مع الشيخ الطوسي في غيبته - 5 / أمن وُلد الحسين هوَ ، ومَن ؟
إبراهيم عبد علي
( لا خلاف ، بين الأمة ، أنه سيخرج في هذه الأمة ، مهديّ ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما مُلئت ظلما وجورا ، وإذا بيّنا أنّ ذلك المهدي " هو " من وُلد الحسين " ع " ، وأفسدنا قول كل مَن يدّعي ذلك ، من وُلد الحسين ، سوى إبن الحسن " ع " ؛ ثبتَ أنّ المراد به " أي المهدي " هو عليه السلام ) ـ1ـ
وبعد هذه المقدمة التمهيدية ، يبدأ " المؤلف " بذكر الروايات التي تشير إلى " المهدي " بشكل عام ، من قِبل السنة والشيعة ، وكلها تؤكد ضرورة وحتمية خروج " المهدي " في آخر الزمان ، وأنه من عترة النبي " ص " ، ثم يعرج على ذكر النصوص " الشريفة " التي تؤكد أنه من وُلد السيدة الزهراء فاطمة " ع " .... ولحد الآن ليس هنالك أي إشكال ، أو اختلاف ، بين " الإسلامَين " السني والشيعي ، في الإتفاق على هذه الجزئية ....
وبعد ذلك يقوم " الشيخ " بذكر الأحاديث التي تشير إلى أنّ المهدي هو من وُلد سيدنا الحسين " ع " على الخصوص ، دون تحديد إسم معيّن ، فيسرد لنا خمسة روايات ، كلها مروية عن أحمد بن علي الرازي ، وأحمد بن إدريس ..
( الأولى ) : عن سيدنا زيد بن علي " الشهيد " يقول فيها " إنّ وليّ الحسين الذي قتل ـ في كربلاء ـ مظلوما ، هو رجل من ذريته ، من عقبه ) ـ2ـ
ولا أظن أنّ هذه الرواية واضحة الدلالة على أنّ المهدي هو من وُلد الحسين ، فهي لم تُشر إلى " المهدي " ، فكل ما تقوله " الرواية " هو أنّ وليّ الدم ، من نسل الحسين ، ولا شأن لها بالمهدي ، صاحب الأطروحة الإلهية التغييرية الهائلة ...
أما ( الرواية الثانية ) فهي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي يقول : ( والله ، لا يكون المهدي ، أبدا ، إلا من وُلد الحسين ) ـ3ـ
هذا رأيكَ ، يا سيدي ، ولستَ حجة عليّ لتزمنيه ، خصوصا أنكَ لم تذكر لنا ، أنكَ رويتَ هذا الكلام عن رسول الله " ص " أو عن أحد من أئمة أهل البيت ...
أما ( النص الثالث ) فهو :
( عن أحمد بن علي الرازي ، عن أحمد بن إدريس ، عن علي بن محمد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابراهيم بن الحكم بن ظهير ، عن اسماعيل بن عيّاش ، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال: نظرَ أمير المؤمنين " ع " إلى إبنه الحسين " ع " فقال : إنّ إبني هذا سيد ، كما سمّاه الله سيدا ، وسيُخرج الله تعالى من صلبه ، رجلا باسم نبيكم ، فيشبهه في الخلق والخُلق ، يخرج على حين غفلة من الناس ، وإماتة من الحق ، وإظهار من الجور ، والله لو لمْ يخرج ؛ لضُربتْ عنقه ، يفرح لخروجه أهل السماء وسكانها ، يملأ الأرض عدلا ، كما مُلئت جورا وظلما ) ـ4ـ
وهذا النص ـ وبغضّ النظر ، كالعادة ، عن رجال سنده ـ واضح الدلالة ، على أنّ المهدي هو من وُلد سيدنا الحسين " ع " ، فقط أحببتُ أن أشير إلى ملاحظة وردتْ في ثنايا النص ، وهي قول أمير المؤمنين علي " ع " متحدثا عن " المهدي " ( والله لو لم يخرج لضُربتْ عنقه ) ولا أدري مَن سيضرِبُ ، إن لم يخرج ، عنقه ؟ وهل إنّ خروجه هو بسبب أنه سيُقتل إن لم يخرج ؟ .. وبشكل عام ، فهذا النص ؛ لا يوحي بـ " غيبة " إنما بـ " خروج " ، وإن كان ، كما قلنا ، يصرّح ، فعلا ، بأن " المهدي " هو من وُلد الحسين ..
أما بالنسبة للـ ( الرواية الرابعة ) فهي :
( عن أحمد بن إدريس ، عن علي بن محمد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، عن عبيد الله بن شريك قال : مرّ الحسين " ع " على حلقة من بني أمية ، وهم جلوس ، في مسجد الرسول " ص " فقال : أما والله لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله مني رجلا ، يقتل منكم ألفا ، ومع الألف ألفا ، ومع الألف ألفا .. فقلت : جُعلتُ فداك ، إنّ هؤلاء ، أولاد كذا وكذا ، لا يبلغون هذا .. فقال : ويحكَ .. في ذلك الزمان ، يكون الرجل من صلبه كذا وكذا رجلا ، وإنّ مولى القوم من أنفسهم ) ـ5ـ
وهذا النص ، أيضا ، لا يشير إلى المهدي ، بقدر ما يشير إلى رجل من وُلد الحسين ، يُعمل القتلَ في بني أمية ...
