المُخْتارُ الثَّقَفي
الكوفة كان الناس في مدينة الكوفة ينتظرون قدوم الإمام الحسين ، فقد ملّوا ظلم الأمويين و اشتاقوا إلى عدل الإمام علي ( عليه السَّلام ) . سمع أهل الكوفة بقدوم مسلم بن عقيل و حلوله ضيفاً في منزل المختار الثقفي .
المختار الثقفي ولد المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي في مدينة الطائف في السنة الأولى من الهجرة النبوية . كان والده من الذين اعتنقوا الإسلام و أخلصوا له ، قاد بعض معارك الفتح الإسلامي في بلاد فارس و استشهد في معركة " الجسر " عندما هجم عليه فيل مدرب فتولّى ابنه " جبر " القيادة بعده فاستشهد أيضاً . أصبح منزل المختار مقرّاً لقيادة الثورة في الكوفة يقصده المسلمون كلّ يوم . نقل الجواسيس الأخبار إلى يزيد بن معاوية في دمشق و أخبروه بتساهل الوالي " النعمان بن بشير الأنصاري " . استشار يزيد " سرجون " و هو رجل مسيحي حاقد على المسلمين . أشار " سرجون " بتعيين " عبيد الله بن زياد " والي البصرة حاكماً على الكوفة أيضاً . وصل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، و أصدر أمراً بإلقاء القبض على مسلم . اختفى مسلم في أحد بيوت الكوفة و أُلقي القبض على المختار و سيق إلى " الطامورة " و الطامورة سجن مخيف تحت الأرض . ملأ عبيد الله السجون من الناس الأبرياء ، و بثّ الجواسيس في الكوفة بحثاً عن مسلم بن عقيل . اضطر مسلم لإعلان الثورة ، فاجتمع حوله آلاف الناس . حاصر مسلم بقوّاته قصر الامارة عدّة أيام . كان عبيد الله بن زياد رجلاً خبيثاً فراح يبث الشائعات ، و يقول سوف يصل جيش الشام الجرّار و سوف يدمّر الكوفة و يقتل الناس . صدّق الناس تلك الشائعات فتركوا سفير الحسين وحيداً ، و اضطر مسلم للإختفاء مرّة اُخرى .
منزل طوعة اكتشف الجواسيس مخبأ مسلم و كان منزلاً لامرأة عجوز طيّبة تدعى طوعة . ارسل عبيد الله بن زياد الشرطة لإلقاء القبض عليه ، و عندما طلبوا منه الاستسلام رفض و راح يقاتلهم لوحده . و بعد أن أُصيب بجروح بليغة و عرضوا عليه الأمان ، توقف عن المقاومة ، فأُلقي القبض عليه و سيق إلى قصر الأمارة . كان عبيد الله بن زياد يحقد على أهل البيت و اتباعهم ، لهذا أمر باعدامه مع أحد أنصاره و اسمه هانئ بن عروة و كان من سادات الكوفة و أشرافها ، كما أمر بإلقاء جسديهما من فوق القصر . ساد الخوف مدينة الكوفة ، بعد أن أصبح الحاكم يقتل الناس و يسجنهم لأقلّ تهمة . معركة كربلاء غادر الإمام الحسين المدينة المنورة إلى مكة في موسم الحج ، و عندما علم أن يزيد أرسل جواسيسه لاغتياله ، فضّل مغادرة مكة و قال : ـ لا أُريد أن تستحلّ حرمة الكعبة بقتلي . قصد الحسين الكوفة . و في الطريق سمع بقتل مسلم و هانئ و قيس بن مسهر الصيدواي و غيرهم . و في صحراء كربلاء فوجئت قافلة الحسين ( عليه السَّلام ) بألف فارس يقطعون عليه الطريق . ثم تعاقبت الكتائب العسكرية إلى أن أصبحت أربعة آلاف . كان الحسين في سبعين رجلاً من أهل بيته و أنصاره . و عندما طلبوا من الإمام الاستسلام و مبايعة يزيد أو الحرب قال قولته المشهورة : ـ هيهات منّا الذلّة ... اختار الإمام طريق الاستشهاد . و في صباح اليوم العاشر من المحرّم حدثت معركة كربلاء حيث شن آلاف الجنود من المشاة و الفرسان هجوماً وحشياً فتصدّى الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) و أصحابه للهجوم ببسالة و دارت معارك ضارية أدهشت العدوّ ، فقد إستطاع سبعون مقاتلاً فقط الاستمرار في المقاومة و القتال من ساعات الفجر الأولى إلى العصر . و عندما لم يبق مع الحسين أحد ، خرج يقاتل تلك الألوف المدججة بالسلاح وحيداً . فجسد بقتاله و بسالته أعظم الملاحم في تاريخ البشرية . أغار الجيش بعد قتل الحسين و قام بإحراق الخيام ، ثم ساق النساء و الأطفال أسرى ، و قطع رؤوس الشهداء و رفعوها فوق الرماح .
