رد: الوصابي يطعن في عرض رسول الله ويتهم السيدة الزهراء بالسفور والتهتك
[CENTER]
من قال !!!!!!!!!!
الم اقل لك انكم تجهلون ما في كتبكم
اذا ابشر
تحقيق الإجماع على صحة ما أخرجه الشيخان:
يزعم بعض المتأخرين إجماع جميع علماء الأمة على صحة ما أخرجه البخاري ومسلم، وهذا فيه نظر. ومثالها قول أبي إسحاق الإسفرائيني (وهو من الأصوليين وليس من المحدّثين): «أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بصحة أصولها ومتونها». وقد بلغ الشطط بالدهلوي إلى القول في كتابه "حجة الله البالغة" (1|283): «أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون من أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين». بل أسوء من هذا ما قاله أحمد شاكر في تعليقاته على مختصر علوم الحديث لابن كثير (ص35): «الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم، وتبعهم على بصيرة من الأمر: أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها (!)، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف. وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه. وأما صحة الحديث نفسه، فلم يخالف أحد فيها».
أقول وكم من إجماعٍ نقلوه وهو أبطل من الباطل. ولنا أن نذكر مقولة الإمام أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب». نعم، أجمعت الأمة على أن جمهور الأحاديث التي في الصحيحين صحيحة. هذا الذي نقله الحفاظ الكبار وتداولوه. فجاء من بعدهم أقوامٌ ما فهموا مقالتهم، فأطلقوا القول وزعموا أن هذا الإجماع شاملٌ لكل حرفٍ أخرجه البخاري ومسلم بلا استثناء. وصاروا يضللون كل من يخالفهم. ولا حول ولا قوة إلا الله.
قال الحافظ أبو عُمْرو بنُ الصَّلاح في مبحثِ الصحيح، في الفائدة السابعة (ص27): «... ما تفرّد به البخاريُّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قَبيلِ ما يُقْطَعُ بصحته، لتلقّي الأمّةِ كل واحدٍِ من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصّلناه من حالِهما فيما سبق، سوى أحرفٍ يسيرةٍ تكلّم عليها بعضُ أهلِ النقدِ من الحُفّاظِ كالدارَقَطْني وغيرِه. وهي معروفةٌ عند أهل هذا الشأن». فاستثنى ابن الصلاح بعض الأحاديث من هذا الإجماع. فجاء بعض من بعده فعمّم كلامه وأساء إلى الأئمة. بل أساء إلى نفسه، وما يضر الأئمة أمثاله.
واعلم أن هناك أحاديثاً في الصحيحين ضعفها علماءٌ محدثون كثر. وما حصل إجماعٌ على صحة كل حديثٍ في الصحيحين، لا قبل البخاري ومسلم ولا بعدهما. فممن انتقد بعض تلك الأحاديث: أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو داود السجستاني والبخاري نفسه (ضعف حديثاً عند مسلم) وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو عيسى الترمذي والعقيلي والنسائي وأبو علي النيسابوري وأبو بكر الإسماعيلي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الدارقطني وابن مندة والبيهقي والعطار والغساني الجياني وأبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد وابن الجوزي وابن حزم وابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم والألباني وكثير غيرهم. فهل كل هؤلاء العلماء قد مبتدعة متبعين غير سبيل المؤمنين؟!
أسطورة تصحيح أبي زرعة لصحيح مسلم
سنذكر –مستعينين بالله– عدة أحاديث في صحيح مسلم، انتقدها أبو زرعة الرازي. فهذا كله مما يقدح في القصة التي ذكرها ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم" (ص67) وهي: «وبلغنا عن مكي بن عبدان... قال: وسمعت مسلماً يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة أخرجته». انتهى. فهذه القصة لم يذكر لها ابن الصلاح إسناداً، وإنما قال: "بلَغَنَا". و "بلغنا" أخت "زعموا"!
والقصة ذكرها أبو بكر بن عقال الصقلي في "فوائده" عن أبي بكر بن غزرة قال: «ذَكَرَ مكيّ بن عبدان...» وساق عدة روايات. وقد ألحق هذه الفوائد "كمال الحوت" في ذيل تحقيقه لكتاب "تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم" للحاكم، (ص281 ط دار الجنان الأولى 1407هـ). وهذا يدل على أن القصة لا تثبت: بدليل صنيع الإمام أبي زرعة نفسه في انتقاده لأحاديث مسلم، والانقطاع بين ابن غزرة ومكي ابن عبدان. ولعل مما يدل على بطلانها كذلك هذه القصة المشهورة التي حصلت في انتقاد أبي زرعة لمسلم لإخراجه عن ضعفاء. وهي ثابتة مروية في أجوبة أبي زرعة للبرذعي (2|674) وتاريخ بغداد (4|272) وسير أعلام النبلاء (12|571).
أسطورة تصحيح أحمد بن حنبل لصحيح مسلم
ومن الخرافات الأخرى التي يروجونها أن كل ما أخرجه مسلم قد أجمع على صحته أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعثمان بن أبي شيبة وسعيد بن منصور الخراساني. وقد زعم ذلك البلقيني في "محاسن الاصطلاح" (ص38). ونستغني عن الإجابة عن هذا بكونهم عاجزين عن إثباته. بل أعل أحمد أحاديثاً وأخرجها مسلم.
أسطورة تصحيح العقيلي لصحيح البخاري
وقد ذكر ابن حجر تهذيب التهذيب (9|46): قال مسلمة في "الصلة": «سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت العقيلي يقول: لما ألّفَ البخاري كتابه "الصحيح"، عرضه على ابن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، فامتحنوه (وفي رواية أخرى: فاستحسنوه). وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"». وهذا لا يصحّ فإن في إسناده رجلاً مجهولاً. ومسلمة لم يلتزم الصحة في كل ما يحكيه عن البخاري، فقد ذكر حكايات أخرى عنه ورد عليه ابن حجر في نفس الصفحة وبين بطلانها.
والقصة السابقة تشعر أن العقيلي يقول بتصحيح كل ما أخرجه شيخه البخاري. وهذا باطل، فقد ضعّف العقيلي عدداً من أحاديث صحيح البخاري. وعلى سبيل المثال حديث همام بن يحيى في الأبرص. وقد رواه العقيلي في ضعفاءه (4|369) من طريق شيخه البخاري، ثم ضعّفه واعتبره من كلام عبيد بن عمير. هذا رغم اتفاق البخاري (3|1276 #3277) ومسلم (4|2275 #2963) على تصحيحه.
وسبب تضعيف العقيلي للحديث هو أن هماماً هذا ضعيف الحفظ ثقة في كتابه. كذا نص الساجي وأبو حاتم ويزيد بن زريع. بل نقل عفان عن هماماً إقراره بذلك. فكأن العقيلي يميل إلى أن هماماً قد حدث بهذا الحديث من حفظه. وليس الحديث عند أحمد، مما يدل على تضعيفه له، بل ليس عند أصحاب السنن. والحديث قد رواه البخاري ومسلم من طريق همام، عن إسحاق، عن ابن أبي عمرة، عن أبي هريرة مرفوعاً. لكن العقيلي رواه أولاً عن إسحاق موقوفاً عليه من قوله، ثم رواه بإسنادٍ صحيحٍ إلى عبيد بن عمير موقوفاً على قوله.
فقال في "الضعفاء" (4|370): «حدثنا جعفر بن أحمد حدثنا أحمد بن جعفر المعقري (مستور) حدثنا النضر بن محمد (مستور) حدثنا عكرمة بن عمار (فيه كلام) حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: "كان ثلاثة في بني إسرائيل..." فذكر مثله. حدثنا محمد بن إدريس قال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان (بن عيينة) حدثنا عمرو بن دينار (المكي) أنه سمع عبيد بن عمير يقول: "كان ثلاثة أعمى ومقعد وآخر به زمانة –قد ذكر لنا عمرو فنسيتها– وكانوا محتاجين، فأعطى هذا بقرة وهذا شاة...". وذكر الحديث. قال أبو جعفر العقيلي: وهذا أصل الحديث من كلام عبيد بن عمير وقصصه كان يقص به».
وعبيد بن عمير هذا هو قاص مكة ومن خيرة التابعين، وله رؤية وليس له صحبة. فالعقيلي رجّح أن يكون إسحاق قد أخذ هذه القصة من قول عبيد بن عمير، وأخطأ همام من حفظه فجوّدها. قلت: وهذا محتمل، لكن الأرجح أن يكون عبيد بن عمير قد أخذها من حديثٍ مرفوعٍ سمعه من أحد الصحابة. ثم إن إسناد القصة –التي وقف فيها العقيلي القصة على إسحاق– مغموز. وقد يكون إسحاق حَدّث بها مرةً بغير إسناد. وإنما نقول ذلك لاتفاق البخاري ومسلم على تصحيح القصة، ولأنها ليست في الأحكام. والله أعلم.
الأحاديث والروايات الضعيفة:
.
حديث أنتم أعلم بأمور دنياكم
أخرج مسلم في صحيحه في الأصول: حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وأبو كامل الجحدري –وتقاربا في اللفظ وهذا حديث قتيبة– قالا حدثنا أبو عوانة عن سماك عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله r بقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟». فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله r: «ما أظن يُغني ذلك شيئاً». قال فأُخبِروا بذلك فتركوه. فأُخبر رسول الله r بذلك، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً. فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل».
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (15|116): «قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بيّنه في هذه الروايات».
وأخرج مسلم في الشواهد:
حدثنا عبد الله بن الرومي اليمامي وعباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالوا حدثنا النضر بن محمد (مستور) حدثنا عكرمة –وهو ابن عمار– (مدلّسٌ فيه كلام) حدثنا أبو النجاشي حدثني رافع بن خديج قال: قدم نبي الله r المدينة وهم يأبرون النخل –يقولون يلقحون النخل– فقال: «ما تصنعون؟». قالوا كنا نصنعه. قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً». فتركوه فنفضت أو فنقصت. قال فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر». قال عكرمة: «أو نحو هذا» (قلت هذا دلالة على عدم حفظه). قال المعقري: «فنفضت»، ولم يشك.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد كلاهما عن الأسود بن عامر، قال أبو بكر حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة (له أوهام كثيرة): عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس: أن النبي r مَرَّ بقوم يلقحون. فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال فخرج شيصا. فمر بهم، فقال: «ما لنخلكم؟». قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" (ص29): «عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح. قوله r في حديث طلحة "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، إخبارٌ عن ظنه. وكذلك كان ظنه، فالخبرُ صِدقٌ قطعاً. وخطأ الظن ليس كَذِباً. وفي معناه قوله في حديث رافع "لعلكم...". وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد (بن سلمة)، لأن حماداً كان يخطئ. وقوله في حديث طلحة "فإني لن أكذب على الله" فيه دليلٌ على امتناع أن يكذب على الله خطأ، لأن السياق في احتمال الخطأ. وامتناعه عمداً معلومٌ من باب أولى، بل كان معلوماً عندهم قطعاً».
يتبين من الرواية الصحيحة أن النبي لم يقل «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وحاشاه أن يقول ذلك. كما بيّن النبي r أن ذلك مجرد ظنٌّ منه. وبهذا يُعلم أن ذلك ليس نهياً أو أمراً أو سنة أو ندباً، وهذا ضابط مهم في الفقه. فقال منذ البداية «ما أظن»، ولم ينههم. ثم أكد على هذا البيان مرة أخرى حين بلغه ما بلغه، فقال: «فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن». فالله الذي رضي لنا الإسلام دينا إلى يوم القيامة، أعلم بأمور دنيانا منا.
ونلاحظ كذلك أنه لم يكن يخاطبهم أصلاً، ولم يسمعوه هم يتكلم بل نقل هذا الكلام عنه أحد أصحابه. فلما علم بذلك، أخبرهم أن ذلك كان من الظن (كما صرح أول مرة) ولم يكن خبراً من الله. فلم يتركوا تلقيح النخل أصلاً، كما في الروايتين الضعيفتين اللتين في الشواهد. ففي إسناد الشاهد الأول عكرمة بن عمار، وفيه كلام. وبالغ ابن حزم فاتهمه بالكذب ووضع الحديث كما في كتابه الإحكام (6|199). وهو غير عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس، فلا تخلط بينهما. والراوي عنه هو النضر بن محمد، فيه جهالة، لم يوثقه إلا العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وتوثيقهما أضعف أنواع التوثيق. وإخراج مسلم له ليس بتوثيق، لأنه في الشواهد لا في الأصول.
كما أن في إسناد تلك الرواية الموضوعة حماد بن سلمة. وهو وإن كان من أئمة أهل السنة، فهو كثير الأوهام خاصة لما كبر. وفوق هذا فهو يروي بالمعنى ويتوسع جداً بهذا، وكثيراً ما يتحرّف الحديث ويصبح حسب فهمه أو وهمه. قال عنه ابن حبان في صحيحه (1|154): «كان يسمع الحديث عن أيوب وهشام وابن عون ويونس وخالد وقتادة عن ابن سيرين، فيتحرى المعنى ويجمع في اللفظ». وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (9|66): «حماد ساء حفظه في آخر عمره». وروى الذهلي عن أحمد أنه قال: «كان حماد بن سلمة يخطئ –وأومأ أحمد بيده– خطأً كثيراً». وقال الذهبي في "السير" (7|446): «قال أبو عبد الله الحاكم: قد قيل في سوء حفظ حماد بن سلمة، وجمعه بين جماعة في الإسناد بلفظ واحد، ولم يخّرج له مسلم في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وله في كتابه أحاديث في الشواهد عن غير ثابت». وكلام الحاكم موجود مطولاً بالأمثلة في كتابه "المدخل إلى الصحيح" باب "من عيب على مسلم إخراج حديثه والإجابة عنه". وأشار الترمذي في علله (1|120) إلى أن بعض أهل الحديث قد تكلموا في حفظ حماد. ونقل الذهبي في السير (7|446 و 452) والزيلعي في نصب الراية (1|285)، عن البيهقي في "الخلافيات" أنه قال في حماد بن سلمة: «.. لما طعن في السن ساء حفظه. فلذلك لم يحتج به البخاري. وأما مسلم فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سُمِعَ منه قبل تغيّره. وأما سوى حديثه عن ثابت فأخرج نحو اثني عشر حديثاً في الشواهد دون الاحتجاج. فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات». قلت وهو هنا قد أخطأ وخالف بروايته رواية الثقات، والكتاب والسنة وأمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، وهو أن الله أعلم من جميع خلقه بكل شيء، بما في ذلك أمور دنياهم.
وهذه الزيادة الباطلة صارت مفتاحاً لبني علمان ضدنا. حتى أن أحد العلمانيين كتب كتاباً بعنوان «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، يدعو به للفصل بين الدين والسياسة، وهذا كفرٌ وردة بلا خلاف.
. حديث الفطرة
روي عن النبي r أنه قال: عشر من الفطرة، وذكر منها المضمضمة والاستنشاق. هذا حديثٌ رواه مسلم (1|223) وأبو داود (1|14) وابن ماجة (1|107) في الطهارة، والترمذي (5|91) في الاستئذان، والنسائي (5|405) في الزينة، كلهم عن زكريا بن أبي زائدة (مدلّس) عن مصعب بن شيبة (ضعيف) عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله (r): «عشرٌ من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء». قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال مسلم: وحدثناه أبو كريب أخبرنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن مصعب بن شيبة ثم في هذا الإسناد أنه قال: قال أبوه: ونسيت العاشرة.
قلت هذا إسناد ضعيف لا تقوم به الحجة. ومما يدل على ضعفه تحسين الترمذي له في سننه (5|91). وهذا الحديث وان كان مسلم أخرجه في صحيحه فهو في الشواهد وليست في الأصول. وأشار الكثير من الحفاظ إلى أنه معلول كابن عبد البر وابن مندة وغيرهم. قلت: وفيه ثلاثة علل:
1- فزكريا هذا مدلّسٌ ليّنه أبو حاتم، و قد عنعن في كل طرق الحديث!
2- مصعب بن شيبة ضعيف. قال عنه الدراقطني: «ليس بالقوي ولا بالحافظ»، و قال أحمد: «روى أحاديث مناكير»، وقال أبو حاتم: «لا يحمدونه وليس بقوي»، و قال النسائي: «منكر الحديث»، وقال عنه ابن حجر: «ليّن الحديث»، وقال الذهبي: «فيه ضعف». ولذلك أشار أبو نعيم الأصبهاني إلى ضعف هذا الحديث في مستخرجه على صحيح الإمام مسلم (1|318)، بقوله: «إسناده فيه مصعب بن شيبة، ليِّن الحديث». وقد جعل العقيلي هذا الحديث من منكرات معصب، كما في ضعفائه (4|197).
3- الحديث أخرجه النسائي في المجتبى (5|405) من طريق سليمان التيمي وأبي بشر عن طلق بن حبيب موقوفاً. قال النسائي: «وحديث سليمان التيمي وجعفر بن إياس أشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة، ومصعب منكر الحديث». وقال الدارقطني في سننه (1|94): «تفرّد به مصعب بن شيبة. وخالفه أبو بشر وسليمان التيمي، فروياه عن طلق بن حبيب مرفوعاً». وأعلّه في "التتبع" كذلك (ص339 #182)، والحديث قد أنكره كذلك أحمد بن حنبل. فقد روى العقيلي في ضعفائه (4|196): عن أحمد بن محمد بن هاني قال: ذكرت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل) الوضوء من الحجامة، فقال: «ذاك حديث مُنكرٌ، رواه مصعب بن شيبة، أحاديثه مناكير. منها: هذا الحديث، وعشرة من الفطرة، وخرج رسول الله r وعليه مرط مرجل».
. حديث يأكل الأكلة فيحمده عليها
وأخرج مسلم (4|2095 #2734): من طريق زكريا بن أبي زائدة (مدلّس) عن سعيد بن أبي بردة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله r: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها».