أما ( الرواية الأخيرة ) التي يذكرها المؤلف " رحمه الله " فهي أيضا ( عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن الحسين بن علوان ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله " ص " لفاطمة " ع " : يا بنيّ إنا أعطينا ، أهل البيت ، سبعا ، لم يُعطها ، أحد قبلنا ؛ نبينا خير الأنبياء ، وهو أبوك ، ووصيّنا خير الأوصياء ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وهو عم أبيك ، حمزة ، ومنا مَن له جناحان خضيبان ، يطير بهما في الجنة ، وهو إبن عمك ، جعفر ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وهما إبناك الحسن والحسين ، ومنا ، والله الذي لا إله إلا هو ، مهديّ هذه الأمة ، الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم ... ثمّ ضربَ بيده على منكب الحسين " ع " فقال : مِن هذا " ثلاثا " ) ـ6ـ
وهذه الرواية ، تثبت ، بما لا مجال للشك فيه ، بأنّ المهدي هو من وُلد سيدنا الحسين ، لكن المشكلة ليست هنا ، فحتى لو أثبتَ " المؤلف " أنّ المهدي هو من وُلد الحسين ، تحديدا ، واثبتَ ، أيضا ، بطلان إدعاء مهدوية كل من ادّعاها لأحد من أولاد الحسين ، غير محمد بن الحسن ؛ مع ذلك كله ، فإنّ هذا ، لا يُثبت أنّ المهدي هو ، تحديدا ، محمد بن الحسن العسكري ، فإثبات الشيخ كون المهدي من وُلد الحسين ، وبذات الوقت ، الذي يُبطل فيه ، دعوة من ادّعاها لغير ابن الحسن ؛ لا يعني كونها منحصرة في " محمد بن الحسن " ، فقد يعني هذا ، أحدا آخر من وُلد الحسين ، يولد آخر الزمان .. وكما هو معروف ، فنسل سيدنا الحسين الشهيد " ع " كثير ، وباق لزماننا هذا ، فمن غير الممتنع ، أن يكون المهديّ ، هو أحد الصالحين من نسل الحسين ، يولد في الوقت المناسب للظهور ، وهذا ، على ما أظن ، هو الأقرب للواقع ، والأبعد عن التكلف ...
وبعد أن أثبت " المؤلف " أنّ " مهدينا " هو أحد وُلد الحسين " ع " ، ينتقل بنا ، إلى ما وعدنا إيّاه من تفنيد الإدّعاءات المهدوية ، من غير محمد بن الحسن ، بالطبع ، من خلال تأكيده على " موت " مَن يدّعون مهدويته ، كالإمام علي ، ومحمد بن الحنفية ، والصادق ، والكاظم ، ومحمد بن علي الهادي ، ومحد النفس الزكية ، والحسن العسكري ..
فيبدأ بـ " علي " ثم " ابن الحنفية " ليصل إلى " الصادق " و" الناووسية " ليقول :
( وأما الناووسية ، الذين وقفوا على أبي عبد الله جعفر بن محمد ، وقالوا هو المهدي ؛ قد بيّنا ، أيضا ، فساد قولهم ، بما علمناه ، من موته ، واشتهار الأمر فيه ، ولصحة إمامة أبنه موسى بن جعفر " ع " ، وبما ثبتَ من إمامة الإثني عشر " ع " ) ـ7ـ
ثم يذكر لنا " الشيخ " خبرا يؤكد فيه ، ايضا ، موت سيدنا جعفر الصادق " رضي الله عنه " والخبر يرويه لنا أبو أيوب الخوزي ، الذي يقول :
( بعث إليّ أبو جعفر المنصور ، في جوف الليل ، فدخلت عليه ، وهو جالس على كرسي ، وبين يديه شمعة ، وفي يده كتاب ، فلما سلمتُ عليه ، رمى الكتاب إليّ ، وهو يبكي ، وقال : هذا كتاب محمد بن سليمان ، يُخبرنا أنّ جعفر بن محمد قد مات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون " ثلاثا " ، وأين مثل جعفر ؟.. ثمّ قال لي : اكتب ، فكتبتُ صدرَ الكتاب ، ثم قال : اكتب إن كان قد أوصى إلى رجل بعينه ، فقدّمه ، واضرب عنقه .. قال : فرجع الجواب إليه ؛ انه قد أوصى إلى خمسة ، أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله وموسى ، إبني جعفر ، وحميدة ... فقال المنصور : ليس إلى قتل هؤلاء سبيل ) ـ8ـ
ولنا على هذا النص ، مجموعة ملاحظات ، نجملها بما يلي :
1ـ في النص تناقض غريب ، فمن جانب ، نجد أنّ الخليفة " المنصور " في حالة حزن وبكاء ، وترديد لـ " إنا لله وإنا إليه راجعون " لثلاثة مرات ، مع قوله ، أسِفا " وأين مثل جعفر ؟ " ورميه الكتاب بوجه أبي أيوب الخوزي ، دليلا آخر على الإنفعال والحزن ، ومن جانب آخر ، وبنفس اللحظة الوجدانية تلك ، نراه يقول لأبي أيوب " اكتب إن كان قد أوصى لأحد بعينه ، فقدمه واضرب عنقه " ، وهذا الأمر غريب ، ولا يتناسب مع حالة الحزن على فقد " الصادق " وتقدير الخليفة لجلالة قدره ، وعلوّ شأنه ..
2ـ إملاء المنصور بعبارة " بعينه " توحي لنا بأنه يعرف ، مسبقا ، أنّ وصية الإمام الصادق ، ليست لرجل بعينه ، وهذا أمر من غير المتيسر للخليفة معرفته ، كونه في بغداد ، والإمام في المدينة ، فكانت العبارة الأنسب هي " إن كان قد أوصى لأحد فقدمه ، واضرب عنقه " أو " اضربوا عنق مَن أوصى له جعفر بن محمد من بعده " ..
3ـ يقول الراوي " فرجع الجواب " ، متى رجع الجواب ؟ .. بالتأكيد بعد شهور ، لبعد المسافة بين بغداد والمدينة ، خصوصا أنّ الرحلة هي ذهاب وإياب ، لكنّ ما يستشفه قارئ النص ، هو أنّ الجواب كان حاضرا ، ذات الليلة ، أو على الأقل ، هذا ما يوحيه لنا جو النص بشكل عام ..
4ـ الجواب حينما رجع إلى المنصور ، قال الراوي " أنه قد أوصى إلى خمسة ، أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله وموسى ، ابني جعفر ، وحميدة " وهذا الجواب أيضا غريب ، وواضح الإختلاق ، فإما أن يقول الراوي ؛ أنه أوصى إلى خمسة أحدهم ابو جعفر المنصور ، ويكتفي بذلك دون ذكر من تبقى .. أو أنه يقول " أنه أوصى إلى خمسة ، هم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان " ويذكر تمام بقية الأسماء ... أمّا أنه يقول انه أوصى إلى خمسة أحدهم ابو جعفر ، ومحمد بن سليمان ...الخ ، فهذا أمر غريب ، ومستهجن لغويا وبلاغيا ..
