عالم سبيط النيلي صاحب منهج القصدية
بحث مختصر حول "القصدية" و"مقاصد" الكلام من وجة نظر القصديين منقول من شبكة عابرون الثقافية
في أحد محاضراته القصدية يقول سبيط النيلي رحمه الله :
فالحل القصدي هو: (الحكم على الموضوع من خلال عناصره الداخلية والخاصة به من غير تدخّل من الحاكم بإخفاء تلك العناصر أو بعضها أو إدخال عناصر غريبة فيها من خارج الموضوع).
القصدية إذن لا تتعلق بموضوع خاص بل "القصد" هو الموضوعية في الحكم على الموضوع أيا كان مجاله سواء تعلق بنص لغوي أو ظاهرة طبيعية أو علمية أو تاريخية أو سياسية أو أجتماعية أو غيرها..
وهذا لاشك يقتضي معرفة كل العناصر الداخلية والخاصة به مع عزل تام "للذاتية" في بحث كافة هذه العناصر الداخلية وفهم علاقاتها الخاصة وفق نظامها الخاص الذي لا يسمح بتمرير أي عنصر داخلي للخارج أو خارجي للداخل ..
لهذا فإننا عندما نتكلم عن "القصدية" فلا بد أولاً من تحديد "مجال" موضوعها فهل المجال لغوي أو شرعي أو إنساني أو تاريخي أو علمي..الخ، إذ لكل "مجال" توجد عناصر مختلفة تتعلق به والحكم في كل مواضيعها "بموضوعية" تندرج تحت الحل القصدي بمفهومه العام..
فمثلا في "مجال" القصدية اللغوية نجد أن أهم الموضوعات العامة التي يمكن تطبيق الحل أو الآلية القصدية عليها ما يلي:
أولاً: قصدية اللغة نفسها:
وعناصر هذا الموضوع تتعلق بمنشأ الحرف والتعاقبات الصوتية وما تنتجه من ألفاظ وفق تسلسل معين وعلاقة الدلالة بالمدلول .. الخ .. وهذه أول خطوة تأسيسية في كل مواضيع القصدية اللغوية وتنظيرها عند المرحوم نجده في بحث اللغة الموحدة بأجزاءه..
ثانياً: قصدية النص "المعصوم":
وكان لابد من التفريق بين قصدية النص المعصوم وغيره لأن الفرق بين النص المعصوم وسواه كالفرق بين المعصوم (ع) وسواهم من الخلق!
إذ أن التطابق بين "الدلالة والمدلول" وهو جوهر "القصد" في اللفظ بكل ما ينتج عنه من قواعد تضبط فهم اللفظ وبالتالي العبارة وانطباق مفهوم "النظام" القصدي على النصوص لا يمكن أن يطبق بحذافيره إلا على نص معصوم لأنتفاء الذاتية مطلقاً في كل الموضوع ..
إذن يمكن للآلية القصدية أن تعمل في هذه النصوص بكل هدوء وذلك لاكتشاف الحكم الموضوعي في أي نص معصوم حيث أن أحد طرفي المعادلة ثابت وهو انتفاء الذاتية في النص وقصدية النظام الواحد في مجمل النصوص المعصومة الشريفة، فليس على الباحث القصدي إلا التأكد من نفي ذاتيته في اكتشاف الحكم الموضوعي في القضية التي يتناولها النص..
ونظرياً يمكن أن نقول بإمكانية اكتشاف "قصد" النص المعصوم وهذا هو هدف القصدية أصلاً إنما المشكلة هي في التخلص التام من "ذاتية" الباحث والتي يصعب التيقن من عدم تسربها في أي مرحلة من البحث لحرفه عن الموضوعية في بحثه.. وهنا يكمن كل الفرق بين باحث وآخر ومدى تمكنه من الآلية القصدية لا على مستوى "العقل" ونبوغه بل على مستوى "القلب" وسلامته أساساً.. وبقدر اكتشاف الباحث القصدي للحكم الموضوعي في موضوعه من خلال النصوص المعصومة يصبح هذا الحكم عنده بمثابة "معيار" ثابت للحكم على كافة المصاديق التي تندرج تحت نفس عنوان الموضوع .. فمثلاً لا يمكن لأحد أن يحكم حكماً موضوعيا على قضية ما ـ ولنقل وحدة الوجود مثلاً ـ قبل قيامه أولاً باكتشاف "الحكم الموضوعي" في هذه القضية من النصوص المعصومة وبأسلوب قصدي تام يخلو من الذاتية وهذا ما عليه إثباته أولاً قبل البدء بالحكم على أي نص آخر بهذا الشأن، ويمكن للباحث "القصدي" حينها أن ينطلق في محاكمة "قصدية" و"اعتباطية" النصوص الأخرى "غير المعصومة" وقبلها فإن عمله في محاولة الحكم على النصوص الأخرى من البداية محكوم بالذاتية والعبثية!
ثالثاً: قصدية النص غير "المعصوم":
والمشكلة في هذا العنوان أنه غير دقيق إذ يصعب تصور "قصدية" مطلقة لنص غير معصوم مهما بلغ صاحبه (لصعوبة الاحاطة بكل عناصر الموضوع لصاحب النص غير المعصوم ليأتي قوله مطابقاً للحكم الموضوعي أولاً وصعوبة التيقن من خلو رحلة كشفه للحكم الذي يعكسه في نصه مطلقاً من الذاتية في كل مراحل الكشف)..