وهذا حديثٌ لا يصح بدليل تحسين الترمذي له. فقد قال في سننه (4|265): «هذا حديثٌ حسن. وقد رواه غير واحد عن زكريا بن أبي زائدة نحوه. ولا نعرفه إلا من حديث زكريا بن أبي زائدة». وقد ذكره الألباني في إرواء الغليل (7|47) فقال: «رجاله كلهم ثقات إلا أن زكريا هذا مدلس كما قال أبو داود وغيره، وقد عنعنه عند الجميع...».
. حديث صيام الاثنين
أخرج مسلم في صحيحه (2|819 #1162): حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني (مرسلاً) عن أبي قتادة الأنصاري t أن رسول الله r سُئِلَ عن صومه، قال: فغضب رسول الله r. فقال عمر t: «رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، وببيعتنا بيعة». قال: «فسُئِلَ عن صيام الدهر»، فقال: «لا صام ولا أفطر –أو ما صام وما أفطر–». قال: «فسُئِلَ عن صوم يومين وإفطار يوم»، قال: «ومن يطيق ذلك؟». قال: «وسُئل عن صوم يوم وإفطار يومين»، قال: «ليت أن الله قوانا لذلك». قال: «وسُئل عن صوم يوم وإفطار يوم»، قال: «ذاك صوم أخي داود عليه السلام». قال: «وسُئِل عن صوم يوم الإثنين»، قال: «ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت –أو أنزل علي فيه–». قال: فقال: «صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر». قال: «وسُئل عن صوم يوم عرفة»، فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية». قال: «وسئل عن صوم يوم عاشوراء»، فقال: «يكفر السنة الماضية».
قال مسلم: وفي هذا الحديث من رواية شعبة: قال: «وسُئِلَ عن صوم يوم الإثنين والخميس فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهماً».
قلت: عبد الله بن معبد ليس بمشهور وحديثه عزيز وقد وثقه النسائي، لكنه لم يسمع هذا الحديث من أبي قتادة t. قال البخاري في التاريخ الكبير (5|198): «عبد الله بن معبد الزماني البصري، عن أبي قتادة. روى عنه حجاج بن عتاب وغيلان بن جرير وقتادة. ولا نعرف سماعه من أبي قتادة». وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5|173): «عبد الله بن معبد الزماني. روى عن عمر وأبي قتادة وأبي هريرة وعبد الله بن عتبة. روى عنه قتادة وغيلان بن جرير وحجاج بن عتاب وثابت. سمعت أبي يقول ذلك. نا عبد الرحمن قال: سئل أبو زرعة عن عبد الله بن معبد، فقال: لم يدرك عمر». قلت: روايته عن أبي هريرة ليست في الكتب التسعة. وعبد الله بن عتبة تابعي.
وقد ذكر ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (4|224) ابن معبد هذا، ثم نقل عن البخاري قوله: «عبد الله بن معبد الزماني الأنصاري عن أبي قتادة لا يعرف له سماع من أبي قتادة». ثم أيد ذلك وذكر هذا الحديث. والحديث رواه الترمذي كذلك مجزأً، فحسّنه في موضعين (3|138) (3|124) وسكت عنه في موضع (3|126). ولم يصححه أبداً لعلمه بعدم صحة سماع ابن معبد من أبي قتادة. وقد صححه بعض المتأخرين كابن حزم مغتراً بظاهره، وصححه ابن عبد البر وذكر أن هذا الحديث في الفضائل التي يُتساهل بها، ولأن بعض ألفاظه لها شواهد.
. حديث نعم الإدام الخل
قال مسلم في صحيحه (3|1621 #2051): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (وهو في سننه) أخبرنا يحيى بن حسان أخبرنا سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَ الأدم –أو الإدام– الخل». ثم ذكر رواية يحيى بن صالح عن سليمان بغير شك.
وقال (3|1622 #2052): حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا إسماعيل –يعني ابن علية– عن المثنى بن سعيد (ثقة ثبت) حدثني طلحة بن نافع (أبو سفيان، جيد) أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخذ رسول الله r بيدي ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فِلَقَاً من خُبْزِ. فقال: «ما من أُدُمِ؟». فقالوا: «لا، إلا شيءٌ من خَلٍّ». قال: «فإن الخل نِعْمَ الأُدُم». قال جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله r. وقال طلحة: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر. وقال محمد الأمين: ما زلت أحب الخل منذ ثبت عندي صحة هذا الحديث.
وأما الإسناد الأول فقد قال عنه الترمذي في سننه (4|278): «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث هشام عروة، إلا من حديث سليمان بن بلال». وقال الترمذي في العلل (ص302): «سألت محمداً (الإمام البخاري) عن هذين الحديثين، فقال: "لا أعلم أحداً روى هذين، غير يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال". ولم يعرفهما محمد إلا من هذا الوجه». قلت: الحديث الثاني قد رواه كذلك يحيى بن حسان تابعه يحيى بن صالح عند مسلم، ومروان بن محمد في مسند أبي عوانة (5|194)، كلهم عن سليمان.
وقال ابن أبي حاتم في علله (2|292): «سألت أبي عن حديثٍ رواه مروان بن محمد الطاطري عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي r قال: "نعم الإدام الخل". و "بيتٌ لا تمر فيه، جياعٌ أهله". قال أبي: "هذا حديثٌ منكَرٌ بهذا الإسناد"».
وقال أبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد في علل الجارودي (ص109 #25): ووجدت فيه (أي في صحيح مسلم): عن يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي r، قال: «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر». وروى (مسلم) بهذا الإسناد أيضاً عن النبي r: «نعم الإدام الخل». حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم الفسوي: حدثنا أحمد بن سفيان: حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا يحيى بن حسان، بهذين الحديثين. قال أحمد بن صالح: «نظرت في كتاب سليمان بن بلال فلم أجد لهذين الحديثين أصلاً». قال أحمد بن صالح: وحدثني ابن أبي أويس، قال: حدثني ابن أبي الزناد عن هشام عن رجل من الأنصار أن رسول الله r سأل قوماً: «ما إدامكم؟». قالوا: «الخل». قال: «نعم الإدام الخل». انتهى.
قلت: فظهر أن الحديث فيه رجلٌ مجهولٌ لم يسمّه هشام. ولذلك أنكر أبو حاتم هذا الحديث. لكن الحديث صحيحٌ من حديث جابر، كما سبق بيانه. ولولا أن مسلماً وضعه في أول الباب ما استدركنا عليه. وأما حديث التمر فقد أخرجه مسلم مع متابعة صحيحة من حديثٍ آخر.
وقال مسلم (3|1618 #2046): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي r قال: «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر». (#2046) حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا يعقوب بن محمد بن طحلاء عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عن عائشة قالت: قال رسول الله r: «يا عائشة، بيتٌ لا تمر فيه جياعٌ أهله».
فالحديث الأول له نفس علة الحديث السابق. فالترمذي نقل عن شيخه البخاري ما يثبت تفرد سليمان بهذا الحديث. وأحمد بن صالح بين أنه لم يجد الحديث في كتاب سليمان، فعرف أن سليمان حدث هذا الحديث من حفظه، فأخطأ وسلك الجادة. وبذلك رجح الحافظ أحمد المصري عليه رواية ابن أبي الزناد التي يروي فيها هشام هذا الحديث عن رجل لم يسمه. وبذلك جزم ابن عمار الشهيد، وجزم أبو حاتم الرازي في علله ببطلان هذا الحديث بهذا الإسناد. وقد خص هذا الإسناد لأن الحديث جاء في صحيح مسلم بإسناد آخر جيد.
. حديث الوسوسة
أخرج مسلم في الشواهد (1|119 #133): حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثني علي بن عثام عن سعير بن الخمس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: سئل النبي r عن الوسوسة قال: «تلك محض الإيمان».
الحديث أرسله أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله. ورواه جرير بن عبد الحميد وأبو جعفر الرازي عن مغيرة عن إبراهيم قال رجل: يا رسول الله... فذكر حديث الوسوسة. فالحديث الصواب فيه أنه من مراسيل إبراهيم، ووصله خطأ من سعير بن الخمس. قال البخاري، عن علي ابن المديني: «له نحو عشرة أحاديث». قلت فكان قليل الحديث جداً على ضعفه وكثرة مناكيره. قال المزي في تهذيب الكمال: «ليس لسعير و لا لعلي بن عثام و لا للصفار عند مسلم سواه، و هو حديث عزيز».
بل إن أبا حاتم قد حكم على أحد أحاديث سعير بأنه موضوع! قال ابن أبي حاتم في العلل (2|236): سألت أبي عن حديث رواه أبو الجواب عن سعير بن الخمس عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد عن النبي r قال: «من صُنِعَ إليه معروف فقال "جزاك الله خيراً" فقد أبلغ في الثناء». قال أبي: «هذا حديث عندي موضوع بهذا الإسناد». وقال الترمذي في كتاب العلل (1|316) عن نفس الحديث: سألت محمداً (البخاري) عن هذا الحديث، فقال: «هذا مُنكَر. وسعير بن الخمس كان قليل الحديث، ويروون عنه مناكير».
وقال ابن عمار الشهيد في علل الجارودي (1|42): «وليس هذا الحديث عندنا بالصحيح، لأن جرير بن عبد الحميد وسليمان التميمي روياه عن مغيرة عن إبراهيم، ولم يذكرا علقمة ولا ابن مسعود. وسعير ليس هو ممن يحتج به، لأنه أخطأ حديث مع قلة ما أسند من الأحاديث». وقال الخليلي في الإرشاد (2|809): قال لي عبد الله بن محمد القاضي الحافظ: «أعجب من مسلم كيف ادخل هذا الحديث (حديث الوسوسة) في الصحيح عن محمد بن عبد الوهاب (عن علي بن عثام)، وهو معلول فرد». اهـ. أقول: لا عجب في ذلك لأن مسلماً قد أخرجه في الشواهد وقد صح من غير هذا الوجه.
. حديث الحفر لرجم ماعز
أخرج مسلم في الشواهد (3|1323 #1695): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير –وتقاربا في لفظ الحديث– حدثنا أبي حدثنا بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله r فقال: «يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني». فردّه. فلما كان من الغد، أتاه فقال: «يا رسول الله، إني قد زنيت». فرده الثانية. فأرسل رسول الله r إلى قومه فقال: «أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟». فقالوا: «ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى». فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً، فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة، حفر له حفرة، ثم أمر به فرُجِمَ... إلى آخر الحديث.
علق عليه الألباني في "مختصر صحيح مسلم للمنذري" (ص277) فقال: «ذِكْرُ الحفر في هذا الحديث شاذُّ، تفرّدَ به بشير بن المهاجر، وهو ليّن الحديث كما في التقريب للحافظ ابن حجر. وقد تابعه علقمة بن مرثد عند مسلم فلم يذكر الحفر، وهو ثقة محتج به في الصحيحين. وكذلك أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. فدل ذلك على شذوذ هذه الزيادة و نكارتها». أقول: وذكر الحفر أتى من طرقٍ أخرى ضعيفة لا يعتبر بها لمخالفتها للصحيح.
وقال ابن القيم في "حاشيته على سنن أبي داود" (12|75): «وهذا الحديث فيه أمران، سائر طرق حديث مالك تدل على خلافهما. أحدهما: أن الإقرار منه وترديد النبي r، كان في مجالس متعددة. وسائر الأحاديث تدل على أن ذلك كان في مجلس واحد. الثاني: ذكر الحفر فيه. والصحيح في حديثه أنه لم يُحفَر له، والحفر وهم. ويدل عليه أنه هرب وتبعوه. وهذا والله أعلم من سوء حفظ بشير بن مهاجر. وقد تقدم قول الإمام أحمد: "إن ترديده إنما كان في مجلس واحد، إلا ذلك الشيخ ابن مهاجر"».
حديث أذناب البقر
أخرج مسلم في أصول صحيحه (4|2192): حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر، يضربون بها الناسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مميلاتٌ مائلاتٌ رؤسهنَّ كأسنِمَةِ البخت المائلة. لا يدخُلنَ الجنةَ ولا يجِدْنَ رِيحها. وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». وهذا حديثٌ صحيح.
ثم أخرج بعده مسلم في الشواهد (#2857) حديثاً من وجهين من طريق أفلح بن سعيد قال: حدثنا عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله r: «يوشك إن طالت بك مدةٌ أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر. يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله. في أيديهم مثل أذناب البقر». وأفلح بن سعيد صدوق، قال فيه ابن حبان في المجروحين (1|176): «يروى عن الثقات الموضوعات وعن الأثبات الملزوقات. لا يحِلّ الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال». ثم روى له هذا الحديث وقال: «هذا خبرٌ –بهذا اللفظِ– باطلٌ». ثم ذكر اللفظ الصحيح الذي قد رواه مسلم في الأصول. وهذا الحديث الباطل قد أورده ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" (3|10).
أقول: اللفظ الثاني معارض للأول، ولا شك أن الأول صحيح والثاني باطل. وحتى إن لم يوافق كثير من المتأخرين على إطلاق الوضع عليه، فهو خلاف لفظي. وإلا فإن رسول الله r قد قال مثل اللفظ الأول وليس مثل الثاني.
أحاديث أبي الزبير
أبو الزبير (محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي) ثقة (على الأرجح) لكنه يدلّس عن الضعفاء في حديث جابر t. فما كان منه في صيغة العنعنة من غير طريق الليث فهو ضعيف.
أما خلاف العلماء في توثيقه فهو كالتالي: وثقه ابن المديني وعطاء وابن معين وابن سعد والساجي وابن حبان والنسائي ومالك وابن عدي، واحتج به مسلم. وجرحه خفيفاً ابن عيينة وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ويعقوب بن شيبة والشافعي وأيوب السختياني وأحمد بن حنبل وشعبة، وأعرض عنه البخاري فلم يحتج به. وكل هذا جرحٌ خفيفٌ يفيد أن أبا الزبير ليس أوثق الناس، ولكنه جيد قد قبل أكثر الناس حديثه إذا تفرد، ومنهم من لم يحتج به إلا بالمتابعات.
ومن أمثلة أوهام أبي الزبير قصة ابن عمر عندما طلق زوجته وهي حائض. وقد أخطأ بها أبو الزبير الخطأ الفاحش وخالف الثقات الأثبات حتى قال أبو داود في سننه (2|256): «والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير». وقال ابن عبد البر في التمهيد: «إنه قد خالف أصحاب ابن عمر». مع أنه صرح بالتحديث في ذلك الحديث. فدل هذا على أن ما فيه نكارة من حديثه، يجب رده.
وتدليس أبو الزبير ثابتٌ معروفٌ عنه مشهور، يعترف به. والتدليس هو إسقاط الراوي بينه وبين شيخه جابر t، مع أنه سمع منه بعض الأحاديث القليلة. روى العقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل وابن حزم في المحلى (9|11) عن سعيد بن أبي مريم قال حدثنا الليث بن سعد قال: إن أبا الزبير دفع إلي كتابين (زاد في رواية: فانقلبت بهما، أي راجعاً من مكة). فقلت في نفسي لو سألته: أسمع هذا كله من جابر؟ فرجعت إليه فقلت: «هذا كله سمعته من جابر؟». فقال: «منه ما سمعته، ومنه ما حُدِّثْتُ عنه». فقلت له: «أَعْلِم لي على ما سمعت». فأعْلَمَ لي على هذا الذي عندي. (ولعلّ تلك الأحاديث التي سمعها منه هي 27 حديث). قال ابن حزم: «فكل حديث لم يقل فيه أبو الزبير أنه سمعه من جابر، أو حدثه به جابر، أو لم يروه الليث عنه عن جابر، فلم يسمعه من جابر بـإقـراره. ولا ندري عمن أخذه. فلا يجوز الاحتجاج به».
والقصة رواها الفسوي في المعرفة (1|166) مختصرة جداً: عن ابن بكير قال: وأخبرني حبيش بن سعيد عن الليث بن سعد قال: «جئت أبا الزبير فأخرج إلينا كتاباً، فقلت: "سماعُك من جابر؟". قال: "ومن غيره". قلت: "سماعَك من جابر". فأخرج إليّ هذه الصحيفة». فقد أخرج أبو الزبير في أول الأمر كتاباً كاملاً. فلما طالبه الليث بما سمعه فقط، أخرج صحيفة فقط من أصل الكتاب. فهذا يدل على أن غالب ما رواه عن جابر إنما دلسه عنه ولم يسمعه منه. فهو مكثرٌ من التدليس لا مُقِل. وقد أخرج مسلمٌ وحده من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر 22 حديثاً. وأخرج بهذه الترجمة بعض أصحاب السنن خمسة أخرى (إن صح الإسناد لليث). فهي 27حديثاً فقط، مما وصل إلينا.
وقد قال الليث: «فقلت له: "أَعْلِم لي على ما سمعت". فأعْلَمَ لي على هذا الذي عندي». فمن غير المعقول إذاً على أبي الزبير –وهو الحريص على تنفيق بضاعته– أن يعلّم له على بضعة أحاديث فقط ويقول له هذا بعض ما سمعت ولن أخبرك بالباقي!! فيكون قد غش الليث مرة أخرى لأن الليث قال له «أَعْلِم لي على ما سمعت». أي على كل ما سمعت. فقد دلّس على الليث قطعاً في أول الأمر. وكاد الليث يرجع لبلده لولا أنه عرف تدليس أبي الزبير، فعاد إليه وطلب منه التعليم على ما سمعه فقط.
أما أن شُعْبَة قد روى عنه، فهذا فيه خلاف. قال الخليلي في الإرشاد (2|495): «شعبة لا يروي عن أبي الزبير شيئاً». وقال ابن حبان في المجروحين (1|151) (1|166-تحقيق حمدي السلفي): «ولم يسمع شعبة من أبي الزبير إلا حديثاً واحداً، أن النبي r صلى على النجاشي». يقصد لم يرو عنه إلا حديثاً واحداً، وإلا فقد سمع الكثير وما روى عنه. ولو فرضنا أن شعبة قد روى عنه، فقد رجع عن ذلك، وضعّف أبا الزبير. قال نعيم بن حماد سمعت هشيماً يقول: سمعت من أبي الزبير فأخذ شعبة كتابي فمزَّقه. قال ورقاء: قلت لشعبة: مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: «رأيته يزن ويسترجح في الميزان». وقال شعبة لسويد بن عبد العزيز: «لا تكتب عن أبي الزبير فإنه لا يحسن أن يصلي».
