الحركة المهدوية وحرب فقهاء آخر الزمان
أبو محمد الأنصاري
قضية الإمام المهدي (ع) من ألفها الى يائها قضية عقائدية كما هو معروف ، ومناقشتها أو البحث بها لابد إذن أن ينتهج المنهج العقدي ، بيد أننا وللأسف الشديد كثيراً ما نصادف من يركب منهج المغالطة ، ويسف يميناً وشمالاً مبتعداً ما وسعه الإبتعاد عن المنهج الصحيح في المعالجة .أبو محمد الأنصاري
وإذا كانت الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك غير العلمي وغير الموضوعي بالنسبة للمفكرين العلمانيين يختصرها عدم إيمانهم بأصل قضية الإمام المهدي (ع) وبمناهج السماء ، فيلجأون الى تفسير المسألة على أنها ظاهرة إنسانية يمكن أن تخضع لمناهج التفسير النفسي والإجتماعي وحتى الأسطوري ! وعلى الرغم من إخفاقهم الواضح حتى في هذا الجانب ، إذ يمكن ببساطة نقض ما يحسبونه تفسيراً محكماً برد شيوع هذه العقيدة ورسوخها في الذهنية العامة لمجتمعات متباعدة ، لا توجد بينها صلات مثاقفة ، الى تثقيف عشرات آلاف الأنبياء والأوصياء والصالحين بها من جهة والأصل الفطري لها من جهة أخرى ، أقول فإن ما يثير الإستغراب حقاً ويملئ القلب ألماً هو تبني من يزعمون الإيمان بالإمام المهدي (ع) لنفس مناهج غير المؤمنين به ، فيحاولون إرجاع كل حديث عن الإمام المهدي (ع) الى الضيق والضنك والظلم الذي يحيط بالناس ، وليتهم يكتفون بهذا الحديث ، ولكنهم يأبون إلا نصب العداوة لكل دعوة تبشر الناس بظهور الإمام ، وينسبونها الى الخرافة والجهل والعمالة الى الجهات الأجنبية ، وطلب الجاه والمنصب وحب المال وغيرها من التهم التي يمتلئ بها جرابهم ، ويعرفونها في أنفسهم ( رمتني بدائها وانسلت ) ، وكل ذلك من أجل التعمية على الحقيقة وصرف أذهان الناس عن استبيان الدليل الشرعي الذي تستند عليه الدعوة المهدوية المباركة ، بعد أن عجزوا عن مقارعتها الحجة بالحجة والدليل بالدليل ، بل إن غايتهم إبعاد الناس عن كل ما يمت للمهدي بصلة من أجل الإبقاء على عروشهم وكروشهم والدنيا العريضة التي احتوشوها بالباطل ، فتراهم يصورون زمن الظهور بعيداً ، غافلين أو متغافلين عن حقيقة إن الإمام المهدي (ع) حقيقة موجودة وتتحرك على الأرض ، بل إن الروايات تحفز على الإنتظار والترقب الدائم لحضوره وفي كل وقت ، ولكنهم في الحقيقة ، وهنا مربط الفرس كما يقال ، قد استغلوا غيابه أو غيابهم عنه بالأحرى فانتهبوا ماله وجاهه ومنصبه وأكلوا الدنيا باسمه وضيعوا الدين ، زاعمين أن انتظاره وترقب دولته سلبية أضرت بالشيعة على طول العصور وجعلت منهم فريسة سهلة لحكام الجور .
