هل يحق لعثمان أن يحرق المصاحف ؟!
(فضل القرآن ووجوب احترامه وتقديسه من بديهيات الدين التي لا يتنازع فيها اثنان من المسلمين، بل ذكر بعض علماء المسلمين آداب لاحترام المصحف حتى على مستوى التثاؤب ومدّ الرجل فضلاً عن غيرها مما هو واضح لمن تتبّع ذلك، قال النووي: (أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه) (1).
والسؤال الآن: هل حرق المصحف بذاته - وبقطع النظر عن أيّ شيء آخر - من الأفعال التي تعد احتراماً للمصحف، أو إهانة له ؟؟
الجواب: إنّ من الأفعال ما هو قبيح في حدّ نفسه، فالكذب مثلاً قبيح في ذاته ويضفي النقص الفاحش على فاعله بكل تأكيد، ومجرد أنّ نية الفاعل سليمة لا تجعل من النقص كمالاً، إلا أن يأتي ترخيص شرعي في فعله في بعض الأحيان فيستطيع الاقتصار على مورد الترخيص كما هو واضح.
وهناك أفعال هي على الحياد في حد نفسها تجاه الحسن والقبح ويكون للنية دور في اتصافها بالكمال أو النقص، فأن يمشي المرء آخر الليل ليعين فقيراً أمر حسن بخلاف ما لو كان خالياً عن هذه النية أو كانت عنده نية سوء والعياذ بالله.
الآن، لو أتينا إلى حرق المصحف فهل هو فعل حسن وجميل في حدّ نفسه ؟؟ أكيد لا، بل لا يختلف اثنان في أنه إساءة للمصحف وجرأة عليه، ولست بجريء إن قلت إنّ هذا أمر بديهي لا يخالفه وجدان منصف، لذا كان القس النصراني مداناً بفعله القبيح ودعوته لإحراق المصاحف وجعل يوم عالمي لذلك (2) مهما كانت نيته.
حتى إنّ ابن جبرين الوهابي المعروف يجيب في الفتوى المرقمة (947) / موضوع: التبخير بالقرآن الكريم على سؤال وجه إليه بان إحراق آيات المصحف إهانة للقرآن، واليك نص السؤال ومقطع من جوابه: (السؤال: هل يجوز التبخير بالقرآن الكريم على النار بعد كتابة الآية المشار إليها أعلاه بالزعفران أو القلم على الورق الأبيض ؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.
الإجابة : .. وأما إحراق آيات القرآن من المصحف والتبخر عليها فنرى أن ذلك إهانة للقرآن، وإنما يتبخر بالأوراق بعد غسلها وشرب مائها. والله أعلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية) (3).
وبعد اتصاف حرق القرآن بالقبح، فهل تكفي نية الفاعل "السليمة" لاتصافه بالحسن والايجابية ؟؟ طبعاً لا، بل لابد من إبراز ترخيص شرعي لفاعله.
إذا اتضح ذلك أقول: لا إشكال في أنّ عثمان قد أحرق المصاحف التي كانت تحت أيدي الصحابة، أحرقها مع علمه أنّ فيها من القرآن الشيء الكثير، فعلام استند الرجل في فعلته ؟؟ خصوصاً وأنّه ليس إماماً يقتدى به في كل شيء، ولا صار فعله ميزاناً لشرع الله بحيث يكون فعله دين بلا مستند يوزن به !!
وأسرع الأتباع الأوفياء للتبرير كالعادة، ومثالاً للمحاماة في الدفاع نستعرض قول الزركشي عن صاحبه المحاسبي إذ يقول: (وأما تعلق الروافض بأن عثمان أحرق المصاحف، فإنه جهل منهم وعمى فإنّ هذا من فضائله وعلمه فإنه أصلح ولمّ الشعث، وكان ذلك واجباً عليه، ولو تركه لعصى لما فيه من التضييع وحاشاه من ذلك)(4).
حرْقُ آيات الكتاب الكريم بل كلّ الكتاب فضيلة وعلم !! سبحان الله، تذكّرني هذه الفضائل بفضائل نسجت لعمر أيضاً لما طلب النبي ص الكتف والدواة ليكتب الكتاب العاصم من الضلال، فقال: "غلبه الوجع حسبنا كتاب الله" (5)، ونهض البعض مبرراً لعمر وزعم أنه دليل فقهه ودقيق نظره(6).