ثم إن حدّث شعبة عنه فلا ينف هذا أن يكون مُدلّساً. فقد حدَّث شعبة عن قتادة وعن كثيرٍ من المحدثين. نعم، ما يرويه شعبة عن المدلّسين فهو محمولٌ على الاتصال، ولا ينفِ هذا تدليس شيخ شعبة إن روى عنه غيره. وقال أحد أهل الجهل بأن شعبة يضعف الراوي المدلس، فتكون روايته عن أبي الزبير توثيقاً له من التدليس. قلت: وهذا كلام لو سكت عنه صاحبه لكان خيراً له. فأين يذهب بقول قتادة: «كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبي إسحاق وقتادة»؟ وهؤلاء هم من أثبت أهل العراق في الحديث، فما اعتبر شعبة التدليس جرحاً لهم كالكذب والزنا، لكنه لم يرو عنهم إلا ما سمعوه من مشايخهم وأعرض عما لم يبينوا فيه السماع، لعلمه بأنهم مدلسين. والتدليس عند جمهور الحفاظ ليس بجرحٍ في الراوي إلا إذا تعمد التدليس عن مجروحين ليخفي ضعفهم. وكونه قد سمع الكثير من حديث أبي الزبير (400 كما يزعمون) لا يعني أن تلك الأحاديث خالية من التدليس، إلا إذا حدث بها شعبة. فهو يسمع حديث مشايخه كله لكنه لا يروي عنهم إلا ما سمعوه من مشايخهم.
ولا يشترط أن تجد وصفه بالتدليس عند كل من ترجم له. وكم من مدلّسٍ ثَبَتَ عنه التدليس بالدليل القاطع، ولا تجد كل من ترجم له يذكر ذلك في ترجمته. وكونه من أهل الحجاز لا ينفِ هذا التدليس عنه (كما زعم الحاكم، وحكم عليه ابن حجر بالوهم). فهذا ابن جريج من كبار حفاظ مكة. ومع ذلك فشرّ التدليس تدليس ابن جريج. وأبو الزبير قد وصفه النَّسائيّ بالتدليس. وأشار إلى ذلك أبو حاتم. ولا يشترط أن يصفه بذلك كل من ترجم له لأن التدليس يصعب كشفه إلا بحصر الروايات الكثيرة. ولذلك يخفى على كثيرين من الحفاظ. ومن علم حجة، كان ذلك حجة على من لم يعلم!
ثم لو لم يكن أبو الزبير يدلّس عن ضعيف، لسمع منه الليث حديثه كله، ولم يكتف بتلك الأحاديث القليلة ويترك الباقي. ولم يكن ليترك الباقي إن كان أبو الزبير قد سمعه من جابر أو سمعه من ثقة عن جابر. والليث هو في مرتبة مالك بن أنس في الحفظ والعلم والإمامة. وهو أعلم من هؤلاء المتأخرين بحال أبي الزبير. فقوله مُقدّمٌ عليهم قطعاً. ومن نفى تدليس أبي الزبير فقد كذب أبا الزبير نفسه الذي أقر على نفسه لليث بذلك!
وقال أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل (4|136): «جالَسَ سليمان اليشكري جابراً فسمع منه وكتب عنه صحيفة، فتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته. فروى أبو الزبير وأبو سفيان الشعبي عن جابر. وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة. وكذلك قتادة». فثبت إذاً أن غالب حديث أبي الزبير عن جابر لم يسمعه منه، بل كثيرٌ منه من صحيفةٍ أخذها وِجَادة. وبعضه لا نعرف من أين جاء به. وأبو حاتم لم يذكر لنا كل هؤلاء الناس الذين دلس عنهم أبو الزبير.
وأما من قال أن أبا الزبير قد سمع صحيفة جابر من سليمان بن قيس اليشكري وهو ثقة، فهذا غير كافٍ لنفي تدليس أبي الزبير. أولاً لأن غالب حديثه عن جابر أخذه وجادة عن صحيفة اليشكري. ومعلوم أن الوجادة أضعف أنواع التحمل (كالمناولة والمكاتبة) وهي غير مقبولة عند المتقدمين، خاصة في ذلك الزمن. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6|331) عن صحف تلك الأيام: «وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيما في ذلك العصر، لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط». ثانياً أنه قد ثبت أن أبا الزبير دلس عن صفوان كذلك. والصواب –على التحقيق– أنه سمع بِضعة أحاديث من جابر، ودلّس أكثرها إما عن سليمان اليشكري وإما عن صفوان وإما عن غيرهم ممن لا نعرفهم. ومن كانت هذه حاله لا يمكننا الاحتجاج به، لأنه من باب الظن. وقد قال الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. وقد قال رسول الله r: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه.
فقد روى الترمذي مختصراً والنسائي في السنن الكبرى (6|178):
1- أخبرنا محمد بن رافع قال حدثنا شبابة قال حدثنا المغيرة وهو بن مسلم الخراساني عن أبي الزبير عن جابر قال: كان النبي r لا ينام كل ليلة حتى يقرأ تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك».
2- أخبرني محمد بن آدم عن عبدة عن حسن بن صالح عن ليث (بن أبي سليم، وليس ابن سعد) عن أبي الزبير عن جابر قال: «كان النبي r لا ينام كل ليلة حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك».
3- أخبرنا أبو داود قال حدثنا الحسن وهو بن أعين قال حدثنا زهير قال حدثنا ليث عن أبي الزبير عن جابر قال «كان رسول الله r لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل وتبارك».
4- أخبرنا أبو داود قال حدثنا الحسن قال حدثنا زهير قال: سألت أبا الزبير: «أسمعت جابراً يذكر ثم أن نبي الله r كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل وتبارك؟». قال: «ليس جابر حدثنيه. ولكن حدثني صفوان أو أبو صفوان».
فالمغيرة بن مسلم (وهو ثقة) قد رواه عن أبي الزبير بالعنعنة بدون ذكر الواسطة، كما في الرواية (1). أي أن أبا الزبير قد دلّس عليه كما قد حاول التدليس من قبل على الليث بن سعد، الذي لولا ذكائه وعلمه لانطلى عليه تدليس أبي الزبير. وكذلك دلّس أبو الزبير على ليث بن أبي سليم فرواه معنعناً بدون ذكر الواسطة، كما في الرواية (2). ورواه زهير عنه كذلك، كما في الرواية (3). ثم إنه يعرف تدليس أبي الزبير، فلمّا التقى به سأله: هل أنت سمعت هذا الحديث من جابر؟ قال: «ليس جابر حدثنيه، ولكن حدثني صفوان أو أبو صفوان».
فهذا دليلٌ واضحٌ أن أبا الزبير كان يدلّس ولا يوضح للناس تدليسه. فلو لم يشك زهير بسماع أبي الزبير فسأله عن ذلك، لما عرفنا أنه لم يسمع من جابر هذا الحديث. المغيرة بن مسلم الخراساني ثقة جيّد الحديث. وليث بن أبي سليم بن زنيم، يُكتَبُ حديثه ويُعتبَر به، ولذلك علق له البخاري وأخرج له مسلمٌ في المتابعات. وقال عنه ابن عدي: «له أحاديث صالحة. وقد روى عنه شعبة والثوري. ومع الضعف الذي فيه، يُكتب حديثه». وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: «ضعيف إلا أنه يكتب حديثه». وقال الذهبي في الكاشف (2|151): «فيه ضعف يسير من سوء حفظه». فهذا التدليس من أبي الزبير لم يتبيّن لنا إلا من جمع الطرق.
ثم إن من الأئمة المتقدمين من نص صراحة على رفض حديث أبي الزبير المعنعن عن جابر. فقال عنه الإمام النسائي في السنن الكبرى (1|640) بعد أن سرد له حديثين بالعنعنة: «فإذا قال: سمعت جابراً، فهو صحيح. وكان يدلس!». أي إذا لم يقل سمعت فهو غير صحيح لأنه مدلس. مِثْلَ الذي كذب مرة فقد أبان عن عورته. فلا نقول: "نقبل حديثه ما لم نعلم أنه كذِب". والجرح مقدم على التعديل. فإن الله قد حفظ لنا هذا الدين. ومن حفظه له أن تصلنا أحكام هذا الدين من طريق صحيح متصل غير منقطع رجاله ثقات غير متهمين. فيطمئن المرء له ولا يرتاب. وإلا فلا نعلم يقيناً أن رسول الله r قد قال ذلك. ولم يوجب الله علينا اتباع الظن.
فهذا إمامٌ من المتقدمين من كبار أئمة الحديث ومن فقهائهم، قد نص على رد تدليس أبي الزبير. وكان النسائي من أعلم الناس بعلل الحديث وبأحوال الرجال. فإذا لم نقبل بقوله فمن نقبل؟ كيف وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع وباعتراف أبي الزبير بتدليسه؟ فإن لم يكن هذا كافياً، فلا نستطيع أن نثبت التدليس على أحد!
ولعلي أستشهد بما قاله فضيلة الشيخ الدكتور حمزة المليباري: «إن تدليس أبي الزبير عن جابر يقتضي نوعاً خاصاً من المعالجة يختلف عما تقتضيه بقية أنواع التدليس. لأن معنى تدليس أبي الزبير عن جابر: أنه لا يصرح فيما أخذه من الكتاب من أحاديث جابر بأنه وِجَادة. فإذا ورد عنه حديث من أحاديث جابر، ولم يصرح بالسماع، ولم يأت ذلك الحديث عن طريق ليث بن سعد، فإنه يَحتمِل أن يكون مما أخذه وجادة. وما أخذه وجادة –دون السماع أو القراءة على الشيخ– قد يدخل فيه تصحيف وتحريف وانتحال. وإذا وافقه غيره، أمِنَ من ذلك (قلت: إن لم تكن المتابعة عن صحيفة اليشكري كذلك كالذي يرويه قتادة وأبو سفيان).
لذلك ما ورد عن أبي الزبير من أحاديث جابر معنعناً، يقتضي أن يبحث الباحث عن وجود سماع صريح في طريق صحيح من طرق ذلك الحديث، أو ما يدل على ذلك من القرائن، أو راوياً آخر يوافق أبا الزبير فيما رواه عن جابر. وفي حال وجود شيء من ذلك، يكون السند سليماً من الشبهات التي أثارتها العنعنة الواردة فيه.
وفي ضوء ذلك فإطلاق الحكم بانقطاع السند أو بالتدليس بمجرد عنعنة أبي الزبير عن جابر على الرغم من اعتماد مسلم عليه في صحيحه ينطبق عليه ما قيل: "القواعد لدى العالم غير المجرّب، كالعصا في يد الأعمى". وكذا إطلاق الحكم بالاتصال فيما رواه مسلم والانقطاع في خارج مسلم يكون بعيداً عن الدقة أيضاً، لأن الأمر في ذلك يتوقف على التتبع والبحث.
ومن الجدير بالذكر أن مسلماً يورد الحديث في الأصول أصح ما عنده من الروايات وأفضله، ويختلف ذلك عما يورده في الشواهد. وعليه فما أورده في أول الباب من حديث أبي الزبير عن جابر، لا ينبغي القول فيه إنه معنعن بمجرد أن الباحث لم يطلع إلا على ما وقعت يده عليه من المصادر –مطبوعة كانت أو مخطوطة–. فإن أولئك الأئمة ينظرون إلى الواقع الذي يعرفونه من خلال معاينة الأصول أو صحبة المحدثين، وليس على مجرد صيغ التلقي والأداء التي قد يكون بريئاً منها الراوي المدلس». انتهى كلام الشيخ المليباري.
قال ابن أبي الوفاءِ القرشي في "الكتاب الجامع" الذي جعله ذيلاً "للجواهر المضيَّة" (2|428): «وما يقوله الناس: إن من رَوَى له الشيخان فقد جاوز القنطرة، هذا من التجوُّه، ولا يقوى». وقال: «واعلم أن "أنَّ" و "عَنْ" (من المدلّس) مقتضِيان للانقطاع عند أهل الحديث. ووقَع في (صحيحي) مسلم والبخاري من هذا النوع كثير. فيقولون (أي المتأخرين) على سبيل التجوُّه: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع. وما كان في الصحيحين فمحمولٌ على الاتصال».
. حديث المرأة في صورة شيطان
وقد رأيت مسلماً لا يخرج لأبي الزبير عن جابر إلا من طريق الليث، أو مقروناً بغيره، أو ما صرّح به بالسماع. وبقيت بضعة أحاديث لا تنطبق عليها تلك الشروط. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (6|335): «وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضِّح فيها أبو الزبير السماعَ عن جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء. من ذلك حديث: "لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح" (#1356). وحديث "أن رسول الله r دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام" (#1358). وحديث "رأى –عليه الصلاة والسلام– امرأةً فأعجبته، فأتى أهله زينب" (#1403). وحديث "النهي عن تجصيص القبور" (#970)، وغير ذلك».
قلت الحديث الأخير صرّح فيه أبو الزبير بالسماع من جابر، كما في النسخة المطبوعة من صحيح مسلم وكذلك في مستخرج أبي النعيم (3|49)، وباقي الأحاديث هي كما قال الحافظ الذهبي. ولم أجد في أول حديثين نكارةً، بخلاف الحديث الثالث الذي فيه طعنٌ برسول الله r. وقد أخرجه مسلم بعدة ألفاظ منها (2|1021): حدثنا عمرو بن علي حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن أبي الزبير عن جابر: «أن رسول الله r رأى امرأةً، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته. ثم خرج إلى أصحابه، فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان. فإذا أبصر أحدكم امرأةً، فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه». وأخرجه كذلك: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا حرب بن أبي العالية حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله: أن النبي r رأى امرأة، فذكر أنه قال: «فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة»، ولم يذكر تدبر في صورة شيطان. ثم قال مسلم: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل عن أبي الزبير قال، قال جابر، سمعت النبي r يقول: «إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه».
والحديث المضطرب مردودٌ لانقطاع سنده ووجود النكارة الشديدة في متنه. وهذا محال على رسول الله r، فقد نزهه الله عن ذلك وعصمه. وقد حاول بعض العلماء التكلف بالإجابة عن هذه النكارة بأجوبة ليست بالقوية، إلا أن الحديث الضعيف لا يُعبئ بشرحه أصلاً، والله أعلم. وما جاء من طريق ابن لهيعة من تصريح أبي الزبير بالتحديث من جابر، مردود. لأن ابن لهيعة ضعيف جداً من غير رواية العبادلة يقبل التلقين، فلا يعتبر به ولا يكتب حديثه. والله المستعان على ما يصفون.
. حديث المغفرة لقاتل نفسه
أخرج مسلم (1|108 #116) من طريق حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي r فقال: يا رسول الله هل لك في حصن، حصين ومنعة؟». –قال (جابر): حصن كان لدوس في الجاهلية– فأبى ذلك النبي r للذي ذخر الله للأنصار. فلما هاجر النبي r إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه. فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع. فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه. فقال له: «ما صنع بك ربك؟». فقال: «غفر لي بهجرتي إلى نبيه r». فقال: «مالي أراك مغطيا يديك؟». قال: «قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت». فقصّها الطفيل على رسول الله r، فقال رسول الله r: «اللهم وليديه فاغفر».
هذا حديث غريب لم يذكر أبو الزبير ممن سمعه. وقال الطبراني في المعجم الأوسط (3|40): «لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا حجاج». وهذا التفرد الغريب مع احتمال التدليس، يجعلني أتوقف عن الحكم في هذا الحديث.
. حديث الجماع بغير إنزال
أخرج مسلم (1|272): من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن أم كلثوم عن عائشة زوج النبي r قالت: إن رجلاً سأل رسول الله r عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله r: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل».
قلت: هذا الحديث أخرجه مسلم في الشواهد في آخر الباب، فلا يقال أن مسلماً قد صححه. بل هو منكَر المتن، مُعَلّ الإسناد. وهو معارضٌ صريحٌ لحديثٍ آخر في صحيح مسلم: «إن من أشرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرّجُل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها».
وأما إسناده ففيه عدة علل منها: أن فيه أبي جابر المدلّس المشهور، قد رواه عن جابر دون أن يصرح بالتحديث في أيٍّ من طرق الحديث. وفيه عياض بن عبد الله بن عبد الرحمن القرشي الفهري، وهو متروك. قال ابن حجر في التقريب: «فيه لين». وقال أبو حاتم: «ليس بالقوي». و قال الساجي: «روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر». قلت: وهذا الحديث الباطل منها. وذكره العقيلي في ضعفائه (#1382). و قال يحيى بن معين: «ضعيف الحديث». وهذا معناه متروك باصطلاح ابن معين. وقال أبو صالح: «ثبت (!) له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيء». و قال البخاري: «منكر الحديث». وهذا معناه باصطلاح البخاري: متروك لا تحل الرواية عنه. وهذا كله يوجب أن هذا أقل ما فيه أنه ضعيفٌ لا يحتج به.
وهذا الحديث أخرجه الألباني في سلسلته الضعيفة (2|406)، وقال: «ضعيفٌ مرفوعاً». يقصد أن هذا المعنى قد أتى من وجهٍ آخر (كما سيأتي) لكن ليس بهذا اللفظ الباطل. وله شاهدٌ ضعيف بلفظ: «فعلته أنا ورسول الله r، فاغتسلنا منه جميعاً». وقد بيّن الدارقطني في سننه (1|111) أن هذا الحديث باطلٌ مرفوعاً.
والمعنى الذي قصده الألباني ما قد روى مالك في الموطأ (1|46): عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أمنا عائشة موقوفاً من قولها لأبي موسى الأشعري: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل». ورواه مسلم (#349) عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن أمنا عائشة قالت: قال رسول الله r: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل».