5ـ نفهم من خلال وصية الصادق ، لخمسة ، أحدهم حميدة ، زوجته ، أنّ الوصية هي ليست وصية بالإمامة ، إنما هي وصية بالإرث وقضاء الدين ، وغيرها من الأمور المتعلقة بتركة الميّت ، فمن غير المعقول أن يوصي الصادق بالإمامة منه بعده لأمرأة ، مهما كان شأنها ، وقدرها ..
6ـ لماذا قال المنصور " ليس إلى قتل هؤلاء سبيل " علما أنه من الممكن له أن يقتل خاصة الإمام " الصادق " وهم زوجته حميدة ، وإبنيه عبد الله وموسى ، مبقيا على نفسه ، وعلى محمد بن سليمان ، عامله في المدينة ..
7ـ نجد في وصية الصادق ذكرا لوَلده " عبد الله " ، إضافة لولده موسى ، وهذا يخالف ما ذكره الشيخ في الصفحة ( 75 ) من كتابه هذا ، من أنّ عبد الله لم يُذكر في وصية الصادق ، وإليك نص كلام الشيخ " رحمه الله " :
( أسندَ ـ أي الصادق ـ وصيته إلى خمسة نفر ، أولهم المنصور ، ولم يُفرد إبنه موسى بها ، إبقاء عليه ، وأشهد معه ؛ الربيع ، وقاضي الوقت ، وجاريته أم ولده حميدة البربرية ، وختمهم بذكر موسى بن جعفر " ع " لستر أمره ، وحراسة نفسه ، ولم يذكر مع وَلده موسى أحدا من أولاده الباقين ، لعلمه أنه كان فيهم مَن يدّعي مقامه ، من بعده ) ـ9ـ
فلو كان اعتقاد الشيخ أنّ " الصادق " لم يذكر في وصيته ولده عبد الله " الأفطح " فكيف يسوّغ لنفسه أن يستدلّ على قضية ما ، برواية يرفض شطرا كبيرا ومهما من محتواها ؟
8ـ أليست هذه الرواية ، والتي تذكر أن عبد الله هو من ضمن من أوصى لهم الصادق بالإمامة من بعده ، تُعدّ مبررا للـ " الفرقة الفطحية " في إتجاهها وإصرارها على إمامة عبد الله الأفطح " ع " ، خصوصا أنّ هذه الفرقة تضمّ أجلاء فقهاء الشيعة وأصحاب الأئمة " ع " ومن المقرّبين جدا إليهم ؟..
ثم يبدأ الشيخ بالردّ على ما تبنّته " الفرقة المحمدية " من مهدوية محمد بن علي الهادي ، وإمامته ، من خلال سرده لمجموعة من الروايات ، منها :
( روى سعد بن عبد الله الأشعري قال : حدثني أبو هاشم دواد بن القاسم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن " ع " وقت وفاة إبنه أبي جعفر ، وقد كان أشار إليه ودلّ عليه ، فإني لأفكر في نفسي وأقول ؛ هذه قضية أبي إبراهيم ، وقضية أسماعيل .. فأقبلَ عليّ أبو الحسن ، عليه السلام ، فقال : نعم يا أبا هاشم ، بدا لله تعالى في أبي جعفر ، وصيّر مكانه أبا محمد ، كما بدا لله في إسماعيل ، بعدما دلّ عليه أبو عبد الله " ع " ونصبه ، وهو كما حدّثت به نفسك ، وإن كره المبطلون ) ـ10ـ
ويردّ " المؤلف " على هذه الرواية ، من خلال توجيهها الوجهة التي يرى ، فيقول " عفا الله عنه " :
( ما تضمّن الخبر المتقدم ، من قوله " بدا لله في محمد كما بدا له في إسماعيل " معناه ؛ ظهرَ من الله وأمره ، في أخيه الحسن ، ما أزال الريب والشك ، في إمامته ، فإنّ جماعة من الشيعة ، كانوا يظنون ، أنّ الأمر في " محمد " من حيث كان هو الأكبر ، كما كان يظن جماعة ، أنّ الأمر في إسماعيل بن جعفر ، دون موسى ، فلمّا مات محمد ؛ ظهرَ من أمر الله فيه ، وأنه " أي الله " لم ينصّبه إماما ، كما ظهر في إسماعيل ، مثل ذلك ، لا أنه كان نصّ عليه ، ثمّ بدا له في النصّ على غيره ) ـ11ـ
وتوجيه الشيخ للرواية السابقة ، هو من ضمن غرائبه المتكررة ، والتي تذهل المرء ، وتستفزه لإعادة النظر في الكثير من " المسلمات " و " القداسات " ، ولنا على هذا " التوجيه " ملا حظات ، منها :
1ـ الرواية التي يوجّهها المؤلف وجهته الغريبة تلك ، هي ، كما هو بيّن ، واضحة الدلالة ، جليّة المعنى ، ولا تتناسب مع ما ذهب إليه وارتآه ، سامحنا وسامحه الله .. فالرواية تبدأ هكذا ، وبمثل هذا الوضوح والمباشرة " كنتُ عند أبي الحسن ، وقت وفاة ابنه أبي جعفر ، وقد كان أشار إليه ، ودلّ عليه " فكيف يأتي الشيخ هنا ليقول " أنّ جماعة من الشيعة كانوا يظنون أن الأمر في محمد من حيث كان ، هو ، الأكبر " بالله عليكم هل ذكر الراوي مثل هذا الأمر ؟ فالراوي صرّح أنّ أباه قد كان " أشار إليه " بالإمامة ، و " دلّ " عليه ، ولم يقل أنّ جماعة من الشيعة ظنوا أن الأمر لمحمد بإعتباره الأكبر سنا .. فلا أدري كيف فهم الشيخ الطوسي من الرواية ما ذهب إليه ؟
2ـ الشطر الثاني من النص ، يقول ، وأيضا بمنتهى الوضوح ، " قال أبو الحسن ؛ كما بدا لله في إسماعيل ، بعدما دلّ عليه أبو عبد الله ، ونصبه " ليأتي المؤلف ، مرة أخرى ، ليوجه هذا الشطر من النص ، بهذا الشكل المذهل : ( كما كان يظنّ جماعة أن الأمر في إسماعيل بن جعفر دون موسى ، فلما مات محمد ظهر من أمر الله فيه ، وأنه لم ينصبه إماما ، كما ظهر في إسماعيل ، مثل ذلك ، لا أنه نصّ عليه ، ثم بدا له في النص على غيره ) وكما هو جليّ ، فتوجيه الشيخ للشطر الثاني من الرواية ، بعيد تماما عن المنطق ، وواضح التكلف ، بل لا يمكن استساغته إطلاقا ..
