بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين اللهم صلي على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسم اسليما
اختلف كل جمهور السنة على تعريف الصحابي ولكنهم اتفقوا على عدالته فقالوا في تعريف الصحابي :
1. قال سعيد بن المسيب: الصحابي، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.
2. قال الواقدي: رأينا أهل العلم يقولون: كلّ من رأى رسول اللّه وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه، ولو ساعة من نهار، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.
3. قال أحمد بن حنبل: أصحاب رسول اللّه كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.
4. قال البخاري: من صحب رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.
5. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب: لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة، قليلاً كان أو كثيراً، ثمّ قال: ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف، فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته، و لا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى، أو سمع منه حديثاً، فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول و معمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً.
6. وقال صاحب الغوالي: لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع، الصحبةُ ولو ساعة ولكن العرف يخصُّصه بمن كثرت صحبته.
قال الجزري بعد ذكر هذه النقول، قلت : وأصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون، فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه «هوازن» مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان، وكذلك حجة الوداع، وكلّهم له صحبة.أُسد الغابة:1/11ـ12، طبع مصر
.
إنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّ الرؤية من بعيد، أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة، أو الإقامة معه زمناً قليلاً.
وأعجب منه كما تقدّم انّهم اتّفقوا على عدالة كل صحابي مع أنّهم اختلفوا في مفهوم الصحابي اختلافاً واسعاً، ومن الواضح انّ اتّفاقهم على العدالة رهن اتّفاقهم على تعريف محدد وجامع للمفهوم الصحابي.
إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بزوجية النبي، وقد قال سبحانه في شأنها : (يا نِساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيّنة يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَين وَكانَ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيراً).
وأنت ترى الكتاب العزيز يندّد بنساء النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لأجل كشف سره ويعاتبهنّ في ذلك.
يقول سبحانه: (وَإِذ أسرّ النبيّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حديثاً فَلَما نَبّأت بِهِ وَأَظهرهُ اللّه عَليهِ عَرّف بعضه وَأعرض عَنْ بَعض فَلَما نبّأها به قالَتْ مَنْ أنْبأك هذا قال نبّأني العَليمُ الخبيرُ * إِنْ تَتُوبا إِلى اللّه فقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُما وَإِن تَظاهرا عليه فَإِنّ اللّه هُوَ مَولاهُ وَجِبريلُ وَصالحُ المُؤْمنين والْمَلائكةُ بَعْد ذلك ظهير* عسى ربُّهُ إِنْ طلَّقكنَّ أن يُبْدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً).
فأي عتاب أشدّ من قوله سبحانه: (ان تَتُوبا إلى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكما)أي مالت قلوبكما عن الحقّ، كما أنّ قوله: (وإِنْ تَظاهرا عليه) يعرب عن وجود أرضية فيهن للتظاهر ضدّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وخلافه، وهو سبحانه أخبر عن إخقاق أُمنيتهنّ، لأنّ اللّه ناصر النبي وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة.
أنّ الصحبة ليست علّة تامة لتحويل المصاحب إلى إنسان عادل صالح خائف من اللّه، ناء عن اقتراف السيّئات حقيرة كانت أو كبيرة، بل هي مقتضية لصلاح الإنسان إذا كان فيه قابلية للاستضاءة، وعزم للاستفاضة.
ومعنى هذا انّ للصحبة تأثيراً متفاوتاً وليست على وتيرة واحدة.
إنّ دعوة الأنبياء ـ لاسيّما دعوة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ـ ابتنيت على أُسس رائجة في ميادين الدعوة، فكانوا يدعون بالقول والعمل والتبشير والتنذير، ومثل هذا النوع من الدعوة يؤثر في طائفة دون طائفة ، كما أنّه عند التأثير يختلف تأثيره عند من يلبّي دعوته، ولم تكن دعوته دعوة إعجازية خارجة عن قوانين الطبيعة، فالرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق مستعيناً بالأساليب التربوية المتاحة والإمكانيات المتوفرة، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، ولم يكن تأثير الصحبة في تكوين الشخصية الإسلامية كمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب حتّى تصنع الصحبةُ الجيلَ الكبير الذي يناهز مائة ألف، أُمّة عادلة مثالية تكون قدوة وأُسوة للأجيال المستقبلة، فانّ هذا ممّا لا يقبله العقل السليم.
