بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الائمه والمهديين وسلم تسليما
الأشاعرة والتفسير الخاطىء للتوحيد الأفعالي:
الأشاعرة وهم أحد مذاهب أهل السنّة عندما لم يستوعبوا الفهم الصحيح للتوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وأن الإنسان مجبور على أفعاله، لأنهم تصوروا إنّ الإنسان إذا كان مختاراً في أفعاله فإنّ ذلك يعني الشرك في دائرة التوحيد الأفعالي، في حين أن هذه العقيدة (وهو الجبر) تثير علامات الإستفهام في كافة اُصول العقيدة من النبوّة والقيامة والإمامة والعبادات التي أمر بها الإسلام.
والحقيقة أن الإنسان لو كان مجبوراً في أفعاله وكان يعيش فقدان الإرادة والإختيار في حركته في الحياة فما معنى مؤاخذته ومساءلته يوم القيامة ؟
كيف يمكننا توجيه عقاب المذنبين وثواب المطيعين في الحياة الآخرة ؟ لأن كلاً من المطيع والعاصي كانا يتحركان في سلوكهما من دون اختيار وإرادة، فلا المذنب اختار أن يكون مذنباً ولا المطيع اختار أن يكون مطيعاً، فلماذا إذن يستحق الأوّل العقوبة والثاني المثوبة ؟
إذا قلنا بالجبر فلا ينبغي لأي محكمة أن تعاقب المجرم على جريمته لأنه مجبور حسب الفرض على ذلك.
هل يصحّ أن نعاقب النار على إحراقها لإنسان بريء ؟
هل يعقل أن نحاكم البحر ونقضي عليه بالعقاب الصارم لأن إنساناً بريئاً غرق في مياهه ؟
هل يمكننا محاكمة الكهرباء فيما لو أدّت إلى قتل شخص بريء ؟
بديهي أن جواب هذه الأسئلة بالنفي وستكون مثل هذه المحاكمة مضحكة ومدعاة للسخرية، وهكذا حال الإنسان المجبور على أفعاله فإنه يكون حاله حال الماء والنار والكهرباء فيما لو أقدم على ارتكاب جريمة.
والملفت للنظر أن أصحاب هذه النظرية يخالفون نظريتهم في مقام العمل والممارسة، فلو أن أحداً صفعهم لرأيناهم يعترضون عليه، ولو أنّ لصاً دخل إلى بيوتهم وسرق منها شيئاً لقاموا بتقديمه إلى المحكمة، في حين أن الإنسان إذا كان مجبوراً وفاقداً للإرادة فلا معنى للاعتراض والشكاية، ولكننا نرى هذا التناقض بوضوح بين قول أصحاب عقيدة الجبر وبين أفعالهم وممارساتهم.
لعلّ الانسان يتصور أن هذه المطالب ما هي إلاّ أفكار وتوهمات تجول في مدارات الذهن فقط من دون أن يكون لها رصيد واقعي من الأشخاص المؤيدين لها، ولكن مع الأسف فهناك الكثير من الأشخاص المغفلين الذين يتحركون في دائرة العقيدة والمذهب من موقع الدفاع الشديد عن هذه النظرية الباطلة وقد كتبوا في ذلك كتباً متنوعة.
أجل، فإنّ هؤلاء الأشخاص عندما لم يستطيعوا إدراك مغزى التوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وغفلوا عن أن الله تعالى هو الذي وهب للإنسان الإختيار والإرادة، وعندما نقول أن الإنسان حرٌّ ومختار في أفعاله فإنما ذلك على أساس أنّ كلّ هذه الاُمور متصلة بالله تعالى وبمشيئته، وبذلك لا يكون هناك تقاطعاً بين اختيار الإنسان والتوحيد الأفعالي.