والحقيقة إن ما أسموه انتظاراً إيجابياً لم يكن في حقيقته سوى عدوان على تراث الإمام وتغييب له ، فباسم هذا الانتظار المزعوم الذي يخالف مفهوم الإنتظار الحقيقي ظاهراً وباطناً ابتدعوا لهم علوماً حكّموا من خلالها عقولهم بالشريعة ، وسولت لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أنهم نواب عامون عن الإمام (ع) ، وولاة لأمر الأمة ، وكأن الإمام عاجز عن ايصال تكليفه لشخص ينوب عنه أو إنهم أحرص منه على الأمة ، وأنهم لا يحتاجون للإمام ولو غاب عنهم ملايين السنين كما زعم احدهم من أصحاب العمائم السود {مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً }الكهف5 ، بينما الإنتظار في الحقيقة هو موقف سلبي من الحكومات الطاغوتية ، وموقف إيجابي بالنسبة للدين والمبدأ ، فالشيعية المنتظرون لا يتعاونوا مع هذه الحكومات ولا يعينوها ولو بقشة ، يرفدهم إيمان وعمل صالح يعجل بفرجهم وظهور إمامهم ، إذ ليس غيابه سوى موقف تأديبي منه (ع) لهم لأنهم لا يريدونه بينهم ، وقد تحدثت عن أسباب غيبته (ع) في مقال سابق ولا بأس من الإعادة عسى أن تصادف قلباً حياً .
وللإجابة عن سبب غيابه (ع) هناك عدة فروض منها :-
1- الخوف من اغتياله من قبل الطواغيت:- وهذا يمكن أن يكون صحيحاً إذا كان الإمام ظاهراً للجميع ، أما إذا كان غائباً غيبة غير التامة ، أي بوجود سفير فيكون الإمام (ع) بعيد عن أعين الطواغيت ومكرهم السيئ ، خصوصاً انه (ع) مؤيد من الله. وفي نفس الوقت يتصل بالمؤمنين، ويوصل إليهم الأحكام الشرعية والتوجيهات التي يحتاجونها ، أذن للتخلص من خطر الطواغيت يكفي الغيبة غير التامة مع السفارة ، فلا داعي للغيبة التامة ، والله اعلم .
2- عدم وجود شخص مؤهل للسفارة والنيابة الخاصة عن الإمام (ع) :- حيث إن السفير عن الأمام يجب أن يتمتع بكثير من صفات الإمام (ع) ، فلا اقل من درجة عالية من الزهد والتقوى والورع ، ومخافة الله والمقدرة على إدارة شؤون الأمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، وان يكون فقيها ، أي انه على دراية بحديث المعصومين (ع) ، لا أن يكون فقيها بالمعنى المتعارف اليوم . فالسفير لا يقوم باستنباط الأحكام الشرعية ، بل هو مؤمن مخلص يقوم بنقل الأحكام الشرعية من الإمام (ع) إلى الأمة ، كما انه مع وجود سفير للإمام (ع) لا يجوز لأحد استنباط حكم فقهي برأيه ، وان كان فقيهاً جامعاً للشرائط المتعارفة اليوم . وهذا يمكن أن يكون سبباً للغيبة التامة ، ولكن عدم وجود شخص واحد مؤهل للسفارة أمر بعيد ، هذا وقد ورد في حديثهم (ع) ما معناه إن الإمام لا يستوحش من وحدته (ع) في زمن الغيبة مع وجود ثلاثين مؤمن من الصالحين .
3- إعراض الأمة عن الإمام (ع) :- وعدم الاستفادة منه استفادة حقيقية ، وعدم التفاعل معه كقائد للأمة . فتكون الغيبة التامة عقوبة للأمة ، وربما يكون من أهدافها إصلاح الأمة بعد تعرضها لنكبات ومآسي ، بسبب غياب القائد المعصوم . فتكون الغيبة الكبرى شبيهة بـ(تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء) أي أنها عقوبة إصلاحية ، الهدف منها خروج جيل من هذه الأمة مؤهل لحمل الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض ، جيل لا يرضى إلا بالمعصوم قائداً ، ولا يرضى إلا بالقرآن دستوراً وشعاراً ، ومنهاجاً للحياة .
قال أمير المؤمنين (ع) في وصف إعراض هذه الأمة عن الإمام والقران :-
(( وانه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيئٌ أخفى من الحق ولا اظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله !! وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا انفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيءٌ أنكر من المعروف ولا اعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حُملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذٍ وأهله منفيان طريدان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مأوىً !! . فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ومعهم وليسا معهم ، لان الضلالة لا توافق الهدى ، وان اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ! فلم يبق عندهم منه إلا اسمه ، ولا يعرفون إلا خطه وزبره !! ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثله وسموا صدقهم على الله فرية وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة )) .