رأس الحسين ( عليه السَّلام ) قدّم الشمر و هو الذي ذبح الحسين ( عليه السَّلام ) رأس سبط سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبيد الله بن زياد . رأى الناس رأس الحسين فتألموا و ندموا على تقاعسهم عن نصرة ابن رسول الله . أمر عبيد الله بن زياد باحضار المختار من السجن . و عندما أحضر الحرّاس المختار و رأى رأس الحسين صاح بألم : ـ آه . و من ذلك الوقت فكّر المختار بالثورة و الاقتصاص من قتله أولاد الأنبياء الذين يقتلون النفس التي حرّم الله قتلها ، و يغتصبون حقّ الناس .
ميثم التمار كان ميثم التمّار رجلاً صالحاً من أصحاب الإمام علي ( عليه السَّلام ) و قد تعلّم الكثير من علم الإمام . عندما أُلقي المختار في السجن كان ميثم مسجوناً معه . ذات يوم قال المختار لميثم : ـ ان هذا الظالم ابن زياد سيقتلنا بعد ما قتل ابن رسول الله . قال ميثم : ـ أخبرني حبيبي علي اني سأُقتل و أُصلب على جذع نخلة ، أما أنت فستخرج من السجن و ستقتل هذا الطاغية برجلك على وجهه .
صفية كانت صفية أُخت المختار زوجة لعبد الله بن عمر بن الخطاب ، و كان عبد الله على علاقة طيبة مع يزيد بن معاوية فتوسط للمختار . كان عبيد الله مصمماً على قتل المختار و لكن مبعوثاً من قبل يزيد جاء على وجه السرعة و معه أمر بإطلاق سراح المختار من السجن . قرأ عبيد الله بن زياد الرسالة و امتثل لأمر يزيد فاستدعى المختار من السجن و قال له بقسوة : ـ أمهلك ثلاثة فقط فان وجدتك في الكوفة بعدها قتلتك . غادر المختار الكوفة متوجهاً إلى مكة .
عبد الله بن الزبير كان عبد الله بن الزبير قد أعلن نفسه خليفة و بايعة الناس ، بعضهم كان يحبّه ، و بعضهم كان يكره الأمويين . كان المختار يعرف عبد الله بن الزبير و أطماعه و لكنه بايع ابن الزبير لأنّه عدوّ لبني أمية الظالمين . في تلك الفترة ثار أهل المدينة المنورة و فيهم أغلب صحابة سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) على يزيد ، بعد أن قتل الامام الحسين و سبى عياله . و لكن جيش الشام بقيادة مسلم بن عقبة الذي سمّاه الناس آنذاك مجرم بن عقبة اقتحم المدينة المنورة و حرم النبي و ارتكب المذابح و اعتدى على أعراض الناس ، و قد بلغ عدد القتلى أكثر من خمسة عشر ألف من الأبرياء فيهم سبعمئة من الصحابة و التابعين . كما عرض النساء للبيع في الأسواق . و بعد هذه المذبحة تحرّك جيش يزيد نحو مكة لإخضاعها .
