نشأة الأصولية: بين الإرهاب والسياسة
بروفايل : ما هي القراءة التاريخيّة التي تقدّمونها لنشأة المدرسة الأصوليّة؟
كان ابن الجنيد اول فقهاء الشيعة في القرن الرابع الهجري (تـ387هـ ) الذين مالوا الى الاجتهاد بمنحى المخالفين للمذهب والقول بالقياس والاستحسان فهجرت كتبه التي زادت على المائة وخمسين مؤلفاً
وتم مقاطعتها حتى اندرست ولا يوجد لها أثر في يومنا هذا حتى في المكتبات الخطية سوى محكيات عنه في بعض بطون الكتب .
وبعد معاودة نشأتها بقوة نجد انها مرت بعهدين :
العهد الأول بدأ مع بدايات القرن الثامن الهجري على يد العلامة الحلي (ت 726هـ) م واستمر حتى اوائل القرن العاشر,ولم يكن جنوح الفقهاء الى تبني هذا المسلك بقناعات راسخة وفي ظروف طبيعية بل كان زلة وغفلة واضطرار بسبب أمرين رئيسيين هما :
1 ـ كثرة مخالطتهم للمخالفين في المذهب من سائر المذاهب الأخرى وتأثرهم بأساليبهم ومحاكاتهم لهم في مناهجهم
2 ـ شحة مصادر التراث الشيعي الفقهي والروائي وعدم توافرها في متناول ايديهم مما نتج عنه استسلاق نصوص و مناهج غيرهم الاستدلالية وعلى رأسها اصول الفقه .
ولهذا يصح لنا اطلاق الأصولية البريئة على اتباع هذا المسلك حيث يستدل الكثير من فقهاء الأخباريين بأقوال علمائها على صحة مسلك الأخباريين الأمر الذي يكشف عن كونها اصولية شكلية طارئة ولهذا نجدهم في مقام الاستدلال يخالفون تلك المباني
كما يقول الشيخ يوسف في المقدمة 12 من الحدائق :
، فان الاجماع وان ذكره المجتهدون في الكتب الاصولية وعدوه في جملة الادلة وربما استسلفوه في الكتب الاستدلالية ، الا انك تراهم في مقام التحقيق في الكتب الاستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود مدلوله حتى يضمحل اثرة بالكلية ...... واما دليل العقل فالخلاف في حجيته بين المجتهدين موجود في غير موضع ، والمحققون منهم على منعه . .
وانتهى هذا العهد في العراق وايران والحجاز وجبل عامل في لبنان واصبح اتباعها قلة وفي زوايا الخمول والانكفاء على يد الأمين الاسترابادي من خلال انتشار تداول كتابه الفوائد المدنية وعاودت المدرسة الأخبارية احكام سيطرتها في ايران والعراق وجبل عامل والبحرين وكان من ابرز اقطاب تلك المرحلة في ايران العلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار والفيض الكاشاني صاحب الوافي والحر العاملي صاحب الوسائل والشيخ حسين الكركي والسيد نعمة الله الجزائري و في البحرين السيد هاشم البحراني صاحب البرهان في تفسير القرآن والشيخ عبدالله بن نور الجدحفصي صاحب عوالم العلوم والشيخ يوسف صاحب الحدائق والشيخ حسين آل عصفور.
بروفايل : وماذا عن العهد الثاني للمدرسة الأصولية؟
وأما العهد الثاني للمدرسة الأصولية فقد بدأ في القرن الثاني عشر في زمن الشيخ يوسف ال عصفور في مدينة كربلاء واستمرت الى يومنا هذا في ثلاث حقب :
الحقبة الأولى : الحقبة الإرهابية الدموية
لم تستعد المدرسة الأصولية مجدها بحركة علمية بل بانتهاج اسلوب ارهابي دموي هتكت فيه كل الحرمات وازهقت الانفس واريقت الدماء بسبب رفض عامة الناس وخاصتهم لأفكار هذه المدرسة بعد استحكام البصيرة في عقولهم بمنهج اهل البيت .
