رد: سيرة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) المفصّلة
اللحظات الأخيرة
لقد احتار هارون في أمره فكل وسيلة سلكها للقضاء على الإمام (عليه السلام) تبوء بالفشل، فاستدعى وزيره يحيى بن خالد بعد أن انتشرت معاجز الإمام ومناقبه وتحدث الناس عن مناقبه وكراماته، فقال له:
(يا أبا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب؟ ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمه).
فأشار عليه يحيى بالصواب وأرشده إلى الخير فقال له:
(الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنّ عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعته).
فاستجاب هارون لنصيحة وزيره وقال له: انطلق إليه وانزع عنه الحديد وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك: إنه قد سبق مني فيك يمين إني لا أخليك حتى تقرّ لي بالإساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في إقرارك عار ولا في مسألتك إيّاي من منقصة، وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني).
أراد هارون أن يأخذ من الإمام اعترافاً بالذنب والإساءة ليصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عنه، فيكون قد اتخذ بذلك وسيلة إلى التشهير بالإمام من جهة، ومن جهة ثانية يكون له مبرراً في الوقت نفسه على سجنه له. لم يخف على الإمام (عليه السلام) ذلك، فلما مثل يحيى وأخبره بمقالة هارون انبرى إليه الإمام (عليه السلام) وقال له:
(سأخبرك بما سيجري عليك وعلى أسرتك من زوال النعمة على يد هارون، وشدة النقمة، فأحذرك من بطشه ومن الغدر بك فجأة) ثم ردّ على مقالة هارون فقال ليحيى:
(يا أبا علي، أبلغه عني، يقول لك موسى بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ـ أي بموته ـ وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه؟).
خرج يحيى وهو لا يبصر طريقه من الحزن والجزع فأخذ يبكي لما رأى الإمام (عليه السلام) ابن بنت رسول الله بتلك الحالة، فأخبر هارون بمقالته، فقال الطاغية مستهزئاً ساخراً:
(إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا!).
علم الإمام المعصوم موسى بن جعفر أن لقاءه بربّه أصبح قريباً، فنعى نفسه لبعض شيعته الخاصة، وعزّاهم بمصيبته بدل أن يعزّوه، فأوصاهم بالتمسك بالعروة الوثقى من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وذلك في جوابه عن المسائل التي بعثها إليه علي بن سويد حينما كان في السجن، فيها بعض المسائل يسأله عنها، فأجابه (عليه السلام) بهذا الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة، والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ وضال ومهتدي، وسميع وأصم، وبصير وأعمى فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه بمحمد (صلّى الله عليه وآله).
أما بعد؛ فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشدك، وبصّرك من أمر دينك بتفضيلك إياهم، وبردّك الأمور إليهم؛ كتبت إلى تسألني عن أمور كنت منها في تقية، ومن كتمانها في سعة، فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم، رأيت أن أفسّر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل حبها لهم، فاتق الله عزّ ذكره، وخصّ بذلك الأمر أهله، وأحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك، وإظهار ما استكتمتك وإن تفعل إن شاء الله.
إن أول ما أنهى إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن ممّا قد قضى الله عزّ وجلّ وختم، فاستمسك بعروة الدين، آل محمد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي، والمسالمة لهم، والرضا بما قالوا: ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحب دينهم، فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أمانتهم، أو تدري ما خانوا أمانتهم؟
إئتمنوا على كتاب الله فحرّفوه، ودلّوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم (فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) وسألت عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل اللهفلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إيّاه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلك كفراً؟
فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عزّ وجلّ كلامه، وهزئا برسوله (صلّى الله عليه وآله) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما، وما زادا إلا شكاً، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام.
وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وسألت عن مبلغ علمنا، وهو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو افضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله). وسألت عن أمهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم، فأما أمهات أولادهم فهنّ عواهر إلى يوم القيامة نكاح بغير ولي، وطلاق في غير عدة. وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شكه، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فأنتم أحق به لأنّا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان.
وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وسألت عن الشهادة لهم، فأقم الشهادة لله عزّ وجلّ ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا وادع إلى شرائط الله عزّ ذكره من رجوت إجابته ولا تحصن بحصن رياء. ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطلاً وإن كنت تعرف منا خلافه، فإنّك لا تدري لما قلناه، وعلى أي وجه وضعناه آمن بما أخبرك، ولا تفش بما استكتمناك من خبرك، إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك، وعده في مرضه، ليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذى، ولا الخيانة ولا الكبر والخنا ولا الفحش ولا الأمر به، فإذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء وانظر ما فعل اللهبالمجرمين، فقد فسرت لك جملاً مجملاً، وصلى الله على محمد وآله الأخيار...)