فقد اختلف الوقف والرفع. وإسناد مالك الموقوف أقوى، لكن يخشى أن يكون مالك قد وقفه عمداً. وفي كل الأحوال فهذا حكمه حكم الرفع، لأن أمنا عائشة t لم تعرف رجلاً إلا رسول الله r. وهي لا تخبر بالوجوب إلا بإخبار عنه r. لكن لفظ موطأ مالك مقدم على لفظ صحيح مسلم، والله أعلم.
. حديث السفر في رمضان
قال مسلم في كتاب الصيام (2|790): حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، t قال: «خرجنا مع رسول الله r في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله r وعبد الله بن رواحة».
عقب عليه الألباني فقال في صحيحته (1|326): إن قوله: «في شهر رمضان»، شاذٌّ لا يثبت في الحديث. قال الألباني (1|323)، بعد كلام على طرق الحديث المذكور: «الصواب عندي أن حديث أبي الدرداء ليس فيه: "في شهر رمضان" وذلك لأمور:
الأول: إن سعيد بن عبد العزيز وإن كان ثقة فقد اختلط قبل موته كما قال أبو مسهر، وقد اختلف عليه في قوله: "في شهر رمضان" فأثبته عنه الوليد بن مسلم في رواية داود بن رشد عنه، ولم يثبتها في رواية مؤمل بن الفضل، وهو ثقة. وتترجح هذا الرواية عن الوليد بمتابعة بعض الثقات له عليها، منهم عمرو بن أبي سلمة عن سعيد عن عبد العزيز به بلفظ: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر..."، أخرجه الشافعي في السنن (1|269). ومنهم أبو المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، أخرجه أحمد عنه.
فهؤلاء ثلاثة من الثقات لم يذكروا ذلك الحرف: "شهر رمضان". فروايتهم مقدمة على رواية الوليد الأخرى كما هو ظاهر لا يخفى. ويؤيده الأمر التالي وهو:
الثاني: أن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قد تابع سعيداً على رواية الحديث عن إسماعيل بن عبيد الله بتمامه، ولكنه خالفه في هذا الحرف فقال: "خرجنا مع رسول الله في بعض أسفارنا..." أخرجه البخاري (3|148). وعبد الرحمن هذا أثبت من سعيد، فروايته عند المخالفة أرجح لا سيما إذا وافقه عليها سعيد نفسه في أكثر الروايات عنه –كما تقدم–.
الثالث: أن هشام بن سعد قد تابعه أيضاً ولكنه لم يذكر فيه الحرف المشار إليه. أخرجه أحمد (6|444) عن حماد بن خالد قال: ثنا هشام بن سعد عن عثمان بن حيان وإسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به. وهشام بن سعد ثقة حسن الحديث، وقد احتج به مسلم كما يأتي.
الرابع: أن الحديث جاء من طريق أخرى عن أم الدرداء لم يرد فيه الحرف المذكور. أخرجه مسلم (3|145) وابن ماجة (1|510) والبيهقي (4|245) وأحمد (5|194) من طريق هشام بن سعد عن عثمان بن حيان الدمشقي عن أم الدرداء به بلفظ: "لقد رأيتنا مع رسول الله r في بعض أسفاره... ". وقرن أحمد –في رواية له كما تقدم– إسماعيل بن عبيد الله مع عثمان بن حيان. فقد روى هشام بن سعد الحديث من الطريقين عن أم الدرداء.
قلت: فهذه الوجوه الأربعة ترجح أن قوله في رواية مسلم: "في شهر رمضان" شاذ لا يثبت في الحديث».
. حديث الاستكثار من النعال
قال مسلم في (كتاب اللباس والزينة 3|1660): حدثني سلمة بن شيب، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا بن معقل، عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت النبي r يقول في غزوة غزوناها: «استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل».
وقد ضعف الألباني السند بعد أن عزاه لمسلم وجماعة آخرين، وقال في صحيحته (1|602): «وأبو الزبير مدلس، وقد عنعنه».
. حديث تغيير الشيب
قال مسلم في (كتاب اللباس والزينة 3|1663): حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أتي بأبي قحافة أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح، ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة فأمر، أو فأمر به إلى نسائه، قال: «غيروا هذا بشيء».
وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاًًًًًًًًَ، فقال رسول الله r: «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السوداء».
. حديث توضأ فترك موضع ظفر
أخرج مسلم (1|215 #243): حدثني سلمة بن شبيب: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين: حدثنا معقل، عن أبي الزبير، عن جابر: أخبرني عمر بن الخطاب: أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه. فأبصره النبي r فقال: «ارجع فأحسن وضوءك». فرجع ثم صلى.
قال البزار (1|350): «وهذا الحديث لا نعلم أحداً أسنده عن عمر، إلا من هذا الوجه. وقد رواه الأعمش عن أبي سفيان عن عمر موقوفاً». وقال أبو الفضل بن عمار الشهيد (#5): «وهذا الحديث بهذا اللفظ، إنما يعرف من حديث ابن لهيعة عن أبي الزبير بهذا اللفظ. وابن لهيعة لا يحتج به. وهو عندي خطأ، لأن الأعمش رواه عن أبي سفيان عن جابر، فجعله من قول عمر».
والرواية عن ابن لهيعة رواها أحمد في مسنده (1|21). والرواية الموقوفة رواها ابن أبي شيبة (1|46) قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: «أن عمر رأى في قدم رجل مثل موضع الفلس لم يصبه الماء، فأمره أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة». ومعلوم أن أبا سفيان وأبا الزبير كلاهما ينقل عن صحيفة جابر التي وجدوها عند زوجه بعد وفاته. فظهر أن الخطأ هو من معقل، وهو صدوق يخطئ.
هذا والعمل على هذا الحديث، وإن كان موقوفاً. قال ابن حزم في المحلى (2|72): «لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف فعل عمر هذا».
. حديث الاستجمار تو
أخرج مسلم في صحيحه (2|945 #1300): وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل –وهو بن عبيد الله الجزري– عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله r: «الاستجمار تَوّ (أي مرة واحدة)، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، والطواف تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو».
قال الألباني في "التعليق على مختصر صحيح مسلم" (ص193): «والحديث من رواية أبي الزبير عن جابر، وقد عنعنه».
. حديث دخول مكة بالسلاح
أخرج مسلم (2|989 #1356): حدثني سلمة بن شبيب حدثنا بن أعين حدثنا معقل عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت النبي r يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح».
. حديث دخول مكة بغير إحرام
روى حماد بن سلمة عند الترمذي (4|225) ومعاوية بن عمار عند مسلم (#1358) عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله r دخل مكة –يوم الفتح– وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. ولم يبيّن أبو الزبير سماعه من جابر.
. حديث زيارة الكعبة ليلاً
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (5|385): «حديث الثوري عن أبي الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار البيت ليلاً. أخرجه مسلم. وهو عندي منقطع». قلت: لم أجده عند مسلم ولكن البخاري علقه في صحيحه (2|617) من قول أبي الزبير، وهذا طبعاً لا يفيد تصحيحه، إنما يفيد تصحيحه لأبي الزبير فحسب. وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
والأثر منقطعٌ في أية حال كما ذكر الذهبي. فأبي الزبير لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس ولا من عائشة. وقال عنه أبو حاتم: «رأى ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة». وقال سفيان بن عيينة: «يقولون أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس». وهو في كل حالٍ منكر المتن، مخالفٌ لرواية الثقات، لأن رسول الله r طاف يوم النحر نهاراً.
قال ابن القيم في زاد المعاد (2|275) ما خلاصته: «أفاض r إلى مكة قبل الظهر راكباً، فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة والصدر، ولم يطف غيره ولم يسع معه. هذا هو الصواب. وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل. وهو قول طاووس ومجاهد وعروة. واستدلوا بحديث أبي الزبير المكي عن عائشة وابن عباس المخرج في سنن أبي داود والترمذي. قال الترمذي: حديث حسن (وهذا علامة ضعفه!). وهذا الحديث غَلَطٌ بيِّنٌ خِلافَ المعلوم من فعله r الذي لا يَشكّ فيه أهل العلم بحجته. وقال أبو الحسن القطان: عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح. إنما طاف النبي r يومئذ نهاراً. وإنما اختلفوا هل هو صلى الظهر بمكة، أو رجع إلى منى فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فابن عمر يقول إنه رجع إلى منى فصلى الظهر بها. وجابر يقول إنه صلى الظهر بمكة. وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخّر الطواف إلى الليل. وهذا شيء لم يُروَ إلا من هذا الطريق. وأبو الزبير مُدَلّسٌ لم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة، وقد عهد أنه يروي عنها بواسطة. ولا عن ابن عباس أيضاً، فقد عهد كذلك أنه يروي عنه بواسطة. وإن كان قد سمع منه، فيجب التوقف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يذكر فيه سماعه منهما، لما عُرِفَ به من التدليس. لو عرف سماعه منها لغير هذا. فأما ولم يصح لنا أنه من عائشة، فالأمر بيِّنٌ في وجوب التوقف فيه. وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمّن قد عُلِمَ لقاؤه له وسماعه منه. هاهنا يقول قوم يُقبل، ويقول آخرون يُرَدّ ما يعنعنه عنهم حتى يتبيّن الاتصال في حديث حديث. وأما ما يعنعنه المدلس عمن لم يعلم لقاؤه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يُقبل. ولو كنا نقول بقول مسلم بأن معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقاؤهما، فإنما ذلك في غير المدلسين. وأيضاً فلما قدمناه من صحة طواف النبي يومئذ نهاراً. والخلاف في رد حديث المدلسين حتى يعلم اتصاله أو قبوله حتى يعلم انقطاعه، إنما هو إذا لم يعارضه ما لا شك في صحته. وهذا قد عارضه ما لا شك في صِحَته. انتهى كلامه. وقال البيهقي: "وأصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة". يعني أنه طاف نهاراً». انتهى مختصراً.
أحاديث ضعيفة أخرى
. حديث الرجل يفضي سر امرأته
أخرج مسلم في صحيحه (2|1060 #1437): من طريق عمر بن حمزة بن عبد الله العمري، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله r: «إن من أشرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرّجُل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها». وفي لفظ «إن من أعظم الأمانة الرجل...».
أخرجه مسلم من طريق عمر بن حمزة، وهو ضعيفٌ باتفاق أهل النقد. قال أحمد: «أحاديثه أحاديث مناكير». وقال عنه ابن معين: «ضعيف»، وهو جرحٌ شديدٌ باصطلاحه. وذكره النسائي في كتاب "الضعفاء والمتروكين" (1|83) وقال: «ليس بالقوي». وقال ابن حبان: «كان ممن يخطئ». وذكره العقيلي في ضعفائه (3|153). وكذلك ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين" (2|207). ولم يخرج له البخاري إلا تعليقاً. وقال عنه ابن حجر في التقريب: «ضعيف». أما قول الحاكم في المستدرك «أحاديثه كلها مستقيمة» فإن توثيق الحاكم في المستدرك غير معتبر عند أهل العلم. وهذا الحديث قد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (2|192). بل عده الذهبي في الميزان (5|230) من منكرات ابن حمزة هذا.
قال الألباني في كتاب "الزفاف" (ص61 ط4): «ويُستَنتَجُ من هذه الأقوال لهؤلاء الأئمة أن الحديث ضعيف وليس صحيح. وتوسط ابن القطان فقال كما في فيض القدير (2|539): "وعمر ضعفه ابن معين، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، فالحديث حسنٌ، لا صحيح". ولا أدري كيف حَكَمَ بحُسنِهِ مع التضعيف الذي حكاه هو نفسه! فلعله أخذ بهيبة الصحيح. ولم أجد حتى الآن ما أشد به عضد هذا الحديث. والله أعلم». قلت: تحسين المتأخرين فيه نظر. إلا إن قصدنا حسن معنى الحديث، فهو كذلك. وللحديث شواهد لكنها ضعيفة.
. حديث من نسي فليستقئ
أخرج مسلم في الشواهد (3|1601 #2026): من طريق عمر بن حمزة، قال: أخبرني أبو غطفان المري أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله رسول الله r: «لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقىء».
وهذا حديثٌ شاذٌ بهذا اللفظ تفرد به مسلم، وقد ذكره في الشواهد في آخر الباب، مما يعني أنه لا يصححه بالضرورة. وهو من طريق عمر بن حمزة الذي سبق وبيّنا اتفاق العلماء على ضعفه. وقد جاء معنى هذا الحديث من غير هذا الطريق، ما عدا آخر الحديث «فمن نسي فليستقىء».
وهذا الحديث أنكره الألباني في سلسلته الضعيفة (2|326) وقال عنه: «وقد صح النهي عن الشرب قائماً في غير ما حديثٍ، عن غير واحد من الصحابة ومنهم أبو هريرة. لكن بغير هذا اللفظ. وفيه الأمر بالاستقاء، ليس فيه ذكر النسيان. فهذا هو المستنكر من الحديث». ونقل ابن حجر في فتح الباري (10|83): عن القاضي عياض قوله: «وأما حديث أبي هريرة، ففي سنده عمر بن حمزة. ولا يَحتمِل منه مثل هذا، لمخالفة غيره له. والصحيح أنه موقوف».
والصواب هو ما رواه ابن حبان (12|142) في صحيحه وأحمد في مسنده (2|283): عن عبد الرزاق ثنا معمر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً: «لو يعلم الذي يشرب –وهو قائم– ما في بطنه، لاستقائه». هذا وسبب النهي هو سبب صحي، كما ذكر العلامة عبد القادر الأرنؤوط –رحمه الله–. وقد صح أن رسول الله r شرب قائماً.
حديث عهد بربه
أخرج مسلم في الشواهد في آخر الباب (2|615 #898): وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس قال: أصابنا –ونحن مع رسول الله r– مطر، فحسر رسول الله r ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: «يا رسول الله. لم صنعت هذا؟». قال: «لأنه حديث عهد بربه».
هذا الحديث ضعفه الألباني في إرواء الغليل (3|142). وقال أبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد كما في علل الجارودي (ص86 #15): «وهذا حديثٌ تفرَّدَ به جعفر بن سليمان من بين أصحاب ثابت، لم يروه غيره. وأخبرني الحسين بن إدريس، عن أبي حامد المخلدي، عن علي بن المديني، قال: "لم يكن عند جعفر كتاب، وعنده أشياء ليست عند غيره". وأخبرنا محمد بن أحمد بن البراء، عن علي بن المديني قال: "أما جعفر بن سليمان فأكثر عن ثابت، وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير".وسمعت الحسين يقول: سمعت محمد بن عثمان يقول: "جعفر ضعيف"».
قلت: جعفر بن سليمان ضعيف الحفظ لا يجوز أن يحتج به إذا تفرد، خاصة عن ثابت، لكثرة أصحاب ثابت الثقات وإلمامهم بحفظ حديثه. وكان ثابت كثير الحديث جداً عن أنس، فصار الضعفاء كلما أخطئوا في حديث جعلوه عن ثابت عن أنس. وهذا الحديث عده الذهبي من منكرات جعفر كما في الميزان (2|139)، وكذلك فعل ابن عدي في الكامل (2|149).
حديث خلق التربة يوم السبت
أخرج مسلم (4|2149 #2789): من طريق ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله r بيدي فقال: «خلق الله –عز وجل– التربة يوم السبت. وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور يوم الأربعاء. وبث فيها الدواب يوم الخميس. وخلق آدم –عليه السلام– بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل».
وهذا حديث باطل موضوع بلا شك، وليس من قول رسول الله r. ورجح الإمام البخاري أن هذا من الإسرائيليات من قول كعب الأحبار، فقال في التاريخ الكبير (1|413): «وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح». قال ابن كثير: «فكأن هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه (الإسرائيلية). فوهم بعض الرواة، فجعله مرفوعاً إلى النبي r. وأكد رفعه بقوله: أخذ رسول الله r بيدي».
وأعله إمام العلل علي بن المديني بأن إبراهيم بن أبي يحيى قد رواه عن أيوب. قال ابن المديني: «وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا، إلا عن إبراهيم ابن أبي يحيى». وقد حرر ذلك البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 276). و إبراهيم مرمي بالكذب.
وفي كل الأحوال فأيوب بن خالد ضعيف لا يجوز الاحتجاج بخبره. قال روح بن عبادة، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد: «كنت في البحر، فأجنبت ليلة ثالث و عشرين من رمضان. فاغتسلت من ماء البحر، فوجدته عذباً فراتاً». وهذا كذب ظاهر. و قال الأزدي في ترجمة إسحاق بن مالك التنيسي، بعد أن روى من طريق هذا حديثاً عن جابر: «أيوب بن خالد ليس حديثه بذاك. تكلم فيه أهل العلم بالحديث. و كان يحيى ين سعيد و نظراؤه لا يكتبون حديثه». وقال عنه –كما في لسان الميزان (1|369)–: «ضعيف». وقال ابن حجر في التقريب: «فيه لين». ومع تضعيف هؤلاء كلهم، فإنه ليس فيه توثيق معتبر.
والحديث منكر المتن جداً. فهو لم يذكر خلق السماء، وجعل خلق الأرض في ستة أيام. وجعل خلق الشجر قبل خلق النور! وهو محال. ومن الباطل أن يكون النور قد خلق في النهاية، لأن النور من السماء، والسماء خلقت مع الأرض بنفس الوقت. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (30) سورة الأنبياء. لكن بعض شراح الحديث فسروا "النور" بأنه كناية عن الخير. وبذلك تظهر العقيدة المجوسية لواضع هذا الحديث. فقد جعل خلق الشر يوم الثلاثاء، وخلق الخير يوم الأربعاء.
. حديث اليمين على نية المستحلف
أخرج مسلم (3|1274 #1653): من طريق هشيم بن بشير عن عبد الله بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك». وفي رواية أخرى من نفس الطريق: «اليمين على نية المستحلف».
