسباب تشكّلها ، واتّساع نطاقها للدرجة التي جعلت الإثنيعشرية يقنتون علينا في صلاتهم ! ..
ما هي ، في الحقيقة ، عوامل هذا النشوء ؟ أهيَ النّصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام ، والتي تشير إلى مهدويّة العبد الصّالح موسى ؟ .. أم هي قسوة الظروف السّياسيّة التي عاشها الشيعة وقتذاك ، والأمل في خلاصٍ ، وإن كان وهماً ؟ .. أم هما معا ؟! ..
أهيَ ألأموال الكثيرة التي تجمّعتْ لدى وكلاء الإمام ، فسال ، كأوديةٍ ، لعابهم عليها ، فالتهموها ، لا هنيئا ، ولا مريئا ؟ ..
الإثنيعشرية ، حفظهم الله من كل سوء ، وأخذ بأيدينا وأيديهم إلى سواء السّبيل ، يكادون يُجمعون على أنّ العامل الأوحد لتشكّل الوقفِ هو لصوصيّة الواقفة ! .. فمِن الذين ذهبوا إلى الإعتقاد بأحديّة العامل المادّي ، للقول بالوقف ، كلٌ من : الصّدوق في علله وأخباره ، والطوسي في غيبته ، والمجلسي في بحاره ، والحر العاملي في إثبات هداته ، وغيرهم من أساطين ومنظّري العقيدة الإثنيعشرية ، يُضاف إليهم ، بالطبع ، كل المعاصرين من مفكري هذه الفرقة ، ففخّ النزعة الإستصحابيّة ، لم يقتصر على مجال الفقه لوحده ، وإنما امتدّ ، ولله الحمد ، ليشمل العقيدة ، والآراء ، بل حتى مجال الرؤية ، وزاويتها ! ..
يقول المرحوم الطوسي : " إنّ أوّل مَن أظهرَ هذا الإعتقاد - عَنانا – عليّ بن أبي حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي ، وعثمان بن عيسى الرواسي ؛ طمعوا في الدنيا ، ومالوا إلى حطامها " -1 ثمّ يروي عن ثقاته " ماتَ أبو إبراهيم عليه السلام وليس من قوّامه أحد إلاّ وعنده المال الكثير ، وكان ذلك سبب وقفهم ، وجحدهم موته ، طمعا في الأموال " -2 ..
ويوافقه على ما ذهبَ إليه ، المجلسيّ ، والحر العاملي ، بل نجد الأخير ، عفا الله عنا وعنه ، يصرّح ، وبمنتهى الوقاحة واللاعلميّة " تواترَ عن الأئمة عليهم السّلام ذمّ الواقفة ، ولعنهم ، وتكفيرهم .. وتواتر عن رؤساء الواقفة أنّهم إنّما قالوا بالوقف طمعا في أموال موسى بن جعفر التي كانت في أيديهم " -3
وأرى أنّ هذا السبب غير مقنع على الإطلاق ، بل فيه إجحاف كبير ، وتعدٍّ على حقائق التاريخ ، غير يسير .. وسنتناول إعتراضنا على ما ذهب إليه الإثنيعشرية حول عوامل نشوء الوقف ، من خلال ثلاثة محاور :
1- نصوص المهدويّة
2- النداء على جثّة الميّت
3- رجال الواقفة
" نصوص المهدويّة "
وكما لا يخفى ، فإنّ هنالك نصوصا كثيرة جدا ، وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، تشير إلى مهدوية وقائميّة سيّدنا موسى بن جعفر " عجّل الله تعالى فرجنا وفرجكم به " ، سوف نستعرضها تفصيليا فيما سيأتي ، وهي ، لا شكّ ، كان لها الدور الأكبر ، من ضمن عوامل أخرى ، في نشوء الإعتقاد بالوقف ، بل نظنّها السبب الأساسي والأهم للقول بالوقف ، وإنْ كنا لا ننفي ، بشكل نهائي وقطعي ، ما قد نتج من استغلال لهذا الإعتقاد ، وتلك النصوص ، في مجال الدفع لبعض النفوس الضعيفة لمحاولة الإستحواذ على ما كان في أيديها من الأموال العظيمة ، لكنّ هذا ، بالتأكيد ، قد حصل في مرحلة تالية ، ومتأخرةٍ عن زمن الإعتقاد نفسه ، فالأصل في الإعتقاد هو النصوص ، لا الطمع في الأموال الذي حصل لدى البعض فيما بعد ، وهذا ما سيوضّحه لنا الإمام الرّضا لاحقا ...