وقد سجل التاريخ وقائع تلك المأساة التي بدأت على يد المسمى بالوحيد البهبهاني الذي عاش في الفترة (1116 – 1206هـ) ضد زعيم الاخباريين الشيخ يوسف ال عصفور بعد الوشاية ضده لدى حاكم كربلاء ووضع الجنود تحت امرته للانتقام منه كما يشير اليه الأنصاري في كتابه العلماء حكام على الملوك حيث قام البهبهاني بمطاردة فلول الأخباريين في كربلاء وضواحيها و بتصفيتهم جسدياً اذا اقتضى الأمر.
و أخلفه تلميذه المدعو جعفر كاشف الغطاء ( ت 1228 هـ ) وبدأها هو الآخر بقتل الميرزا محمد الاخباري زعيم الأخباريين في وقته مع جمع من ابنائه وتلامذته بعد الهجوم عليه على غفلة في بيته وصلبه ثلاثة ايام ليعتبر الآخرون به ثم توالت المجازر تلو الأخرى في كل مكان في النجف وكربلاء والكاظمية وهاهو المدعو محمد حسين كاشف الغطاء يفتخر بما فعله جده بهم في كتابه العبقات العنبرية في طبقات الجعفرية في قوله : فلم يزل ( أي جده جعفر كاشف الغطاء ) يستقصيهم فيفنيهم وينفيهم .
نعم هكذا يتبجح الجناة بسفكهم دماء الأخباريين وهتك حرماتهم وما ذنبهم الا التمسك بكتاب الله وسنة رسوله ومنهج اهل البيت
و يصف تلك المرحلة الميرزا الأخباري نفسه في كتابه الرجالي عند ترجمته للبهبهاني: وكان كثير التشنيع على المحدّثين ، وبه اندرست أعلام أحاديث الأئمة المعصومين عليهم السلام ، وطالت ألسنة المعاندين ، بشتم الأخباريين حتى آل الأمر بتعدادهم من المبتدعين ، وأفتى بإخراجهم مع العجز عن قتلهم فقيه المروانيين . وصار المحدّث الصارف عمره بقال الله وقال الرّسول ، أذلّ من اليهود والمجوس وأصحاب الحلول)
الحقبة الأصولية الثانية
ويمكن تسميتها بحقبة الأصولية المستغفلة المغرر بها حيث ينشأ اتباعها اصوليين لا بالاختيار بل بالاضطرار و في أجواء تم تكييفها للانغلاق على انفسهم لاعلم لهم بحقيقة مسلكهم ونشأته .
وقد انتهت هذه الحقبة بانكفاء المدرسة الأصولية ثانياً وانحصارها في بعض الحواضر كالنجف حيث حافظت على سيطرتها عليها ونشر افكارها من خلال من يفد اليها للتتلمذ وأما مدينة قم فكانت سيطرتها عليها شكلية وكذا الحال في الحوزات العلمية الأخرى .
واما شعوب الدول المطلة على الخليج بضفتيه الفارسية والعربية فنجد أن مرجعية الشيخ يوسف والشيخ حسين من ال عصفور كانتا اكبر مرجعيتين للمدرسة الأخبارية في تاريخ التشيع في هذه المنطقة قد تمكنت من الحفاظ على بسط سيطرتها التامة عليها وامتدت لأكثر من قرنين من تلك الفترة حتى قبل انتصار الثورة في ايران.
الحقبة الأصولية الثالثة ويمكن تسميتها بالأصولية السياسية
وبدأت هذه الحقبة مع انتصار الثورة الاسلامية في ايران بزعامة السيد روح الله الخميني طاب ثراه وقد عمل اقطابها السياسيون على نشر افكار هذه المدرسة عبر انشاء حوزات دينية في أكثر المدن الايرانية وكذلك انشاء اكثر من مائة وخمسين حوزة دينية في افريقيا واوربا وشرق آسيا .