وقد ضعفه الترمذي إذ قال في سننه (3|636): «حسن غريب... لا نعرفه إلا من حديث هشيم، عن عبد الله بن أبي صالح». وقد عد ابن عدي في الكامل (4|344) هذا الحديث من منكرات عباد بن أبي صالح. وكذلك فعل العقيلي وقال (2|251): «ولا يحفظ إلا عنه. وتابعه عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وهو دونه».
وكذلك فعل ابن حبان وقال في المجروحين (2|164): «يتفرد عن أبيه بما لا أصل له من حديث أبيه. لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد». قال ابن حبان «وهذا الخبر مشهور بعبد الله بن سعيد المقبري عن جده، ويقال له عباد أيضاً». قال الذهبي في الميزان (4|28): «وعباد بن أبي صالح يقال له أيضاً: عبد الله». وعبد الله بن سعيد: متروك متهم بالكذب. أما البخاري فقد قال كما في علل الترمذي (1|207): «هو حديث هشيم. لا أعرف أحداً رواه غيره».
أي أن الحديث لأحد هذين الرجلين، وخلط الرواة بينهما. وسواء كان حديث ابن سعيد المقبري أم حديث ابن أبي صالح، فكلاهما ضعيف. الأول متهم بالكذب. والثاني ضعيف خاصة عن أبيه. قال البخاري، عن علي ابن المديني: «ليس بشيء»، وهو جرح قوي. قال البخاري في "تاريخه الصغير": «منكر الحديث»، وكذلك نقل العقيلي عنه، وهو جرح شديد. و قال يحيى بن معين: «ثقة». وهو مقيد بغير ما روى عن أبيه. إذ قال الساجي، وتبعه الأزدي: «ثقة، إلا أنه روى عن أبيه ما لم يتابع عليه». وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى (ص344، القسم المتمم، مكتبة العلوم والحكم): «وكان قليل الحديث مستضعفاً». فهو ضعيف جداً بخاصة عن أبيه، رغم قلة حديثه.
. حديث إذا تكلم بالكلمة رددها ثلاثاً
صحيح البخاري (1|48): 94 حدثنا عبدة قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عبد الله بن المثنى قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس، عن النبي r أنه: «كان إذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً». 95 حدثنا عبدة بن عبد الله: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عبد الله بن المثنى قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس، عن النبي r أنه: «كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه. وإذا أتى على عليهم سلم عليهم ثلاثا».
ومن غرائب البخاري أنه أتى بلفظين للحديث في نفس الباب بنفس الإسناد! والحديث إسناده غريب. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14|153): «هذا من غرائب صحيح البخاري. رواه عن ثقة عن عبد الصمد بن عبد الوارث».
عبد الصمد: قال أبو حاتم: «صدوق صالح الحديث» (وهذا دون التوثيق). و قال ابن سعد: «كان ثقة إن شاء الله» (وهذا توثيق خفيف). و قال الحاكم: «ثقة مأمون» (والحاكم مفرط في التساهل). و قال ابن قانع: «ثقة يخطئ». و نقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. و قال علي ابن المديني: «عبد الصمد ثبت في شعبة» (وليس حديثه هنا عن شعبة).
عبد الله بن المثنى: قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، و أبو زرعة، و أبو حاتم: «صالح» (وهذا دون التوثيق). زاد أبو حاتم: «شيخ» (وهذه مرتبة دون التوثيق). و قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: «ليس بشيء» (وهذا جرح شديد). و قال الترمذي: «ثقة»، وقال عن حديثه السابق «حسن صحيح غريب» (والترمذي فيه تساهل خفيف). و قال النسائي: «ليس بالقوي». و قال ابن حبان: «ربما أخطأ». و قال أبو داود: «لا أخرج حديثه». و قال الدارقطني: «ثقة» (كأنه يقصد العدالة). و قال مرة: «ضعيف». و قال الساجي: «فيه ضعف، لم يكن من أهل الحديث، روى مناكير». و بنحوه قال الأزدي. و قال العقيلي: «لا يتابع على أكثر حديثه» (وهذا يدل على أنه كثير الخطأ).
. حديث من نفَّس عن مؤمن كربة
أخرج مسلم (4|2074 #2699): حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني –واللفظ ليحيى–. قال يحيى: أخبرنا. وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «مَن نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه». 2699 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي ح وحدثناه نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أسامة قالا: حدثنا الأعمش حدثنا ابن نمير عن أبي صالح. وفي حديث أبي أسامة: حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r ثم بمثل حديث أبي معاوية، غير أن حديث أبي أسامة ليس فيه ذكر التيسير على المعسر. انتهى.
جاء في العلل لابن عمار الشهيد (ص136 #35): «وهو حديث رواه الخلق عن الأعمش، عن أبي صالح. فلم يذكر الخبر في إسناده غير أبي أسامة، فإنه قال فيه: "عن الأعمش، قال: حدثنا أبو صالح". ورواه أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. والأعمش كان صاحب تدليس، فربما أخذ عن غير الثقات». هذا وأسباط ليس من أوثق أصحاب الأعمش.
قال ابن أبي حاتم في العلل (2|162 #1979): «سألت أبا زرعة عن حديث رواه جماعة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي r: من نفس عن مؤمن كربة». قال أبو زرعة: «منهم من يقول الأعمش عن رجل عن أبي هريرة عن النبي r. والصحيح عن رجل عن أبي هريرة عن النبي r».
ورواه الترمذي (4|34 #1425): عن قتيبة عن أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً، ثم قال: «حديث أبي هريرة هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي r، نحو رواية أبي عوانة. وروى أسباط بن محمد عن الأعمش قال: حُدِّثْتُ عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي r نحوه. وكأن هذا أصح من الحديث الأول».
. يذكر الله على كل أحيانه
جاء في علل ابن أبي حاتم: (1|51 #124) سألت أبا زرعة عن حديث خالد بن سلمة عن البهي عن عروة عن عائشة قالت: «كان النبي r يذكر الله على كل أحيانه» فقال: «ليس بذاك. هو حديث لا يروى إلا من ذا الوجه». فذكرت قول أبي زرعة لأبي رحمه الله فقال: «الذي أرى أن يذكر الله على كل حال، على الكنيف وغيره، على هذا الحديث».
وهذا حديث أخرجه مسلم في صحيحه (1|282 #373): من طريق يحيى بن أبي زائدة، عن أبيه (زكريا، ثقة مدلس)، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة t. وعلقه البخاري في صحيحه (1|227) عن أمنا عائشة t، مرفوعاً. وقد نصل على صحته كما في علل الترمذي (ص359) لكنه ليس على شرطه. ولعل السبب أنه لا خالد بن سلمة ولا البهي على شرطه. قال ابن حجر في "النكت على ابن الصلاح": «وخالد تكلم فيه بعض الأئمة. وليس هو من شرط البخاري. وقد تفرد بهذا الحديث» أما الترمذي فقد ضعف الحديث فقال عنه (5|463): «حسن غريب. لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة».
خالد بن سلمة. على ابن المديني: «له نحو عشرة أحاديث». وقال ابن المديني و ابن عمار الموصلي، و يعقوب بن شيبة، و النسائي، و يحيى بن معين: «ثقة». و قال أبو حاتم: «شيخ يكتب حديثه». و قال ابن عدي: «و هو في عداد من يجمع حديثه، و لا أرى برواياته بأساً». وقال جرير: «كان خالد بن سلمة الفأفاء: رأساً في المرجئة، و كان يبغض علياً».
عبد الله البهي. قال ابن سعد (6|299): «وكان ثقة معروفاً قليل الحديث». و قال أبو حاتم (1|77): «ونفس البهي لا يحتج بحديثه، وهو مضطرب الحديث». فقد اضطرب في حديثه على قلته..
حديث مسح على الخفين والخمار
أخرج مسلم (1|231 #275): «وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا إسحاق أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال: "أن رسول الله r مسح على الخفين والخمار". وفي حديث عيسى حدثني الحكم حدثني بلال. وحدثنيه سويد بن سعيد حدثنا علي –يعني بن مسهر– عن الأعمش بهذا الإسناد».
جاء في العلل لعمار الشهيد (ص62): «وهذا حديث قد اختلف فيه على الأعمش: فرواه أبو معاوية، وعيسى، وابن فضيل، وعلي بن مسهر، وجماعة (هكذا). ورواه زائدة بن قدامة، وعمار بن زريق، عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء عن بلال. وزائدة: ثقة متقن. ورواه سفيان الثوري عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن بلال، ولم يذكر بينهما لا كعبا ولا البراء. وروايته أثبت الروايات. وقد رواه عن الحكم –عن غير الأعمش– أيضاً: شعبة، ومنصور ابن المعتمر، وأبان بن تغلب، وزيد بن أبي أنيسة، وجماعة: عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال، كما رواه الثوري عن الأعمش. وحديث الثوري عندنا أصح من حديث غيره. وابن أبي ليلى لم يلق بلالا».
وعدم التقاء ابن أبي ليلى ببلال، واضح ليس فيه خلاف. وانظر جامع التحصيل (1|226). وقد رجح النسائي كذلك رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى مرسلاً عن بلال، كما في المجتبى (1|75–76). إذ أنه يذكر الرواية الخطأ، ثم يختم بالرواية الصحيحة.
وجاء في علل ابن أبي حاتم (1|15 #12): «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه سفيان الثوري وشريك عن الأعمش عن الحكيم بن عتيبة عن الرحمن بن أبي ليلى عن بلال عن النبي r في المسح على الخفين». قالا: «ورواه أيضا عيسى بن يونس وأبو معاوية وابن نمير عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة بن بلال عن النبي r. ورواه زائدة عن الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء عن بلال عن النبي r». قلت لهما: «فأي هذا الصحيح؟». قال أبي: «الصحيح من حديث الأعمش عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب». قلت لأبي: «حديث الأعمش؟» (يقصد هل هو صحيح موافق للحفاظ؟). قال: «الصحيح ما يقول شعبة وأبان ابن تغلب وزيد بن أبي أنيسة أيضاً عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب». وقال أبي: «الثوري (الذي روى عن الأعمش) وشعبة (الذي روى عن الحكم) أحفظهم» (أي رجح الإرسال)... قلت لأبي زرعة: «أليس شعبة وأبان بن تغلب وزيد بن أبي أنيسة يقولون: عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب». قال أبو زرعة: «الأعمش حافظ. وأبو معاوية و عيسى بن يونس وابن نمير وهؤلاء قد حفظوا عنه (كأن في النص تحريف). حديث الأعمش الصحيح: عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب. ورواه منصور وشعبة وزيد بن أبي أنيسة وغير واحد (موافقاً لحديث الأعمش الصحيح). إنما قلت: من حديث الأعمش».
وقد استقصى الدارقطني في العلل (7|171–175 #1282) بحث طرق هذا الحديث. والأرجح عندي أن الحديث مرسل.
****************************************************
هذا غيض من فيض
نصيحه لك ولغيرك اطلعوا على ما في كتبكم ولا ترددواعبارات تجهلونها
فمن كان بيته من زجاج لايرمي بيوت الناس بالحجاره
[CENTER]
من قال !!!!!!!!!!
الم اقل لك انكم تجهلون ما في كتبكم
اذا ابشر
تحقيق الإجماع على صحة ما أخرجه الشيخان:
يزعم بعض المتأخرين إجماع جميع علماء الأمة على صحة ما أخرجه البخاري ومسلم، وهذا فيه نظر. ومثالها قول أبي إسحاق الإسفرائيني (وهو من الأصوليين وليس من المحدّثين): «أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بصحة أصولها ومتونها». وقد بلغ الشطط بالدهلوي إلى القول في كتابه "حجة الله البالغة" (1|283): «أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون من أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين». بل أسوء من هذا ما قاله أحمد شاكر في تعليقاته على مختصر علوم الحديث لابن كثير (ص35): «الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم، وتبعهم على بصيرة من الأمر: أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها (!)، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف. وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه. وأما صحة الحديث نفسه، فلم يخالف أحد فيها».
أقول وكم من إجماعٍ نقلوه وهو أبطل من الباطل. ولنا أن نذكر مقولة الإمام أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب». نعم، أجمعت الأمة على أن جمهور الأحاديث التي في الصحيحين صحيحة. هذا الذي نقله الحفاظ الكبار وتداولوه. فجاء من بعدهم أقوامٌ ما فهموا مقالتهم، فأطلقوا القول وزعموا أن هذا الإجماع شاملٌ لكل حرفٍ أخرجه البخاري ومسلم بلا استثناء. وصاروا يضللون كل من يخالفهم. ولا حول ولا قوة إلا الله.
قال الحافظ أبو عُمْرو بنُ الصَّلاح في مبحثِ الصحيح، في الفائدة السابعة (ص27): «... ما تفرّد به البخاريُّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قَبيلِ ما يُقْطَعُ بصحته، لتلقّي الأمّةِ كل واحدٍِ من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصّلناه من حالِهما فيما سبق، سوى أحرفٍ يسيرةٍ تكلّم عليها بعضُ أهلِ النقدِ من الحُفّاظِ كالدارَقَطْني وغيرِه. وهي معروفةٌ عند أهل هذا الشأن». فاستثنى ابن الصلاح بعض الأحاديث من هذا الإجماع. فجاء بعض من بعده فعمّم كلامه وأساء إلى الأئمة. بل أساء إلى نفسه، وما يضر الأئمة أمثاله.
واعلم أن هناك أحاديثاً في الصحيحين ضعفها علماءٌ محدثون كثر. وما حصل إجماعٌ على صحة كل حديثٍ في الصحيحين، لا قبل البخاري ومسلم ولا بعدهما. فممن انتقد بعض تلك الأحاديث: أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو داود السجستاني والبخاري نفسه (ضعف حديثاً عند مسلم) وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو عيسى الترمذي والعقيلي والنسائي وأبو علي النيسابوري وأبو بكر الإسماعيلي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الدارقطني وابن مندة والبيهقي والعطار والغساني الجياني وأبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد وابن الجوزي وابن حزم وابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم والألباني وكثير غيرهم. فهل كل هؤلاء العلماء قد مبتدعة متبعين غير سبيل المؤمنين؟!
أسطورة تصحيح أبي زرعة لصحيح مسلم
سنذكر –مستعينين بالله– عدة أحاديث في صحيح مسلم، انتقدها أبو زرعة الرازي. فهذا كله مما يقدح في القصة التي ذكرها ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم" (ص67) وهي: «وبلغنا عن مكي بن عبدان... قال: وسمعت مسلماً يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة أخرجته». انتهى. فهذه القصة لم يذكر لها ابن الصلاح إسناداً، وإنما قال: "بلَغَنَا". و "بلغنا" أخت "زعموا"!
والقصة ذكرها أبو بكر بن عقال الصقلي في "فوائده" عن أبي بكر بن غزرة قال: «ذَكَرَ مكيّ بن عبدان...» وساق عدة روايات. وقد ألحق هذه الفوائد "كمال الحوت" في ذيل تحقيقه لكتاب "تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم" للحاكم، (ص281 ط دار الجنان الأولى 1407هـ). وهذا يدل على أن القصة لا تثبت: بدليل صنيع الإمام أبي زرعة نفسه في انتقاده لأحاديث مسلم، والانقطاع بين ابن غزرة ومكي ابن عبدان. ولعل مما يدل على بطلانها كذلك هذه القصة المشهورة التي حصلت في انتقاد أبي زرعة لمسلم لإخراجه عن ضعفاء. وهي ثابتة مروية في أجوبة أبي زرعة للبرذعي (2|674) وتاريخ بغداد (4|272) وسير أعلام النبلاء (12|571).
أسطورة تصحيح أحمد بن حنبل لصحيح مسلم
ومن الخرافات الأخرى التي يروجونها أن كل ما أخرجه مسلم قد أجمع على صحته أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعثمان بن أبي شيبة وسعيد بن منصور الخراساني. وقد زعم ذلك البلقيني في "محاسن الاصطلاح" (ص38). ونستغني عن الإجابة عن هذا بكونهم عاجزين عن إثباته. بل أعل أحمد أحاديثاً وأخرجها مسلم.
أسطورة تصحيح العقيلي لصحيح البخاري
وقد ذكر ابن حجر تهذيب التهذيب (9|46): قال مسلمة في "الصلة": «سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت العقيلي يقول: لما ألّفَ البخاري كتابه "الصحيح"، عرضه على ابن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، فامتحنوه (وفي رواية أخرى: فاستحسنوه). وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"». وهذا لا يصحّ فإن في إسناده رجلاً مجهولاً. ومسلمة لم يلتزم الصحة في كل ما يحكيه عن البخاري، فقد ذكر حكايات أخرى عنه ورد عليه ابن حجر في نفس الصفحة وبين بطلانها.
والقصة السابقة تشعر أن العقيلي يقول بتصحيح كل ما أخرجه شيخه البخاري. وهذا باطل، فقد ضعّف العقيلي عدداً من أحاديث صحيح البخاري. وعلى سبيل المثال حديث همام بن يحيى في الأبرص. وقد رواه العقيلي في ضعفاءه (4|369) من طريق شيخه البخاري، ثم ضعّفه واعتبره من كلام عبيد بن عمير. هذا رغم اتفاق البخاري (3|1276 #3277) ومسلم (4|2275 #2963) على تصحيحه.
وسبب تضعيف العقيلي للحديث هو أن هماماً هذا ضعيف الحفظ ثقة في كتابه. كذا نص الساجي وأبو حاتم ويزيد بن زريع. بل نقل عفان عن هماماً إقراره بذلك. فكأن العقيلي يميل إلى أن هماماً قد حدث بهذا الحديث من حفظه. وليس الحديث عند أحمد، مما يدل على تضعيفه له، بل ليس عند أصحاب السنن. والحديث قد رواه البخاري ومسلم من طريق همام، عن إسحاق، عن ابن أبي عمرة، عن أبي هريرة مرفوعاً. لكن العقيلي رواه أولاً عن إسحاق موقوفاً عليه من قوله، ثم رواه بإسنادٍ صحيحٍ إلى عبيد بن عمير موقوفاً على قوله.