وعلى كل حال، فعثمان في ما فعل مطالب بالإتيان بالدليل الشرعي الذي اعتمده في تجميع المصاحف وإشعال النار فيها ؟! ومجرد سعي عثمان للإصلاح ولمّ شعث الأمة - كما زعم الزركشي وغيره - لا يبرر له إهانة المصحف في صنيعه، ولا أنه يصيّر من الإساءة لكتاب الله احتراماً، لأنّ الإصلاح لا يكون إلا بما أمر الله به ونبيه ص في دينه الحق، وتجاوز حدود الله هو بذاته إفساد جديد وهل يعالج الفساد على فرضه بفساد مثله !!
ومن ثمّ فمن غريب القول أن نسمع المحاسبي يقول: (وفي الجملة إنه - أي عثمان - إمام عدل غير معاند ولا طاعن في التنزيل ولم يحرق إلا ما يجب إحراقه، ولهذا لم ينكر عليه أحد ذلك، بل رضوه وعدوه من مناقبه ..)(7).
وهو في الحقيقة مصادرة على المطلوب كما لا يخفى، فبدل أن يبرز لنا دليلاً على شرعية فعل عثمان، يرفعه هذا المحامي فوق مستوى النقد بجعله إماماً عدلاً !! وحتى لو قبلنا جدلاً أنه إمام عادل، فهل يعني أنه غير مطالب بالدليل على فعله ولو كان إهانة كتاب الله !! أليس لا معصوم عندكم بعد رسول الله ص كما تقولون ؟! يقولون هذا الذي لا يعدو أن يكون ادعاء لعصمة أصحابهم في ذات الوقت الذي ينكرون على الآخرين قولهم بعصمة آل محمد ع الذين طهرهم الله بنص كتابه وبالدليل القاطع !!
ثم أيّ وئام بين الصحابة يتحدث عنه في أثناء حرق عثمان للمصاحف وابن أمّ عبد - الذي تنقلون أنّ النبي ص أمركم أن تقرؤوا القرآن بقراءته - يرفع صوته عالياً بين المسلمين طالباً منهم أن يغلّوا مصاحفهم ويخفوها عن حرق عثمان، وها هنا كلام كثير في مصادرهم تتحدث عن تلك الأيام الحوالك التي عاشها المسلمون.
ولا يبقى سوى الوهابيين - وشذّت منهم أقوال كما سمعنا من فتوى ابن جبرين المتقدمة - ومن هم على شاكلتهم يعتبرون ما فعله عثمان شرعاً يقلدونه إلى يوم الناس هذا في فتاواهم. يسأل أحدهم فيقول: (عندي مصحف شريف أوراقه مخرقة فماذا أعمل به هل أقوم بدفنه في الأرض أم لا .. ؟ الجواب: يجوز لك أن تدفنه في أرض مسجد .. ويجوز لك أن تحرقه اقتداء بعثمان)(8).
ولا يبقى عثمان فريداً في صنيعة بل سرعان ما اقتدى به مروان مع مصحف عمر، قال الراغب الأصفهاني في محاضراته: (وأحرق مروان مصحف عمر)(9).)
#(من كتاب ماذا جرى على القرآن وقراءة اهل البيت ع /اعداد الشيخ علاء السالم)
المصادر المستخدمة:
(1): التبيان في آداب حملة القرآن: 108.
(2): المنكوس تيري جونز من ولاية فلوريدا / أمريكا، دعا إلى جعل يوم 11 سبتمر يوماً عالمياً لحرق نسخ من المصاحف، وقد تناولت الخبر الكثير من وكالات الأنباء العالمية والصحف المقروءة والالكترونية.
(3): بالإمكان مشاهدة فتوى ابن جبرين على هذا الرابط: http://www.ibn-jebreen.com/controlle...waView&fid=947
(4): البرهان في علوم القرآن: ج1 ص240.
(5): صحيح البخاري: ج5 ص138 باب مرض النبي ص
(6): قال النووي: (وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب ص أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر حسبنا كتاب الله ..) شرح مسلم: ج11 ص90.
(7): البرهان في علوم القرآن: ج1 ص240.
(8): فتاوى الوهابيين: ج4 ص98.