وقد وصلتْ استفاضة هذه النّصوص الشريفة للدرجة التي جعلت الشيخ الصّدوق " الأب " ( ت 329 هـ ) يحاول توجيهها من خلال نظريّة التربية بالأمانيّ ، فيما ذهبَ الطوسي ، في تأويلها ، كلّ مذهب ، أمّا المجلسي فقد اعتقدَ ، مرّة ، باحتماليّة حصول البداء فيها ، واعتقدَ ، أخرى ، باعتقاد الصّدوق فيها ..!
" النداء على جثّة الميّت "
وهذا ، أيضا ، من الأدلة المهمة التي تنفي أحديّة العامل المادي لنشوء الفرقة الواقفية ، يرحمها ويرحمنا الله ، فقد روى لنا الطوسي في غيبته ، والمفيد في إرشاده ومهمّ فصوله ، وكلّ الآخرين من رجال الإثنيعشرية ، أنّه عند وفاة الإمام الكاظم عليه السلام ، أُحضرَتْ جثّته الشريفة ، ونوديَ عليها ، على الجسر ببغداد " هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرّافضة أنّه لا يموت .. فانظروا إليه ميتا " -4
وهنالك صيغة أخرى قريبة جدا لهذا النداء نصّها " هذا الذي تزعم الرّافضة أنه حيٌّ لا يموت .. مات حتف أنفه " -5
وهذا النداء ، بصيغتيه الآنفتين ، هو مِن أبرز الأدلة على أنّ هنالك نصوصا لدى الشيعة تشير إلى مهدويّة موسى بن جعفر ، واستحالة موته ، قبل أن يملأها قسطا وعدلا ، وهذا يعني ، فيما يعني ، أنّ هنالك اعتقادا مسبقا ، قبل موت موسى ، بمهدويّته ، وبالتالي يمكننا القول أنه لو كان سبب الإعتقاد بالوقف هو الطمع في الأموال التي كانت بحوزة وكلائه وأصحابه ، ورفضهم إيصالها للإمام من بعده بحجّة عدم موته ؛ لما كان منطقيّا النداء على جثّة الميّت بما يوحي بأنّ هنالك اعتقادا قبليّا لدى شيعته بعدم موته ، بل استحالة هذا الموت ، في نظرهم ، فهم يزعمون ، حسب نصّ النّداء ، أنّه لا يموت .. بينما نجد أنّ الإستحواذ على الأموال ، وابتداع الوقف - في نظر الإثنيعشرية - كان بعد الوفاة لا قبلها ! ، فيما نرى ، ووفقا لما حصل من المناداة على جثّة الإمام ، أنّ الإعتقاد بالوقف ، وبمهدويّة مولانا الكاظم ، كان قبل موته ، لا بعده ..
وهنالك إشارة مهمة ذكرها الأربلي في كشف غمّته ، تؤكّد لنا ، أيضا ، ما ذهبنا إليه من أسبقيّة النّصوص والإعتقاد ، على لغط الأموال المسروقة ، وذلك من خلال قوله :
" وقد كان قومٌ زعموا ، في أيّام موسى بن جعفر ، أنّه هو القائم المنتظر ، وجعلوا حبسه هو الغيبة المذكورة للقائم ، فأمرَ يحيى بن خالد ( وزير الرّشيد ) أن يُنادى عليه عند موته ؛ هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرّافضة أنه لا يموت .. " -6
إذن ، فالقول بالوقف سابق لسرقة الوقف ..