3ـ هنالك رواية يذكرها الشيخ نفسه ، تخصّ موضوع إمامة الحسن العسكري ، بدلا من أخيه محمد ، والرواية هذه تؤكد ، أنّ الإمام الهادي كان قد أشار إلى وَلده محمد ، ثم عند وفاته ، أشار إلى ولده الثاني الحسن العسكري .. الغريب في الأمر ، هو أنّ المؤلف يذكر هذه الرواية في الصفحة التي تلي توجيهه الغريب والمتكلف للنص السابق ، وإليك الرواية بقضّها وقضيضها :
( روى محمد بن الحسن بن أبي الخطاب ، عن ابن أبي الصهبان قال : لمّا مات أبو جعفر محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسى " ع " وُضع لأبي الحسن علي بن محمد كرسي ، فجلس عليه ، وكان أبو محمد الحسن بن علي " ع " قائما في ناحيته ، فلما فرغ من غسل أبي جعفر ، إلتفتَ أبو الحسن إلى أبي محمد " ع " فقال : يا بنيّ ، أحدِث لله شكرا ، فقد أحدَث فيك أمرا ) ـ12ـ
أليس هذا النص في غاية الوضوح ، من الإمام الهادي ، لابنه العسكري ، يؤكد له فيه ، أنّ الإمامة كانت لأخيه محمد ، فانتقلت ، بسبب موته ، " إليك " " فاشكر اللهَ ، ربك ، على هذه النعمة التي أحدثها فيك ، وجلبها إليك " ..
4ـ كلنا نعرف ، والشيخ ، بالتأكيد ، منا ، أنّ تنصيب " الإمام " لله وحده ، وليس للإمام نفسه ، أن ينصّب من يشاء من ولده ، وهذا يعني أنّ " الصادق " و " الهادي " حينما أشارا ( كما تؤكد الرواية السابقة ) إلى ولديهما إسماعيل ومحمد ، بالإمامة ، ونصباهما لهذا المقام العظيم ، فلا شكّ أنهما " ع " لم يقوما بذلك ، من تلقاء أنفسهما ( وأظن أن هذه هي عقيدة الشيخ نفسه ، ولا أعتقد أنه يخالف ذلك ) إنما من عند الله ، سبحانه وتعالى ، ولذا نرى " الهادي " يقول " بدا لله " كما قال " الصادق " قولته الشهيرة " ما بدا لله في شيء ، مثلما بدا له في وَلدي إسماعيل " ...
ثمّ يذكر الشيخ " رحمه الله " رواية أخرى ، لنفي إمامة محمد بن علي الهادي ، وإثبات إمامة أخيه العسكري ، لكنه لا يلتفت إلى أن روايته هذه تؤكد أنّ إمامه الهادي قد نصّ على إبنه محمد ، قبل موته ، وهل تعرفون أين يذكر الشيخ هذه الرواية ؟ إنها في نفس الصفحة ، بل قبل أسطر قليلة من توجيهه " المتكلف ، والسّمِج " لروايتنا السابقة ، وإليكم نص الرواية :
( عن سعد بن عبد الله الأشعري ، عن علي بن محمد الكليني ، عن إسحاق بن محمد النخعي ، عن شاهويه بن عبد الله الجلاب قال : كنت رويتُ عن أبي الحسن العسكري " ع " في أبي جعفر ، ابنه ، روايات تدلّ عليه ، فلمّا مضى أبو جعفر ، قلقلتُ لذلك ، وبقيتُ متحيّرا ، لا أتقدم ولا أتأخر ، وخفتُ أن أكتبَ إليه ، في ذلك ، فلا أدري ما يكون ، فكتبت إليه ، أسأله الدعاء ، وأن يفرّج الله تعالى عنا ، في أسباب من قبل السلطان ، كنا نغتمّ في غلماننا ، فرجعَ الجواب بالدعاء ، وردّ الغلمان علينا ، وكتبَ " أي الإمام الهادي " في آخر الكتاب : أردتَ أن تسال عن الخلف ، بعد مُضيّ أبي جعفر ، وقلقتَ لذلك ، فلا تغتمّ ، فإنّ الله لا يُضلّ قوما بعد إذ هداهم ، حتى يبيّن لهم ما يتقون ، صاحبكم بعدي أبو محمد ابني ، وعنده ما تحتاجون إليه ، يقدّم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها ، نأتِ بخير منها ، أو مثلها ) ـ13ـ
وهذه الرواية واضحة لكل ذي عقل ، حول نصب الهادي لولده " محمد " ، قبل موته ، ثم انتقلت الإمامة بـ " موته " إلى ولده الثاني " الحسن العسكري " ولذا يستشهد إمامنا الهادي " ع " بالآية الشريفة " ما ننسخ من آية أو ننسها ، نأت بخير منها أو مثلها " ...
وقد مر معنا ، تفنيد الشيخ " رحمه الله " لأدلة الواقفة ، والكيسانية ، وهو هنا ركّز على ردّ بقية الفرق ممن يقولون بمهدوية وغيبة أئمتهم ، ليبقى لديه ، التصديق بمهدوية وغيبة " إمامه " محمد بن الحسن " ع " ...
وأظنّ أننا أطلنا المكوث بهذا المكان ، كثيرا ، وآن لنا الرحيل لمتاهات ودروب جديدة ، علّنا نجد على نارٍ هدى ، وإن كنتُ أرى ، أننا الآن ، والآن فقط ، سنلج العتمة ، لتصفعنا وحشتُها ، فنحنُّ ، بملأ الروح ، لِكسرة ضوء ...