(9): محاضرات الأدباء: ج2 ص419.
(فضل القرآن ووجوب احترامه وتقديسه من بديهيات الدين التي لا يتنازع فيها اثنان من المسلمين، بل ذكر بعض علماء المسلمين آداب لاحترام المصحف حتى على مستوى التثاؤب ومدّ الرجل فضلاً عن غيرها مما هو واضح لمن تتبّع ذلك، قال النووي: (أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه) (1).
والسؤال الآن: هل حرق المصحف بذاته - وبقطع النظر عن أيّ شيء آخر - من الأفعال التي تعد احتراماً للمصحف، أو إهانة له ؟؟
الجواب: إنّ من الأفعال ما هو قبيح في حدّ نفسه، فالكذب مثلاً قبيح في ذاته ويضفي النقص الفاحش على فاعله بكل تأكيد، ومجرد أنّ نية الفاعل سليمة لا تجعل من النقص كمالاً، إلا أن يأتي ترخيص شرعي في فعله في بعض الأحيان فيستطيع الاقتصار على مورد الترخيص كما هو واضح.
وهناك أفعال هي على الحياد في حد نفسها تجاه الحسن والقبح ويكون للنية دور في اتصافها بالكمال أو النقص، فأن يمشي المرء آخر الليل ليعين فقيراً أمر حسن بخلاف ما لو كان خالياً عن هذه النية أو كانت عنده نية سوء والعياذ بالله.
الآن، لو أتينا إلى حرق المصحف فهل هو فعل حسن وجميل في حدّ نفسه ؟؟ أكيد لا، بل لا يختلف اثنان في أنه إساءة للمصحف وجرأة عليه، ولست بجريء إن قلت إنّ هذا أمر بديهي لا يخالفه وجدان منصف، لذا كان القس النصراني مداناً بفعله القبيح ودعوته لإحراق المصاحف وجعل يوم عالمي لذلك (2) مهما كانت نيته.
حتى إنّ ابن جبرين الوهابي المعروف يجيب في الفتوى المرقمة (947) / موضوع: التبخير بالقرآن الكريم على سؤال وجه إليه بان إحراق آيات المصحف إهانة للقرآن، واليك نص السؤال ومقطع من جوابه: (السؤال: هل يجوز التبخير بالقرآن الكريم على النار بعد كتابة الآية المشار إليها أعلاه بالزعفران أو القلم على الورق الأبيض ؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.
الإجابة : .. وأما إحراق آيات القرآن من المصحف والتبخر عليها فنرى أن ذلك إهانة للقرآن، وإنما يتبخر بالأوراق بعد غسلها وشرب مائها. والله أعلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية) (3).
وبعد اتصاف حرق القرآن بالقبح، فهل تكفي نية الفاعل "السليمة" لاتصافه بالحسن والايجابية ؟؟ طبعاً لا، بل لابد من إبراز ترخيص شرعي لفاعله.
إذا اتضح ذلك أقول: لا إشكال في أنّ عثمان قد أحرق المصاحف التي كانت تحت أيدي الصحابة، أحرقها مع علمه أنّ فيها من القرآن الشيء الكثير، فعلام استند الرجل في فعلته ؟؟ خصوصاً وأنّه ليس إماماً يقتدى به في كل شيء، ولا صار فعله ميزاناً لشرع الله بحيث يكون فعله دين بلا مستند يوزن به !!
وأسرع الأتباع الأوفياء للتبرير كالعادة، ومثالاً للمحاماة في الدفاع نستعرض قول الزركشي عن صاحبه المحاسبي إذ يقول: (وأما تعلق الروافض بأن عثمان أحرق المصاحف، فإنه جهل منهم وعمى فإنّ هذا من فضائله وعلمه فإنه أصلح ولمّ الشعث، وكان ذلك واجباً عليه، ولو تركه لعصى لما فيه من التضييع وحاشاه من ذلك)(4).
حرْقُ آيات الكتاب الكريم بل كلّ الكتاب فضيلة وعلم !! سبحان الله، تذكّرني هذه الفضائل بفضائل نسجت لعمر أيضاً لما طلب النبي ص الكتف والدواة ليكتب الكتاب العاصم من الضلال، فقال: "غلبه الوجع حسبنا كتاب الله" (5)، ونهض البعض مبرراً لعمر وزعم أنه دليل فقهه ودقيق نظره(6).