" رجال الواقفة "
قد مرّ معنا شيئا من ذكر بعض رجال الواقفة الأجلاّء ، رحمنا الله بهم ، وألمحنا لجلالة قدرهم ، وعظيم شأنهم ، حتى لدى الإثنيعشرية أنفسهم ، وقلنا أنه من غير الممكن أن نتّهم مثل هؤلاء باللصوصيّة ، فيما صلاح حالهم يشهد ببرائتهم ، ونقاء - من الدنيا كلها - ثوبهم ، وتكفي نظرة عابرة على الكتب الأربعة المعتمَدة لدى الإثنيعشرية ، لنرى حجم التأثير الهائل ، والحضور الجليّ ، لرجالنا ، نحن الواقفة ، كما أنّ الكتب الرّجالية لديكم مليئة بالإشادة برجال الواقفة وتوثيقهم ..
لكن ، ومع ذلك ، لنرى حجم التناقض بين ما يقوله كبار الإثنيعشرية ممّن اتّخذ موقفا سلبيّا من رواتنا ، وواقع الحال ..
يُعدّ شيخ الطائفة ، رحمه الله ، من أبرز الممثّلين للموقف السلبي العام من رواة الواقفة ، فهو لا يدع مناسبة تمرّ ، في غيبته ، دون الطعن فيهم ، والإشارة إلى ضرورة عدم الأخذ برواياتهم فهم " مطعون عليهم ، ولا يوثَق بقولهم ورواياتهم " كما أنّهم " ضعافٌ لا يوثَق بهم " بل انه يستغرب تماما " كيفَ يوثَق برواياتهم - عَنانا - أو يُعوّل عليها ؟ " ثمّ يختم رجمَنا بتأكيده على أنّ " الطعن على رواة الواقفة ؛ أكثر من أن يُحصى " -7
حقا إنّ شرّ البليّة ما يُضحك ..
كيف تطعن ، يا سيّدي ، برواتنا ورواياتنا ، وتؤكّد عدم الوثوق بهنّ وبنا ، ثمّ تأتي بذات كتابك هذا " عنيتُ الغيبة " لتستدلّ على مطالبك الفكرية والعقائدية ، بل على مهديّك نفسه ، بحوالي " 15 " واقفي لعين ، أبرزهم ؛ أكثرهم طعنا لديك ، ذاكَ مَن أسميتَه رأس الوقف وأصله ، قصدتُ البطائني لا غيره ، فقد رويتَ عنه " 13 " رواية ، وعن زياد القندي روايتين ، وعن عثمان الرواسي " 5 " روايات ، فضلا عن " 16 " رواية أخرى ، ليكون مجموع ما رويتَه ، في غيبتك " 36 " رواية واقفيّة الرّجال ، استدللتَ بهم وبها على مطلوبك ، وإلاّ فالعدد أكبر من ذلك بكثير ، رواةً وروايات ، إن ضممنا إليها ما ذكرتَه ووجّهته من روايات كتاب " نصرة الواقفة " لوليّنا الطاهر علي بن أحمد العلويّ ..
هذا فقط في غيبتك ، أمّا في تهذيبك ، وإبصارك ، ومصباحك ؛ فالعدد فاق ، بالتأكيد ، هذا العدد ! ..
الطريف في الأمر هو أنّكَ ترفض في الصفحة " 37 " من الغيبة روايةً لا لشيء إلا لكونها مرويّة عن البطائني ، وتشير إلى أنه مطعون عليه ، فيما نجدك تستدلّ ، في طيّات كتابك ، بـ " 13" رواية عن الرجل نفسه ! ..
هذا في غيبة الطوسي .. فماذا - يا من تطعنون برواتنا ورواياتنا ، وتلعنوننا ليل نهار – عن غيبة النّعماني ؟ ..
ذكر الشيخ النعماني ( ت 360 هـ ) في غيبته " 150 " رواية عن " 21 " واقفي ملعون !! .. فعن البطائني " رأس الواقفة وسيّدهم " ذكر " 37 " رواية ، وعن عبد الله بن جبلة " 26 " وعن الخثعمي " 18 " أمّا المتبقي من الروايات ؛ فعن الميثمي وابن رباح وعليّ بن حسّان وغيرهم .. وكلها روايات استدلاليّة ، أوردها المؤلف لإثبات مهدويّة غائبه ، فيما هي ، في الحقيقة ، تعني مهديّنا ، بدليل واقفيّة السّند ، وموسويّة المتن ! ..