وقد ذهب الأشاعرة والجبرية إلى أكثر من ذلك، فقد أنكروا عالم الأسباب والمسببات وقالوا : إنّ النار لا تحرق أبداً بل الله تعالى هو الذي يحرق، وكذلك ذهبوا إلى أن الحجر لا يكسر الزجاج بل بمجرد أن يقترب منه ويمسه فإنّ الله تعالى يقوم بكسر الزجاج.
أجل، فإنهم أنكروا مثل هذه الاُمور البديهية بسبب تفسيرهم الخاطىء للتوحيد الأفعالي، بينما التوحيد الأفعالي لا يتنافى إطلاقاً مع إختيار الإنسان وإرادته، وكذلك لا يتنافى مع عالم الأسباب لأن الإرادة السببية في عالم المخلوقات كلّها تعود في الأصل إلى الله تعالى، فإنه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوّة والعقل والإختيار والإرادة، وبما أن هذه الاُمور جميعاً من الله تعالى إذن يصحّ نسبتها جميعاً إليه رغم أن الإنسان لا يتجرد من المسؤولية وحرية الإنتخاب في دائرة الفكر والعقيدة والممارسة.
ولأجل توضيح المطلب أكثر نضرب لذلك مثالاً :
عندما يدفع الأب بعض المال لولده لينفقه في مصارفه ومعيشته فالأب من جهة يمكنه في أي لحظة أن يأخذ هذا المال باعتباره ماله وملكه رغم أن الإبن إذا اشترى بهذا المال شيئاً فإن المسؤولية تقع عليه لا على الأب.
والنتيجة هي أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى مع اختيار الإنسان وإرادته ولا ينبغي أن نتصور أن ذلك يدخلنا في دائرة الشرك.
هل ينسجم التوسل مع التوحيد ؟
السؤال : لماذا يتصور الوهابيون أن التوسل هو نوع من الشرك ؟ وكيف يتقاطع التوسل مع أحد مراتب التوحيد المتقدّمة ؟ وهل أن التوسل يتنافى مع توحيد الذات، أو مع توحيد الصفات ؟
بلا شك أن التوسل لا يتنافي إطلاقاً مع توحيد الذات والصفات، و لکن هل يثير التوسل مشکلة في دائرة العبادات و التوحيد الأفعالي؟ إذا کان الجواب بالإيجاب من قبل الوهابيين فينبغي القول بأنهم وقعوا في إشتباه کبير لأن الشيعة عندما يتوسلون بالنبي أو الأئمة المعصومين أو القرآن الکريم لا يرون أن ذلك من العبادة لهولاء إطلاقاً کما هو الحال في عبادة المشرکين للأصنام و الأوثان و تصورهم أنها شفعاء لهم عند الله، بل نحن نطلب من هولاء الأولياء أن يتوسطوا لنا بما لديهم من جاه و مقام عند الله تعالی لحلًّ مشاکلنا و استجابة دعائنا، و علی هذا الأساس فإنّ الفرق بين التوسل و بين عبادظ المشرکين واضح جدّاً، و الشخص الذي يتصور أن توسل الشيعة إنما هو مثل عبادة المشرکين للأوثان في الحقيقة هو إنسان بعيد عن الإنصاف و جادة الصواب.
مضافاً إلى ذلك أن التوسل بالخشب والحجر لا يعود على الإنسان إطلاقاً بالنفع والضرر، وهذا المعنى لا يقبل القياس بالتوسل بالإمام والنبي والقرآن والتقرّب بهم إلى الله تعالى، والنتيجة هي أن التوسل لا يتنافى مع توحيد الذات ولا توحيد الصفات ولا التوحيد في العبادة. إذن فما هو مقصود الوهابيين من قولهم بأن التوسل شرك ؟ وما هي المرتبة من مراتب التوحيد التي يرون أنها تتنافى مع التوسل ؟
الجواب : الظاهر أن مقصود الوهابيين من أن التوسل شرك هو أنه يتنافى مع التوحيد الأفعالي، لأن الشخص الذي يتوسل بالنبي أو الإمام ويطلب منه حلّ مشكلته فإنه يرى أن غير الله تعالى له تأثير في عالم الخلق، ونعلم أن التأثير منحصر بالله تعالى ولو أن الإنسان اعتقد بأن غير الله يمكنه أن يؤثر في عالم الوجود فهو نحو من أنحاء الشرك.