كان المسيب بن زهرة موكلاً بحراسة الإمام (عليه السلام) حيث نقل من حبس السندي إلى داره على ما يستفاد من بعض المصادر، وكان الرجل من دعاة الدولة العباسية الأشداء، فقد ولي شرطة بغداد أيام المنصور والمهدي والرشيد، كما ولي خراسان أيام المهدي. وكان على جانب من الغلاظة والشدة، فكان أبو جعفر المنصور إذا أراد بأحد خيراً أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد برجل شراً أمر بتسليمه إلى المسيّب ولما سجن الإمام عنده أو وكّل بحسبه أثّر عليه الإمام وسيطر على مشاعره، فاهتدى إلى طريق الحق والصواب، وأصبح من الشيعة المخلصين ومن حملة أسرار الأئمة (عليهم السلام) وقد استدعاه الإمام قبل وفاته بثلاثة أيام فلما مثل عنده قال له: يا مسيّب.
ـ لبّيك يا مولاي.
ـ إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة، مدينة جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأعهد إلى ابني علي ما عهده إلى آبائي، وأجعله وصيّي وخليفتي، وآمره بأمري.
ـ يا مولاي، كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرس معي على الأبواب؟؟!
ـ يا مسيب ضعف يقينك في الله عزّ وجلّ وفينا؟
ـ لا، يا سيدي ادع الله أن يثبتني.
ـ اللهم، ثبّته، ثم قال: أدعو الله عزّ وجلّ باسمه العظيم الذي دعاه به آصف حين جاء بسرير بلقيس فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه حتى يجمع بيني وبين علي ابني بالمدينة.
قال المسيّب: فسمعته يدعو، ففقدته عن مصلاّه فلم أزل قائماً على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجليه، فوقعت على وجهي ساجداً شاكراً لله على ما أنعم به علي من معرفته والتفت الإمام (عليه السلام) له فقال: (يا مسيّب، ارفع رأسك، واعلم أني راحل إلى الله عزّ وجلّ في ثالث هذا اليوم).
قال المسيّب: فبكيت، فلما رآني الإمام (عليه السلام) وأنا باكٍ حزين قال لي:
(لا تبكِ يا مسيّب فإن علياً ابني هو إمامك، ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فإنك لن تضلّ ما لزمته) قال المسيّب: الحمد لله على ذلك.
أن يحيى بن خالد دسّ السمّ إلى الإمام في رطب وعنب فقتله ومما يؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن طاووس قال: سألت الإمام الرضا (عليه السلام) قلت له: هل أن يحيى بن خالد سمّ أباك موسى بن جعفر؟
فقال الإمام: نعم سمّه في ثلاثين رطبة مسمومة.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الرشيد لما غضب على الفضل بن يحيى لترفيهه على الإمام حينما كان في سجنه، وأمره بجلده خرج يحيى من عند الرشيد وقد ماج الناس واضطرب أمرهم، فجاء إلى بغداد ودعا السندي بن شاهك وأمره بقتل الإمام (عليه السلام)، فاستدعى السندي الفراشين وكانوا من النصارى فأمرهم بلفّ الإمام في بساط فلفّ وهو حي فجلس عليه الفرّاشون حتى توفي.
وذكر ابن المهنا أن الرشيد لما سافر إلى الشام أمر يحيى بن خالد السندي بقتله فقتله. وهذه الروايات على اختلافها تفيد أن يحيى هو الذي أمر بقتل الإمام (عليه السلام) ولكنه المخالفة لما عليه الجمهور في أن الرشيد عهد إلى السندي بقتله.
أن الرشيد عمد إلى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً وأمر السندي أن يقدمه إلى الإمام ويحتم عليه أن يتناول منه وقيل أن الرشيد أوعز إلى السندي في ذلك. فأخذ رطباً ووضع فيه السم وقدمه للإمام فأكل منه عشر رطبات، فقال له السندي: (زد على ذلك) فرمقه الإمام بطرفه وقال له:
(حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه).