والدال على إن (سبب الغيبة التامة) هو : أعراض الأمة عدة أمور منها :-
أ. التوقيعات الصادرة عنه (ع) عن طريق سفرائه قليلة جداً ، مما يدل على إن الأسئلة الموجهة إليه قليلة أيضاً ، ولعل قائل يقول إن التوقيعات كثيرة ، ولكن لم يصل لنا منها إلا هذا العدد الضئيل .
والحق إن هذا الاعتراض لا ينطلي على من تدبر قليلا ، فلو كانت التوقيعات كثيرة لوصل لنا منها الكثير ، وان ضاع منها شيء ، فحتما إن أحاديث الرسول (ص) ، والإمام الصادق ، والإمام الرضا (ع) لم تصل لنا جميعها . ولكن وصل لنا منها الكثير ، وأحاديث الإمام (ع) ليست ببدع من أحاديث الأئمة (ع) ، والظروف التي أحاطت بها ليست بأعظم من الظروف التي أحاطت بخطب الإمام أمير المؤمنين (ع) ، حتى وصل لنا منها كتاب (نهج البلاغة) . كما أن علماء الشيعة في زمن الغيبة الصغرى كانوا يهتمون في كتابة أحاديث الأئمة (ع) وعرض كتبهم على الإمام (ع) عن طريق السفراء ومن هذه الكتب (الكافي) للكليني ( رحمه الله ) فلماذا لم يهتم أحد منهم بكتابة التوقيعات الصادرة منه (ع) ؟! . والحقيقة أنهم اهتموا بكتابتها ، ولكنها قليلة . ويدل على إعراض الناس عن العلم والإمام ما قدم الكليني في كتابه الكافي . هذا والكليني عاش في زمن الغيبة الصغرى ، ومات في نهاية أيامها على الأصح فقد مات في شعبان سنة 329 هـ ق ، أي في نفس الشهر والسنة التي مات بها علي بن محمد السمري ، آخر السفراء الأربعة .
قال الكليني (رحمه الله) : ( أما بعد فقد فهمت ما شكوت اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأصوله ، حتى كاد العلم معهم إن يأزر كله ، وينقطع مواده ، لِما قد رضوا إن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله ) .
ب . ورد عنهم (ع) انه مظلوم وانه اخملهم ذكرى : قال الباقر (ع) (الأمر في أصغرنا سناً وأخملنا ذكراً) . فخمول ذكره بين الشيعة دال على أعراضهم عنه (ع) .
ج . خرج منه (ع) توقيع إلى سفيره العمري جاء فيه (( … وأما علة ما وقع من الغيبة فان الله عز وجل قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }(المائدة : 101) )) . وربما يفهم من هذا الحديث أنكم سبب من أسباب الغيبة ، والحر تكفيه الإشارة . وبعد جوابه على مسائل الحميري التي سألها قال (ع) ( بسم الله الرحمن الرحيم لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )) .
ولا يخفى ما في كلامه (ع) من ألم ، سببه إعراض هذه الأمة عن الحق وعنه (ع) ، ونحن لو كنا موقنين أنه حجة الله علينا لعملنا ليلا ونهاراً لتعجيل فرجه ، ولقدمناه على النفس والمال والولد .
سبب الغيبة هو إذن إعراضنا عن الإمام (ع) وعدم انتظارنا له ، سبب الغيبة هو إذن انحراف الأمة عن الإمام وعلى رأس هذه الأمة فقهاء السوء الخونة ، والمتباكون ليلاً ونهاراً على سمعتهم السيئة .