والجواب على هذا الكلام هو أن الشيعة لا يرون للنبي والإمام والقرآن تأثيراً في عالم الخلقة في عرض الله تعالى، بل في طول القدرة الإلهية، ولا تكون قدرتهم مؤثرة إلاّ بإذن الله ومشيئته، وهذا المعنى لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي، نعم إذا قلنا إنّ النبي أو الإمام يؤثر في عالم الخلقة بالإستقلال «نعوذ بالله» فهذا هو الشرك، ولكن لا أحد يقول بهذا المعنى، فعندما نقول أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يشفع لنا عند الله ويتوسط في حلِّ مشكلاتنا ليكون الله تعالى هو الذي يحلّ هذه المشكلة أو يشافي المريض أو يرزق الفقير فإنّ ذلك ليس من الشرك بل هو عين التوحيد.
وبما أن هذا المعنى انعكس في دائرة المفاهيم القرآنية بوضوح فينبغي القول بأن هؤلاء الوهابيين لا يقبلون بالقرآن أيضاً، لأن الآية 49 من سورة آل عمران تردّهم ردّاً قاطعاً وتبطل إدعاءاتهم الفارغة واتهاماتهم الباطلة وذلك في قوله تعالى :﴿أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
فنرى أن عيسى (عليه السلام) يخاطب بني إسرائيل ويقول بانني بعثت رسولاً إليكم من قبل الله تعالى ومعي معجزة، ثمّ يذكر ثلاث معجزات :
1 ـ ﴿أَنّي اَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِاِذْنِ اللهِ﴾.
وهكذا نرى أن المسيح (عليه السلام) يقول بأنني أصنع لكم طيراً من طين ثمّ أنفخ فيه الحياة والروح فيتحول هذا التمثال الطيني إلى طائر حي بإذن الله، أي إنني لا أستطيع التأثير في هذه الأشياء في عرض قدرة الله ومشيئته بل إن قدرتي وتأثيري إنّما هي بإذن الله وليست مهمتي سوى أن أنفخ في هذا التمثال ليتحول إلى طائر فيه حياة وشعور بإذن الله.
2 ـ ﴿وَاُبْرِئُ الاْكْمَهَ وَالاْبْرَصَ وَاُحْيِ الْمَوْتى بِاِذْنِ اللهِ﴾.
المعجزة الاُخرى لعيس بن مريم (عليه السلام)هي شفاء المرضى المزمنين والأعمى والأبرص وإحياء الموتى، وطبعاً كلّ هذه الأعمال إنّما أقوم بها بمشيئة الله وإذنه ولا تتصوروا أنني إله أو ابن إله فلست سوى وسيلة لتحقيق هذه الأغراض، والمصدر الحقيقي هو الله تعالى، فإحياء الموتى وشفاء المرضى كلّها صادرة من ساحته المقدسة.
3 ـ ﴿وَاُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾.
العلامة الثالثة لنبوّة عيسى ابن مريم انه كان يخبرهم بما لديهم من أطعمة وأغذية في بيوتهم ويخبرهم بما يأكلون من طعام وشراب كلُّ ذلك بتعليم الله تعالى.
وهذه الآية الشريفة تمثل ردّاً حاسماً على من ينكر الولاية التكوينية أو ينكر مشروعية التوسل ويتصور بأن ذلك يتنافى مع التوحيد الأفعالي، وعليه فإذا نسبنا هذه الأفعال إلى غير الله تعالى واعتقدنا بأن الإنسان يمكنه أن يؤثّر في عالم الأسباب والمسببات بإذن الله ومشيئته فإن هذا المعنى لا يتنافى مع التوحيد إطلاقاً.