فبالنظر إلى ما ذكرنا نخرج بالنتيجة التالية:
إنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوة الإيمان و رسوخ العقيدة إلى درجات عالية، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لايجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.
إنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم، حافلة بتبادل التّهم والشتائم، بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء، فكم من بدري وأُحدي انتُهكت حرمته، وصُبّ عليه العذاب صبّاً، أو أُريق دمه بيد صحابي آخر.
وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان، بيد أنّ الذي ينبغي التنبيه عليه، هو أنّ كلاً من المتصارعين ، كان يعتقد أنّ خصمه متنكّبٌ عن جادة الصواب، وأنّه مستحقّ للعقاب أو القتل، وهذا الاعتقاد، حتّى وإن كان نابعاً عن اجتهاد، فإنّه يكشف عن أنّ كلاً من الفئتين المختلفتين لم تكن تعتقد بعدالة الفئة الأُخرى.
فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه عادل عن الحق ومجانب لشريعة اللّه ورسوله، وهو على أساس ذلك يبيح سلّ السيف عليه وقتله، فكيف يجوز لنا نحن أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً، وأن نضفي عليهم ثوب القدسيّة على حدّ سواء؟! ونُبرّأهم من كل زيغ وانحراف؟
أو ليس الإنسان أعرف بحاله وأبصر بروحيّاته؟
أو ليس الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم، وبنفسيات أبناء جيلهم؟
هذا وراء ما دار بينهم كلمات تكشف عن اعتقاد بعضهم في حق بعض، فالاتّهام بالكذب والنفاق والشتم والسب كان من أيسر الأُمور المتداولة بينهم، فهذا هو سعد بن عبادة سيّد الخزرج، يخاطب سعد بن معاذ، وهو سيد الأوس وينسبه إلى الكذب كما حكاه البخاري في صحيحه عن عائشة أنها قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لسعد [بن مـعاذ ]كـذبت لعمـر اللّه... فقـام أُسيـد ابن حضير وهو ابن عم سعد[ بن معاذ ]فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه يخفِّضهم حتّى سكتوا وسكت.صحيح البخاري:3/245، كتاب التفسير، رقم الحديث4750.
وليست هذه القضية فريدة في بابها فلها عشرات النظائر في الصحاح والمسانيد وفي غضون التاريخ. وإنّما ذكرته ليكون كنموذج لما لم أذكر، وسيوافيك في الفصول التالية نماذج من أفعالهم وأقوالهم التي يكشف عن اعتقادهم في حقّ مخالفيهم.
أو ليس من العجب العجاب، انّ الصحابي يصف صحابياً آخر ـ في محضر النبي ـ بالكذب، والآخر يصف خصمه بالنفاق، وكلا الرجلين من جبهة الأنصار وسنامهم؟! ولكن الذين جاءوا بعدهم يصفونهم بالعدل والتقوى، والزهـد والتجافي عن الدنيا، وهل سمعت ظئراً أرحم بالطفل من أُمّه.
الغلو في الصحابة :
إنّ كثيراً من أهل السنّة، غالوا في حقّ الصحابة وتجاوزوا الحد، خضوعاً للعاطفة، وإغماضاً عمّا ورد في حقّهم في الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح، فألبسوهم جميعاً لباس العدالة ـ بل العصمة من غير وعي ـ فصاروا مصادر للدين، أُصوله وفروعه، دون أن يقعوا في إطار الجرح والتعديل، من غير فرق بين من آمن قبل بيعة الرضوان وبعدها، ومن آمن قبل الفتح أو بعده، ومن غير فرق بين الطلقاء وأبنائهم والأعراب، مع تفريق الكتاب العزيز بينهم في الإيمان والإخلاص، فالكلّ في نظرهم من أوّلهم إلى آخرهم عدول، لا يخطئون ولا يسهون، ولا يعصون.
وليس هذا إلاّ نوعا من الغلو لم يعهد في أُمّة عبر التاريخ.
مظاهر الغلو
يرى غير واحد من الباحثين انّ للصحابة سنّة، تُعتبر حجة يعمل بها، وإن لم تكن في الكتاب الكريم ولا في المأثور عن النبي، قال مؤلّف كتاب «السنّة قبل التدوين».الدكتور محمد عجاج الخطيب، أُستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بدمشق.