لقد وقف جميع الأخباريين في جميع مدن ايران لاسيما في خوزستان حيث يعملون في حقول النفط الرئيسية الى جانب قيادة السيد الخميني وساهموا بكل مايملكون لنصرة الثورة واسقاط نظام الشاه
وكذلك في البحرين والمنطقة الشرقية للسعودية والكويت حيث قامت الآلاف من نسائهم بالتبرع بكل مايمتلكون من حلي ومجوهرات وارسالها لمكتب السيد الخميني في طهران وكذلك قاموا بجلب الحقوق الشرعية وتبرعات نقدية تقدر بالملايين من الدولارات لنفس المكتب كأقل ما يمكن لنصرة الثورة وتقوية نظامها الحديث النشأة لكن من سوء الطالع انه بعد استقرار نظام الحكم الاسلامي وبعد اعتماد الجهاز الاعلامي للدولة لكتب الشيخ مرتضى مطهري كأكبر شخصية منظرة لثقافة وايدلوجية مابعد الثورة لماتمتلك من ابداع فكري وثقافي عقائدي هو احتواؤها على نظرة متطرفة غريبة وبعيدة كل البعد عن الحقائق العلمية والواقعية عن المدرسة الأخبارية الأمر الذي افرز نظرة متطرفة تلقائية ضدهم وانعكست على الواقع في كل وسائل الاعلام الداخلي والخارجي و في الحوزات الدينية حيث ترجمت كتبه للغات الحية في العالم وروج لها.
وبدل الاشادة بأياديهم البيضاء و والعرفان لمساهماتهم الجليلة في انتصار الثورة وفي الوقت الذي فتحت الجمهورية في سياستها الداخلية والخارجية ابوابها للدعوة للتقريب بين المذاهب الاسلامية نجد استفحال سياسة الازدراء والتشويه واساليب المضايقة والعزل ضد الأخباريين تتخذ منحى آخر وكأنهم غرباء وألد الاعداء .
بروفايل: وكيف هو وضع الاتجاه الأخباري في إيران اليوم؟
الأخباريون منتشرون في جميع انحاء ايران في قم وطهران ومشهد وتبريزواروميه واصفهان واراك وخوزستان وبوشهر وكازرون وغيرها
وقبل خمس سنوات حدثت أمور هامة منها ثلاثة جديرة بالتنبيه:
أولها قيام الشيخ الوحيد الخراساني أحد ابرز مراجع التقليد في قم بتخصيص درس في حلقته في المسجد الأعظم للهجوم على الفلسفة والمنطق وتنبيه الطلاب من مفاسدها على الشريعة وعامة الناس واصدار بيان يطالب بحماية الحوزة من مفاسدها وآثارها الضارة .
ثانيها مجاهرة الشيخ علي المشكيني رئيس مجلس الخبراء باعلان اخباريته و اصداره رسالة عملية لمقلديه أسماها الفقه المأثور واورد في حاشية كل صفحة النص الروائي الذي يدل على الحكم الذي يفتي به من كتاب الوسائل
ثالثها قيام مركز التحقيقات الكمبيوترية التابع لمكتب قائد الثورة الايرانية السيد علي الخامنئي بأمرين هامين اولهما جمع تراث علماء الشيعة والذي يمثل أغلبه مصنفات علماء المدرسة الأخبارية في اقراص الليزر والترويج لها بقوة , وثانيهما انشاء كلية علوم الحديث في مدينتي الري وقم .
يضاف الى ذلك الحركة النشطة الضخمة لأكثر من ستمائة مركز تحقيق ونشر للتراث تعمل في قم وطهران واصفهان ومشهد في اعادة تراث علماء الشيعة والذي يمثل 95 % منه تراث علماء المدرسة الأخبارية وترجمة كتب الحديث للغة الفارسية .
وهذه الأمور بلا شك بمثابة بشائر تلوح بالأفق بأن هذه الأصولية السياسية سينبثق عنها في خلال العشر السنوات القادمة على اقل التقادير اعادة مجد المدرسة الأخبارية بقوة وعودتهم بعد اثبات أصالتهم وتفوقهم على المدرسةالأصولية بجدارة من خلال احياء تراثهم الضخم .