الدفاع عن بيت الله في الطريق إلى مكة لدغت عقرب قائد الجيش مجرم بن عقبة فمات ، فتولّى قيادة الجيش الحصين بن نمير ، و هو أحد الذين اشتركوا في مذبحة كربلاء . حاصر جيش الشام مكة المكرمة ، و أخذ الجنود مواقعهم فوق التلال و رؤوس الجبال . نصبوا " المجانيق " و هي آلات تشبه المدافع يقذفون بها كتل النار . أصدر الحصين أوامره بقصف المدينة : ـ اقصفوهم بالمجانيق . قال أحد الجنود : ـ انّهم يحتمون بالكعبة أيّها القائد . صاح القائد بحقد : ـ اقصفوا الكعبة اذن ... نحن ننفّذ أمر الخليفة يزيد . قصف الجنود الكعبة بالمجانيق و تساقطت الحجارة المشتعلة بالنار فوق المنازل و المساجد و شبّت النيران في جدران الكعبة . بعد قصف شديد أمر الحصين الفرسان باقتحام مكة و قتل كل من يصادفهم . هجم الفرسان تتبعهم قوات المشاة المدججين بالسلاح . و دارت معارك ضارية في الحرم ، كان المختار يقاتل ببسالة دفاعاً عن بيت الله الحرام ، و استطاع دفع الغزاة إلى الوراء و اجبارهم على التراجع . و بينما كان الحصار مستمراً ، و المعارك ضارية وصل نبأ هام . جاء فارس من دمشق و اجتمع بالحصين بن نمير قائلاً : ـ لديّ خبر مهم . ـ تكلّم . ـ لقد تُوفي الخليفة يزيد بن معاوية . ـ ماذا ؟ فوجئ الحصين بالخبر فطلب منه التزام الصمت ، و لكن سرعان ما انتشر الخبر بين جنود الشام الذين ملّوا الحصار و اسنتكروا قصف الكعبة بيت الله ثم التوجه اليها عند الصلاة !
العودة إلى الكوفة انتهى الحصار بعد انسحاب الحصين بن نمير و توجهه إلى دمشق . قرّر المختار العودة إلى الكوفة بعد فراق دام اكثر من أربع سنوات . كان عبيد الله بن زياد قد فرّ إلى دمشق بعد وفاة يزيد بن معاوية . انتهز أهل الكوفة الفرصة و أعلنوا تأييدهم لعبد الله بن الزبير . عيّن ابن الزبير عبد الله بن مطيع والياً على الكوفة ، و التف حوله بعض الزعماء الذين اشتركوا في مذبحة كربلاء . و ذات يوم قال أحدهم : ـ أيها الأمير ان المختار أشدّ خطراً من سليمان بن صرد . ان سليمان قد خرج من الكوفة لقتال أهل الشام ، أما المختار يريد الثورة في الكوفة للإنتقام من قتله الحسين . و قال آخر : ـ أرى أن تسجنه أيُها الأمير ، من الأفضل أن نتغدى به قتل أن يتعشى بنا . استجاب الأمير لهم و أصدر أمراً بإلقاء القبض على المختار و إبداعه السجن .
سليمان بن صرد كان سليمان بن صرد صحابياً جليل القدر ، و هو من الذين تألموا لقتل الحسين ( عليه السَّلام ) و عدم نصرته . لهذا دعا أهل الكوفة لإعلان توبتهم و ندمهم على تقاعسهم عن نصرة الحسين في كربلاء . استجاب له أربعة آلاف مسلم فألّف جيشه منهم و أعلن ثورته على بني اُمية الذين قتلوا الحسين ( عليه السَّلام ) و سبوا عياله . و رغم قلّة الجنود فقد كانوا متحمسين للقتال فزحفوا باتجاه الشام ، بعد أن زاروا قبر الحسين و بكوا كثيراً حوله . و في منطفة عين الوردة على حدود الشام مع العراق اصطدموا بجيش عبيد الله بن زياد الذي يتالّف من ثمانين ألف جندي ، و دارت معارك ضارية استشهد فيها سليمان بن صرد ، و الذين تعاقبوا بعده في القيادة . و بعد أن تسلّم رفاعة بن شداد القيادة ، قرّر الانسحاب إلى الكوفة .