«وتطلق السنّة أحياناً عند المحدّثين وعلماء أُصول الفقه على ما عمل به أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، سواء أكان في الكتاب الكريم أم في المأثور عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أم لا. ويحتج لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسُنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ». وقوله أيضاً: «تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة»، قالوا: ومَن هم يا رسول اللّه؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».تدوين السنة:20، ط دار الفكر.
روى السيوطي: قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إنّ ما سنَّ رسول اللّه وصاحباه فهو دين نأخذ به، وننتهي إليه وماسنّ سواهما فإنّما نرجئه.تاريخ الخلفاء: 16.
هذا وقد احتلّت فتوى الصحابة منزلة الآثار النبوية يأخذ بها فقهاء السنّة، يقول الشيخ أبو زهرة: ولقد وجدناهم (الفقهاء) يأخذون جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده، ووجدنا مالكاً ـ رضي اللّه عنه ـ يأخذ بفتواهم على انّها من السنّة . الخ
وهذا يعرب عن أنّ للصحابة حق التشريع وجعل الأحكام في ضوء المصالح العامة، مع أنّ الكتاب العزيز دلّ بوضوح على أنّ حق التشريع خاص باللّه فقط، ولا يحق لأحد أن يفرض رأيه على الآخرين.
فدفعُ زمام التشريع إلى غيره سبحانه أشبه بعمل أهل الكتاب حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه. فلم يعبدوهم، بل خضعوا لهم في التحريم والتحليل فصاروا أرباباً في مجال التقنين والتشريع.
روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» قال: فطرحته، ثم انتصب إليه وهو يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرباباً) حتى فرغ منها، فقلت: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: «أليس يحرّمون ما أحله اللّه فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم اللّه فتحلّونه؟» قال: فقلت: بلى، قال: «فتلك عبادة».تفسير الثعلبي:5/314.
وممّن وقف على خطورة الموقف، الشوكاني قال: والحق إنّ قول الصحابي ليس بحجّة، فانّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً، وليس لنا إلاّ رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة، فمن قال: إنّه تقوم الحجّة في دين اللّه بغيرهما فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت وأثبت شرعاً لم يأمر اللّه به.إرشاد الفحول:214.
والعجب انّ الصحابة لم يدّعوا لأنفسهم هذا المقام ولم يغالوا في حقّهم ولم يتجاوزوا الحد، وهذا هو عمربن الخطاب يقول: وإنّي لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم،وآمركم بأشياء لا تصلح لكم.تاريخ بغداد:14/81.
وقد شاع وذاع عن الخلفاء قولهم: «أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن اللّه، وإن أخطأت فمنّي أو من الشيطان» فكيف يمكن أن يكون الرأي المردد بين اللّه وغيره حكماً شرعياً لازم الاتّباع إلى يوم البعث.
العزوف عن النقد في الصحابة :
من مظاهر الغلو في الصحابة هو العزوف عن نقد الصحابة، والمنع عن التكلم حول ما دار بينهم من النزاع والنقاش، يقول إمام الحنابلة:
وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أبو بكر، وخيرهم بعد أبي بكر عمر، و خيرهم بعد عمر، عثمان، وخيرهم بعد عثمان علي ـ رضوان اللّه عليهم ـ خلفاء راشدون مهديّون، ثمّ أصحاب محمّد بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع.كتاب السنة لأحمد بن حنبل: 50.
وقال الإمام الأشعري: ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بها ونتولّى بها ونتولّى سائر أصحاب النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ونكفّ عمّا شجر بينهم...الإبانة: 40، ط دار النفائس، ومقالات الإسلاميين:294.
وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي(المتوفّى 377هـ) عند ما ذكر عقائد أهل السنّة ومنها: الكفّ عن أصحاب محمد.التنبيه والردّ : 15.
وعندما يقف الباحث على مصادر جمة وتظهر أمامه أفانين من اقتراف المعاصي وسفك الدماء الطاهرة، وهتك الحرمات، ويجابههم بهذه الحقائق، فإنّهم يلتجئون إلى ما يُروى عن عمر بن عبد العزيز وأحياناً عن الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف، وكثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة ـ حيث قتل بعضهم بعضاً ـ تلك دماء طهّر اللّه منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا.
