من كتاب تفسير آية من سورة يونس (ع) للامام احمد الحسن اليماني (ع) :
(( تفسير الآية من سورة يونس
قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾([8]).
متى كان إيمان فرعون الذي جاء في قوله تعالى: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ؟؟
وللجواب هنا عدّة احتمالات هي:
1- أن يكون إيمان فرعون عندما رأى معجزة انفلاق البحر بعينه.
2- أن يكون إيمان فرعون بعد أن نزل إلى قاع البحر لملاحقة بني إسرائيل، ولكن قبل أن يطبق عليه الماء ويغرق فيه.
3- أن يكون إيمان فرعون بعد أن أطبق عليه الماء وغرق فيه، ولكن قبل أن يموت قطعاً، وهذا الاحتمال هو الذي اعتبره الصرخي حقيقة قرآنية يقينية، قال الصرخي: (....... بل الذي دفعه إلى قول آمنت هو الغرق ...........).
ولنضع الاحتمالات الثلاثة تحت طائلة النقد العلمي المستند إلى كلام الله سبحانه وتعالى المتقدّم، والواقع الفيزيائي للقول أو ما يلفظه الإنسان من كلمات، وسيكون الترتيب الاحتمال الأول ثم الثالث ثم أعود للاحتمال الثاني.
الاحتمال الأول: وهو إيمان فرعون حال رؤية انفلاق البحر.
وهذا الاحتمال غير صحيح؛ لقوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ ......﴾ ففرعون اتبع بني إسرائيل، أي: إنّه لم يكتفِ برؤية الانفلاق، بل أمر جيشه بالنزول إلى قاع البحر ومتابعة بني إسرائيل ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً﴾.
الاحتمال الثالث: أن يكون إيمان فرعون بعد أن أطبق عليه الماء وغرق فيه، ولكن قبل أن يموت قطعاً.
وهذا الاحتمال - الذي توهم الصرخي صحته - غير صحيح؛ لأنّ القول من الإنسان في هذا العالم المادي يعني لفظ الكلمات، ولا يمكن أن يتحقق دون الواسطة التي يلفظ فيها، وهي الهواء ومع إطباق الماء على فرعون تنعدم واسطة اللفظ وهي الهواء فلا يمكنه قول شيء.
كما يجب ملاحظة أنّ الماء المحيط بفرعون كان جبلين ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾([9]).ولك أن تتصور كم يحتاج من الوقت جبلان عظيمان عند انهيارهما الكلي لملئ ارتفاع أقصى طول للإنسان في عرض لا يتجاوز عدّة أمتار فقط، ومن درس الفيزياء يعلم أنّ ضغط الماء في قاعدة جبلي الماء هائل، وبالتالي لا يحتاج إطباق الماء على فرعون وجنوده عند انهيار الجبلين إلى دقائق أو حتى ثوانٍ، بل إنّ الأمر لا يتجاوز جزءاً ضئيلاً جدّاً من الثانية لا يكفي أن يلفظ الإنسان فيه عدّة أحرف فكيف يمكن تصور لفظه لأكثر من جملة ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
وأيضاً لابد من ملاحظة حال فرعون لما أطبق عليه الماء فقد كان مثقلاً بالحديد الذي تدرّع به كحال جنده أيضاً؛ لأنهم قد خرجوا لقتال بني إسرائيل فلا يمكن تصور أنه يطفو أو يسبح فتكون عنده فرصة لأنّ يقول شيئاً؛ لأنّ الحديد يمنعه من ذلك؛ ولأنّه مثقل بالحديد فقد كان خروج جثته من الماء بعد هلاكه آية من الله؛ لأنّ المفروض أن يبقيه الحديد في قاع البحر ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾([10]).
إذن لا يمكن أن يتصور عاقل أنّ فرعون بعد أن انهار الجبلان وغطّاه الماء ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
وأيضاً يؤكد عدم صحة هذا الاحتمال أنّ الله سبحانه وتعالى لم يقل: حتى إذا غرق قال آمنت، بل قال ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ﴾ أي: إنّ الغرق كان قريباً منه ملاصقاً له لا أنّه غرق فعلاً، وقد تحقق فرعون من إدراك الغرق له بلمسه لجبل الماء، ولمسه لواقع حاله وهو يسير على أرض في قاع البحر بين جبلي ماء يحيطانه.
وليتوضّح أكثر الفرق بين أدركه الغرق والغرق نفسه التفت إلى هذه الآية، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾([11]).