فقال في "الضعفاء" (4|370): «حدثنا جعفر بن أحمد حدثنا أحمد بن جعفر المعقري (مستور) حدثنا النضر بن محمد (مستور) حدثنا عكرمة بن عمار (فيه كلام) حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: "كان ثلاثة في بني إسرائيل..." فذكر مثله. حدثنا محمد بن إدريس قال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان (بن عيينة) حدثنا عمرو بن دينار (المكي) أنه سمع عبيد بن عمير يقول: "كان ثلاثة أعمى ومقعد وآخر به زمانة –قد ذكر لنا عمرو فنسيتها– وكانوا محتاجين، فأعطى هذا بقرة وهذا شاة...". وذكر الحديث. قال أبو جعفر العقيلي: وهذا أصل الحديث من كلام عبيد بن عمير وقصصه كان يقص به».
وعبيد بن عمير هذا هو قاص مكة ومن خيرة التابعين، وله رؤية وليس له صحبة. فالعقيلي رجّح أن يكون إسحاق قد أخذ هذه القصة من قول عبيد بن عمير، وأخطأ همام من حفظه فجوّدها. قلت: وهذا محتمل، لكن الأرجح أن يكون عبيد بن عمير قد أخذها من حديثٍ مرفوعٍ سمعه من أحد الصحابة. ثم إن إسناد القصة –التي وقف فيها العقيلي القصة على إسحاق– مغموز. وقد يكون إسحاق حَدّث بها مرةً بغير إسناد. وإنما نقول ذلك لاتفاق البخاري ومسلم على تصحيح القصة، ولأنها ليست في الأحكام. والله أعلم.
الأحاديث والروايات الضعيفة:
.
حديث أنتم أعلم بأمور دنياكم
أخرج مسلم في صحيحه في الأصول: حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وأبو كامل الجحدري –وتقاربا في اللفظ وهذا حديث قتيبة– قالا حدثنا أبو عوانة عن سماك عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله r بقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟». فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله r: «ما أظن يُغني ذلك شيئاً». قال فأُخبِروا بذلك فتركوه. فأُخبر رسول الله r بذلك، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً. فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل».
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (15|116): «قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بيّنه في هذه الروايات».
وأخرج مسلم في الشواهد:
حدثنا عبد الله بن الرومي اليمامي وعباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالوا حدثنا النضر بن محمد (مستور) حدثنا عكرمة –وهو ابن عمار– (مدلّسٌ فيه كلام) حدثنا أبو النجاشي حدثني رافع بن خديج قال: قدم نبي الله r المدينة وهم يأبرون النخل –يقولون يلقحون النخل– فقال: «ما تصنعون؟». قالوا كنا نصنعه. قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً». فتركوه فنفضت أو فنقصت. قال فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر». قال عكرمة: «أو نحو هذا» (قلت هذا دلالة على عدم حفظه). قال المعقري: «فنفضت»، ولم يشك.
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد كلاهما عن الأسود بن عامر، قال أبو بكر حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة (له أوهام كثيرة): عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس: أن النبي r مَرَّ بقوم يلقحون. فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال فخرج شيصا. فمر بهم، فقال: «ما لنخلكم؟». قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" (ص29): «عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح. قوله r في حديث طلحة "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، إخبارٌ عن ظنه. وكذلك كان ظنه، فالخبرُ صِدقٌ قطعاً. وخطأ الظن ليس كَذِباً. وفي معناه قوله في حديث رافع "لعلكم...". وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد (بن سلمة)، لأن حماداً كان يخطئ. وقوله في حديث طلحة "فإني لن أكذب على الله" فيه دليلٌ على امتناع أن يكذب على الله خطأ، لأن السياق في احتمال الخطأ. وامتناعه عمداً معلومٌ من باب أولى، بل كان معلوماً عندهم قطعاً».
يتبين من الرواية الصحيحة أن النبي لم يقل «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وحاشاه أن يقول ذلك. كما بيّن النبي r أن ذلك مجرد ظنٌّ منه. وبهذا يُعلم أن ذلك ليس نهياً أو أمراً أو سنة أو ندباً، وهذا ضابط مهم في الفقه. فقال منذ البداية «ما أظن»، ولم ينههم. ثم أكد على هذا البيان مرة أخرى حين بلغه ما بلغه، فقال: «فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن». فالله الذي رضي لنا الإسلام دينا إلى يوم القيامة، أعلم بأمور دنيانا منا.
ونلاحظ كذلك أنه لم يكن يخاطبهم أصلاً، ولم يسمعوه هم يتكلم بل نقل هذا الكلام عنه أحد أصحابه. فلما علم بذلك، أخبرهم أن ذلك كان من الظن (كما صرح أول مرة) ولم يكن خبراً من الله. فلم يتركوا تلقيح النخل أصلاً، كما في الروايتين الضعيفتين اللتين في الشواهد. ففي إسناد الشاهد الأول عكرمة بن عمار، وفيه كلام. وبالغ ابن حزم فاتهمه بالكذب ووضع الحديث كما في كتابه الإحكام (6|199). وهو غير عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس، فلا تخلط بينهما. والراوي عنه هو النضر بن محمد، فيه جهالة، لم يوثقه إلا العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وتوثيقهما أضعف أنواع التوثيق. وإخراج مسلم له ليس بتوثيق، لأنه في الشواهد لا في الأصول.
كما أن في إسناد تلك الرواية الموضوعة حماد بن سلمة. وهو وإن كان من أئمة أهل السنة، فهو كثير الأوهام خاصة لما كبر. وفوق هذا فهو يروي بالمعنى ويتوسع جداً بهذا، وكثيراً ما يتحرّف الحديث ويصبح حسب فهمه أو وهمه. قال عنه ابن حبان في صحيحه (1|154): «كان يسمع الحديث عن أيوب وهشام وابن عون ويونس وخالد وقتادة عن ابن سيرين، فيتحرى المعنى ويجمع في اللفظ». وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (9|66): «حماد ساء حفظه في آخر عمره». وروى الذهلي عن أحمد أنه قال: «كان حماد بن سلمة يخطئ –وأومأ أحمد بيده– خطأً كثيراً». وقال الذهبي في "السير" (7|446): «قال أبو عبد الله الحاكم: قد قيل في سوء حفظ حماد بن سلمة، وجمعه بين جماعة في الإسناد بلفظ واحد، ولم يخّرج له مسلم في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وله في كتابه أحاديث في الشواهد عن غير ثابت». وكلام الحاكم موجود مطولاً بالأمثلة في كتابه "المدخل إلى الصحيح" باب "من عيب على مسلم إخراج حديثه والإجابة عنه". وأشار الترمذي في علله (1|120) إلى أن بعض أهل الحديث قد تكلموا في حفظ حماد. ونقل الذهبي في السير (7|446 و 452) والزيلعي في نصب الراية (1|285)، عن البيهقي في "الخلافيات" أنه قال في حماد بن سلمة: «.. لما طعن في السن ساء حفظه. فلذلك لم يحتج به البخاري. وأما مسلم فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سُمِعَ منه قبل تغيّره. وأما سوى حديثه عن ثابت فأخرج نحو اثني عشر حديثاً في الشواهد دون الاحتجاج. فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات». قلت وهو هنا قد أخطأ وخالف بروايته رواية الثقات، والكتاب والسنة وأمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، وهو أن الله أعلم من جميع خلقه بكل شيء، بما في ذلك أمور دنياهم.
وهذه الزيادة الباطلة صارت مفتاحاً لبني علمان ضدنا. حتى أن أحد العلمانيين كتب كتاباً بعنوان «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، يدعو به للفصل بين الدين والسياسة، وهذا كفرٌ وردة بلا خلاف.
. حديث الفطرة
روي عن النبي r أنه قال: عشر من الفطرة، وذكر منها المضمضمة والاستنشاق. هذا حديثٌ رواه مسلم (1|223) وأبو داود (1|14) وابن ماجة (1|107) في الطهارة، والترمذي (5|91) في الاستئذان، والنسائي (5|405) في الزينة، كلهم عن زكريا بن أبي زائدة (مدلّس) عن مصعب بن شيبة (ضعيف) عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله (r): «عشرٌ من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء». قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال مسلم: وحدثناه أبو كريب أخبرنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن مصعب بن شيبة ثم في هذا الإسناد أنه قال: قال أبوه: ونسيت العاشرة.
قلت هذا إسناد ضعيف لا تقوم به الحجة. ومما يدل على ضعفه تحسين الترمذي له في سننه (5|91). وهذا الحديث وان كان مسلم أخرجه في صحيحه فهو في الشواهد وليست في الأصول. وأشار الكثير من الحفاظ إلى أنه معلول كابن عبد البر وابن مندة وغيرهم. قلت: وفيه ثلاثة علل:
1- فزكريا هذا مدلّسٌ ليّنه أبو حاتم، و قد عنعن في كل طرق الحديث!
2- مصعب بن شيبة ضعيف. قال عنه الدراقطني: «ليس بالقوي ولا بالحافظ»، و قال أحمد: «روى أحاديث مناكير»، وقال أبو حاتم: «لا يحمدونه وليس بقوي»، و قال النسائي: «منكر الحديث»، وقال عنه ابن حجر: «ليّن الحديث»، وقال الذهبي: «فيه ضعف». ولذلك أشار أبو نعيم الأصبهاني إلى ضعف هذا الحديث في مستخرجه على صحيح الإمام مسلم (1|318)، بقوله: «إسناده فيه مصعب بن شيبة، ليِّن الحديث». وقد جعل العقيلي هذا الحديث من منكرات معصب، كما في ضعفائه (4|197).
3- الحديث أخرجه النسائي في المجتبى (5|405) من طريق سليمان التيمي وأبي بشر عن طلق بن حبيب موقوفاً. قال النسائي: «وحديث سليمان التيمي وجعفر بن إياس أشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة، ومصعب منكر الحديث». وقال الدارقطني في سننه (1|94): «تفرّد به مصعب بن شيبة. وخالفه أبو بشر وسليمان التيمي، فروياه عن طلق بن حبيب مرفوعاً». وأعلّه في "التتبع" كذلك (ص339 #182)، والحديث قد أنكره كذلك أحمد بن حنبل. فقد روى العقيلي في ضعفائه (4|196): عن أحمد بن محمد بن هاني قال: ذكرت لأبي عبد الله (أحمد بن حنبل) الوضوء من الحجامة، فقال: «ذاك حديث مُنكرٌ، رواه مصعب بن شيبة، أحاديثه مناكير. منها: هذا الحديث، وعشرة من الفطرة، وخرج رسول الله r وعليه مرط مرجل».
. حديث يأكل الأكلة فيحمده عليها
وأخرج مسلم (4|2095 #2734): من طريق زكريا بن أبي زائدة (مدلّس) عن سعيد بن أبي بردة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله r: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها».
وهذا حديثٌ لا يصح بدليل تحسين الترمذي له. فقد قال في سننه (4|265): «هذا حديثٌ حسن. وقد رواه غير واحد عن زكريا بن أبي زائدة نحوه. ولا نعرفه إلا من حديث زكريا بن أبي زائدة». وقد ذكره الألباني في إرواء الغليل (7|47) فقال: «رجاله كلهم ثقات إلا أن زكريا هذا مدلس كما قال أبو داود وغيره، وقد عنعنه عند الجميع...».
. حديث صيام الاثنين
أخرج مسلم في صحيحه (2|819 #1162): حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني (مرسلاً) عن أبي قتادة الأنصاري t أن رسول الله r سُئِلَ عن صومه، قال: فغضب رسول الله r. فقال عمر t: «رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، وببيعتنا بيعة». قال: «فسُئِلَ عن صيام الدهر»، فقال: «لا صام ولا أفطر –أو ما صام وما أفطر–». قال: «فسُئِلَ عن صوم يومين وإفطار يوم»، قال: «ومن يطيق ذلك؟». قال: «وسُئل عن صوم يوم وإفطار يومين»، قال: «ليت أن الله قوانا لذلك». قال: «وسُئل عن صوم يوم وإفطار يوم»، قال: «ذاك صوم أخي داود عليه السلام». قال: «وسُئِل عن صوم يوم الإثنين»، قال: «ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت –أو أنزل علي فيه–». قال: فقال: «صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر». قال: «وسُئل عن صوم يوم عرفة»، فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية». قال: «وسئل عن صوم يوم عاشوراء»، فقال: «يكفر السنة الماضية».
قال مسلم: وفي هذا الحديث من رواية شعبة: قال: «وسُئِلَ عن صوم يوم الإثنين والخميس فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهماً».
قلت: عبد الله بن معبد ليس بمشهور وحديثه عزيز وقد وثقه النسائي، لكنه لم يسمع هذا الحديث من أبي قتادة t. قال البخاري في التاريخ الكبير (5|198): «عبد الله بن معبد الزماني البصري، عن أبي قتادة. روى عنه حجاج بن عتاب وغيلان بن جرير وقتادة. ولا نعرف سماعه من أبي قتادة». وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5|173): «عبد الله بن معبد الزماني. روى عن عمر وأبي قتادة وأبي هريرة وعبد الله بن عتبة. روى عنه قتادة وغيلان بن جرير وحجاج بن عتاب وثابت. سمعت أبي يقول ذلك. نا عبد الرحمن قال: سئل أبو زرعة عن عبد الله بن معبد، فقال: لم يدرك عمر». قلت: روايته عن أبي هريرة ليست في الكتب التسعة. وعبد الله بن عتبة تابعي.
وقد ذكر ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (4|224) ابن معبد هذا، ثم نقل عن البخاري قوله: «عبد الله بن معبد الزماني الأنصاري عن أبي قتادة لا يعرف له سماع من أبي قتادة». ثم أيد ذلك وذكر هذا الحديث. والحديث رواه الترمذي كذلك مجزأً، فحسّنه في موضعين (3|138) (3|124) وسكت عنه في موضع (3|126). ولم يصححه أبداً لعلمه بعدم صحة سماع ابن معبد من أبي قتادة. وقد صححه بعض المتأخرين كابن حزم مغتراً بظاهره، وصححه ابن عبد البر وذكر أن هذا الحديث في الفضائل التي يُتساهل بها، ولأن بعض ألفاظه لها شواهد.
. حديث نعم الإدام الخل
قال مسلم في صحيحه (3|1621 #2051): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (وهو في سننه) أخبرنا يحيى بن حسان أخبرنا سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَ الأدم –أو الإدام– الخل». ثم ذكر رواية يحيى بن صالح عن سليمان بغير شك.
وقال (3|1622 #2052): حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا إسماعيل –يعني ابن علية– عن المثنى بن سعيد (ثقة ثبت) حدثني طلحة بن نافع (أبو سفيان، جيد) أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخذ رسول الله r بيدي ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فِلَقَاً من خُبْزِ. فقال: «ما من أُدُمِ؟». فقالوا: «لا، إلا شيءٌ من خَلٍّ». قال: «فإن الخل نِعْمَ الأُدُم». قال جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله r. وقال طلحة: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر. وقال محمد الأمين: ما زلت أحب الخل منذ ثبت عندي صحة هذا الحديث.
وأما الإسناد الأول فقد قال عنه الترمذي في سننه (4|278): «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث هشام عروة، إلا من حديث سليمان بن بلال». وقال الترمذي في العلل (ص302): «سألت محمداً (الإمام البخاري) عن هذين الحديثين، فقال: "لا أعلم أحداً روى هذين، غير يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال". ولم يعرفهما محمد إلا من هذا الوجه». قلت: الحديث الثاني قد رواه كذلك يحيى بن حسان تابعه يحيى بن صالح عند مسلم، ومروان بن محمد في مسند أبي عوانة (5|194)، كلهم عن سليمان.
وقال ابن أبي حاتم في علله (2|292): «سألت أبي عن حديثٍ رواه مروان بن محمد الطاطري عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي r قال: "نعم الإدام الخل". و "بيتٌ لا تمر فيه، جياعٌ أهله". قال أبي: "هذا حديثٌ منكَرٌ بهذا الإسناد"».
وقال أبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد في علل الجارودي (ص109 #25): ووجدت فيه (أي في صحيح مسلم): عن يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي r، قال: «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر». وروى (مسلم) بهذا الإسناد أيضاً عن النبي r: «نعم الإدام الخل». حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم الفسوي: حدثنا أحمد بن سفيان: حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا يحيى بن حسان، بهذين الحديثين. قال أحمد بن صالح: «نظرت في كتاب سليمان بن بلال فلم أجد لهذين الحديثين أصلاً». قال أحمد بن صالح: وحدثني ابن أبي أويس، قال: حدثني ابن أبي الزناد عن هشام عن رجل من الأنصار أن رسول الله r سأل قوماً: «ما إدامكم؟». قالوا: «الخل». قال: «نعم الإدام الخل». انتهى.
قلت: فظهر أن الحديث فيه رجلٌ مجهولٌ لم يسمّه هشام. ولذلك أنكر أبو حاتم هذا الحديث. لكن الحديث صحيحٌ من حديث جابر، كما سبق بيانه. ولولا أن مسلماً وضعه في أول الباب ما استدركنا عليه. وأما حديث التمر فقد أخرجه مسلم مع متابعة صحيحة من حديثٍ آخر.
وقال مسلم (3|1618 #2046): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي r قال: «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر». (#2046) حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا يعقوب بن محمد بن طحلاء عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عن عائشة قالت: قال رسول الله r: «يا عائشة، بيتٌ لا تمر فيه جياعٌ أهله».