ـــــــــــــ
1ـ الكتاب : 109
2ـ الكتاب : 115
3ـ الكتاب : 117
4ـ الكتاب : 115ـ116
5ـ الكتاب : 116
6ـ الكتاب : 116
7ـ الكتاب : 119
8ـ الكتاب : 119
9ـ الكتاب : 75
10ـ الكتاب : 120ـ121
11ـ الكتاب : 121
12ـ الكتاب : 122
13ـ الكتاب : 121
إبراهيم عبد علي
( لا خلاف ، بين الأمة ، أنه سيخرج في هذه الأمة ، مهديّ ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما مُلئت ظلما وجورا ، وإذا بيّنا أنّ ذلك المهدي " هو " من وُلد الحسين " ع " ، وأفسدنا قول كل مَن يدّعي ذلك ، من وُلد الحسين ، سوى إبن الحسن " ع " ؛ ثبتَ أنّ المراد به " أي المهدي " هو عليه السلام ) ـ1ـ
وبعد هذه المقدمة التمهيدية ، يبدأ " المؤلف " بذكر الروايات التي تشير إلى " المهدي " بشكل عام ، من قِبل السنة والشيعة ، وكلها تؤكد ضرورة وحتمية خروج " المهدي " في آخر الزمان ، وأنه من عترة النبي " ص " ، ثم يعرج على ذكر النصوص " الشريفة " التي تؤكد أنه من وُلد السيدة الزهراء فاطمة " ع " .... ولحد الآن ليس هنالك أي إشكال ، أو اختلاف ، بين " الإسلامَين " السني والشيعي ، في الإتفاق على هذه الجزئية ....
وبعد ذلك يقوم " الشيخ " بذكر الأحاديث التي تشير إلى أنّ المهدي هو من وُلد سيدنا الحسين " ع " على الخصوص ، دون تحديد إسم معيّن ، فيسرد لنا خمسة روايات ، كلها مروية عن أحمد بن علي الرازي ، وأحمد بن إدريس ..
( الأولى ) : عن سيدنا زيد بن علي " الشهيد " يقول فيها " إنّ وليّ الحسين الذي قتل ـ في كربلاء ـ مظلوما ، هو رجل من ذريته ، من عقبه ) ـ2ـ
ولا أظن أنّ هذه الرواية واضحة الدلالة على أنّ المهدي هو من وُلد الحسين ، فهي لم تُشر إلى " المهدي " ، فكل ما تقوله " الرواية " هو أنّ وليّ الدم ، من نسل الحسين ، ولا شأن لها بالمهدي ، صاحب الأطروحة الإلهية التغييرية الهائلة ...
أما ( الرواية الثانية ) فهي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي يقول : ( والله ، لا يكون المهدي ، أبدا ، إلا من وُلد الحسين ) ـ3ـ
هذا رأيكَ ، يا سيدي ، ولستَ حجة عليّ لتزمنيه ، خصوصا أنكَ لم تذكر لنا ، أنكَ رويتَ هذا الكلام عن رسول الله " ص " أو عن أحد من أئمة أهل البيت ...
أما ( النص الثالث ) فهو :
( عن أحمد بن علي الرازي ، عن أحمد بن إدريس ، عن علي بن محمد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابراهيم بن الحكم بن ظهير ، عن اسماعيل بن عيّاش ، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال: نظرَ أمير المؤمنين " ع " إلى إبنه الحسين " ع " فقال : إنّ إبني هذا سيد ، كما سمّاه الله سيدا ، وسيُخرج الله تعالى من صلبه ، رجلا باسم نبيكم ، فيشبهه في الخلق والخُلق ، يخرج على حين غفلة من الناس ، وإماتة من الحق ، وإظهار من الجور ، والله لو لمْ يخرج ؛ لضُربتْ عنقه ، يفرح لخروجه أهل السماء وسكانها ، يملأ الأرض عدلا ، كما مُلئت جورا وظلما ) ـ4ـ
وهذا النص ـ وبغضّ النظر ، كالعادة ، عن رجال سنده ـ واضح الدلالة ، على أنّ المهدي هو من وُلد سيدنا الحسين " ع " ، فقط أحببتُ أن أشير إلى ملاحظة وردتْ في ثنايا النص ، وهي قول أمير المؤمنين علي " ع " متحدثا عن " المهدي " ( والله لو لم يخرج لضُربتْ عنقه ) ولا أدري مَن سيضرِبُ ، إن لم يخرج ، عنقه ؟ وهل إنّ خروجه هو بسبب أنه سيُقتل إن لم يخرج ؟ .. وبشكل عام ، فهذا النص ؛ لا يوحي بـ " غيبة " إنما بـ " خروج " ، وإن كان ، كما قلنا ، يصرّح ، فعلا ، بأن " المهدي " هو من وُلد الحسين ..
أما بالنسبة للـ ( الرواية الرابعة ) فهي :
( عن أحمد بن إدريس ، عن علي بن محمد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، عن عبيد الله بن شريك قال : مرّ الحسين " ع " على حلقة من بني أمية ، وهم جلوس ، في مسجد الرسول " ص " فقال : أما والله لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله مني رجلا ، يقتل منكم ألفا ، ومع الألف ألفا ، ومع الألف ألفا .. فقلت : جُعلتُ فداك ، إنّ هؤلاء ، أولاد كذا وكذا ، لا يبلغون هذا .. فقال : ويحكَ .. في ذلك الزمان ، يكون الرجل من صلبه كذا وكذا رجلا ، وإنّ مولى القوم من أنفسهم ) ـ5ـ
وهذا النص ، أيضا ، لا يشير إلى المهدي ، بقدر ما يشير إلى رجل من وُلد الحسين ، يُعمل القتلَ في بني أمية ...