لا تجوز العبادة لغير الله:
السؤال : لقد قلتم أن العبادة خاصّة بالله تعالى ولا ينبغي عبادة غير الله لأن ذلك يحسب من الشرك في حين أننا نجد في بعض الآيات القرآنية أنها تتحدّث عن السجود لغير الله تعالى من قبيل:
1 ـ ما ورد في قصة آدم وحواء عندما خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له:﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ اَجْمَعُونَ﴾. فلو كانت العبادة لغير الله تعالى شرك فلماذا ورد الأمر في هذه الآية الشريفة بالسجود لآدم ؟
2 ـ وفي سورة يوسف عندما تحرك الاُخوة مع الوالدين من الصحراء متوجهين إلى مصر بعد أن علموا بحياة يوسف، حيث يحدّثنا القرآن الكريم عن اللحظة التي التقى فيها هؤلاء بالنبي يوسف وقال: ﴿وَرَفَعَ اَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾.
فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب سجدوا ليوسف، فلو كان السجود لغير الله شركاً، فكيف نفسر ما ورد في هذه الآية الشريفة ؟
3 ـ عندما ورد بنو إسرائيل بيت المقدّس فإنّ الآية تذكر هذه الواقعة وأن بني إسرائيل سجدوا عند ورودهم المعبد في بيت المقدّس كما نقرأ ذلك في الآية 58 من سورة البقرة :﴿وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمحْسِنِينَ﴾.
والخلاصة أن هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن السجود لغير الله فكيف يتناغم ذلك مع التوحيد في العبادة ؟
الجواب: تقدم أن حرمة الشرك وعدم جواز السجود لغير الله واختصاص العبادة بالله تعالى إنّما هو قانون كلّي لا يقبل الإستثناء، فالشرك لا يمكن أن يتواءم مع التوحيد في أي مرتبة من مراتبه، وعليه فإنّ السجود الوارد في الآيات المذكورة لا يعني العبادة بل هو سجود الشكر والتعظيم لله تعالى على نعمه ومواهبه العظيمة.
عندما سجد الملائكة لآدم ففي الحقيقة أنهم سجدوا لله تعالى الذي خلق مثل هذا المخلوق العظيم، إذن فالسجود في الواقع كان لله تعالى ولكن بسبب خلق آدم.
وهكذا في اُخوة يوسف فإنهم سجدوا شكراً لله تعالى لأجل النعمة العظيمة التي أولاها الله تعالى لأخيهم يوسف، ولأجل نجاتهم من الحياة الصعبة والشاقّة في صحراء كنعان ورؤيتهم أخيهم بعد سنوات من الفراق وبالتالي انتقالهم إلى مصر ليعيشوا حياة طيبة ومرفهة وكريمة، فلأجل ذلك سجدوا شكراً لله تعالى، كما هو الحال في بني إسرائيل الذين سجدوا لله تعالى لا لمسجد بيت المقدّس.
عندما يقوم المسلمون والحجاج بأداء صلاة الجماعة حول الكعبة ويسجدون لله تعالى في صلاتهم هذه أمام بيت الله الحرام، فهل معنى هذا أنهم سجدوا للكعبة، أو أن أحداً من المسلمين لا يسجد للكعبة بل يسجد لله تعالى ويعبده وحده ولكن في مقابل الكعبة ؟
وعلى هذا الأساس فإنّ السجود في جميع الموارد هو لله تعالى، وفي الحقيقة هو مصداق بارز لعبادة الله رغم أن الدوافع قد تكون متفاوتة ومختلفة، والنتيجة هي أن الآيات الثلاثة المذكورة آنفاً لا تعدُّ استثناءاً من القاعدة الكليّة في توحيد العبادة.
……………………………………………………………………………………………………..
( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 16 – السنة الثانية – بتاريخ 9-11-2010 م – 3 ذو الحجة 1431 هـ.ق)
اللهم صل على محمد وآل محمد الائمه والمهديين وسلم تسليما
الأشاعرة والتفسير الخاطىء للتوحيد الأفعالي:
الأشاعرة وهم أحد مذاهب أهل السنّة عندما لم يستوعبوا الفهم الصحيح للتوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وأن الإنسان مجبور على أفعاله، لأنهم تصوروا إنّ الإنسان إذا كان مختاراً في أفعاله فإنّ ذلك يعني الشرك في دائرة التوحيد الأفعالي، في حين أن هذه العقيدة (وهو الجبر) تثير علامات الإستفهام في كافة اُصول العقيدة من النبوّة والقيامة والإمامة والعبادات التي أمر بها الإسلام.
والحقيقة أن الإنسان لو كان مجبوراً في أفعاله وكان يعيش فقدان الإرادة والإختيار في حركته في الحياة فما معنى مؤاخذته ومساءلته يوم القيامة ؟
كيف يمكننا توجيه عقاب المذنبين وثواب المطيعين في الحياة الآخرة ؟ لأن كلاً من المطيع والعاصي كانا يتحركان في سلوكهما من دون اختيار وإرادة، فلا المذنب اختار أن يكون مذنباً ولا المطيع اختار أن يكون مطيعاً، فلماذا إذن يستحق الأوّل العقوبة والثاني المثوبة ؟
إذا قلنا بالجبر فلا ينبغي لأي محكمة أن تعاقب المجرم على جريمته لأنه مجبور حسب الفرض على ذلك.
هل يصحّ أن نعاقب النار على إحراقها لإنسان بريء ؟
هل يعقل أن نحاكم البحر ونقضي عليه بالعقاب الصارم لأن إنساناً بريئاً غرق في مياهه ؟
هل يمكننا محاكمة الكهرباء فيما لو أدّت إلى قتل شخص بريء ؟
بديهي أن جواب هذه الأسئلة بالنفي وستكون مثل هذه المحاكمة مضحكة ومدعاة للسخرية، وهكذا حال الإنسان المجبور على أفعاله فإنه يكون حاله حال الماء والنار والكهرباء فيما لو أقدم على ارتكاب جريمة.
والملفت للنظر أن أصحاب هذه النظرية يخالفون نظريتهم في مقام العمل والممارسة، فلو أن أحداً صفعهم لرأيناهم يعترضون عليه، ولو أنّ لصاً دخل إلى بيوتهم وسرق منها شيئاً لقاموا بتقديمه إلى المحكمة، في حين أن الإنسان إذا كان مجبوراً وفاقداً للإرادة فلا معنى للاعتراض والشكاية، ولكننا نرى هذا التناقض بوضوح بين قول أصحاب عقيدة الجبر وبين أفعالهم وممارساتهم.
لعلّ الانسان يتصور أن هذه المطالب ما هي إلاّ أفكار وتوهمات تجول في مدارات الذهن فقط من دون أن يكون لها رصيد واقعي من الأشخاص المؤيدين لها، ولكن مع الأسف فهناك الكثير من الأشخاص المغفلين الذين يتحركون في دائرة العقيدة والمذهب من موقع الدفاع الشديد عن هذه النظرية الباطلة وقد كتبوا في ذلك كتباً متنوعة.
أجل، فإنّ هؤلاء الأشخاص عندما لم يستطيعوا إدراك مغزى التوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وغفلوا عن أن الله تعالى هو الذي وهب للإنسان الإختيار والإرادة، وعندما نقول أن الإنسان حرٌّ ومختار في أفعاله فإنما ذلك على أساس أنّ كلّ هذه الاُمور متصلة بالله تعالى وبمشيئته، وبذلك لا يكون هناك تقاطعاً بين اختيار الإنسان والتوحيد الأفعالي.