وعلى كل حال، فعثمان في ما فعل مطالب بالإتيان بالدليل الشرعي الذي اعتمده في تجميع المصاحف وإشعال النار فيها ؟! ومجرد سعي عثمان للإصلاح ولمّ شعث الأمة - كما زعم الزركشي وغيره - لا يبرر له إهانة المصحف في صنيعه، ولا أنه يصيّر من الإساءة لكتاب الله احتراماً، لأنّ الإصلاح لا يكون إلا بما أمر الله به ونبيه ص في دينه الحق، وتجاوز حدود الله هو بذاته إفساد جديد وهل يعالج الفساد على فرضه بفساد مثله !!
ومن ثمّ فمن غريب القول أن نسمع المحاسبي يقول: (وفي الجملة إنه - أي عثمان - إمام عدل غير معاند ولا طاعن في التنزيل ولم يحرق إلا ما يجب إحراقه، ولهذا لم ينكر عليه أحد ذلك، بل رضوه وعدوه من مناقبه ..)(7).
وهو في الحقيقة مصادرة على المطلوب كما لا يخفى، فبدل أن يبرز لنا دليلاً على شرعية فعل عثمان، يرفعه هذا المحامي فوق مستوى النقد بجعله إماماً عدلاً !! وحتى لو قبلنا جدلاً أنه إمام عادل، فهل يعني أنه غير مطالب بالدليل على فعله ولو كان إهانة كتاب الله !! أليس لا معصوم عندكم بعد رسول الله ص كما تقولون ؟! يقولون هذا الذي لا يعدو أن يكون ادعاء لعصمة أصحابهم في ذات الوقت الذي ينكرون على الآخرين قولهم بعصمة آل محمد ع الذين طهرهم الله بنص كتابه وبالدليل القاطع !!
ثم أيّ وئام بين الصحابة يتحدث عنه في أثناء حرق عثمان للمصاحف وابن أمّ عبد - الذي تنقلون أنّ النبي ص أمركم أن تقرؤوا القرآن بقراءته - يرفع صوته عالياً بين المسلمين طالباً منهم أن يغلّوا مصاحفهم ويخفوها عن حرق عثمان، وها هنا كلام كثير في مصادرهم تتحدث عن تلك الأيام الحوالك التي عاشها المسلمون.
ولا يبقى سوى الوهابيين - وشذّت منهم أقوال كما سمعنا من فتوى ابن جبرين المتقدمة - ومن هم على شاكلتهم يعتبرون ما فعله عثمان شرعاً يقلدونه إلى يوم الناس هذا في فتاواهم. يسأل أحدهم فيقول: (عندي مصحف شريف أوراقه مخرقة فماذا أعمل به هل أقوم بدفنه في الأرض أم لا .. ؟ الجواب: يجوز لك أن تدفنه في أرض مسجد .. ويجوز لك أن تحرقه اقتداء بعثمان)(8).
ولا يبقى عثمان فريداً في صنيعة بل سرعان ما اقتدى به مروان مع مصحف عمر، قال الراغب الأصفهاني في محاضراته: (وأحرق مروان مصحف عمر)(9).)
#(من كتاب ماذا جرى على القرآن وقراءة اهل البيت ع /اعداد الشيخ علاء السالم)
المصادر المستخدمة:
(1): التبيان في آداب حملة القرآن: 108.
(2): المنكوس تيري جونز من ولاية فلوريدا / أمريكا، دعا إلى جعل يوم 11 سبتمر يوماً عالمياً لحرق نسخ من المصاحف، وقد تناولت الخبر الكثير من وكالات الأنباء العالمية والصحف المقروءة والالكترونية.
(3): بالإمكان مشاهدة فتوى ابن جبرين على هذا الرابط: http://www.ibn-jebreen.com/controlle...waView&fid=947
(4): البرهان في علوم القرآن: ج1 ص240.
(5): صحيح البخاري: ج5 ص138 باب مرض النبي ص
(6): قال النووي: (وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب ص أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر حسبنا كتاب الله ..) شرح مسلم: ج11 ص90.
(7): البرهان في علوم القرآن: ج1 ص240.
(8): فتاوى الوهابيين: ج4 ص98.
(9): محاضرات الأدباء: ج2 ص419.
Comment