ولما تناول الإمام (عليه السلام) تلك الرطبات المسمومة تسمم بدنه، وأخذ يعاني آلاماً مبرحة وأوجاعاً قاسية، وأحاط به الأسى والحزن، قد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه الوغد الخبيث السندي بن شاهك فكان يسمعه في كل فترة أخشن الكلام وأغلظه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليجعل له النهاية المحتومة، لقد عانى الإمام العظيم في تلك الفترة الرهيبة ما لم يعانه أي إنسان، فتكبيل بالقيود وأذى مرهق، وآلام السم قطعت أوصاله وأذابت قلبه، والحزن الشديد الذي أثر فيه تأثيراً عميقاً لانتهاك حرمته، وغربته عن أهله وعدم مشاهدة أعزائه وأحبائه، وقد أشرف على مفارقة هذه الدنيا.
استدعى الوجوه والشخصيات المعروفة في مجتمعه إلى قاعة السجن وكانوا ثمانين شخصاً، كما حدث بذلك بعض شيوخ العامة يقول: أحضرنا السندي، فلما حضرنا، انبرى إلينا فقال:
(أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به مكروه، ويكثرون من ذلك، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين ـ يعني هارون ـ سوءاً وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره، وها هوذا موسع عليه في جميع أموره) يقول ذلك الشيخ: ولم يكن لنا همّ سوى مشاهدة الإمام ومقابلته فلما دنونا منه لم نرَ مثله قط في فضله ونسكه وتقواه فانبرى إلينا وقال لنا: (أما ما ذكر من التوسعة، وما أشبه ذلك، فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في تسع تمرات، وإني أصفر غداً وبعد غدٍ أموت).
ولما سمع السندي ذلك انهارت أعــصابه، ومشــت الرعـــدة بأوصاله واضــــطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة.
لقد أفسد عليه الإمام (عليه السلام) بشهادته هذه ما كان يرومه من الحصول على البراءة من المسؤولية في قتله.
في اليوم الثالث سرى السم في جميع أجزاء جسم الإمام الطّاهر (عليه السلام) فأخذ يعاني اشد الآلام وأقسى الأوجاع، وقد علم (عليه السلام) أن لقاءه بربه أصبح قريباً فاستدعى السندي وطلب إليه أن يحضر مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد بن مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى (عليه السلام) وقال:
(إنا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صيرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني).
أحضر له السندي مولاه الذي طلبه، ولما ثقل حال الإمام (عليه السلام) مع وأشرف على النهاية المحتومة وأخذ يعاني زفرات الموت، استدعى المسيّب بن زهرة وقال له: (إني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة ماء وشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فأخبر الطاغية هارون بوفاتي) قال المسيّب:
فلم أزل أراقب وعده حتى دعا (عليه السلام) بشربة فشربها ثم استدعاني فقال لي:
(يا مسيّب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه تولى غسلي ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) فإن الله عزّ وجلّ جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا).
قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أليس قد نهيتك، ثم إن ذلك الشخص قد غاب عنّي، فجئت إلى الإمام (عليه السلام) فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته.
كلف هارون السندي بالتحقيق.
أرسل السندي إلى عمرو بن واقد وطلب إليه أن يجمع أشخاصاً يعرفون الإمام (عليه السلام)، ولما حضروا وعددهم يقارب الخمسين رجلاً سألهم: هل تعرفون موسى بن جعفر؟ قالوا: نعم. فقام عمرو وكشف الثوب عن وجه موسى، فالتفت السندي إلى الجماعة الشهود وقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد فنظروا إليه، ثم قال لهم: (تشهدون كلكم أن به أثراً تنكرونه؟).
فقالوا: لا، ثم سجل شهاداتهم وانصرفوا).
ورواية أخرى تقول: إن السندي استدعى الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إلى الإمام وهو ميت وشهدوا على ذلك أن لا أثر به!
هذه الإجراءات التي اتخذها السندي بن شاهك إنما جاءت لتبرير ساحة الحكومة من المسؤولية وإبعاد الأنظار عنها في ارتكاب الجريمة لكن الإمام (عليه السلام) قد أفسد عليهم صنعهم وتضليلهم وكشف للناس أن هارون هو الذي اغتاله بالسم.
وأما ما اتخذه هارون المجرم لرفع الشبهات التي حامت حوله فإنه جمع شيوخ الطالبيين والعباسيين وسائر أهل ممكلته والحكام فقال لهم: (هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه ـ يعني في قتله ـ فانظروا إليه) فدخل على الإمام سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إليه وليس به أثر جراحة ولا خنق
اللحظات الأخيرة
لقد احتار هارون في أمره فكل وسيلة سلكها للقضاء على الإمام (عليه السلام) تبوء بالفشل، فاستدعى وزيره يحيى بن خالد بعد أن انتشرت معاجز الإمام ومناقبه وتحدث الناس عن مناقبه وكراماته، فقال له:
(يا أبا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب؟ ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمه).