أما ( الرواية الأخيرة ) التي يذكرها المؤلف " رحمه الله " فهي أيضا ( عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن الحسين بن علوان ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله " ص " لفاطمة " ع " : يا بنيّ إنا أعطينا ، أهل البيت ، سبعا ، لم يُعطها ، أحد قبلنا ؛ نبينا خير الأنبياء ، وهو أبوك ، ووصيّنا خير الأوصياء ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وهو عم أبيك ، حمزة ، ومنا مَن له جناحان خضيبان ، يطير بهما في الجنة ، وهو إبن عمك ، جعفر ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وهما إبناك الحسن والحسين ، ومنا ، والله الذي لا إله إلا هو ، مهديّ هذه الأمة ، الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم ... ثمّ ضربَ بيده على منكب الحسين " ع " فقال : مِن هذا " ثلاثا " ) ـ6ـ
وهذه الرواية ، تثبت ، بما لا مجال للشك فيه ، بأنّ المهدي هو من وُلد سيدنا الحسين ، لكن المشكلة ليست هنا ، فحتى لو أثبتَ " المؤلف " أنّ المهدي هو من وُلد الحسين ، تحديدا ، واثبتَ ، أيضا ، بطلان إدعاء مهدوية كل من ادّعاها لأحد من أولاد الحسين ، غير محمد بن الحسن ؛ مع ذلك كله ، فإنّ هذا ، لا يُثبت أنّ المهدي هو ، تحديدا ، محمد بن الحسن العسكري ، فإثبات الشيخ كون المهدي من وُلد الحسين ، وبذات الوقت ، الذي يُبطل فيه ، دعوة من ادّعاها لغير ابن الحسن ؛ لا يعني كونها منحصرة في " محمد بن الحسن " ، فقد يعني هذا ، أحدا آخر من وُلد الحسين ، يولد آخر الزمان .. وكما هو معروف ، فنسل سيدنا الحسين الشهيد " ع " كثير ، وباق لزماننا هذا ، فمن غير الممتنع ، أن يكون المهديّ ، هو أحد الصالحين من نسل الحسين ، يولد في الوقت المناسب للظهور ، وهذا ، على ما أظن ، هو الأقرب للواقع ، والأبعد عن التكلف ...
وبعد أن أثبت " المؤلف " أنّ " مهدينا " هو أحد وُلد الحسين " ع " ، ينتقل بنا ، إلى ما وعدنا إيّاه من تفنيد الإدّعاءات المهدوية ، من غير محمد بن الحسن ، بالطبع ، من خلال تأكيده على " موت " مَن يدّعون مهدويته ، كالإمام علي ، ومحمد بن الحنفية ، والصادق ، والكاظم ، ومحمد بن علي الهادي ، ومحد النفس الزكية ، والحسن العسكري ..
فيبدأ بـ " علي " ثم " ابن الحنفية " ليصل إلى " الصادق " و" الناووسية " ليقول :
( وأما الناووسية ، الذين وقفوا على أبي عبد الله جعفر بن محمد ، وقالوا هو المهدي ؛ قد بيّنا ، أيضا ، فساد قولهم ، بما علمناه ، من موته ، واشتهار الأمر فيه ، ولصحة إمامة أبنه موسى بن جعفر " ع " ، وبما ثبتَ من إمامة الإثني عشر " ع " ) ـ7ـ
ثم يذكر لنا " الشيخ " خبرا يؤكد فيه ، ايضا ، موت سيدنا جعفر الصادق " رضي الله عنه " والخبر يرويه لنا أبو أيوب الخوزي ، الذي يقول :
( بعث إليّ أبو جعفر المنصور ، في جوف الليل ، فدخلت عليه ، وهو جالس على كرسي ، وبين يديه شمعة ، وفي يده كتاب ، فلما سلمتُ عليه ، رمى الكتاب إليّ ، وهو يبكي ، وقال : هذا كتاب محمد بن سليمان ، يُخبرنا أنّ جعفر بن محمد قد مات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون " ثلاثا " ، وأين مثل جعفر ؟.. ثمّ قال لي : اكتب ، فكتبتُ صدرَ الكتاب ، ثم قال : اكتب إن كان قد أوصى إلى رجل بعينه ، فقدّمه ، واضرب عنقه .. قال : فرجع الجواب إليه ؛ انه قد أوصى إلى خمسة ، أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله وموسى ، إبني جعفر ، وحميدة ... فقال المنصور : ليس إلى قتل هؤلاء سبيل ) ـ8ـ
ولنا على هذا النص ، مجموعة ملاحظات ، نجملها بما يلي :
1ـ في النص تناقض غريب ، فمن جانب ، نجد أنّ الخليفة " المنصور " في حالة حزن وبكاء ، وترديد لـ " إنا لله وإنا إليه راجعون " لثلاثة مرات ، مع قوله ، أسِفا " وأين مثل جعفر ؟ " ورميه الكتاب بوجه أبي أيوب الخوزي ، دليلا آخر على الإنفعال والحزن ، ومن جانب آخر ، وبنفس اللحظة الوجدانية تلك ، نراه يقول لأبي أيوب " اكتب إن كان قد أوصى لأحد بعينه ، فقدمه واضرب عنقه " ، وهذا الأمر غريب ، ولا يتناسب مع حالة الحزن على فقد " الصادق " وتقدير الخليفة لجلالة قدره ، وعلوّ شأنه ..
2ـ إملاء المنصور بعبارة " بعينه " توحي لنا بأنه يعرف ، مسبقا ، أنّ وصية الإمام الصادق ، ليست لرجل بعينه ، وهذا أمر من غير المتيسر للخليفة معرفته ، كونه في بغداد ، والإمام في المدينة ، فكانت العبارة الأنسب هي " إن كان قد أوصى لأحد فقدمه ، واضرب عنقه " أو " اضربوا عنق مَن أوصى له جعفر بن محمد من بعده " ..
3ـ يقول الراوي " فرجع الجواب " ، متى رجع الجواب ؟ .. بالتأكيد بعد شهور ، لبعد المسافة بين بغداد والمدينة ، خصوصا أنّ الرحلة هي ذهاب وإياب ، لكنّ ما يستشفه قارئ النص ، هو أنّ الجواب كان حاضرا ، ذات الليلة ، أو على الأقل ، هذا ما يوحيه لنا جو النص بشكل عام ..
4ـ الجواب حينما رجع إلى المنصور ، قال الراوي " أنه قد أوصى إلى خمسة ، أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله وموسى ، ابني جعفر ، وحميدة " وهذا الجواب أيضا غريب ، وواضح الإختلاق ، فإما أن يقول الراوي ؛ أنه أوصى إلى خمسة أحدهم ابو جعفر المنصور ، ويكتفي بذلك دون ذكر من تبقى .. أو أنه يقول " أنه أوصى إلى خمسة ، هم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان " ويذكر تمام بقية الأسماء ... أمّا أنه يقول انه أوصى إلى خمسة أحدهم ابو جعفر ، ومحمد بن سليمان ...الخ ، فهذا أمر غريب ، ومستهجن لغويا وبلاغيا ..