ولعلّ أكثر ما أثارني في غيبته ، رحمه الله ، هو تعليقه على نصّنا ، الواقفي جدا ، " إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين ، إحداهما تطول ، حتى يقول بعضهم مات ، وبعضهم يقول قتل ، وبعضهم يقول ذهب .. فلا يبقى ، على أمره من أصحابه ، إلاّ نفرٌ يسير .. لا يطّلع على موضعه أحدٌ من وليّ ولا غيره ، إلاّ المولى الذي يلي أمره " ويقول النعماني ، بعد إيراده لهذا النص " لو لمْ يكن يُروى ، في الغيبة ، إلاّ هذا الحديث ؛ لكان فيه كفاية لمن تأمّله " -8
وهذه الرّواية ، جليلة القدر ، موسويّة الإشارة ، وردتْ أساسا - ياللذهول - في كتابنا " نصرة الواقفة " للعلوي ، وهي من النّصوص التي استدللنا بها على أحقيّة ما ذهبنا إليه من مهدويّة صاحبنا ، علينا منه الرّحمة والسلام ، وقد ذكرها شيخكم الطوسي ، في غيبته ، في معرض ردّه على السيّد العلويّ وأدلّته الواقفيّة ، وقال عنها بأنها وردت في كتابه آنف الذكر .. ومن المهم ، أيضا ، الإشارة إلى أنّ هذا النّص مرويّ عن سيّدنا عبد الله بن جبلة ، الواقفي الشهير ، والثقة ، ذات الوقت ...
ولعلّ أكثر ما دعا النّعماني لتعليقه الفرِح هذا هو جملة " لا يبقى على أمره من أصحابه إلاّ نفر يسير " خصوصا إذا علمنا أنّ زمن النعماني هو ، فعلا ، زمن النفر اليسير ، ممّن آمن بوجود ومهدويّة محمد بن الحسن العسكري ، وكأنّ الشيخ هنا يكاد يقول ؛ ها .. انظروا كيف تنبأ الصّادق عليه السّلام بغيبة محمد بن الحسن وكيف أشار إلى حقيقة أنه لا يبقى على أمره إلاّ نفر يسير .. وها نحن ذا نفرٌ يسير !! غاضّا الطرف عن واقفيّة المتن والسّند .. -9
أمّا " الإمامة والتبصرة من الحيرة " للصّدوق الأب ( ت 329 هـ ) فقد وردتْ فيه ، على صغر حجمه حوالي " 20 " رواية عن " 11 " واقفي ، هذا فقط في صلب الكتاب ، عدا المستدرَك ..
ماذا عن الإبن ؟..
في إكمال دين الصّدوق الإبن ( ت 381 هـ ) وردتْ " 61 " رواية عن طريق " 13 " واقفي ، أبرزهم ؛ المرحوم البطائني ، وعثمان بن عيسى الرواسي ، فقد كانت حصّة الأول " 17 " نصّا ، أمّا الثاني ؛ فثمانية ، فيما تلقّف الباقي أبناء سماعة ، والميثمي ، والحذّاء ، وحنان بن سدير ، وغيرهم ..
وقد ركّزتُ على إحصاء مرويّاتنا ، نحن الشيعة الواقفيّة ، في هذه الكتب تحديدا ، كونها كتبا إستدلاليّة ، تمّ تصنيفها من قبل كبار الإثنيعشريّة ، لإثبات مهدويّة محمد بن الحسن ، فيما رواياتنا ، ومن ضمنها ، بالتأكيد ، تلك التي استدللتم بها وذكرتموها في كتبكم ، كلها تشير إلى مهدويّة سيّدنا موسى بن جعفر ، وتدلّ عليه ، وإليه ..