فأشار عليه يحيى بالصواب وأرشده إلى الخير فقال له:
(الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنّ عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعته).
فاستجاب هارون لنصيحة وزيره وقال له: انطلق إليه وانزع عنه الحديد وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك: إنه قد سبق مني فيك يمين إني لا أخليك حتى تقرّ لي بالإساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في إقرارك عار ولا في مسألتك إيّاي من منقصة، وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني).
أراد هارون أن يأخذ من الإمام اعترافاً بالذنب والإساءة ليصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عنه، فيكون قد اتخذ بذلك وسيلة إلى التشهير بالإمام من جهة، ومن جهة ثانية يكون له مبرراً في الوقت نفسه على سجنه له. لم يخف على الإمام (عليه السلام) ذلك، فلما مثل يحيى وأخبره بمقالة هارون انبرى إليه الإمام (عليه السلام) وقال له:
(سأخبرك بما سيجري عليك وعلى أسرتك من زوال النعمة على يد هارون، وشدة النقمة، فأحذرك من بطشه ومن الغدر بك فجأة) ثم ردّ على مقالة هارون فقال ليحيى:
(يا أبا علي، أبلغه عني، يقول لك موسى بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ـ أي بموته ـ وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه؟).
خرج يحيى وهو لا يبصر طريقه من الحزن والجزع فأخذ يبكي لما رأى الإمام (عليه السلام) ابن بنت رسول الله بتلك الحالة، فأخبر هارون بمقالته، فقال الطاغية مستهزئاً ساخراً:
(إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا!).
علم الإمام المعصوم موسى بن جعفر أن لقاءه بربّه أصبح قريباً، فنعى نفسه لبعض شيعته الخاصة، وعزّاهم بمصيبته بدل أن يعزّوه، فأوصاهم بالتمسك بالعروة الوثقى من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وذلك في جوابه عن المسائل التي بعثها إليه علي بن سويد حينما كان في السجن، فيها بعض المسائل يسأله عنها، فأجابه (عليه السلام) بهذا الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة، والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ وضال ومهتدي، وسميع وأصم، وبصير وأعمى فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه بمحمد (صلّى الله عليه وآله).
أما بعد؛ فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشدك، وبصّرك من أمر دينك بتفضيلك إياهم، وبردّك الأمور إليهم؛ كتبت إلى تسألني عن أمور كنت منها في تقية، ومن كتمانها في سعة، فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم، رأيت أن أفسّر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل حبها لهم، فاتق الله عزّ ذكره، وخصّ بذلك الأمر أهله، وأحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك، وإظهار ما استكتمتك وإن تفعل إن شاء الله.
إن أول ما أنهى إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه، غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن ممّا قد قضى الله عزّ وجلّ وختم، فاستمسك بعروة الدين، آل محمد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي، والمسالمة لهم، والرضا بما قالوا: ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحب دينهم، فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أمانتهم، أو تدري ما خانوا أمانتهم؟
إئتمنوا على كتاب الله فحرّفوه، ودلّوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم (فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) وسألت عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل اللهفلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إيّاه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلك كفراً؟
فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عزّ وجلّ كلامه، وهزئا برسوله (صلّى الله عليه وآله) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما، وما زادا إلا شكاً، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام.
وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وسألت عن مبلغ علمنا، وهو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع، وهو افضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله). وسألت عن أمهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم، فأما أمهات أولادهم فهنّ عواهر إلى يوم القيامة نكاح بغير ولي، وطلاق في غير عدة. وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شكه، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فأنتم أحق به لأنّا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان.
وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وسألت عن الشهادة لهم، فأقم الشهادة لله عزّ وجلّ ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا وادع إلى شرائط الله عزّ ذكره من رجوت إجابته ولا تحصن بحصن رياء. ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطلاً وإن كنت تعرف منا خلافه، فإنّك لا تدري لما قلناه، وعلى أي وجه وضعناه آمن بما أخبرك، ولا تفش بما استكتمناك من خبرك، إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك، وعده في مرضه، ليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذى، ولا الخيانة ولا الكبر والخنا ولا الفحش ولا الأمر به، فإذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء وانظر ما فعل اللهبالمجرمين، فقد فسرت لك جملاً مجملاً، وصلى الله على محمد وآله الأخيار...)