وقد ذهب الأشاعرة والجبرية إلى أكثر من ذلك، فقد أنكروا عالم الأسباب والمسببات وقالوا : إنّ النار لا تحرق أبداً بل الله تعالى هو الذي يحرق، وكذلك ذهبوا إلى أن الحجر لا يكسر الزجاج بل بمجرد أن يقترب منه ويمسه فإنّ الله تعالى يقوم بكسر الزجاج.
أجل، فإنهم أنكروا مثل هذه الاُمور البديهية بسبب تفسيرهم الخاطىء للتوحيد الأفعالي، بينما التوحيد الأفعالي لا يتنافى إطلاقاً مع إختيار الإنسان وإرادته، وكذلك لا يتنافى مع عالم الأسباب لأن الإرادة السببية في عالم المخلوقات كلّها تعود في الأصل إلى الله تعالى، فإنه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوّة والعقل والإختيار والإرادة، وبما أن هذه الاُمور جميعاً من الله تعالى إذن يصحّ نسبتها جميعاً إليه رغم أن الإنسان لا يتجرد من المسؤولية وحرية الإنتخاب في دائرة الفكر والعقيدة والممارسة.
ولأجل توضيح المطلب أكثر نضرب لذلك مثالاً :
عندما يدفع الأب بعض المال لولده لينفقه في مصارفه ومعيشته فالأب من جهة يمكنه في أي لحظة أن يأخذ هذا المال باعتباره ماله وملكه رغم أن الإبن إذا اشترى بهذا المال شيئاً فإن المسؤولية تقع عليه لا على الأب.
والنتيجة هي أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى مع اختيار الإنسان وإرادته ولا ينبغي أن نتصور أن ذلك يدخلنا في دائرة الشرك.
هل ينسجم التوسل مع التوحيد ؟
السؤال : لماذا يتصور الوهابيون أن التوسل هو نوع من الشرك ؟ وكيف يتقاطع التوسل مع أحد مراتب التوحيد المتقدّمة ؟ وهل أن التوسل يتنافى مع توحيد الذات، أو مع توحيد الصفات ؟
بلا شك أن التوسل لا يتنافي إطلاقاً مع توحيد الذات والصفات، و لکن هل يثير التوسل مشکلة في دائرة العبادات و التوحيد الأفعالي؟ إذا کان الجواب بالإيجاب من قبل الوهابيين فينبغي القول بأنهم وقعوا في إشتباه کبير لأن الشيعة عندما يتوسلون بالنبي أو الأئمة المعصومين أو القرآن الکريم لا يرون أن ذلك من العبادة لهولاء إطلاقاً کما هو الحال في عبادة المشرکين للأصنام و الأوثان و تصورهم أنها شفعاء لهم عند الله، بل نحن نطلب من هولاء الأولياء أن يتوسطوا لنا بما لديهم من جاه و مقام عند الله تعالی لحلًّ مشاکلنا و استجابة دعائنا، و علی هذا الأساس فإنّ الفرق بين التوسل و بين عبادظ المشرکين واضح جدّاً، و الشخص الذي يتصور أن توسل الشيعة إنما هو مثل عبادة المشرکين للأوثان في الحقيقة هو إنسان بعيد عن الإنصاف و جادة الصواب.
مضافاً إلى ذلك أن التوسل بالخشب والحجر لا يعود على الإنسان إطلاقاً بالنفع والضرر، وهذا المعنى لا يقبل القياس بالتوسل بالإمام والنبي والقرآن والتقرّب بهم إلى الله تعالى، والنتيجة هي أن التوسل لا يتنافى مع توحيد الذات ولا توحيد الصفات ولا التوحيد في العبادة. إذن فما هو مقصود الوهابيين من قولهم بأن التوسل شرك ؟ وما هي المرتبة من مراتب التوحيد التي يرون أنها تتنافى مع التوسل ؟
الجواب : الظاهر أن مقصود الوهابيين من أن التوسل شرك هو أنه يتنافى مع التوحيد الأفعالي، لأن الشخص الذي يتوسل بالنبي أو الإمام ويطلب منه حلّ مشكلته فإنه يرى أن غير الله تعالى له تأثير في عالم الخلق، ونعلم أن التأثير منحصر بالله تعالى ولو أن الإنسان اعتقد بأن غير الله يمكنه أن يؤثر في عالم الوجود فهو نحو من أنحاء الشرك.