والقصدية وإن لزمت اللغة في ذاتها فلا تلزم صاحب النص الذي يستخدمها إلا إذا كان معصوماً لا يخالف القصد في شيء. ولكن لا يمكن نفي بسط يد الله تعالى لغير المعصومين في بلوغ بعض "عباده" شأن عال في القصد إنما تبقى المحدودية متعلقة في المجالات أو المواضيع التي يمكن أن يحيطوا بها في رحلة اكتشافهم للقصد من خلال النصوص المعصومة.. ولابد على أي حال لكل غير معصوم من إثبات مدى تمكنه من اكتشافه للقصد والموضوعية في أي موضوع عبر حجة بالغة على الآخرين تعجزهم عن نقدها والرد عليها "بموضوعية" أكبر ..
فحدود ما يمكن للباحث القصدي أن يعمل آليته القصدية في نصوص غير معصومة هو تطبيق "المعيار" أو ما اكتشفه من حكم موضوعي ما من النصوص المعصومة على النص غير المعصوم وذلك للحكم عليه بالقصد (أي مطابقته للمعيار) أو الاعتباط دون التعدي على "مقاصد" المتكلم نفسه إذ أن كون صاحب النص غير معصوم فلا يشترط تطابق كلامه (سواء كان حقاً أو باطلاً) مع ما يخفيه من "مقاصد" وذلك لوجود عاملين أساسين:
1- الجهل
2- الاعتباط في القول (وهذا يقرب مفهوم "كلمة حق يراد بها باطل" والتي جاءت بشأن الخوارج ويبين شيئاً من أسباب منع قتالهم بعد المعصوم (ع) إذ لا يمكن لغيره أن يحكم في مقاصدهم إلا بطريق آخر غير مقولاتهم نفسها) .. فمعرفة "مقاصد" غير المعصوم له وسائل أخرى لا تتعلق بالقول نفسه غالباً ـ وإن تعلقت بلحن القول دون القول نفسه! ـ وهذا هو بحد ذاته كشف يحتاج لكشف موضوعي من كلام أهل العصمة لا مجال للخوض فيه الآن..
ولعل من حسن الحظ أن القصدية أنها تعني اساساً البحث عن الأحكام الموضوعية فقط لذا لا شأن لها بالحكم على "مقاصد" الذوات أياً كانت إلا ما طابق القصد منها.. ويأتي ذلك أساساً للاستفادة من الحكمة وهو ما طابق القول فيها ـ لا المقاصد ـ "القصد" أو الحكم الموضوعي (وهنا ياتي الأمر بأخذ الحكمة ولو من منافق أو مشرك وهذا بحسب اعتقاد الانسان أنه منافق أو مشرك وبغض النظر عن حقيقته!)..
وهذا يعني أن الأساس في الحكم على "قصدية" أو "اعتباط" أي "نص"غير معصوم ـ دون "مقاصد" المتكلم نفسه ـ لا يمكن إلا من خلال معرفة الحكم الموضوعي في القضية التي يتناولها النص أولاً (من نصوص المعصومين).. ولا يوجد أي معيار ثابت للموضوعية إلا الكتاب الحكيم وما وافقه من السنة.. فكل من أراد أن يحكم على نص غير معصوم لابد له أولاً أن يثبت حكمه الموضوعي في موضوع النص الذي يحاكمه قبل البدء بمنهجية الاعتباط في المحاكمة!!
ولهذا فإن آلية "القصد" اللغوية في النصوص غير المعصومة تصل إلى مدى محدود هو مدى مطابقتها للحكم الموضوعي المستخلص من النصوص المعصومة في الموضوع الذي يتناوله النص أو عدم تطابقها معه .. وعدم التطابق يعني وجود "الذاتية" في كتابة النص دون إمكانية تحديد أسباب تسرب هذه الذاتية إلى النص أهي بجهل أو عمد (وما هو العمد فيها).. وللقصد وسائل أخرى "موضوعية" للحكم على "مقاصد" غير المعصوم سواء في قوله أو فعله ولكنها لا تعتمد في الأغلب على "نصوصه" بل على أمور أخرى منها مثلاً لحن القول ـ دون القول نفسه ـ وسيرته العملية وغيرها من أمور تستحق بحث تفصيلي آخر لابد من اكتشافه أولاً بموضوعية في النصوص المعصومة قبل إعتماد المعايير اعتباطاً في محاولة الحكم على "المقاصد" بآلاليات الحكم على "القصد"!..
على أي حال إن الحكم على "مقاصد" المتكلم غير المعصوم بعد إثبات عدم "قصدية" نصه أمر غير محمود غالباً ومن إضاعة الوقت إلا إذا كان يوجد مبرر واقعي يرتبط بتكليف الحاكم وإلا فإن الخوض في هذا لا يخلو من ذاتية وبعد عن الموضوعية من الباحث..
وكما نرى فقد رد المرحوم النيلي كل الفكر الفلسفي دفعة واحدة في كتابه الحل الفلسفي من منطلق هذه الفكرة وبدون الحاجة للتعرض لمقاصد كل صاحب مشرب فلسفي على حدة إذ يكفي إثبات مخالفتها "للقصد" أو الموضوعية حسب تعريف المرحوم النيلي للحل القصدي وذلك ليتم المطلب فهذا سر تتمة العنوان "بين محاولات الأنا ومكائد الشيطان" إذ جمعت المقاصد جملة في عبارة واحدة!..
إنما قد يلزم الإنسان الحكم على "مقاصد" الذوات في مواقع أخرى يتطلبها التكليف الحياتي وهذا أمر آخر لا يتعلق بمحاكمة النصوص مجردة ولها نظامها الخاص وبحوثها التطبيقية التي ينبغي أيضاً أن تبنى على معايير ثابتة مستخلصة من كلام أهل القصد..
Comment