كان المسيب بن زهرة موكلاً بحراسة الإمام (عليه السلام) حيث نقل من حبس السندي إلى داره على ما يستفاد من بعض المصادر، وكان الرجل من دعاة الدولة العباسية الأشداء، فقد ولي شرطة بغداد أيام المنصور والمهدي والرشيد، كما ولي خراسان أيام المهدي. وكان على جانب من الغلاظة والشدة، فكان أبو جعفر المنصور إذا أراد بأحد خيراً أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد برجل شراً أمر بتسليمه إلى المسيّب ولما سجن الإمام عنده أو وكّل بحسبه أثّر عليه الإمام وسيطر على مشاعره، فاهتدى إلى طريق الحق والصواب، وأصبح من الشيعة المخلصين ومن حملة أسرار الأئمة (عليهم السلام) وقد استدعاه الإمام قبل وفاته بثلاثة أيام فلما مثل عنده قال له: يا مسيّب.
ـ لبّيك يا مولاي.
ـ إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة، مدينة جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأعهد إلى ابني علي ما عهده إلى آبائي، وأجعله وصيّي وخليفتي، وآمره بأمري.
ـ يا مولاي، كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرس معي على الأبواب؟؟!
ـ يا مسيب ضعف يقينك في الله عزّ وجلّ وفينا؟
ـ لا، يا سيدي ادع الله أن يثبتني.
ـ اللهم، ثبّته، ثم قال: أدعو الله عزّ وجلّ باسمه العظيم الذي دعاه به آصف حين جاء بسرير بلقيس فوضعه بين يدي سليمان قبل ارتداد طرفه إليه حتى يجمع بيني وبين علي ابني بالمدينة.
قال المسيّب: فسمعته يدعو، ففقدته عن مصلاّه فلم أزل قائماً على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجليه، فوقعت على وجهي ساجداً شاكراً لله على ما أنعم به علي من معرفته والتفت الإمام (عليه السلام) له فقال: (يا مسيّب، ارفع رأسك، واعلم أني راحل إلى الله عزّ وجلّ في ثالث هذا اليوم).
قال المسيّب: فبكيت، فلما رآني الإمام (عليه السلام) وأنا باكٍ حزين قال لي:
(لا تبكِ يا مسيّب فإن علياً ابني هو إمامك، ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فإنك لن تضلّ ما لزمته) قال المسيّب: الحمد لله على ذلك.
أن يحيى بن خالد دسّ السمّ إلى الإمام في رطب وعنب فقتله ومما يؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن طاووس قال: سألت الإمام الرضا (عليه السلام) قلت له: هل أن يحيى بن خالد سمّ أباك موسى بن جعفر؟
فقال الإمام: نعم سمّه في ثلاثين رطبة مسمومة.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الرشيد لما غضب على الفضل بن يحيى لترفيهه على الإمام حينما كان في سجنه، وأمره بجلده خرج يحيى من عند الرشيد وقد ماج الناس واضطرب أمرهم، فجاء إلى بغداد ودعا السندي بن شاهك وأمره بقتل الإمام (عليه السلام)، فاستدعى السندي الفراشين وكانوا من النصارى فأمرهم بلفّ الإمام في بساط فلفّ وهو حي فجلس عليه الفرّاشون حتى توفي.
وذكر ابن المهنا أن الرشيد لما سافر إلى الشام أمر يحيى بن خالد السندي بقتله فقتله. وهذه الروايات على اختلافها تفيد أن يحيى هو الذي أمر بقتل الإمام (عليه السلام) ولكنه المخالفة لما عليه الجمهور في أن الرشيد عهد إلى السندي بقتله.
أن الرشيد عمد إلى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً وأمر السندي أن يقدمه إلى الإمام ويحتم عليه أن يتناول منه وقيل أن الرشيد أوعز إلى السندي في ذلك. فأخذ رطباً ووضع فيه السم وقدمه للإمام فأكل منه عشر رطبات، فقال له السندي: (زد على ذلك) فرمقه الإمام بطرفه وقال له:
(حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه).