والجواب على هذا الكلام هو أن الشيعة لا يرون للنبي والإمام والقرآن تأثيراً في عالم الخلقة في عرض الله تعالى، بل في طول القدرة الإلهية، ولا تكون قدرتهم مؤثرة إلاّ بإذن الله ومشيئته، وهذا المعنى لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي، نعم إذا قلنا إنّ النبي أو الإمام يؤثر في عالم الخلقة بالإستقلال «نعوذ بالله» فهذا هو الشرك، ولكن لا أحد يقول بهذا المعنى، فعندما نقول أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يشفع لنا عند الله ويتوسط في حلِّ مشكلاتنا ليكون الله تعالى هو الذي يحلّ هذه المشكلة أو يشافي المريض أو يرزق الفقير فإنّ ذلك ليس من الشرك بل هو عين التوحيد.
وبما أن هذا المعنى انعكس في دائرة المفاهيم القرآنية بوضوح فينبغي القول بأن هؤلاء الوهابيين لا يقبلون بالقرآن أيضاً، لأن الآية 49 من سورة آل عمران تردّهم ردّاً قاطعاً وتبطل إدعاءاتهم الفارغة واتهاماتهم الباطلة وذلك في قوله تعالى :﴿أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
فنرى أن عيسى (عليه السلام) يخاطب بني إسرائيل ويقول بانني بعثت رسولاً إليكم من قبل الله تعالى ومعي معجزة، ثمّ يذكر ثلاث معجزات :
1 ـ ﴿أَنّي اَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِاِذْنِ اللهِ﴾.
وهكذا نرى أن المسيح (عليه السلام) يقول بأنني أصنع لكم طيراً من طين ثمّ أنفخ فيه الحياة والروح فيتحول هذا التمثال الطيني إلى طائر حي بإذن الله، أي إنني لا أستطيع التأثير في هذه الأشياء في عرض قدرة الله ومشيئته بل إن قدرتي وتأثيري إنّما هي بإذن الله وليست مهمتي سوى أن أنفخ في هذا التمثال ليتحول إلى طائر فيه حياة وشعور بإذن الله.
2 ـ ﴿وَاُبْرِئُ الاْكْمَهَ وَالاْبْرَصَ وَاُحْيِ الْمَوْتى بِاِذْنِ اللهِ﴾.
المعجزة الاُخرى لعيس بن مريم (عليه السلام)هي شفاء المرضى المزمنين والأعمى والأبرص وإحياء الموتى، وطبعاً كلّ هذه الأعمال إنّما أقوم بها بمشيئة الله وإذنه ولا تتصوروا أنني إله أو ابن إله فلست سوى وسيلة لتحقيق هذه الأغراض، والمصدر الحقيقي هو الله تعالى، فإحياء الموتى وشفاء المرضى كلّها صادرة من ساحته المقدسة.
3 ـ ﴿وَاُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾.
العلامة الثالثة لنبوّة عيسى ابن مريم انه كان يخبرهم بما لديهم من أطعمة وأغذية في بيوتهم ويخبرهم بما يأكلون من طعام وشراب كلُّ ذلك بتعليم الله تعالى.
وهذه الآية الشريفة تمثل ردّاً حاسماً على من ينكر الولاية التكوينية أو ينكر مشروعية التوسل ويتصور بأن ذلك يتنافى مع التوحيد الأفعالي، وعليه فإذا نسبنا هذه الأفعال إلى غير الله تعالى واعتقدنا بأن الإنسان يمكنه أن يؤثّر في عالم الأسباب والمسببات بإذن الله ومشيئته فإن هذا المعنى لا يتنافى مع التوحيد إطلاقاً.