أمّا القرآن الكريم فقد وصف طوائف من الصحابة بالأوصاف التي سوف تقف عليها عند تصنيف الصحابة والتي منها الفسق وقال فيما قال: (يا أَيُّها الّذينَ آمَنوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإ فَتَبيّنوا أَن تصيبُوا قَوْماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين).الحجرات:6.
وأمّا السنّة النبوية فهي تصف قتلة عمار بالفئة الباغية حيث قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنّة ويدعونك إلى النار».الجمع بين الصحيحين:2/461، رقم1794.
وكان معاوية، وعمرو بن العاص يقودان الفئة الباغية.
ويقول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في حقّ الخوارج:« تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق».السنّة لابن حنبل،رقم 41.
وهذه الأحاديث وأمثالها كثيرة مبثوثة في الصحاح والمسانيد، فإذا كان الإمساك أمراً واجباً والإطلاق أمراً محرماً، فلماذا أطلق الوحي الإلهي والنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لسانهما بوصف هؤلاء بالأوصاف الماضية؟!
وأمّا العقل فلا يجوّز لنا أن نلبس الحق بالباطل ونكتم الحقّ ونكيل للظالم والعادل بمكيال واحد، أمّا ما روي عن الإمام أحمد فلعلّه يريد به الإمساك عن الكلام فيهم بالباطل والهوى، وأمّا الكلام فيهم بما اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ونقله المحدّثون والمؤرخون في كتبهم وأُشير إليه في الذكر الحكيم فلا معنى للزوم الإمساك عنه.
ثمّ إنّه يُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل وصفين والنهروان، كانت قد سُفكت بغير حق، وهذا ـ وأيم الحق ـ عين النصب، وقضاء بالباطل، وإلاّ فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، كان قتالاً بغير حقّ؟! وكلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ كان على بيّنة من ربّه وبصيرة من دينه، يدور معه الحقّ حيثما دار، وهو الذي يقول: «واللّه لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللّهَ في نملة أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ».
ما هذا التجنّي أمام الحقائق الواضحة؟!
أو ليس العزوف عن نقد الصحابة تكريساً للأخطاء، وإيغالاً في التقديس؟!
أو ليس تنزيه الصحابة جميعاً تنكّراً للطبيعة البشرية.
الحمد لله رب العالمين اللهم صلي على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسم اسليما
نظرية عدالة الصحابة ح 1
من هو الصحابي ؟؟
اختلف كل جمهور السنة على تعريف الصحابي ولكنهم اتفقوا على عدالته فقالوا في تعريف الصحابي :
1. قال سعيد بن المسيب: الصحابي، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.
2. قال الواقدي: رأينا أهل العلم يقولون: كلّ من رأى رسول اللّه وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه، ولو ساعة من نهار، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.
3. قال أحمد بن حنبل: أصحاب رسول اللّه كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.
4. قال البخاري: من صحب رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.
5. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب: لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة، قليلاً كان أو كثيراً، ثمّ قال: ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف، فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته، و لا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى، أو سمع منه حديثاً، فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول و معمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً.
6. وقال صاحب الغوالي: لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع، الصحبةُ ولو ساعة ولكن العرف يخصُّصه بمن كثرت صحبته.
قال الجزري بعد ذكر هذه النقول، قلت : وأصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون، فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه «هوازن» مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان، وكذلك حجة الوداع، وكلّهم له صحبة.أُسد الغابة:1/11ـ12، طبع مصر
.
إنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّ الرؤية من بعيد، أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة، أو الإقامة معه زمناً قليلاً.
وأعجب منه كما تقدّم انّهم اتّفقوا على عدالة كل صحابي مع أنّهم اختلفوا في مفهوم الصحابي اختلافاً واسعاً، ومن الواضح انّ اتّفاقهم على العدالة رهن اتّفاقهم على تعريف محدد وجامع للمفهوم الصحابي.
إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بزوجية النبي، وقد قال سبحانه في شأنها : (يا نِساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيّنة يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَين وَكانَ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيراً).
وأنت ترى الكتاب العزيز يندّد بنساء النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لأجل كشف سره ويعاتبهنّ في ذلك.