دعكم ممّا يلهج به الإمّعات من الذين تخلوا ، بكل براءة الحمقى ، عن عقولهم ، ونسوا فضيلة التأمّل الحر ، مردّدين ، دونما وعيٍّ ، ما قاله المتعجّلون ، والمتأزّمون ، مِن أنّ رجال الواقفة لا يوثَق بهم ، وأنّهم مجرّد سرّاقٌ مرقوا من نافذة التاريخ وانقرضوا ، وأنّه لا قيمة لهم ولا شأن ، فما هم إلاّ " كلابٌ ممطورة " -10 ، وانظروا ، بعين العقل المجرّد من المسبقات ، لحال هؤلاء الرّجال في كتب رجالكم أنت أنفسكم ، أنظروا مثلا لتوثيق كلٍّ مِن " أحمد بن الحسن الميثمي ، حنان بن سدير ، سماعة بن مهران ، عبد الله بن جبلة ، زياد القندي ، عثمان بن عيسى ، كلاهما الكلابيّ والرّواسيّ ، وهيب بن حفص ، الخثعمي ، منصور بن يونس بزرج ، أبناء سماعة ، الطاطريّ ، احمد بن رباح ، حسين بن أبي سعيد المكاري ، ابراهيم بن صالح الأنماطي ، يحيى بن قاسم الحذّاء " وغيرهم كثير ..
أمّا البطائنيّ ، الذي يقع في إسناد حوالي " 550 " رواية في الكتب الأربعة ! ، والذي عدّه الشيخ الطوسي في غيبته ، أصل الوقف ، وطعن فيه وفي روايته ، نجده ، في رجاله ، وتهذيبه ، لا يطعن فيه ! ولا يقول فيه ، لا بمدح ولا بقدح ، فقط يشير إلى واقفيّته ( النّجاشي أيضا ينحو ذات المنحى ) بل إنه يعترف بأنّ الطائفة قد عملتْ بأخباره -11 ، ويقول عنه في " الفهرست " بأنّ له أصلاً -12 ..
وأنّ ابن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، والبزنطي قد رووا عنه ، ويؤكّد أيضا بأنّهم لا يروون إلاّ عن ثقة ! ولذا جعلَ الوحيد البهبهاني رواية أصحاب الإجماع الثلاثة هؤلاء عن البطائني أمراً مؤيّدا لوثاقته -13 ..
وإضافة لذلك ، نجد أنّ ابن الغضائري ، في معرض حديثه عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني ، يقول بأنّ أباه أوثق منه .. ولا يخفى ما توحيه تلك العبارة من توثيق للرّجل ، وابن الغضائريّ هذا مشهور بالتّضعيف لا التوثيق ، ولم يسلم منه إلا القليل من الرّجال ، وتوثيقه للبطائني له أهميّته البالغة ...
ونجد أيضا الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في " وسائل الشيعة " بعد نقله لخبر كان البطائني في طريقه ، يقول " أكثر رواته ثقاة ، وإن كان منهم علي بن أبي حمزة وهو واقفي ، لكنه وثّقه بعضهم " -14
وكذلك تأكيد السيد الخميني رواية الكثير من المشايخ وأصحاب الإجماع عنه ، وقول بعضهم بوثاقته -15 ..
إضافة لكل ذلك - وهذا ممّا يدعو للتأمّل وإعادة النظر بسذاجة الرأي القائل بالعامل المادي للقول بالوقف - نرى أنّ قسما من أصحاب الإجماع الذين ذهبَ الإثنيعشرية إلى تصحيح ما يصحّ عنهم ، وقبول حتى مراسيلهم ، هم ممّن اعتنق الوقف ، على الأقل في فترة من فترات حياتهم ، طالتْ أو قصرتْ ، ثمّ عدلوا عنه إلى الإعتراف بإمامة الرّضا ، والتسليم بموت والده ، ونذكر من هؤلاء " عبد الله بن المغيرة ، جميل بن دراج ، حماد بن عيسى ، أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي " !..