5ـ نفهم من خلال وصية الصادق ، لخمسة ، أحدهم حميدة ، زوجته ، أنّ الوصية هي ليست وصية بالإمامة ، إنما هي وصية بالإرث وقضاء الدين ، وغيرها من الأمور المتعلقة بتركة الميّت ، فمن غير المعقول أن يوصي الصادق بالإمامة منه بعده لأمرأة ، مهما كان شأنها ، وقدرها ..
6ـ لماذا قال المنصور " ليس إلى قتل هؤلاء سبيل " علما أنه من الممكن له أن يقتل خاصة الإمام " الصادق " وهم زوجته حميدة ، وإبنيه عبد الله وموسى ، مبقيا على نفسه ، وعلى محمد بن سليمان ، عامله في المدينة ..
7ـ نجد في وصية الصادق ذكرا لوَلده " عبد الله " ، إضافة لولده موسى ، وهذا يخالف ما ذكره الشيخ في الصفحة ( 75 ) من كتابه هذا ، من أنّ عبد الله لم يُذكر في وصية الصادق ، وإليك نص كلام الشيخ " رحمه الله " :
( أسندَ ـ أي الصادق ـ وصيته إلى خمسة نفر ، أولهم المنصور ، ولم يُفرد إبنه موسى بها ، إبقاء عليه ، وأشهد معه ؛ الربيع ، وقاضي الوقت ، وجاريته أم ولده حميدة البربرية ، وختمهم بذكر موسى بن جعفر " ع " لستر أمره ، وحراسة نفسه ، ولم يذكر مع وَلده موسى أحدا من أولاده الباقين ، لعلمه أنه كان فيهم مَن يدّعي مقامه ، من بعده ) ـ9ـ
فلو كان اعتقاد الشيخ أنّ " الصادق " لم يذكر في وصيته ولده عبد الله " الأفطح " فكيف يسوّغ لنفسه أن يستدلّ على قضية ما ، برواية يرفض شطرا كبيرا ومهما من محتواها ؟
8ـ أليست هذه الرواية ، والتي تذكر أن عبد الله هو من ضمن من أوصى لهم الصادق بالإمامة من بعده ، تُعدّ مبررا للـ " الفرقة الفطحية " في إتجاهها وإصرارها على إمامة عبد الله الأفطح " ع " ، خصوصا أنّ هذه الفرقة تضمّ أجلاء فقهاء الشيعة وأصحاب الأئمة " ع " ومن المقرّبين جدا إليهم ؟..
ثم يبدأ الشيخ بالردّ على ما تبنّته " الفرقة المحمدية " من مهدوية محمد بن علي الهادي ، وإمامته ، من خلال سرده لمجموعة من الروايات ، منها :
( روى سعد بن عبد الله الأشعري قال : حدثني أبو هاشم دواد بن القاسم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن " ع " وقت وفاة إبنه أبي جعفر ، وقد كان أشار إليه ودلّ عليه ، فإني لأفكر في نفسي وأقول ؛ هذه قضية أبي إبراهيم ، وقضية أسماعيل .. فأقبلَ عليّ أبو الحسن ، عليه السلام ، فقال : نعم يا أبا هاشم ، بدا لله تعالى في أبي جعفر ، وصيّر مكانه أبا محمد ، كما بدا لله في إسماعيل ، بعدما دلّ عليه أبو عبد الله " ع " ونصبه ، وهو كما حدّثت به نفسك ، وإن كره المبطلون ) ـ10ـ
ويردّ " المؤلف " على هذه الرواية ، من خلال توجيهها الوجهة التي يرى ، فيقول " عفا الله عنه " :
( ما تضمّن الخبر المتقدم ، من قوله " بدا لله في محمد كما بدا له في إسماعيل " معناه ؛ ظهرَ من الله وأمره ، في أخيه الحسن ، ما أزال الريب والشك ، في إمامته ، فإنّ جماعة من الشيعة ، كانوا يظنون ، أنّ الأمر في " محمد " من حيث كان هو الأكبر ، كما كان يظن جماعة ، أنّ الأمر في إسماعيل بن جعفر ، دون موسى ، فلمّا مات محمد ؛ ظهرَ من أمر الله فيه ، وأنه " أي الله " لم ينصّبه إماما ، كما ظهر في إسماعيل ، مثل ذلك ، لا أنه كان نصّ عليه ، ثمّ بدا له في النصّ على غيره ) ـ11ـ
وتوجيه الشيخ للرواية السابقة ، هو من ضمن غرائبه المتكررة ، والتي تذهل المرء ، وتستفزه لإعادة النظر في الكثير من " المسلمات " و " القداسات " ، ولنا على هذا " التوجيه " ملا حظات ، منها :
1ـ الرواية التي يوجّهها المؤلف وجهته الغريبة تلك ، هي ، كما هو بيّن ، واضحة الدلالة ، جليّة المعنى ، ولا تتناسب مع ما ذهب إليه وارتآه ، سامحنا وسامحه الله .. فالرواية تبدأ هكذا ، وبمثل هذا الوضوح والمباشرة " كنتُ عند أبي الحسن ، وقت وفاة ابنه أبي جعفر ، وقد كان أشار إليه ، ودلّ عليه " فكيف يأتي الشيخ هنا ليقول " أنّ جماعة من الشيعة كانوا يظنون أن الأمر في محمد من حيث كان ، هو ، الأكبر " بالله عليكم هل ذكر الراوي مثل هذا الأمر ؟ فالراوي صرّح أنّ أباه قد كان " أشار إليه " بالإمامة ، و " دلّ " عليه ، ولم يقل أنّ جماعة من الشيعة ظنوا أن الأمر لمحمد بإعتباره الأكبر سنا .. فلا أدري كيف فهم الشيخ الطوسي من الرواية ما ذهب إليه ؟
2ـ الشطر الثاني من النص ، يقول ، وأيضا بمنتهى الوضوح ، " قال أبو الحسن ؛ كما بدا لله في إسماعيل ، بعدما دلّ عليه أبو عبد الله ، ونصبه " ليأتي المؤلف ، مرة أخرى ، ليوجه هذا الشطر من النص ، بهذا الشكل المذهل : ( كما كان يظنّ جماعة أن الأمر في إسماعيل بن جعفر دون موسى ، فلما مات محمد ظهر من أمر الله فيه ، وأنه لم ينصبه إماما ، كما ظهر في إسماعيل ، مثل ذلك ، لا أنه نصّ عليه ، ثم بدا له في النص على غيره ) وكما هو جليّ ، فتوجيه الشيخ للشطر الثاني من الرواية ، بعيد تماما عن المنطق ، وواضح التكلف ، بل لا يمكن استساغته إطلاقا ..