يقول سبحانه: (وَإِذ أسرّ النبيّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حديثاً فَلَما نَبّأت بِهِ وَأَظهرهُ اللّه عَليهِ عَرّف بعضه وَأعرض عَنْ بَعض فَلَما نبّأها به قالَتْ مَنْ أنْبأك هذا قال نبّأني العَليمُ الخبيرُ * إِنْ تَتُوبا إِلى اللّه فقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُما وَإِن تَظاهرا عليه فَإِنّ اللّه هُوَ مَولاهُ وَجِبريلُ وَصالحُ المُؤْمنين والْمَلائكةُ بَعْد ذلك ظهير* عسى ربُّهُ إِنْ طلَّقكنَّ أن يُبْدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً).
فأي عتاب أشدّ من قوله سبحانه: (ان تَتُوبا إلى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكما)أي مالت قلوبكما عن الحقّ، كما أنّ قوله: (وإِنْ تَظاهرا عليه) يعرب عن وجود أرضية فيهن للتظاهر ضدّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وخلافه، وهو سبحانه أخبر عن إخقاق أُمنيتهنّ، لأنّ اللّه ناصر النبي وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة.
أنّ الصحبة ليست علّة تامة لتحويل المصاحب إلى إنسان عادل صالح خائف من اللّه، ناء عن اقتراف السيّئات حقيرة كانت أو كبيرة، بل هي مقتضية لصلاح الإنسان إذا كان فيه قابلية للاستضاءة، وعزم للاستفاضة.
ومعنى هذا انّ للصحبة تأثيراً متفاوتاً وليست على وتيرة واحدة.
إنّ دعوة الأنبياء ـ لاسيّما دعوة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ـ ابتنيت على أُسس رائجة في ميادين الدعوة، فكانوا يدعون بالقول والعمل والتبشير والتنذير، ومثل هذا النوع من الدعوة يؤثر في طائفة دون طائفة ، كما أنّه عند التأثير يختلف تأثيره عند من يلبّي دعوته، ولم تكن دعوته دعوة إعجازية خارجة عن قوانين الطبيعة، فالرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق مستعيناً بالأساليب التربوية المتاحة والإمكانيات المتوفرة، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، ولم يكن تأثير الصحبة في تكوين الشخصية الإسلامية كمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب حتّى تصنع الصحبةُ الجيلَ الكبير الذي يناهز مائة ألف، أُمّة عادلة مثالية تكون قدوة وأُسوة للأجيال المستقبلة، فانّ هذا ممّا لا يقبله العقل السليم.
فبالنظر إلى ما ذكرنا نخرج بالنتيجة التالية:
إنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوة الإيمان و رسوخ العقيدة إلى درجات عالية، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لايجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.
إنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم، حافلة بتبادل التّهم والشتائم، بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء، فكم من بدري وأُحدي انتُهكت حرمته، وصُبّ عليه العذاب صبّاً، أو أُريق دمه بيد صحابي آخر.
وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان، بيد أنّ الذي ينبغي التنبيه عليه، هو أنّ كلاً من المتصارعين ، كان يعتقد أنّ خصمه متنكّبٌ عن جادة الصواب، وأنّه مستحقّ للعقاب أو القتل، وهذا الاعتقاد، حتّى وإن كان نابعاً عن اجتهاد، فإنّه يكشف عن أنّ كلاً من الفئتين المختلفتين لم تكن تعتقد بعدالة الفئة الأُخرى.
فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه عادل عن الحق ومجانب لشريعة اللّه ورسوله، وهو على أساس ذلك يبيح سلّ السيف عليه وقتله، فكيف يجوز لنا نحن أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً، وأن نضفي عليهم ثوب القدسيّة على حدّ سواء؟! ونُبرّأهم من كل زيغ وانحراف؟
أو ليس الإنسان أعرف بحاله وأبصر بروحيّاته؟
أو ليس الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم، وبنفسيات أبناء جيلهم؟
هذا وراء ما دار بينهم كلمات تكشف عن اعتقاد بعضهم في حق بعض، فالاتّهام بالكذب والنفاق والشتم والسب كان من أيسر الأُمور المتداولة بينهم، فهذا هو سعد بن عبادة سيّد الخزرج، يخاطب سعد بن معاذ، وهو سيد الأوس وينسبه إلى الكذب كما حكاه البخاري في صحيحه عن عائشة أنها قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لسعد [بن مـعاذ ]كـذبت لعمـر اللّه... فقـام أُسيـد ابن حضير وهو ابن عم سعد[ بن معاذ ]فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه يخفِّضهم حتّى سكتوا وسكت.صحيح البخاري:3/245، كتاب التفسير، رقم الحديث4750.