وهنالك أيضا أسماء كبيرة ومهمّة ، ولا يرقى إليها الشكّ نزاهةً وصلاحا ، قد اعتنقت الوقف لفترة من الزمن ثمّ توقّفتْ عنه لأسباب شتى ، من ضمنها الإستخارة ، وقد ذكر الطوسي بعضا من هؤلاء مثل " عبد الرحمن بن الحجاج ، رفاعة بن موسى الأسدي ، يونس بن يعقوب البجلي ، الحسن بن علي الوشّاء ، داود بن كثير الرقي " وكذلك " إبراهيم بن موسى بن جعفر " ! وهو سيّد جليل القدر ، عظيم الشأن ، ثقة ، ومِن أحبّ وُلد الكاظم إلى قلبه ، وقد كان واقفيّا ، وممَن أنكر موت أبيه عليه السلام وقال بمهدويّته ، ولم يُؤثر عنه أنه قد تركَ الوقف على الإطلاق ، لكنّني صنّفتُه مع الذين تركوا ، فقط لظنّ المامقاني في " تنقيح المقال " ج 3 : 34 بأنّ واقفيّة إبراهيم كانت لشبهةٍ عرضتْ له عنده وزالتْ .. ولا أدري ، حقيقة ، كيف قطع المامقاني بزوالها ؟! وعلى أيّ شيء استند في تصوّره للتّرك ؟ ..
هؤلاء ، يا سادتي ، هم رجال الواقفة ، وكما عرفتم فأنّ معظمهم ممّن لا يُشكّ بتقواه وورعه وعلمه ورجاحة عقله ، بل امتدّ الأمر ليشمل بيت الإمام نفسه ، عنيتُ سيّدنا إبراهيم بن موسى بن جعفر ، وهو من القداسة بمكان يجعلك لا تمرّ على إسمه إلاّ بكل مهابة وخشوع ...
فهل يُعقل ، بالله عليكم ، أن يكون سبب الوقف هو أموال تمّت سرقتها ، والإستئثار بها ؟! .. ما بال مَن مرّوا ، أهم سُرّاقٌ أيضا ؟ .. وقوفهم ، ولو لفترة من الزمن " طالتْ لدى البعض لأكثر من عشر سنين " وهم على ما هم عليه من الوثاقة والصّلاح ؛ دليلٌ على أنّ المسألة ليستْ مسألة أموال سُرقتْ ، وإنّما هو حلمٌ بالخلاص قد تبدّدْ ، وأعوامٌ من الإنتظار قد ذهبتْ هباءً منثورا ..!
هي النّصوص ، إذن ، تلك التي أكّدتْ لهم ، مرارا ، أنّ الله مُنقذهم بسميِّ الكليم موسى ....
ولنختم ما أطلنا الحديث فيه ، بحواريّة رائعة ، جرتْ ما بين صاحب الإجماع ، الثقة الجليل القدر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وسيّده على الرّضا ، تناولا فيها موضوع الواقفيّة ، فبيّنَ الإمام عليه السلام منشأ ذلك الإعتقاد ، وحقيقة أمره ، وبما أنّ النّص طويل جدا ويتجاوز الـ " 3 " صفحات ، فسنقتصر على إيراد ما يعنينا منه ...
روى البزنطي أنه قد كتب إلى الرّضا مجموعة مسائل ، حول الوقف وأسبابه الحقيقيّة ، فكتب له الإمام موضّحا :
" ... فلمّا حدثَ ما حدث من هلاك أبي الحسن ؛ إغتنمَ ( ابن السّراج ) فراق علي بن أبي حمزة وأصحابه إيّاي ، وتعلّلَ ، ولعمري ما به من علةٍ إلاّ اقتطاعه المال ، وذهابه به ..
