مختصر كتاب "التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي "
للدكتور علي شريعتي
(1933 –1977)
ترجمة الدكتور علي شريعتي
(1933 – 1977 )
تمهيد :
الإسلام دين تجلي للبشرية في صورة (لا ) صدع بها وارث إبراهيم ، ومظهر دين توحيد الخالق ، ووحدة الخلق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، (لا ) بها يبتدئ شعار التوحيد ، ومنها ينطلق الإسلام في مواجهة الشرك والإلحاد ، دين أصحاب المصالح والسلطة والجاه .
والتشيّع بمثابة (لا ) ثانية صدع بها علي . وإلى العهد الصفوي ، ظلت كلمة الرفض (لا ) هي المعلم الرئيسي الذي يميز بين الموالين لأهل البيت وأنصار علي وأتباعه وبين غيرهم.
ولكن مع مجيء الصفوية تبلور عندنا تشيّع جديد لا علاقة له بالأئمة ، وإن جعل منهم غطاءً يمرر من خلالهم كل بدعه وانحرافاته .
ومن أجل ذلك كانت هذه المحاضرات ([1])، واعتذر في البداية لعدم قدرتي حصر الكلام في مدة محدودة ، وسيكون المخاطب الرئيسي في كلامي هو طلبة الجامعة ، والأشخاص الذين في مستواهم الفكر ي وهمّي هو بيان المبادئ العامة لكلا المذهبين والمدرستين ، مدرسة التشيّع العلوي ، ومدرسة التشيّع الصفوي ضمن مواصلتي لسلسلة (تاريخ الأديان ) .
ولكن دعوني أولاً أن أتعرض لمبدأ من مبادئ علم الاجتماع ، سيكون له دور في توضيح المواضيع اللاحقة:
مبدأ الحركة والنظام :
ثمة مبدأ يتم التعاطي معه كثيراً على صعيد علم الاجتماع ، وهو مبدأ تحول الحركة إلى نظام
( Movement to Instirtution)، وحاصله أنه تظهر أحياناً في المجتمع حركة تحمل أفكاراً وعقائد وتطلعات عادة ما يكون وراءها عناصر شابه تنشط في التحرك وتميل إلى التغيير والتجديد .
و يوظف أتباع الحركة أو النهضة كل حركاتهم وأفكارهم لخدمة الهدف الذي يصبون الى تحقيقه ،ويجعلون كل شيء بمنزلة الوسيلة إلى تحقق ذلك الهدف الذي قامت النهضة من أجل الوصول إليه ،
ولكن هذه النهضة بمجرد وصولها إلى حد معين واصطدامها بعراقيل وموانع ذاتية أو خارجية تبدأ بالتوقف والجمود وتنسلخ عن طابعها الحركي التغييري ، وهاهنا تبدأ الأزمة .
لقد كان علي مرآة ( العدل المظلوم ) والمجسد الواقعي للحقيقة التي تضافرت الحكومات على خنقها وحكم عليها الدين الرسمي للدولة بالطمس والكتمان ، وأعرض الشيعي عن المساجد الفاخرة والقصور العامرة التي شيدها خلفاء الإسلام ، ووجد ضالّته في بيت فاطمة ، المشيد من الطين .
الشيعة الأوائل كانوا أقلية محكومة ومضطهدة لا تقدر على ممارسة طقوسها بحرية وعلانية ،ولم يكن يحق للشيعي أن يزور الإمام الحسين في كربلاء أو حتى أن يأتي بإسمه على لسانه، كان دائماً تحت المطاردة وملازماً للتقية خوفاً من خطر القتل والسجن والتعذيب ،أما الآن –أي بعد قيام الدولة الصفوية – فقد تحول الوجود الشيعي إلى قوة كبرى تحكم البلاد وتقع تحت إمرتها أقوى الأجهزة الرسمية ، والحاكم الذي كان يقمع الشيعة بشدة ويعتقل كل من يشك بولائه وحبه لعليّ ويعذبه ويقتله، بات الآن من أكبر المدافعين عن التشيع وأكبر المتظاهرين بالولاء لأهل البيت حتى أنه يفتخر باعتبار نفسه (كلباً) للحضرة الرضوية يا له من انتصار!
الحاكم الذي كان يطارد الشيعة ويعتبرهم أعدى أعدائه طوال ألف عام ، نراه اليوم يضع نعليه على رقبته ويذهب من أصفهان إلى مشهد – حيث ضريج الإمام الرضا- سيراً على الأقدام ، يا له من انتصار .
الحاكم الذي كان يحول دون زيارة قبور الأئمة ويحاول مراراً تخريبها ، هو الآن يشيّد مراقدهم بأبهى صورة ، القبة من الذهب والضريح من الفضة والمئذنة من السيراميك ، يا له من انتصار !