لا تجوز العبادة لغير الله:
السؤال : لقد قلتم أن العبادة خاصّة بالله تعالى ولا ينبغي عبادة غير الله لأن ذلك يحسب من الشرك في حين أننا نجد في بعض الآيات القرآنية أنها تتحدّث عن السجود لغير الله تعالى من قبيل:
1 ـ ما ورد في قصة آدم وحواء عندما خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له:﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ اَجْمَعُونَ﴾. فلو كانت العبادة لغير الله تعالى شرك فلماذا ورد الأمر في هذه الآية الشريفة بالسجود لآدم ؟
2 ـ وفي سورة يوسف عندما تحرك الاُخوة مع الوالدين من الصحراء متوجهين إلى مصر بعد أن علموا بحياة يوسف، حيث يحدّثنا القرآن الكريم عن اللحظة التي التقى فيها هؤلاء بالنبي يوسف وقال: ﴿وَرَفَعَ اَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾.
فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب سجدوا ليوسف، فلو كان السجود لغير الله شركاً، فكيف نفسر ما ورد في هذه الآية الشريفة ؟
3 ـ عندما ورد بنو إسرائيل بيت المقدّس فإنّ الآية تذكر هذه الواقعة وأن بني إسرائيل سجدوا عند ورودهم المعبد في بيت المقدّس كما نقرأ ذلك في الآية 58 من سورة البقرة :﴿وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمحْسِنِينَ﴾.
والخلاصة أن هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن السجود لغير الله فكيف يتناغم ذلك مع التوحيد في العبادة ؟
الجواب: تقدم أن حرمة الشرك وعدم جواز السجود لغير الله واختصاص العبادة بالله تعالى إنّما هو قانون كلّي لا يقبل الإستثناء، فالشرك لا يمكن أن يتواءم مع التوحيد في أي مرتبة من مراتبه، وعليه فإنّ السجود الوارد في الآيات المذكورة لا يعني العبادة بل هو سجود الشكر والتعظيم لله تعالى على نعمه ومواهبه العظيمة.
عندما سجد الملائكة لآدم ففي الحقيقة أنهم سجدوا لله تعالى الذي خلق مثل هذا المخلوق العظيم، إذن فالسجود في الواقع كان لله تعالى ولكن بسبب خلق آدم.
وهكذا في اُخوة يوسف فإنهم سجدوا شكراً لله تعالى لأجل النعمة العظيمة التي أولاها الله تعالى لأخيهم يوسف، ولأجل نجاتهم من الحياة الصعبة والشاقّة في صحراء كنعان ورؤيتهم أخيهم بعد سنوات من الفراق وبالتالي انتقالهم إلى مصر ليعيشوا حياة طيبة ومرفهة وكريمة، فلأجل ذلك سجدوا شكراً لله تعالى، كما هو الحال في بني إسرائيل الذين سجدوا لله تعالى لا لمسجد بيت المقدّس.
عندما يقوم المسلمون والحجاج بأداء صلاة الجماعة حول الكعبة ويسجدون لله تعالى في صلاتهم هذه أمام بيت الله الحرام، فهل معنى هذا أنهم سجدوا للكعبة، أو أن أحداً من المسلمين لا يسجد للكعبة بل يسجد لله تعالى ويعبده وحده ولكن في مقابل الكعبة ؟
وعلى هذا الأساس فإنّ السجود في جميع الموارد هو لله تعالى، وفي الحقيقة هو مصداق بارز لعبادة الله رغم أن الدوافع قد تكون متفاوتة ومختلفة، والنتيجة هي أن الآيات الثلاثة المذكورة آنفاً لا تعدُّ استثناءاً من القاعدة الكليّة في توحيد العبادة.
……………………………………………………………………………………………………..
( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 16 – السنة الثانية – بتاريخ 9-11-2010 م – 3 ذو الحجة 1431 هـ.ق)