الرسالة بعث المختار من سجنه رسالة إلى رفاعة و أصحابه جاء فيها : أما بعد ... فان الله قد أعظم لكم الأجر و حط عنكم الوزر بمقارعة الظالمين ، انّكم لم تنفقوا نفقة و لم تقطعوا عقبة ، و لم تخطوا خطوة إلاّ رفع الله لكم بها درجة و كتب لكم بها حسنة . و أرسل رفاعة رسالة جوابية قال فيها انّه مستعد و أصحابه لاقتحام السجن و إطلاق سراحه ، غير أن المختار أشار عليهم بعدم الإقدام على ذلك .
الثورة توسط عبد الله بن عمر بن الخطاب للمختار مرّة أخرى ، فأطلق سراحه ، و فور خروجه من السجن بدأ يعبّئ الناس للثورة و الاقتصاص من الذين ارتكبوا مذبحة عاشوراء . و في تلك المدّة تلقى المختار رسالة تأييد من محمد بن الحنفية و هو ابن الإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فساعد ذلك على التفاف الناس حوله ، كما انضم اليه إبراهيم بن مالك الأشتر ، و هو قائد عسكري كبير و شجاع .
اشتعال الثورة و في ليلة الثلاثاء الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، أي قبل موعد الثورة بيومين ، و بينما كان إبراهيم الأشتر و معه بعض أصحابه في طريقه إلى منزل المختار ، صادفته إحدى الدوريات . صاح قائد الشرطة : مَن أنتم ؟ أجاب الأشتر : ـ أنا إبراهيم بن مالك الأشتر . قال قائد الشرطة : ـ مَن هؤلاء الذين معك ... و هل لديك ترخيص بالخروج ليلاً ؟ قال إبراهيم : ـ كلاً . قال قائد الشرطة : ـ اذن يجب اعتقالكم . اضطر إبراهيم لمهاجمته قبل أن يعتقله فقتله و لاذ أفراد الدورية بالفرار . أسرع إبراهيم و أصحابه إلى المختار و أخبروه . قال إبراهيم : ـ يجب إعلان الثورة فوراً . سأل المختار : ـ ماذا حدث ؟ ـ لقد قتل قائد الشرطة و لا مفرّ من الإسراع في اعلان الثورة . استبشر المختار و قال : ـ بشّرك الله بالخير هذا أول الفتح .
يا لثارات الحسين أصدر المختار أوامره بايقاد النيران و هي العلامة المتفق عليها ، كما أمر بإطلاق شعارات الثورة يا منصور أمت و هو شعار سيدنا محمد في معركة بدر . و في قلب الظلام استيقظ سكّان الكوفة على شعارات يا لثارات الحسين ، وهب الثائرون إلى منزل المختار الذي أصبح مركزاً لقيادة الثورة و دارت معارك ضارية في شوارع الكوفة و أزقتها و استسلم جنود الوالي و شرطته ، كما فرّ الوالي نفسه إلى الحجاز .
في مسجد الكوفة و في مسجد الكوفة ارتقى المختار الثقفي المنبر و أعلن أهداف الثورة . ـ تبايعوني على العمل بكتاب الله و سنّة نبيّه . و الطلب بدماء أهل البيت ( عليهم السلام ) . و جهاد المُحلِّين ( الذين أحلّوا ما حرّم الله ) . و الدفاع عن الضعفاء . و عمّت الفرحة بين الناس ، بعد أن رأوا في سياسة المختار بعض ما رأوه من عدل علي ( عليه السَّلام ) و مساواته بين الناس . ألغى المختار سياسة التمييز العنصري التي اتبعها بنو أمية في تفضيل العرب على غيرهم ، و أقرّ العدالة .