والزيارة التي كان يتلهف الشيعي إليها ويجازف بنفسه متحملاً آلاف الأخطار و الأضرار من قبل الحكومة لأجل أن يوصل نفسه إلى مشهد أو كربلاء ، أمست الآن مظهراً رسمياً تشجع عليه الدولة وتكرم فاعله كما لو أنه ذهب إلى بيت الله الحرام وربّما أفضل ، وتمنحه لقب المشهدي أو الكربلائي أسوة بمن يعود من الحج .. يا له من انتصار !
أما العلماء ورجال الدين الذين كانوا على الدوام في معرض الخطر والمواجهة مع السلطات ويتعرضون لأبشع أنواع الظلم والتنكيل هاهم اليوم معززون مكرمون مرفهون يعيشون في ظروف جيدة للغاية ويجلسون جنباً إلى جنب السلطان على فراشه الوثير ، وقد يستشيرهم في كثير من الأمور المتعلقة بمستقبل البلاد ،بل إن السلطان لا يرى لنفسه قدرة وسلطة إلاّ بمقدار ما يخوله رجل الدين بالنيابة عن الإمام صاحب الزمان ، ياله من انتصار!
ومن هذا الموقع العلوي والحافل بالانتصارات بدأت هزيمة التشيع !
ومن اللحظة التي زالت فيها جميع الموانع والعراقيل بوجه أداء طقوسه العبادية والمذهبية ،وتحول الأعداء إلى أصدقاء ومؤيدين ، توقف الشيعي عن الحركة ليتحول الى وجود اجتماعي غالب وحاكم وجامد وراكد ! وهاهنا يتجسد بوضوح تبدل الحركة إلى نظام .
للتشيع حقبتان تاريخيتان بينهما تمام الاختلاف ؛ تبدأ الأولى من القرن الأول الهجري حيث كان التشيع معبّراً عن الإسلام الحركي في مقابل الإسلام الرسمي والحكومي الذي كان يتمثل في المذهب السني ، وتمتد هذه الحقبة إلى أوائل العهد الصفوي ، حيث تبدأ الحقبة الثانية التي تحول فيها المذهب الشيعي من تشيع حركة ونهضة إلى تشيع حكومة ونظام .
[1]([1] ) هذا الكتاب كان في الأصل محاضرة ألقاها د. شريعتي في حسينية الإرشاد بطهران عام 1971 ، ولا شك أن أسلوب الخطابة يختلف جذرياً عن أسلوب الكتابة ، وكذلك بسبب الترجمة من الفارسية بقيت لغة الكتاب غير سهلة دائماً
للدكتور علي شريعتي
(1933 –1977)
ترجمة الدكتور علي شريعتي
(1933 – 1977 )
تمهيد :
الإسلام دين تجلي للبشرية في صورة (لا ) صدع بها وارث إبراهيم ، ومظهر دين توحيد الخالق ، ووحدة الخلق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، (لا ) بها يبتدئ شعار التوحيد ، ومنها ينطلق الإسلام في مواجهة الشرك والإلحاد ، دين أصحاب المصالح والسلطة والجاه .
والتشيّع بمثابة (لا ) ثانية صدع بها علي . وإلى العهد الصفوي ، ظلت كلمة الرفض (لا ) هي المعلم الرئيسي الذي يميز بين الموالين لأهل البيت وأنصار علي وأتباعه وبين غيرهم.
ولكن مع مجيء الصفوية تبلور عندنا تشيّع جديد لا علاقة له بالأئمة ، وإن جعل منهم غطاءً يمرر من خلالهم كل بدعه وانحرافاته .
ومن أجل ذلك كانت هذه المحاضرات ([1])، واعتذر في البداية لعدم قدرتي حصر الكلام في مدة محدودة ، وسيكون المخاطب الرئيسي في كلامي هو طلبة الجامعة ، والأشخاص الذين في مستواهم الفكر ي وهمّي هو بيان المبادئ العامة لكلا المذهبين والمدرستين ، مدرسة التشيّع العلوي ، ومدرسة التشيّع الصفوي ضمن مواصلتي لسلسلة (تاريخ الأديان ) .
ولكن دعوني أولاً أن أتعرض لمبدأ من مبادئ علم الاجتماع ، سيكون له دور في توضيح المواضيع اللاحقة:
مبدأ الحركة والنظام :
ثمة مبدأ يتم التعاطي معه كثيراً على صعيد علم الاجتماع ، وهو مبدأ تحول الحركة إلى نظام
( Movement to Instirtution)، وحاصله أنه تظهر أحياناً في المجتمع حركة تحمل أفكاراً وعقائد وتطلعات عادة ما يكون وراءها عناصر شابه تنشط في التحرك وتميل إلى التغيير والتجديد .