فالحديث الأول له نفس علة الحديث السابق. فالترمذي نقل عن شيخه البخاري ما يثبت تفرد سليمان بهذا الحديث. وأحمد بن صالح بين أنه لم يجد الحديث في كتاب سليمان، فعرف أن سليمان حدث هذا الحديث من حفظه، فأخطأ وسلك الجادة. وبذلك رجح الحافظ أحمد المصري عليه رواية ابن أبي الزناد التي يروي فيها هشام هذا الحديث عن رجل لم يسمه. وبذلك جزم ابن عمار الشهيد، وجزم أبو حاتم الرازي في علله ببطلان هذا الحديث بهذا الإسناد. وقد خص هذا الإسناد لأن الحديث جاء في صحيح مسلم بإسناد آخر جيد.
. حديث الوسوسة
أخرج مسلم في الشواهد (1|119 #133): حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثني علي بن عثام عن سعير بن الخمس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: سئل النبي r عن الوسوسة قال: «تلك محض الإيمان».
الحديث أرسله أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله. ورواه جرير بن عبد الحميد وأبو جعفر الرازي عن مغيرة عن إبراهيم قال رجل: يا رسول الله... فذكر حديث الوسوسة. فالحديث الصواب فيه أنه من مراسيل إبراهيم، ووصله خطأ من سعير بن الخمس. قال البخاري، عن علي ابن المديني: «له نحو عشرة أحاديث». قلت فكان قليل الحديث جداً على ضعفه وكثرة مناكيره. قال المزي في تهذيب الكمال: «ليس لسعير و لا لعلي بن عثام و لا للصفار عند مسلم سواه، و هو حديث عزيز».
بل إن أبا حاتم قد حكم على أحد أحاديث سعير بأنه موضوع! قال ابن أبي حاتم في العلل (2|236): سألت أبي عن حديث رواه أبو الجواب عن سعير بن الخمس عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد عن النبي r قال: «من صُنِعَ إليه معروف فقال "جزاك الله خيراً" فقد أبلغ في الثناء». قال أبي: «هذا حديث عندي موضوع بهذا الإسناد». وقال الترمذي في كتاب العلل (1|316) عن نفس الحديث: سألت محمداً (البخاري) عن هذا الحديث، فقال: «هذا مُنكَر. وسعير بن الخمس كان قليل الحديث، ويروون عنه مناكير».
وقال ابن عمار الشهيد في علل الجارودي (1|42): «وليس هذا الحديث عندنا بالصحيح، لأن جرير بن عبد الحميد وسليمان التميمي روياه عن مغيرة عن إبراهيم، ولم يذكرا علقمة ولا ابن مسعود. وسعير ليس هو ممن يحتج به، لأنه أخطأ حديث مع قلة ما أسند من الأحاديث». وقال الخليلي في الإرشاد (2|809): قال لي عبد الله بن محمد القاضي الحافظ: «أعجب من مسلم كيف ادخل هذا الحديث (حديث الوسوسة) في الصحيح عن محمد بن عبد الوهاب (عن علي بن عثام)، وهو معلول فرد». اهـ. أقول: لا عجب في ذلك لأن مسلماً قد أخرجه في الشواهد وقد صح من غير هذا الوجه.
. حديث الحفر لرجم ماعز
أخرج مسلم في الشواهد (3|1323 #1695): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير –وتقاربا في لفظ الحديث– حدثنا أبي حدثنا بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله r فقال: «يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني». فردّه. فلما كان من الغد، أتاه فقال: «يا رسول الله، إني قد زنيت». فرده الثانية. فأرسل رسول الله r إلى قومه فقال: «أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟». فقالوا: «ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى». فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً، فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة، حفر له حفرة، ثم أمر به فرُجِمَ... إلى آخر الحديث.
علق عليه الألباني في "مختصر صحيح مسلم للمنذري" (ص277) فقال: «ذِكْرُ الحفر في هذا الحديث شاذُّ، تفرّدَ به بشير بن المهاجر، وهو ليّن الحديث كما في التقريب للحافظ ابن حجر. وقد تابعه علقمة بن مرثد عند مسلم فلم يذكر الحفر، وهو ثقة محتج به في الصحيحين. وكذلك أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. فدل ذلك على شذوذ هذه الزيادة و نكارتها». أقول: وذكر الحفر أتى من طرقٍ أخرى ضعيفة لا يعتبر بها لمخالفتها للصحيح.
وقال ابن القيم في "حاشيته على سنن أبي داود" (12|75): «وهذا الحديث فيه أمران، سائر طرق حديث مالك تدل على خلافهما. أحدهما: أن الإقرار منه وترديد النبي r، كان في مجالس متعددة. وسائر الأحاديث تدل على أن ذلك كان في مجلس واحد. الثاني: ذكر الحفر فيه. والصحيح في حديثه أنه لم يُحفَر له، والحفر وهم. ويدل عليه أنه هرب وتبعوه. وهذا والله أعلم من سوء حفظ بشير بن مهاجر. وقد تقدم قول الإمام أحمد: "إن ترديده إنما كان في مجلس واحد، إلا ذلك الشيخ ابن مهاجر"».
حديث أذناب البقر
أخرج مسلم في أصول صحيحه (4|2192): حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر، يضربون بها الناسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مميلاتٌ مائلاتٌ رؤسهنَّ كأسنِمَةِ البخت المائلة. لا يدخُلنَ الجنةَ ولا يجِدْنَ رِيحها. وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». وهذا حديثٌ صحيح.
ثم أخرج بعده مسلم في الشواهد (#2857) حديثاً من وجهين من طريق أفلح بن سعيد قال: حدثنا عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله r: «يوشك إن طالت بك مدةٌ أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر. يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله. في أيديهم مثل أذناب البقر». وأفلح بن سعيد صدوق، قال فيه ابن حبان في المجروحين (1|176): «يروى عن الثقات الموضوعات وعن الأثبات الملزوقات. لا يحِلّ الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال». ثم روى له هذا الحديث وقال: «هذا خبرٌ –بهذا اللفظِ– باطلٌ». ثم ذكر اللفظ الصحيح الذي قد رواه مسلم في الأصول. وهذا الحديث الباطل قد أورده ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" (3|10).
أقول: اللفظ الثاني معارض للأول، ولا شك أن الأول صحيح والثاني باطل. وحتى إن لم يوافق كثير من المتأخرين على إطلاق الوضع عليه، فهو خلاف لفظي. وإلا فإن رسول الله r قد قال مثل اللفظ الأول وليس مثل الثاني.
أحاديث أبي الزبير
أبو الزبير (محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي) ثقة (على الأرجح) لكنه يدلّس عن الضعفاء في حديث جابر t. فما كان منه في صيغة العنعنة من غير طريق الليث فهو ضعيف.
أما خلاف العلماء في توثيقه فهو كالتالي: وثقه ابن المديني وعطاء وابن معين وابن سعد والساجي وابن حبان والنسائي ومالك وابن عدي، واحتج به مسلم. وجرحه خفيفاً ابن عيينة وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ويعقوب بن شيبة والشافعي وأيوب السختياني وأحمد بن حنبل وشعبة، وأعرض عنه البخاري فلم يحتج به. وكل هذا جرحٌ خفيفٌ يفيد أن أبا الزبير ليس أوثق الناس، ولكنه جيد قد قبل أكثر الناس حديثه إذا تفرد، ومنهم من لم يحتج به إلا بالمتابعات.
ومن أمثلة أوهام أبي الزبير قصة ابن عمر عندما طلق زوجته وهي حائض. وقد أخطأ بها أبو الزبير الخطأ الفاحش وخالف الثقات الأثبات حتى قال أبو داود في سننه (2|256): «والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير». وقال ابن عبد البر في التمهيد: «إنه قد خالف أصحاب ابن عمر». مع أنه صرح بالتحديث في ذلك الحديث. فدل هذا على أن ما فيه نكارة من حديثه، يجب رده.
وتدليس أبو الزبير ثابتٌ معروفٌ عنه مشهور، يعترف به. والتدليس هو إسقاط الراوي بينه وبين شيخه جابر t، مع أنه سمع منه بعض الأحاديث القليلة. روى العقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل وابن حزم في المحلى (9|11) عن سعيد بن أبي مريم قال حدثنا الليث بن سعد قال: إن أبا الزبير دفع إلي كتابين (زاد في رواية: فانقلبت بهما، أي راجعاً من مكة). فقلت في نفسي لو سألته: أسمع هذا كله من جابر؟ فرجعت إليه فقلت: «هذا كله سمعته من جابر؟». فقال: «منه ما سمعته، ومنه ما حُدِّثْتُ عنه». فقلت له: «أَعْلِم لي على ما سمعت». فأعْلَمَ لي على هذا الذي عندي. (ولعلّ تلك الأحاديث التي سمعها منه هي 27 حديث). قال ابن حزم: «فكل حديث لم يقل فيه أبو الزبير أنه سمعه من جابر، أو حدثه به جابر، أو لم يروه الليث عنه عن جابر، فلم يسمعه من جابر بـإقـراره. ولا ندري عمن أخذه. فلا يجوز الاحتجاج به».
والقصة رواها الفسوي في المعرفة (1|166) مختصرة جداً: عن ابن بكير قال: وأخبرني حبيش بن سعيد عن الليث بن سعد قال: «جئت أبا الزبير فأخرج إلينا كتاباً، فقلت: "سماعُك من جابر؟". قال: "ومن غيره". قلت: "سماعَك من جابر". فأخرج إليّ هذه الصحيفة». فقد أخرج أبو الزبير في أول الأمر كتاباً كاملاً. فلما طالبه الليث بما سمعه فقط، أخرج صحيفة فقط من أصل الكتاب. فهذا يدل على أن غالب ما رواه عن جابر إنما دلسه عنه ولم يسمعه منه. فهو مكثرٌ من التدليس لا مُقِل. وقد أخرج مسلمٌ وحده من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر 22 حديثاً. وأخرج بهذه الترجمة بعض أصحاب السنن خمسة أخرى (إن صح الإسناد لليث). فهي 27حديثاً فقط، مما وصل إلينا.
وقد قال الليث: «فقلت له: "أَعْلِم لي على ما سمعت". فأعْلَمَ لي على هذا الذي عندي». فمن غير المعقول إذاً على أبي الزبير –وهو الحريص على تنفيق بضاعته– أن يعلّم له على بضعة أحاديث فقط ويقول له هذا بعض ما سمعت ولن أخبرك بالباقي!! فيكون قد غش الليث مرة أخرى لأن الليث قال له «أَعْلِم لي على ما سمعت». أي على كل ما سمعت. فقد دلّس على الليث قطعاً في أول الأمر. وكاد الليث يرجع لبلده لولا أنه عرف تدليس أبي الزبير، فعاد إليه وطلب منه التعليم على ما سمعه فقط.
أما أن شُعْبَة قد روى عنه، فهذا فيه خلاف. قال الخليلي في الإرشاد (2|495): «شعبة لا يروي عن أبي الزبير شيئاً». وقال ابن حبان في المجروحين (1|151) (1|166-تحقيق حمدي السلفي): «ولم يسمع شعبة من أبي الزبير إلا حديثاً واحداً، أن النبي r صلى على النجاشي». يقصد لم يرو عنه إلا حديثاً واحداً، وإلا فقد سمع الكثير وما روى عنه. ولو فرضنا أن شعبة قد روى عنه، فقد رجع عن ذلك، وضعّف أبا الزبير. قال نعيم بن حماد سمعت هشيماً يقول: سمعت من أبي الزبير فأخذ شعبة كتابي فمزَّقه. قال ورقاء: قلت لشعبة: مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: «رأيته يزن ويسترجح في الميزان». وقال شعبة لسويد بن عبد العزيز: «لا تكتب عن أبي الزبير فإنه لا يحسن أن يصلي».
ثم إن حدّث شعبة عنه فلا ينف هذا أن يكون مُدلّساً. فقد حدَّث شعبة عن قتادة وعن كثيرٍ من المحدثين. نعم، ما يرويه شعبة عن المدلّسين فهو محمولٌ على الاتصال، ولا ينفِ هذا تدليس شيخ شعبة إن روى عنه غيره. وقال أحد أهل الجهل بأن شعبة يضعف الراوي المدلس، فتكون روايته عن أبي الزبير توثيقاً له من التدليس. قلت: وهذا كلام لو سكت عنه صاحبه لكان خيراً له. فأين يذهب بقول قتادة: «كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبي إسحاق وقتادة»؟ وهؤلاء هم من أثبت أهل العراق في الحديث، فما اعتبر شعبة التدليس جرحاً لهم كالكذب والزنا، لكنه لم يرو عنهم إلا ما سمعوه من مشايخهم وأعرض عما لم يبينوا فيه السماع، لعلمه بأنهم مدلسين. والتدليس عند جمهور الحفاظ ليس بجرحٍ في الراوي إلا إذا تعمد التدليس عن مجروحين ليخفي ضعفهم. وكونه قد سمع الكثير من حديث أبي الزبير (400 كما يزعمون) لا يعني أن تلك الأحاديث خالية من التدليس، إلا إذا حدث بها شعبة. فهو يسمع حديث مشايخه كله لكنه لا يروي عنهم إلا ما سمعوه من مشايخهم.
ولا يشترط أن تجد وصفه بالتدليس عند كل من ترجم له. وكم من مدلّسٍ ثَبَتَ عنه التدليس بالدليل القاطع، ولا تجد كل من ترجم له يذكر ذلك في ترجمته. وكونه من أهل الحجاز لا ينفِ هذا التدليس عنه (كما زعم الحاكم، وحكم عليه ابن حجر بالوهم). فهذا ابن جريج من كبار حفاظ مكة. ومع ذلك فشرّ التدليس تدليس ابن جريج. وأبو الزبير قد وصفه النَّسائيّ بالتدليس. وأشار إلى ذلك أبو حاتم. ولا يشترط أن يصفه بذلك كل من ترجم له لأن التدليس يصعب كشفه إلا بحصر الروايات الكثيرة. ولذلك يخفى على كثيرين من الحفاظ. ومن علم حجة، كان ذلك حجة على من لم يعلم!
ثم لو لم يكن أبو الزبير يدلّس عن ضعيف، لسمع منه الليث حديثه كله، ولم يكتف بتلك الأحاديث القليلة ويترك الباقي. ولم يكن ليترك الباقي إن كان أبو الزبير قد سمعه من جابر أو سمعه من ثقة عن جابر. والليث هو في مرتبة مالك بن أنس في الحفظ والعلم والإمامة. وهو أعلم من هؤلاء المتأخرين بحال أبي الزبير. فقوله مُقدّمٌ عليهم قطعاً. ومن نفى تدليس أبي الزبير فقد كذب أبا الزبير نفسه الذي أقر على نفسه لليث بذلك!
وقال أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل (4|136): «جالَسَ سليمان اليشكري جابراً فسمع منه وكتب عنه صحيفة، فتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته. فروى أبو الزبير وأبو سفيان الشعبي عن جابر. وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة. وكذلك قتادة». فثبت إذاً أن غالب حديث أبي الزبير عن جابر لم يسمعه منه، بل كثيرٌ منه من صحيفةٍ أخذها وِجَادة. وبعضه لا نعرف من أين جاء به. وأبو حاتم لم يذكر لنا كل هؤلاء الناس الذين دلس عنهم أبو الزبير.
وأما من قال أن أبا الزبير قد سمع صحيفة جابر من سليمان بن قيس اليشكري وهو ثقة، فهذا غير كافٍ لنفي تدليس أبي الزبير. أولاً لأن غالب حديثه عن جابر أخذه وجادة عن صحيفة اليشكري. ومعلوم أن الوجادة أضعف أنواع التحمل (كالمناولة والمكاتبة) وهي غير مقبولة عند المتقدمين، خاصة في ذلك الزمن. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6|331) عن صحف تلك الأيام: «وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيما في ذلك العصر، لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط». ثانياً أنه قد ثبت أن أبا الزبير دلس عن صفوان كذلك. والصواب –على التحقيق– أنه سمع بِضعة أحاديث من جابر، ودلّس أكثرها إما عن سليمان اليشكري وإما عن صفوان وإما عن غيرهم ممن لا نعرفهم. ومن كانت هذه حاله لا يمكننا الاحتجاج به، لأنه من باب الظن. وقد قال الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. وقد قال رسول الله r: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه.
فقد روى الترمذي مختصراً والنسائي في السنن الكبرى (6|178):
1- أخبرنا محمد بن رافع قال حدثنا شبابة قال حدثنا المغيرة وهو بن مسلم الخراساني عن أبي الزبير عن جابر قال: كان النبي r لا ينام كل ليلة حتى يقرأ تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك».
2- أخبرني محمد بن آدم عن عبدة عن حسن بن صالح عن ليث (بن أبي سليم، وليس ابن سعد) عن أبي الزبير عن جابر قال: «كان النبي r لا ينام كل ليلة حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك».
3- أخبرنا أبو داود قال حدثنا الحسن وهو بن أعين قال حدثنا زهير قال حدثنا ليث عن أبي الزبير عن جابر قال «كان رسول الله r لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل وتبارك».
4- أخبرنا أبو داود قال حدثنا الحسن قال حدثنا زهير قال: سألت أبا الزبير: «أسمعت جابراً يذكر ثم أن نبي الله r كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل وتبارك؟». قال: «ليس جابر حدثنيه. ولكن حدثني صفوان أو أبو صفوان».
فالمغيرة بن مسلم (وهو ثقة) قد رواه عن أبي الزبير بالعنعنة بدون ذكر الواسطة، كما في الرواية (1). أي أن أبا الزبير قد دلّس عليه كما قد حاول التدليس من قبل على الليث بن سعد، الذي لولا ذكائه وعلمه لانطلى عليه تدليس أبي الزبير. وكذلك دلّس أبو الزبير على ليث بن أبي سليم فرواه معنعناً بدون ذكر الواسطة، كما في الرواية (2). ورواه زهير عنه كذلك، كما في الرواية (3). ثم إنه يعرف تدليس أبي الزبير، فلمّا التقى به سأله: هل أنت سمعت هذا الحديث من جابر؟ قال: «ليس جابر حدثنيه، ولكن حدثني صفوان أو أبو صفوان».