ولما تناول الإمام (عليه السلام) تلك الرطبات المسمومة تسمم بدنه، وأخذ يعاني آلاماً مبرحة وأوجاعاً قاسية، وأحاط به الأسى والحزن، قد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه الوغد الخبيث السندي بن شاهك فكان يسمعه في كل فترة أخشن الكلام وأغلظه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليجعل له النهاية المحتومة، لقد عانى الإمام العظيم في تلك الفترة الرهيبة ما لم يعانه أي إنسان، فتكبيل بالقيود وأذى مرهق، وآلام السم قطعت أوصاله وأذابت قلبه، والحزن الشديد الذي أثر فيه تأثيراً عميقاً لانتهاك حرمته، وغربته عن أهله وعدم مشاهدة أعزائه وأحبائه، وقد أشرف على مفارقة هذه الدنيا.
استدعى الوجوه والشخصيات المعروفة في مجتمعه إلى قاعة السجن وكانوا ثمانين شخصاً، كما حدث بذلك بعض شيوخ العامة يقول: أحضرنا السندي، فلما حضرنا، انبرى إلينا فقال:
(أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به مكروه، ويكثرون من ذلك، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين ـ يعني هارون ـ سوءاً وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره، وها هوذا موسع عليه في جميع أموره) يقول ذلك الشيخ: ولم يكن لنا همّ سوى مشاهدة الإمام ومقابلته فلما دنونا منه لم نرَ مثله قط في فضله ونسكه وتقواه فانبرى إلينا وقال لنا: (أما ما ذكر من التوسعة، وما أشبه ذلك، فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في تسع تمرات، وإني أصفر غداً وبعد غدٍ أموت).
ولما سمع السندي ذلك انهارت أعــصابه، ومشــت الرعـــدة بأوصاله واضــــطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة.
لقد أفسد عليه الإمام (عليه السلام) بشهادته هذه ما كان يرومه من الحصول على البراءة من المسؤولية في قتله.
في اليوم الثالث سرى السم في جميع أجزاء جسم الإمام الطّاهر (عليه السلام) فأخذ يعاني اشد الآلام وأقسى الأوجاع، وقد علم (عليه السلام) أن لقاءه بربه أصبح قريباً فاستدعى السندي وطلب إليه أن يحضر مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد بن مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى (عليه السلام) وقال:
(إنا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صيرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني).
أحضر له السندي مولاه الذي طلبه، ولما ثقل حال الإمام (عليه السلام) مع وأشرف على النهاية المحتومة وأخذ يعاني زفرات الموت، استدعى المسيّب بن زهرة وقال له: (إني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة ماء وشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فأخبر الطاغية هارون بوفاتي) قال المسيّب:
فلم أزل أراقب وعده حتى دعا (عليه السلام) بشربة فشربها ثم استدعاني فقال لي:
(يا مسيّب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه تولى غسلي ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) فإن الله عزّ وجلّ جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا).
قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أليس قد نهيتك، ثم إن ذلك الشخص قد غاب عنّي، فجئت إلى الإمام (عليه السلام) فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته.
كلف هارون السندي بالتحقيق.
أرسل السندي إلى عمرو بن واقد وطلب إليه أن يجمع أشخاصاً يعرفون الإمام (عليه السلام)، ولما حضروا وعددهم يقارب الخمسين رجلاً سألهم: هل تعرفون موسى بن جعفر؟ قالوا: نعم. فقام عمرو وكشف الثوب عن وجه موسى، فالتفت السندي إلى الجماعة الشهود وقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد فنظروا إليه، ثم قال لهم: (تشهدون كلكم أن به أثراً تنكرونه؟).
فقالوا: لا، ثم سجل شهاداتهم وانصرفوا).
ورواية أخرى تقول: إن السندي استدعى الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إلى الإمام وهو ميت وشهدوا على ذلك أن لا أثر به!
هذه الإجراءات التي اتخذها السندي بن شاهك إنما جاءت لتبرير ساحة الحكومة من المسؤولية وإبعاد الأنظار عنها في ارتكاب الجريمة لكن الإمام (عليه السلام) قد أفسد عليهم صنعهم وتضليلهم وكشف للناس أن هارون هو الذي اغتاله بالسم.
وأما ما اتخذه هارون المجرم لرفع الشبهات التي حامت حوله فإنه جمع شيوخ الطالبيين والعباسيين وسائر أهل ممكلته والحكام فقال لهم: (هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه ـ يعني في قتله ـ فانظروا إليه) فدخل على الإمام سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إليه وليس به أثر جراحة ولا خنق
Comment