وأمّا ابن أبي حمزة ؛ فإنّه رجلٌ تأوّلَ تأويلا لم يُحسنه ، ولم يُؤتَ علمه ، فألقاهُ إلى النّاس ، فلجّ فيه ، وكره إكذاب نفسه في إبطال قوله بأحاديث تأوّلها ، ولم يُحسن تأويلها ، ولم يُؤتَ علمها ، ورأى أنّه إذا لم يُصدّق آبائي بذلك ؛ لم يدر لعلّ ما خُبّر عنه ، مثل السّفياني وغيره ، أنّهُ كانَ ، لا يكون منه شيء .. وقال لهم ( أي البطائني ) ؛ ليس يسقط قول آبائه ( عنى موسى بن جعفر ) بشيء .. ولعمري ( والحديث هنا للرّضا ) ما يُسقط قول آبائي شيء ، ولكن قصُرَ علمه عن غايات ذلك وحقائقه ، فصار فتنة له ، وشبهة عليه ، وفرّ من أمرٍ ( تكذيب الأئمة فيما قالوه من مهدويّة الكاظم ) فوقع فيه .. وقد قال أبو جعفر عليه السّلام : مَن زعمَ أنّه ( عنى اللهَ ) قد فرغّ من الأمر ؛ فقد كذبْ ، لأنّ لله عز وجلّ المشيئة في خلقه ، يُحدثُ ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، ذريّة بعضها من بعض ، فآخرها من أوّلها ، وأوّلها من آخرها ، فإذا خُبّرَ عنها بشيء بعينه أنّه كائنٌ فيه ، فكانَ في غيره منه ؛ فقد وقعَ الخبر على ما أخبروا .. أليسَ في أيديهم ( عنى الواقفة ) أنّ أبا عبد الله عليه السّلام قال : إذا قيل في المرء شيءٌ ، فلم يكن فيه ، ثمّ كان في وُلده من بعده ؛ فقد كان فيه ؟ ... -16
ونفهم من المقطع الذي نقلناه عن النّص السّابق - والذي أرى أنّه يتناسب وأخلاق أهل بيت النبوة ، وسعة حلمهم ، وورعهم - عدّة أمور ، نُجملها بما يلي :
1- تناوُل الإمام لبعض كبار الواقفة كابن السّراج ، والبطائني وجماعته ، ورؤيته لأسباب وقفهم .. فنراه يؤكّد السّبب المادي لقول ابن السّراج بالوقف ، وينفي عنه أيّ سبب عقائدي دعاه لذلك ، أو أيّ شبهةٍ تأويليّة عرَضتْ له ، وإنّما هو " المال العظيم " الذي أودعه موسى بن جعفر عنده ، فاستأثرَ به لنفسه ، وهذا ، لا شيء سواه ، هو ما دعاه لاعتناق الوقف .. لكن يجب ملاحظة أنّ ما قام به ابن السّراج هذا ، كان تاليا لوقف سيّدنا البطائني وجماعته ، بل إنّه قد اتّخذ من اعتقاد الأخير وجماعته بالوقف ، سببا تمويهيّا ليقوم بما قام به من السّرقة ، بحسب نصّ الرّضا نفسه " إغتنمَ فراقَ عليّ بن أبي حمزة وأصحابه إيّايَ ، وتعلّلْ " أي تعلّلَ بواقفيّة البطائني وجماعته ، وما يرووه من النّصوص حول مهدويّة السّابع عليه السّلام ، فقال بالوقف ، لكنّ حقيقة أمره - كما يرى الإمام - لا تعدو كونه مجرّد لصّ لا أكثر ، وتعلّته بواقفيّة البطائني لم تكن سوى ذريعة لشرعنة السّطو ..
2- إثبات الإمام لبراءة البطائني من تهمة الدافع المادي لقوله بالوقف ، تلك التّهمة التي ألصقها به معظم ، إن لم نقل كل ، فقهاء الإثنيعشرية وعلمائهم .. فالرّضا علينا منه السّلام يؤكّد أنّه ليس هنالك من سبب مادي وراء اعتقاد البطائني وجماعته بالوقف ، إنّما هي الشبهة ، والتأويل الخاطيء لنصوص صحيحة ، سمعها ، وغيره ، ممّن سبقَ من أئمة الهدى رضوان الله عليهم أجمعين ..