هم يقولون إن المهدويين يطعنون بالمراجع ، نعم نطعن بالمراجع ، وأي مراجع للشيطان هم هؤلاء الخونة هم أخطر من الحكام الظلمة ، لأن الحاكم الجائر يدلك كثير من تصرفاته وأعماله العلنية في محاربة أولياء الله على خروجه عن الشريعة ومحاربتها ، أما العالم غير العامل فربما يتسـربل بلباس العابد الناسك ، فتجده مثلا متماوتاً في مشيته ، خاضعاً في كلمته ، ولعله يظهر التذلل والخضوع ليصطاد الأتباع . ولكنك إذا سبرت غوره ، وجدته فاسداً متكبراً ، يتصنع الصلاح والتواضع . بل إن ظاهره يدلك على باطنه ، فتصدر منه كثير من الفلتات التي تفضح باطنه الأسود ، فـ(الإناء ينضح بالذي فيه) . وخطر علماء السوء يمتد حتى بعد موتهم ، فتبقى مذاهبهم ومعتقداتهم الفاسدة ، وفتاواهم غير الصحيحة ، ويبقى لهم أتباع كما إنهم يمتازون بالنفاق وإخفاء بواطنهم الفاسدة ، ودواعي هؤلاء للتحريف كثيرة ؛ منها طلب القيادة الدينية ، وإرضاء الأهواء النفسية ، ومنها إنهم يأنفون من قول ( لا اعلم ) ولهذا يّدعون معرفة كتاب الله والعلم بالتنزيل والتأويل والمحكم والمتشابه،وان لديهم فتوى لكل مسالة شرعية ، وحل لكل معضلة عقائدية . وربما يأخذ التكبر منهم كل مأخذ ، فيرون أنفسهم علماء ، وسواهم جهلاء . وأنهم خير من الجميع ، واعلم من الجميع ، وربما كان من دواعيهم إلى التحريف الخوف من الطاغوت الحاكم ، فيفتون إرضاء له ، وتجنبا للاصطدام معه . مثلا بجواز الانخراط في صفوف قواته المسلحة ، التي مهمتها الأساسية هي ضرب الشعوب الإسلامية ، وإضعاف دين الله في أرضه ، والقضاء عليه إذا أمكن . وربما كان بعضهم أخس من ذلك ، فيكون داعيهم للتحريف إضافة إلى الجبن : الدنيا والمال . فيداهنون الطاغوت ، ويضلون المسلمين ويحرفون الشريعة . قال الإمام الصادق (ع) : {إذا رأيتم العالم محبا للدنيا فاتهموه على دينكم فان كل محب لشيء يحوط ما أحب} .
وقال (ع) : {أوحى الله تعالى إلى داود (ع) لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيضلك عن طريق محبتي فان أولئك قطاع طريق عبادي المريدين إن أدنى ما أنا صانع بهم إن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم} .
ومن كلام عيسى(ع) { إنكم علماء السوء ، الأجر تأخذون والعمل تضيعون يوشك رب العمل إن يطلب عمله وتوشكون إن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه } .
وكلاهما أي علماء السوء غير العاملين ، والحكام الطواغيت الذين يحكمون البلاد الإسلامية اليوم) اخطر من الكافر الحربي كالصهاينة على الإسلام . وذلك لان بقاء علماء السوء يعني بقاء الحكام الظلمة متسلطين على المسلمين وبقاء الحكام الظلمة يعني بقاء الصهاينة يحتلون ارض المسلمين وبقاء الأمريكان متسلطين على المسلمين يجرعونهم الويل والثبور ، لان هؤلاء الحكام هم خدم للطاغوت الأمريكي ، كما إن الصهاينة يقتلون المسلمين ليحتفظوا بالأرض التي اغتصبوها ، أما هؤلاء الحكام الظلمة وأعوانهم فيقتلون المؤمنين لأنهم يتلذذون بسفك الدماء . فهؤلاء الطواغيت وأعوانهم مسوخ شيطانية منكوسون ، لا يعرفون شيئاً من الخير
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } .
ومعركة الإصلاح يجب إن تبدأ مع علماء السوء غير العاملين ، ثم تنتقل إلى الطواغيت المتسلطين على البلاد الإسلامية ، ثم من يليهم من الطواغيت المتسلطين على العالم ، بل وقبل كل ذلك ، يجب أن نبدأ مع أنفسنا ونطهرها من جنود الشيطان . فرسول الله (ص) بدأ حركته الإصلاحية في أم القرى في مكة ؛ المدينة التي تمثل المرجعية الدينية للأحناف ، والمدينة التي يحج إليها الأحناف ، ثم انتقل إلى ما حولها من القرى في الجزيرة العربية ، ثم انتقل إلى الإمبراطوريات المحيطة به صلوات الله عليه وعلى آله .