3ـ هنالك رواية يذكرها الشيخ نفسه ، تخصّ موضوع إمامة الحسن العسكري ، بدلا من أخيه محمد ، والرواية هذه تؤكد ، أنّ الإمام الهادي كان قد أشار إلى وَلده محمد ، ثم عند وفاته ، أشار إلى ولده الثاني الحسن العسكري .. الغريب في الأمر ، هو أنّ المؤلف يذكر هذه الرواية في الصفحة التي تلي توجيهه الغريب والمتكلف للنص السابق ، وإليك الرواية بقضّها وقضيضها :
( روى محمد بن الحسن بن أبي الخطاب ، عن ابن أبي الصهبان قال : لمّا مات أبو جعفر محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسى " ع " وُضع لأبي الحسن علي بن محمد كرسي ، فجلس عليه ، وكان أبو محمد الحسن بن علي " ع " قائما في ناحيته ، فلما فرغ من غسل أبي جعفر ، إلتفتَ أبو الحسن إلى أبي محمد " ع " فقال : يا بنيّ ، أحدِث لله شكرا ، فقد أحدَث فيك أمرا ) ـ12ـ
أليس هذا النص في غاية الوضوح ، من الإمام الهادي ، لابنه العسكري ، يؤكد له فيه ، أنّ الإمامة كانت لأخيه محمد ، فانتقلت ، بسبب موته ، " إليك " " فاشكر اللهَ ، ربك ، على هذه النعمة التي أحدثها فيك ، وجلبها إليك " ..
4ـ كلنا نعرف ، والشيخ ، بالتأكيد ، منا ، أنّ تنصيب " الإمام " لله وحده ، وليس للإمام نفسه ، أن ينصّب من يشاء من ولده ، وهذا يعني أنّ " الصادق " و " الهادي " حينما أشارا ( كما تؤكد الرواية السابقة ) إلى ولديهما إسماعيل ومحمد ، بالإمامة ، ونصباهما لهذا المقام العظيم ، فلا شكّ أنهما " ع " لم يقوما بذلك ، من تلقاء أنفسهما ( وأظن أن هذه هي عقيدة الشيخ نفسه ، ولا أعتقد أنه يخالف ذلك ) إنما من عند الله ، سبحانه وتعالى ، ولذا نرى " الهادي " يقول " بدا لله " كما قال " الصادق " قولته الشهيرة " ما بدا لله في شيء ، مثلما بدا له في وَلدي إسماعيل " ...
ثمّ يذكر الشيخ " رحمه الله " رواية أخرى ، لنفي إمامة محمد بن علي الهادي ، وإثبات إمامة أخيه العسكري ، لكنه لا يلتفت إلى أن روايته هذه تؤكد أنّ إمامه الهادي قد نصّ على إبنه محمد ، قبل موته ، وهل تعرفون أين يذكر الشيخ هذه الرواية ؟ إنها في نفس الصفحة ، بل قبل أسطر قليلة من توجيهه " المتكلف ، والسّمِج " لروايتنا السابقة ، وإليكم نص الرواية :
( عن سعد بن عبد الله الأشعري ، عن علي بن محمد الكليني ، عن إسحاق بن محمد النخعي ، عن شاهويه بن عبد الله الجلاب قال : كنت رويتُ عن أبي الحسن العسكري " ع " في أبي جعفر ، ابنه ، روايات تدلّ عليه ، فلمّا مضى أبو جعفر ، قلقلتُ لذلك ، وبقيتُ متحيّرا ، لا أتقدم ولا أتأخر ، وخفتُ أن أكتبَ إليه ، في ذلك ، فلا أدري ما يكون ، فكتبت إليه ، أسأله الدعاء ، وأن يفرّج الله تعالى عنا ، في أسباب من قبل السلطان ، كنا نغتمّ في غلماننا ، فرجعَ الجواب بالدعاء ، وردّ الغلمان علينا ، وكتبَ " أي الإمام الهادي " في آخر الكتاب : أردتَ أن تسال عن الخلف ، بعد مُضيّ أبي جعفر ، وقلقتَ لذلك ، فلا تغتمّ ، فإنّ الله لا يُضلّ قوما بعد إذ هداهم ، حتى يبيّن لهم ما يتقون ، صاحبكم بعدي أبو محمد ابني ، وعنده ما تحتاجون إليه ، يقدّم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها ، نأتِ بخير منها ، أو مثلها ) ـ13ـ
وهذه الرواية واضحة لكل ذي عقل ، حول نصب الهادي لولده " محمد " ، قبل موته ، ثم انتقلت الإمامة بـ " موته " إلى ولده الثاني " الحسن العسكري " ولذا يستشهد إمامنا الهادي " ع " بالآية الشريفة " ما ننسخ من آية أو ننسها ، نأت بخير منها أو مثلها " ...
وقد مر معنا ، تفنيد الشيخ " رحمه الله " لأدلة الواقفة ، والكيسانية ، وهو هنا ركّز على ردّ بقية الفرق ممن يقولون بمهدوية وغيبة أئمتهم ، ليبقى لديه ، التصديق بمهدوية وغيبة " إمامه " محمد بن الحسن " ع " ...
وأظنّ أننا أطلنا المكوث بهذا المكان ، كثيرا ، وآن لنا الرحيل لمتاهات ودروب جديدة ، علّنا نجد على نارٍ هدى ، وإن كنتُ أرى ، أننا الآن ، والآن فقط ، سنلج العتمة ، لتصفعنا وحشتُها ، فنحنُّ ، بملأ الروح ، لِكسرة ضوء ...
ـــــــــــــ
1ـ الكتاب : 109
2ـ الكتاب : 115
3ـ الكتاب : 117
4ـ الكتاب : 115ـ116
5ـ الكتاب : 116
6ـ الكتاب : 116
7ـ الكتاب : 119
8ـ الكتاب : 119
9ـ الكتاب : 75
10ـ الكتاب : 120ـ121
11ـ الكتاب : 121
12ـ الكتاب : 122
13ـ الكتاب : 121
Comment