النصر كان الجيش الأموي يواصل زحفه نحو الكوفة بعد معركة عين الوردة ، فاحتل مدينة الموصل ، و استعد للزحف بعدها إلى الكوفة . جهّز المختار جيشاً من ثلاثة آلاف بقيادة يزيد بن أنس و كان شيخاً صالحاً معروفاً بالشجاعة . و خاض جيش المختار فور وصوله ضواحي الموصل معركتين مع طلائع الجيش الأموي و انتصر في كليهما . و أعقب ذلك أن توفي يزيد بن أنس ، فأحدث ذلك تأثيراً سيئاً على معنويات الجنود الذين تهيبوا ضخامة الجيش الأموي ففضّلوا الإنسحاب إلى الكوفة .
الشائعات أشاع الحاقدون على المختار و في طليعتهم قتله الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) ان جيش المختار قد هُزم و ان يزيد ين أنس قد قتل في المعارك فأمر المختار قائدة الشجاع إبراهيم بن مالك الأشتر بالتحرك نحو الموصل على رأس جيش قوامه سبعة آلاف مقاتل . عندما غادر الجيش الكوفة انتهز أعداء المختار الفرصة و اجتمعوا في منزل شبث بن ربعي قائد المشاة في مذبحة كربلاء و دبّروا مؤامرة للإطاحة بحكومة المختار . كان هناك الكثير من الحاقدين بسبب سياسة المختار التي قضت على مصالحهم و امتيازاتهم . و هكذا خرج المتمرّدون إلى الشوارع في زمر مسلّحة و حاصروا قصر الامارة . و رغم شدّة الحصار إلاّ ان المختار تمكّن من إرسال فارس على وجه السرعة إلى إبراهيم يطلعه على ما حدث و يأمره بالعودة . و بعد ثلاثة أيام من الحصار ، فوجئ المتمردون بعودة الجيش الذي قام بانهاء التمرّد بسرعة ، و أُلقي القبض على المتآمرين فيما فرّ بعضهم . أُلقي القبض على حرملة بن كاهل الذي ذبح طفل الحسين و تمّ اعدامه كما أُلقي القبض على سنان بن أنس من الذين اشتركوا في قتل الحسين ، و تم اعدام عمر بن سعد قائد الجيش في مذبحة كربلاء و غيرهم . كما فرّ شبث بن ربعي إلى البصرة ، أما الشمر بن ذي الجوشن فقد فرّ ايضاً و لكنه طورد حيث عُثر عليه في قرية من قرى واسط و تم إنزال القصاص بحقّه ، و كان الشمر قد تولّى ذبح الامام الحسين ( عليه السَّلام ) و قام بحمل رأسه إلى الكوفة ثم إلى دمشق و قال عندما دخل على يزيد : ـ املأ ركابي فضة و ذهبا اني قتلت السيّد المهذّبا قتلت خير الناس أمّاً و أبا
الصوم شكراً لله كان المختار من الرجال الصالحين و كان إذا أراد أن يشكر الله على نعمة صام . لهذا صام المختار شكراً لله على ما أنعم عليه من النصر على أعداء أهل البيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، الذين قتلوا سبط النبي و سبوا عياله . و كان المختار يؤمن بأن نِعم الله لا تعدّ و لا تحصى ، و قد قال الله سبحانه " و ان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها " لهذا كان يصوم أغلب أيام السنة .
معركة الخازر وصل جيش إبراهيم نهر الخازر واصطدم بجيش عبيد الله بن زياد ، و دارت معارك عنيفة ، استبسل فيها جيش الكوفة في القتال و قامت فرقة إنتحارية بهجوم جريء استهدف مقرّ قيادة الجيش الأموي ، فتمكنت من قتل عبيد الله بن زياد و الحصين بن نمير و غيرهما من القادة الكبار ، وقد أدّى ذلك إلى هزيمة ساحقة و انتشرت أخبار انتصار المختار في المدن الإسلامية ، و فرح المسلمون بمقتل الطاغية عبيد الله بن زياد .
مصعب ابن الزبير فكّر عبد الله بن الزبير في تعيين حاكم جديد على البصرة يمتاز بالقسوة ، لم يجد ابن الزبير سوى أخاه مصعب ، فأرسله إلى البصرة . دخل مصعب البصرة و ألقى خطاباً هاجم فيه المختار بكلّ أنواع الشتائم و قال : ـ لقد بلغني أنّكم تلقبون امراءكم و قبل أن تلقبوني فقد لقبت نفسي بالجزار . كان الفارّون من عدالة المختار و الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء يلتفون حول مصعب و يحرّضونه على قتال المختار .