وليست هذه القضية فريدة في بابها فلها عشرات النظائر في الصحاح والمسانيد وفي غضون التاريخ. وإنّما ذكرته ليكون كنموذج لما لم أذكر، وسيوافيك في الفصول التالية نماذج من أفعالهم وأقوالهم التي يكشف عن اعتقادهم في حقّ مخالفيهم.
أو ليس من العجب العجاب، انّ الصحابي يصف صحابياً آخر ـ في محضر النبي ـ بالكذب، والآخر يصف خصمه بالنفاق، وكلا الرجلين من جبهة الأنصار وسنامهم؟! ولكن الذين جاءوا بعدهم يصفونهم بالعدل والتقوى، والزهـد والتجافي عن الدنيا، وهل سمعت ظئراً أرحم بالطفل من أُمّه.
الغلو في الصحابة :
إنّ كثيراً من أهل السنّة، غالوا في حقّ الصحابة وتجاوزوا الحد، خضوعاً للعاطفة، وإغماضاً عمّا ورد في حقّهم في الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح، فألبسوهم جميعاً لباس العدالة ـ بل العصمة من غير وعي ـ فصاروا مصادر للدين، أُصوله وفروعه، دون أن يقعوا في إطار الجرح والتعديل، من غير فرق بين من آمن قبل بيعة الرضوان وبعدها، ومن آمن قبل الفتح أو بعده، ومن غير فرق بين الطلقاء وأبنائهم والأعراب، مع تفريق الكتاب العزيز بينهم في الإيمان والإخلاص، فالكلّ في نظرهم من أوّلهم إلى آخرهم عدول، لا يخطئون ولا يسهون، ولا يعصون.
وليس هذا إلاّ نوعا من الغلو لم يعهد في أُمّة عبر التاريخ.
مظاهر الغلو
يرى غير واحد من الباحثين انّ للصحابة سنّة، تُعتبر حجة يعمل بها، وإن لم تكن في الكتاب الكريم ولا في المأثور عن النبي، قال مؤلّف كتاب «السنّة قبل التدوين».الدكتور محمد عجاج الخطيب، أُستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بدمشق.
«وتطلق السنّة أحياناً عند المحدّثين وعلماء أُصول الفقه على ما عمل به أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، سواء أكان في الكتاب الكريم أم في المأثور عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أم لا. ويحتج لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسُنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ». وقوله أيضاً: «تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة»، قالوا: ومَن هم يا رسول اللّه؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».تدوين السنة:20، ط دار الفكر.
روى السيوطي: قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إنّ ما سنَّ رسول اللّه وصاحباه فهو دين نأخذ به، وننتهي إليه وماسنّ سواهما فإنّما نرجئه.تاريخ الخلفاء: 16.
هذا وقد احتلّت فتوى الصحابة منزلة الآثار النبوية يأخذ بها فقهاء السنّة، يقول الشيخ أبو زهرة: ولقد وجدناهم (الفقهاء) يأخذون جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده، ووجدنا مالكاً ـ رضي اللّه عنه ـ يأخذ بفتواهم على انّها من السنّة . الخ
وهذا يعرب عن أنّ للصحابة حق التشريع وجعل الأحكام في ضوء المصالح العامة، مع أنّ الكتاب العزيز دلّ بوضوح على أنّ حق التشريع خاص باللّه فقط، ولا يحق لأحد أن يفرض رأيه على الآخرين.
فدفعُ زمام التشريع إلى غيره سبحانه أشبه بعمل أهل الكتاب حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه. فلم يعبدوهم، بل خضعوا لهم في التحريم والتحليل فصاروا أرباباً في مجال التقنين والتشريع.
روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» قال: فطرحته، ثم انتصب إليه وهو يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرباباً) حتى فرغ منها، فقلت: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: «أليس يحرّمون ما أحله اللّه فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم اللّه فتحلّونه؟» قال: فقلت: بلى، قال: «فتلك عبادة».تفسير الثعلبي:5/314.
وممّن وقف على خطورة الموقف، الشوكاني قال: والحق إنّ قول الصحابي ليس بحجّة، فانّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً، وليس لنا إلاّ رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة، فمن قال: إنّه تقوم الحجّة في دين اللّه بغيرهما فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت وأثبت شرعاً لم يأمر اللّه به.إرشاد الفحول:214.