و يوظف أتباع الحركة أو النهضة كل حركاتهم وأفكارهم لخدمة الهدف الذي يصبون الى تحقيقه ،ويجعلون كل شيء بمنزلة الوسيلة إلى تحقق ذلك الهدف الذي قامت النهضة من أجل الوصول إليه ،
ولكن هذه النهضة بمجرد وصولها إلى حد معين واصطدامها بعراقيل وموانع ذاتية أو خارجية تبدأ بالتوقف والجمود وتنسلخ عن طابعها الحركي التغييري ، وهاهنا تبدأ الأزمة .
لقد كان علي مرآة ( العدل المظلوم ) والمجسد الواقعي للحقيقة التي تضافرت الحكومات على خنقها وحكم عليها الدين الرسمي للدولة بالطمس والكتمان ، وأعرض الشيعي عن المساجد الفاخرة والقصور العامرة التي شيدها خلفاء الإسلام ، ووجد ضالّته في بيت فاطمة ، المشيد من الطين .
الشيعة الأوائل كانوا أقلية محكومة ومضطهدة لا تقدر على ممارسة طقوسها بحرية وعلانية ،ولم يكن يحق للشيعي أن يزور الإمام الحسين في كربلاء أو حتى أن يأتي بإسمه على لسانه، كان دائماً تحت المطاردة وملازماً للتقية خوفاً من خطر القتل والسجن والتعذيب ،أما الآن –أي بعد قيام الدولة الصفوية – فقد تحول الوجود الشيعي إلى قوة كبرى تحكم البلاد وتقع تحت إمرتها أقوى الأجهزة الرسمية ، والحاكم الذي كان يقمع الشيعة بشدة ويعتقل كل من يشك بولائه وحبه لعليّ ويعذبه ويقتله، بات الآن من أكبر المدافعين عن التشيع وأكبر المتظاهرين بالولاء لأهل البيت حتى أنه يفتخر باعتبار نفسه (كلباً) للحضرة الرضوية يا له من انتصار!
الحاكم الذي كان يطارد الشيعة ويعتبرهم أعدى أعدائه طوال ألف عام ، نراه اليوم يضع نعليه على رقبته ويذهب من أصفهان إلى مشهد – حيث ضريج الإمام الرضا- سيراً على الأقدام ، يا له من انتصار .
الحاكم الذي كان يحول دون زيارة قبور الأئمة ويحاول مراراً تخريبها ، هو الآن يشيّد مراقدهم بأبهى صورة ، القبة من الذهب والضريح من الفضة والمئذنة من السيراميك ، يا له من انتصار !
والزيارة التي كان يتلهف الشيعي إليها ويجازف بنفسه متحملاً آلاف الأخطار و الأضرار من قبل الحكومة لأجل أن يوصل نفسه إلى مشهد أو كربلاء ، أمست الآن مظهراً رسمياً تشجع عليه الدولة وتكرم فاعله كما لو أنه ذهب إلى بيت الله الحرام وربّما أفضل ، وتمنحه لقب المشهدي أو الكربلائي أسوة بمن يعود من الحج .. يا له من انتصار !
أما العلماء ورجال الدين الذين كانوا على الدوام في معرض الخطر والمواجهة مع السلطات ويتعرضون لأبشع أنواع الظلم والتنكيل هاهم اليوم معززون مكرمون مرفهون يعيشون في ظروف جيدة للغاية ويجلسون جنباً إلى جنب السلطان على فراشه الوثير ، وقد يستشيرهم في كثير من الأمور المتعلقة بمستقبل البلاد ،بل إن السلطان لا يرى لنفسه قدرة وسلطة إلاّ بمقدار ما يخوله رجل الدين بالنيابة عن الإمام صاحب الزمان ، ياله من انتصار!
ومن هذا الموقع العلوي والحافل بالانتصارات بدأت هزيمة التشيع !
ومن اللحظة التي زالت فيها جميع الموانع والعراقيل بوجه أداء طقوسه العبادية والمذهبية ،وتحول الأعداء إلى أصدقاء ومؤيدين ، توقف الشيعي عن الحركة ليتحول الى وجود اجتماعي غالب وحاكم وجامد وراكد ! وهاهنا يتجسد بوضوح تبدل الحركة إلى نظام .
للتشيع حقبتان تاريخيتان بينهما تمام الاختلاف ؛ تبدأ الأولى من القرن الأول الهجري حيث كان التشيع معبّراً عن الإسلام الحركي في مقابل الإسلام الرسمي والحكومي الذي كان يتمثل في المذهب السني ، وتمتد هذه الحقبة إلى أوائل العهد الصفوي ، حيث تبدأ الحقبة الثانية التي تحول فيها المذهب الشيعي من تشيع حركة ونهضة إلى تشيع حكومة ونظام .
[1]([1] ) هذا الكتاب كان في الأصل محاضرة ألقاها د. شريعتي في حسينية الإرشاد بطهران عام 1971 ، ولا شك أن أسلوب الخطابة يختلف جذرياً عن أسلوب الكتابة ، وكذلك بسبب الترجمة من الفارسية بقيت لغة الكتاب غير سهلة دائماً
Comment