فهم يؤكدون أنّ فرعون وجنوده قد أدركوهم ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، مع أنّ فرعون وجنوده فقط اقتربوا منهم إلى درجة أن يتراءى الجمعان ولم يقعوا فيهم.
والاحتمال الثاني: وهو أن يكون إيمان فرعون بعد أن نزل إلى قاع البحر لملاحقة بني إسرائيل، ولكن قبل أن يطبق عليه الماء ويغرق فيه.
وهذا هو الصحيح، فقد نزل فرعون وجيشه إلى قاع البحر واتبع بني إسرائيل، ولكنّه في ملاحقته لبني إسرائيل أمر الله الرياح أن تضرب وجه الماء فتساقط بعض الماء على فرعون وجيشه فالتفت إلى أنّه يسير بين جبلي ماء يمكن أن يطبقا عليه في أي لحظة، ولمس جبلي الماء بيده فبانت له أمارات هلاكه وجيشه لما علم أنّ هذه المعجزة قاهرة، ولا يمكن أن تؤوّل بأنها سحر أو أي شيء آخر عندها ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
والإيمان مراتب؛ أولها: التصديق، وهذا القول من فرعون تصديق لا يمكن لإحد إنكاره بعد أن قصه جبار السماوات والأرض في كتابه الكريم، ومن ثم أكده بعد ذكره بقوله تعالى: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾([12]).
أي: الآن تؤمن بعد أن ألجأتك المعجزة القاهرة وقبل هذا كنت ترفض الإيمان ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾، كما أنّه وببساطة يفهمها أي إنسان لماذا قال فرعون آمنت إن لم يكن يرجو النجاة من الله دنيوياً وأخروياً، أو على الأقل كما يفهم بعضهم دنيوياً فقط ومن الغرق بالتحديد؟ وكيف يرجو أن ينجيه الله سبحانه وهو لا يصدق بوجوده؟
فإيمان (تصديق) فرعون لا يمكن إنكاره بحال، بل في أكثر من رواية شهد الأئمة بإيمانه (تصديقه) الذي لم ينفعه، وفي وسائل الشيعة عن مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (ع): (.. أَلَا تَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ ﴿حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ إِيمَانَهُ وَقَالَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ([13]).
بل وفي بداية إرسال الله موسى (ع) لفرعون (لعنه الله) أشار سبحانه وتعالى إلى أنّ فرعون سيتذكر ويخشى (وإن كانت هذه الذكرى والخشية من الله لم تنفعه؛ لأنها جاءت بسبب معجزة قاهرة ألجأته إلى الإيمان (التصديق).
محمد بن عمارة عن أبيه عن سفيان بن سعيد، قال: سمعت أبا عبد الله جعفـر بن محمد الصادق (ع) وكان والله صادقاً كما سمّي .............. قال سفيان: ( فقلت له: يا ابن رسول الله هل يجوز أن يطمع الله (عز وجل) عباده في كون ما لا يكون؟ قال: لا. فقلت: فكيف قال الله (عز وجل) لموسى وهارون (ع) ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى﴾([14])، وقد علم أنّ فرعون لا يتذكّر ولا يخشى؟ فقال: إنّ فرعون قد تذكّر وخشي، ولكن عند رؤية البأس حيث لم ينفعه الإيمان، ألا تسمع الله (عز وجل) يقول: ﴿حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فلم يقبل الله (عز وجل) إيمانه وقال: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ يقول نلقيك على نجوة من الأرض لتكون لمن بعدك علامة وعبرة) ([15]).
والبأس الذي رآه فرعون كما قال الإمام الكاظم (ع): (لا أنه وقع به فهو إلى أن قال آمنت ... لم يكن قد وقع به البأس)، هو المعجزة القاهرة التي ألجأته إلى الإيمان، وهي جبلا الماء اللذان يحيطانه، والذي أدرك فرعون أن هلاكه بانهيارهما ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ﴾.
ولو لم تكن هذه المعجزة القاهرة التي لمسها فرعون بيده والتي ألجأته للإيمان لقبل الله سبحانه وتعالى إيمان فرعون ورفع عنه البأس وأخرجه من البحر سالماً، أو على أقل تقدير لقبل إيمانه فقط، فالله سبحانه يقبل التوبة من الإنسان حتى آخر لحظة من حياته.
وأيضاً يجب ملاحظة أنّ فرعون قد سمع من موسى (ع)، وقبل مناظرة موسى (ع) وبما جاء به موسى (ع) من عند الله سبحانه، ففرعون أهون شرّاً بكثير من فراعنة وطغاة هذا الزمان لعنهم الله وأخزاهم في الدنيا والآخرة. ))
Comment