3- إقرار الإمام بالبداء الحاصل في سيّدنا موسى بن جعفر ومهدويّته ! .. ففي إشارتين واضحتين جدا لصدق مرويّات الواقفة حول مهدويّة المولى عليه السّلام ، يختم الرّضا حواره مع البزنطي بذكر حديثين يرويهما عن السّيدين الجليلين الباقر والصّادق ، يؤكّدان فيهما موضوعة البداء ، وأنّه " إذا قيل في المرء شيءٌ ، فلم يكن فيه ! وكان في ولده من بعده ؛ فقد كان فيه " وهو هنا يوجّه كلامه السّابق للواقفة ، ويذكّرهم بأحاديث أهل البيت السّابقين ، في محاولة منه لإيضاح حقيقة أنّ بداءً قد حصلَ مع " قائمنا المنتظر " ، وبالتّالي ، فسيكون " موعودنا " منهُ ، لا هو ... وهذا هو ، بالضّبط ، ما أشار إليه الشيخ المجلسي في معرض تعليقه على النّص السّابق :
" وحاصل جوابه عليه السّلام ( أي الرّضا ) يرجع ، تارةً ، إلى أنّه ( عنى مهدويّة صاحبنا ) ممّا وقعَ فيه البداء ، وتارة ، إلى أنّه مؤوّل بأنّه يكون ذلك في نسله " -17
وللمجلسيّ ، أيضا ، تعليق آخر حول الزيارة الواردة عن الإمام الرّضا لأبيه الكاظم " السّلامُ على مَن بدا لله في شأنه " ! والمروية في " كامل الزيارات " للقمي ( ت 368 هـ ) و " التهذيب " للطوسي ( ت 460 هـ ) – 18، وذلك بقوله رحمه الله :
" يمكن أن تكون إشارة إلى ما وردَ ، في بعض الأخبار ، أنّه كان قُدّرَ له عليه السّلام أنّه القائم بالسّيف ، ثمّ بدا لله فيه ... " -19... هنالك أخبارٌ وردتْ إذن ؟! ...
نسأل الله حسن الخاتمة ! ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الغيبة للطوسي : 42
2- الغيبة للطوسي : 43
3- إثبات الهداة ج 4 : 225
4- الفصول المهمة : 54 و الإرشاد : 319 كلاهما للمفيد
5- الغيبة للطوسي : 19
6- كشف الغمّة للأربلي ج 3 : 27
7- الغيبة للطوسي : 42 - 44
8- الغيبة للنعماني : 171 - 172 والغيبة للطوسي : 29 عن نصرة الواقفة للعلوي ! ، والرّوايتنان ، في الطوسي والنعماني ، بذات السّند !
9- وردتْ إشارات عديدة للنعماني في غيبته حول قلة المؤمنين بوجود ومهدويّة محمد بن الحسن العسكري ، مبثوثة في طيّات كتابه
10- كلابٌ ممطورة ، لقب أطلقه على الواقفة أحد أعدائهم التقليديّون ، نتيجة لمشاجرة لفظية جرت بينه وبين بعضهم ، وتحتمل معنَيين ، أوّلهما ؛ النتانة ! والثاني سراية الخبث إلى مَن يقرب منهم ، والمعنى الثاني يشير ، بوضوح ، للتأثير العقائدي الذي خلقه الواقفة في المحيط الذي يعيشون فيه
11- عدّة الأصول للطوسي : 61
12- الفهرست للطوسي : 96
13- قواعد الحديث للغريفي نقلا عن " تعليقة منهج المقال " للبهبهاني : 223
14- قواعد الحديث للغريفي نقلا عن وسائل الشيعة للعاملي
15- بحث إستدلالي في ولاية الفقيه للخميني : 27- 28
16- قرب الإسناد للحميري : 203 - 206 وبحار الأنوار للمجلسي ج 49 : 165- 268 نقلا عن قرب الإسناد
17- بحار الأنوار للمجلسي ج 49 : 268
18- كامل الزيارات للقمي : 301 والتهذيب للطوسي ج 6 : 163 وبحار الأنوار للمجلسي ج 102 : 7 نقلا عن كامل الزيارات
19- بحار الأنوار ج 102 : 9
Comment