النهاية عبأ مصعب جيشاً كبيراً و تقدّم به نحو الكوفة . فوجئ المختار بهذا الزحف ، و كان إبراهيم بن مالك الأشتر ما يزال في مدينة الموصل . اضطر المختار إلى مواجهة ابن الزبير بقواته المحدودة ، و اشتبك الفريقان في حروراء جنوبي الكوفة ، استطاع المختار إحراز بعض الانتصارات في الجولات الأولى . ثم دارت الدائرة على جيش المختار ، فاضطر إلى التراجع إلى الكوفة و التحصّن داخل القصر . استمر حصار القصر أربعة شهور متوالية ، كان المختار خلالها يحاول كسر الحصار عن طريق حرب الشوارع و لكن أهل الكوفة خذلوه أيضاً فظل وحيداً مع قوّاته . و في الرابع عشر من شهر رمضان سنة 67 هجري قرّر المختار مغادرة القصر و قال لأصحابه : ـ ان الحصار لا يزيدنا إلاّ ضعفاً ، فلنخرج اليهم حتى نموت كراماً و لم يستجب للمختار سوى سبعة عشر رجلاً فقط فخرج يقاتل بهم الألوف المحدقة بالقصر . كان المختار يقاتل و هو راكب على بغلة شهباء ، و رغم بلوغه السابعة و الستين فقد أبدى مقاومة عنيفة و شجاعة نادرة إلى أن هوى على الأرض شهيداً . أغرى مصعب الذين ظلّوا في القصر و خدعهم بالأمان و أعطاهم الميثاق أن لا ينالهم بسوء . و لكن عندما فتحوا أبواب القصر ، أصدر أمراً بإعدام الجميع و نفّذ حكم الإعدام بسبعة آلاف انسان في يوم واحد ، و كانت مذبحة مروّعة لم تشهد لها الكوفة نظيراً في التاريخ .
المرأة المؤمنة أصدر مصعب أمراً القبض على زوجة المختار و كانت إمرأة مؤمنة صالحة ذات أدب و حسب و نسب تدعى " عمرة " و هي ابنة النعمان بن بشير الأنصاري . طلب مصعب أن تتبرأ من زوجها فقالت مستنكرة : ـ كيف تريدني أن أتبرأ من رجل يقول ربي الله . كان صائماً نهاره قائماً ليله و قد بذل دمه لله و رسوله . و أخذ بثأر سبط النبي الحسين بن علي . فقال مصعب مهدداً : ـ إذن فسألحقك بزوجك . و أجابت المرأة المؤمنة : شهادة أزرقها في سبيل الله خير من الدنيا و ما فيها ، انّها موتة و من ورائها الجنّة . و الله أُفضّل على ولايتي لعليّ بن أبي طالب شيئاً . قرّر مصعب قتلها ، فاقتيدت ليلاً إلى مكان بين الحيرة و الكوفة ، و في وسط الصحراء و الظلام تقدّم الجلاّد و هوى بسيفه الغادر على عنق تلك المرأة المؤمنة الصابرة . و استشهدت رحمها الله دفاعاً عن الأهداف التي استشهد من أجلها الحسين ( عليه السَّلام ) و سار على دربها المختار ، و كانت أول امرأة يضرب عنقها صبراً في تاريخ الإسلام . و بمصرع المختار و زوجته انطوت صفحة مشرقة من تاريخ الجهاد المضيء . ما تزال تنير الطريق للأجيال . و في ذلك العام ظلّ الناس يرددون بحزن شعراً قاله عمر بن ربيعة في رثاء زوجة المختار . ان من أعجب العجائب عندي قتل بيضاء حرّة عطبول قُتلت هكذا على غير جرم ان لله درَّها من قتـيل كتب القتل و القتال علينا و على الغانيات جرّ الذيول
Comment