والعجب انّ الصحابة لم يدّعوا لأنفسهم هذا المقام ولم يغالوا في حقّهم ولم يتجاوزوا الحد، وهذا هو عمربن الخطاب يقول: وإنّي لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم،وآمركم بأشياء لا تصلح لكم.تاريخ بغداد:14/81.
وقد شاع وذاع عن الخلفاء قولهم: «أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن اللّه، وإن أخطأت فمنّي أو من الشيطان» فكيف يمكن أن يكون الرأي المردد بين اللّه وغيره حكماً شرعياً لازم الاتّباع إلى يوم البعث.
العزوف عن النقد في الصحابة :
من مظاهر الغلو في الصحابة هو العزوف عن نقد الصحابة، والمنع عن التكلم حول ما دار بينهم من النزاع والنقاش، يقول إمام الحنابلة:
وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أبو بكر، وخيرهم بعد أبي بكر عمر، و خيرهم بعد عمر، عثمان، وخيرهم بعد عثمان علي ـ رضوان اللّه عليهم ـ خلفاء راشدون مهديّون، ثمّ أصحاب محمّد بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع.كتاب السنة لأحمد بن حنبل: 50.
وقال الإمام الأشعري: ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بها ونتولّى بها ونتولّى سائر أصحاب النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ونكفّ عمّا شجر بينهم...الإبانة: 40، ط دار النفائس، ومقالات الإسلاميين:294.
وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي(المتوفّى 377هـ) عند ما ذكر عقائد أهل السنّة ومنها: الكفّ عن أصحاب محمد.التنبيه والردّ : 15.
وعندما يقف الباحث على مصادر جمة وتظهر أمامه أفانين من اقتراف المعاصي وسفك الدماء الطاهرة، وهتك الحرمات، ويجابههم بهذه الحقائق، فإنّهم يلتجئون إلى ما يُروى عن عمر بن عبد العزيز وأحياناً عن الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف، وكثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة ـ حيث قتل بعضهم بعضاً ـ تلك دماء طهّر اللّه منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا.
أمّا القرآن الكريم فقد وصف طوائف من الصحابة بالأوصاف التي سوف تقف عليها عند تصنيف الصحابة والتي منها الفسق وقال فيما قال: (يا أَيُّها الّذينَ آمَنوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإ فَتَبيّنوا أَن تصيبُوا قَوْماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين).الحجرات:6.
وأمّا السنّة النبوية فهي تصف قتلة عمار بالفئة الباغية حيث قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنّة ويدعونك إلى النار».الجمع بين الصحيحين:2/461، رقم1794.
وكان معاوية، وعمرو بن العاص يقودان الفئة الباغية.
ويقول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في حقّ الخوارج:« تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق».السنّة لابن حنبل،رقم 41.
وهذه الأحاديث وأمثالها كثيرة مبثوثة في الصحاح والمسانيد، فإذا كان الإمساك أمراً واجباً والإطلاق أمراً محرماً، فلماذا أطلق الوحي الإلهي والنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لسانهما بوصف هؤلاء بالأوصاف الماضية؟!
وأمّا العقل فلا يجوّز لنا أن نلبس الحق بالباطل ونكتم الحقّ ونكيل للظالم والعادل بمكيال واحد، أمّا ما روي عن الإمام أحمد فلعلّه يريد به الإمساك عن الكلام فيهم بالباطل والهوى، وأمّا الكلام فيهم بما اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ونقله المحدّثون والمؤرخون في كتبهم وأُشير إليه في الذكر الحكيم فلا معنى للزوم الإمساك عنه.
ثمّ إنّه يُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل وصفين والنهروان، كانت قد سُفكت بغير حق، وهذا ـ وأيم الحق ـ عين النصب، وقضاء بالباطل، وإلاّ فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، كان قتالاً بغير حقّ؟! وكلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ كان على بيّنة من ربّه وبصيرة من دينه، يدور معه الحقّ حيثما دار، وهو الذي يقول: «واللّه لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللّهَ في نملة أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ».
ما هذا التجنّي أمام الحقائق الواضحة؟!
أو ليس العزوف عن نقد الصحابة تكريساً للأخطاء، وإيغالاً في التقديس؟!
أو ليس تنزيه الصحابة جميعاً تنكّراً للطبيعة البشرية.
Comment