فهذا دليلٌ واضحٌ أن أبا الزبير كان يدلّس ولا يوضح للناس تدليسه. فلو لم يشك زهير بسماع أبي الزبير فسأله عن ذلك، لما عرفنا أنه لم يسمع من جابر هذا الحديث. المغيرة بن مسلم الخراساني ثقة جيّد الحديث. وليث بن أبي سليم بن زنيم، يُكتَبُ حديثه ويُعتبَر به، ولذلك علق له البخاري وأخرج له مسلمٌ في المتابعات. وقال عنه ابن عدي: «له أحاديث صالحة. وقد روى عنه شعبة والثوري. ومع الضعف الذي فيه، يُكتب حديثه». وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: «ضعيف إلا أنه يكتب حديثه». وقال الذهبي في الكاشف (2|151): «فيه ضعف يسير من سوء حفظه». فهذا التدليس من أبي الزبير لم يتبيّن لنا إلا من جمع الطرق.
ثم إن من الأئمة المتقدمين من نص صراحة على رفض حديث أبي الزبير المعنعن عن جابر. فقال عنه الإمام النسائي في السنن الكبرى (1|640) بعد أن سرد له حديثين بالعنعنة: «فإذا قال: سمعت جابراً، فهو صحيح. وكان يدلس!». أي إذا لم يقل سمعت فهو غير صحيح لأنه مدلس. مِثْلَ الذي كذب مرة فقد أبان عن عورته. فلا نقول: "نقبل حديثه ما لم نعلم أنه كذِب". والجرح مقدم على التعديل. فإن الله قد حفظ لنا هذا الدين. ومن حفظه له أن تصلنا أحكام هذا الدين من طريق صحيح متصل غير منقطع رجاله ثقات غير متهمين. فيطمئن المرء له ولا يرتاب. وإلا فلا نعلم يقيناً أن رسول الله r قد قال ذلك. ولم يوجب الله علينا اتباع الظن.
فهذا إمامٌ من المتقدمين من كبار أئمة الحديث ومن فقهائهم، قد نص على رد تدليس أبي الزبير. وكان النسائي من أعلم الناس بعلل الحديث وبأحوال الرجال. فإذا لم نقبل بقوله فمن نقبل؟ كيف وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع وباعتراف أبي الزبير بتدليسه؟ فإن لم يكن هذا كافياً، فلا نستطيع أن نثبت التدليس على أحد!
ولعلي أستشهد بما قاله فضيلة الشيخ الدكتور حمزة المليباري: «إن تدليس أبي الزبير عن جابر يقتضي نوعاً خاصاً من المعالجة يختلف عما تقتضيه بقية أنواع التدليس. لأن معنى تدليس أبي الزبير عن جابر: أنه لا يصرح فيما أخذه من الكتاب من أحاديث جابر بأنه وِجَادة. فإذا ورد عنه حديث من أحاديث جابر، ولم يصرح بالسماع، ولم يأت ذلك الحديث عن طريق ليث بن سعد، فإنه يَحتمِل أن يكون مما أخذه وجادة. وما أخذه وجادة –دون السماع أو القراءة على الشيخ– قد يدخل فيه تصحيف وتحريف وانتحال. وإذا وافقه غيره، أمِنَ من ذلك (قلت: إن لم تكن المتابعة عن صحيفة اليشكري كذلك كالذي يرويه قتادة وأبو سفيان).
لذلك ما ورد عن أبي الزبير من أحاديث جابر معنعناً، يقتضي أن يبحث الباحث عن وجود سماع صريح في طريق صحيح من طرق ذلك الحديث، أو ما يدل على ذلك من القرائن، أو راوياً آخر يوافق أبا الزبير فيما رواه عن جابر. وفي حال وجود شيء من ذلك، يكون السند سليماً من الشبهات التي أثارتها العنعنة الواردة فيه.
وفي ضوء ذلك فإطلاق الحكم بانقطاع السند أو بالتدليس بمجرد عنعنة أبي الزبير عن جابر على الرغم من اعتماد مسلم عليه في صحيحه ينطبق عليه ما قيل: "القواعد لدى العالم غير المجرّب، كالعصا في يد الأعمى". وكذا إطلاق الحكم بالاتصال فيما رواه مسلم والانقطاع في خارج مسلم يكون بعيداً عن الدقة أيضاً، لأن الأمر في ذلك يتوقف على التتبع والبحث.
ومن الجدير بالذكر أن مسلماً يورد الحديث في الأصول أصح ما عنده من الروايات وأفضله، ويختلف ذلك عما يورده في الشواهد. وعليه فما أورده في أول الباب من حديث أبي الزبير عن جابر، لا ينبغي القول فيه إنه معنعن بمجرد أن الباحث لم يطلع إلا على ما وقعت يده عليه من المصادر –مطبوعة كانت أو مخطوطة–. فإن أولئك الأئمة ينظرون إلى الواقع الذي يعرفونه من خلال معاينة الأصول أو صحبة المحدثين، وليس على مجرد صيغ التلقي والأداء التي قد يكون بريئاً منها الراوي المدلس». انتهى كلام الشيخ المليباري.
قال ابن أبي الوفاءِ القرشي في "الكتاب الجامع" الذي جعله ذيلاً "للجواهر المضيَّة" (2|428): «وما يقوله الناس: إن من رَوَى له الشيخان فقد جاوز القنطرة، هذا من التجوُّه، ولا يقوى». وقال: «واعلم أن "أنَّ" و "عَنْ" (من المدلّس) مقتضِيان للانقطاع عند أهل الحديث. ووقَع في (صحيحي) مسلم والبخاري من هذا النوع كثير. فيقولون (أي المتأخرين) على سبيل التجوُّه: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع. وما كان في الصحيحين فمحمولٌ على الاتصال».
. حديث المرأة في صورة شيطان
وقد رأيت مسلماً لا يخرج لأبي الزبير عن جابر إلا من طريق الليث، أو مقروناً بغيره، أو ما صرّح به بالسماع. وبقيت بضعة أحاديث لا تنطبق عليها تلك الشروط. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (6|335): «وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضِّح فيها أبو الزبير السماعَ عن جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء. من ذلك حديث: "لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح" (#1356). وحديث "أن رسول الله r دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام" (#1358). وحديث "رأى –عليه الصلاة والسلام– امرأةً فأعجبته، فأتى أهله زينب" (#1403). وحديث "النهي عن تجصيص القبور" (#970)، وغير ذلك».
قلت الحديث الأخير صرّح فيه أبو الزبير بالسماع من جابر، كما في النسخة المطبوعة من صحيح مسلم وكذلك في مستخرج أبي النعيم (3|49)، وباقي الأحاديث هي كما قال الحافظ الذهبي. ولم أجد في أول حديثين نكارةً، بخلاف الحديث الثالث الذي فيه طعنٌ برسول الله r. وقد أخرجه مسلم بعدة ألفاظ منها (2|1021): حدثنا عمرو بن علي حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن أبي الزبير عن جابر: «أن رسول الله r رأى امرأةً، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته. ثم خرج إلى أصحابه، فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان. فإذا أبصر أحدكم امرأةً، فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه». وأخرجه كذلك: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا حرب بن أبي العالية حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله: أن النبي r رأى امرأة، فذكر أنه قال: «فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة»، ولم يذكر تدبر في صورة شيطان. ثم قال مسلم: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل عن أبي الزبير قال، قال جابر، سمعت النبي r يقول: «إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه».
والحديث المضطرب مردودٌ لانقطاع سنده ووجود النكارة الشديدة في متنه. وهذا محال على رسول الله r، فقد نزهه الله عن ذلك وعصمه. وقد حاول بعض العلماء التكلف بالإجابة عن هذه النكارة بأجوبة ليست بالقوية، إلا أن الحديث الضعيف لا يُعبئ بشرحه أصلاً، والله أعلم. وما جاء من طريق ابن لهيعة من تصريح أبي الزبير بالتحديث من جابر، مردود. لأن ابن لهيعة ضعيف جداً من غير رواية العبادلة يقبل التلقين، فلا يعتبر به ولا يكتب حديثه. والله المستعان على ما يصفون.
. حديث المغفرة لقاتل نفسه
أخرج مسلم (1|108 #116) من طريق حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي r فقال: يا رسول الله هل لك في حصن، حصين ومنعة؟». –قال (جابر): حصن كان لدوس في الجاهلية– فأبى ذلك النبي r للذي ذخر الله للأنصار. فلما هاجر النبي r إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه. فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع. فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه. فقال له: «ما صنع بك ربك؟». فقال: «غفر لي بهجرتي إلى نبيه r». فقال: «مالي أراك مغطيا يديك؟». قال: «قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت». فقصّها الطفيل على رسول الله r، فقال رسول الله r: «اللهم وليديه فاغفر».
هذا حديث غريب لم يذكر أبو الزبير ممن سمعه. وقال الطبراني في المعجم الأوسط (3|40): «لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا حجاج». وهذا التفرد الغريب مع احتمال التدليس، يجعلني أتوقف عن الحكم في هذا الحديث.
. حديث الجماع بغير إنزال
أخرج مسلم (1|272): من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن أم كلثوم عن عائشة زوج النبي r قالت: إن رجلاً سأل رسول الله r عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله r: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل».
قلت: هذا الحديث أخرجه مسلم في الشواهد في آخر الباب، فلا يقال أن مسلماً قد صححه. بل هو منكَر المتن، مُعَلّ الإسناد. وهو معارضٌ صريحٌ لحديثٍ آخر في صحيح مسلم: «إن من أشرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرّجُل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها».
وأما إسناده ففيه عدة علل منها: أن فيه أبي جابر المدلّس المشهور، قد رواه عن جابر دون أن يصرح بالتحديث في أيٍّ من طرق الحديث. وفيه عياض بن عبد الله بن عبد الرحمن القرشي الفهري، وهو متروك. قال ابن حجر في التقريب: «فيه لين». وقال أبو حاتم: «ليس بالقوي». و قال الساجي: «روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر». قلت: وهذا الحديث الباطل منها. وذكره العقيلي في ضعفائه (#1382). و قال يحيى بن معين: «ضعيف الحديث». وهذا معناه متروك باصطلاح ابن معين. وقال أبو صالح: «ثبت (!) له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيء». و قال البخاري: «منكر الحديث». وهذا معناه باصطلاح البخاري: متروك لا تحل الرواية عنه. وهذا كله يوجب أن هذا أقل ما فيه أنه ضعيفٌ لا يحتج به.
وهذا الحديث أخرجه الألباني في سلسلته الضعيفة (2|406)، وقال: «ضعيفٌ مرفوعاً». يقصد أن هذا المعنى قد أتى من وجهٍ آخر (كما سيأتي) لكن ليس بهذا اللفظ الباطل. وله شاهدٌ ضعيف بلفظ: «فعلته أنا ورسول الله r، فاغتسلنا منه جميعاً». وقد بيّن الدارقطني في سننه (1|111) أن هذا الحديث باطلٌ مرفوعاً.
والمعنى الذي قصده الألباني ما قد روى مالك في الموطأ (1|46): عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أمنا عائشة موقوفاً من قولها لأبي موسى الأشعري: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل». ورواه مسلم (#349) عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن أمنا عائشة قالت: قال رسول الله r: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل».
فقد اختلف الوقف والرفع. وإسناد مالك الموقوف أقوى، لكن يخشى أن يكون مالك قد وقفه عمداً. وفي كل الأحوال فهذا حكمه حكم الرفع، لأن أمنا عائشة t لم تعرف رجلاً إلا رسول الله r. وهي لا تخبر بالوجوب إلا بإخبار عنه r. لكن لفظ موطأ مالك مقدم على لفظ صحيح مسلم، والله أعلم.
. حديث السفر في رمضان
قال مسلم في كتاب الصيام (2|790): حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، t قال: «خرجنا مع رسول الله r في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله r وعبد الله بن رواحة».
عقب عليه الألباني فقال في صحيحته (1|326): إن قوله: «في شهر رمضان»، شاذٌّ لا يثبت في الحديث. قال الألباني (1|323)، بعد كلام على طرق الحديث المذكور: «الصواب عندي أن حديث أبي الدرداء ليس فيه: "في شهر رمضان" وذلك لأمور:
الأول: إن سعيد بن عبد العزيز وإن كان ثقة فقد اختلط قبل موته كما قال أبو مسهر، وقد اختلف عليه في قوله: "في شهر رمضان" فأثبته عنه الوليد بن مسلم في رواية داود بن رشد عنه، ولم يثبتها في رواية مؤمل بن الفضل، وهو ثقة. وتترجح هذا الرواية عن الوليد بمتابعة بعض الثقات له عليها، منهم عمرو بن أبي سلمة عن سعيد عن عبد العزيز به بلفظ: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر..."، أخرجه الشافعي في السنن (1|269). ومنهم أبو المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، أخرجه أحمد عنه.
فهؤلاء ثلاثة من الثقات لم يذكروا ذلك الحرف: "شهر رمضان". فروايتهم مقدمة على رواية الوليد الأخرى كما هو ظاهر لا يخفى. ويؤيده الأمر التالي وهو:
الثاني: أن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قد تابع سعيداً على رواية الحديث عن إسماعيل بن عبيد الله بتمامه، ولكنه خالفه في هذا الحرف فقال: "خرجنا مع رسول الله في بعض أسفارنا..." أخرجه البخاري (3|148). وعبد الرحمن هذا أثبت من سعيد، فروايته عند المخالفة أرجح لا سيما إذا وافقه عليها سعيد نفسه في أكثر الروايات عنه –كما تقدم–.
الثالث: أن هشام بن سعد قد تابعه أيضاً ولكنه لم يذكر فيه الحرف المشار إليه. أخرجه أحمد (6|444) عن حماد بن خالد قال: ثنا هشام بن سعد عن عثمان بن حيان وإسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به. وهشام بن سعد ثقة حسن الحديث، وقد احتج به مسلم كما يأتي.
الرابع: أن الحديث جاء من طريق أخرى عن أم الدرداء لم يرد فيه الحرف المذكور. أخرجه مسلم (3|145) وابن ماجة (1|510) والبيهقي (4|245) وأحمد (5|194) من طريق هشام بن سعد عن عثمان بن حيان الدمشقي عن أم الدرداء به بلفظ: "لقد رأيتنا مع رسول الله r في بعض أسفاره... ". وقرن أحمد –في رواية له كما تقدم– إسماعيل بن عبيد الله مع عثمان بن حيان. فقد روى هشام بن سعد الحديث من الطريقين عن أم الدرداء.
قلت: فهذه الوجوه الأربعة ترجح أن قوله في رواية مسلم: "في شهر رمضان" شاذ لا يثبت في الحديث».
. حديث الاستكثار من النعال
قال مسلم في (كتاب اللباس والزينة 3|1660): حدثني سلمة بن شيب، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا بن معقل، عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت النبي r يقول في غزوة غزوناها: «استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل».
وقد ضعف الألباني السند بعد أن عزاه لمسلم وجماعة آخرين، وقال في صحيحته (1|602): «وأبو الزبير مدلس، وقد عنعنه».
. حديث تغيير الشيب
قال مسلم في (كتاب اللباس والزينة 3|1663): حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أتي بأبي قحافة أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح، ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة فأمر، أو فأمر به إلى نسائه، قال: «غيروا هذا بشيء».
وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاًًًًًًًًَ، فقال رسول الله r: «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السوداء».
. حديث توضأ فترك موضع ظفر
أخرج مسلم (1|215 #243): حدثني سلمة بن شبيب: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين: حدثنا معقل، عن أبي الزبير، عن جابر: أخبرني عمر بن الخطاب: أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه. فأبصره النبي r فقال: «ارجع فأحسن وضوءك». فرجع ثم صلى.
قال البزار (1|350): «وهذا الحديث لا نعلم أحداً أسنده عن عمر، إلا من هذا الوجه. وقد رواه الأعمش عن أبي سفيان عن عمر موقوفاً». وقال أبو الفضل بن عمار الشهيد (#5): «وهذا الحديث بهذا اللفظ، إنما يعرف من حديث ابن لهيعة عن أبي الزبير بهذا اللفظ. وابن لهيعة لا يحتج به. وهو عندي خطأ، لأن الأعمش رواه عن أبي سفيان عن جابر، فجعله من قول عمر».
والرواية عن ابن لهيعة رواها أحمد في مسنده (1|21). والرواية الموقوفة رواها ابن أبي شيبة (1|46) قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: «أن عمر رأى في قدم رجل مثل موضع الفلس لم يصبه الماء، فأمره أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة». ومعلوم أن أبا سفيان وأبا الزبير كلاهما ينقل عن صحيفة جابر التي وجدوها عند زوجه بعد وفاته. فظهر أن الخطأ هو من معقل، وهو صدوق يخطئ.
هذا والعمل على هذا الحديث، وإن كان موقوفاً. قال ابن حزم في المحلى (2|72): «لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف فعل عمر هذا».
. حديث الاستجمار تو
أخرج مسلم في صحيحه (2|945 #1300): وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل –وهو بن عبيد الله الجزري– عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله r: «الاستجمار تَوّ (أي مرة واحدة)، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، والطواف تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو».
قال الألباني في "التعليق على مختصر صحيح مسلم" (ص193): «والحديث من رواية أبي الزبير عن جابر، وقد عنعنه».
. حديث دخول مكة بالسلاح
أخرج مسلم (2|989 #1356): حدثني سلمة بن شبيب حدثنا بن أعين حدثنا معقل عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت النبي r يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح».
. حديث دخول مكة بغير إحرام
روى حماد بن سلمة عند الترمذي (4|225) ومعاوية بن عمار عند مسلم (#1358) عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله r دخل مكة –يوم الفتح– وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. ولم يبيّن أبو الزبير سماعه من جابر.
. حديث زيارة الكعبة ليلاً
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (5|385): «حديث الثوري عن أبي الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار البيت ليلاً. أخرجه مسلم. وهو عندي منقطع». قلت: لم أجده عند مسلم ولكن البخاري علقه في صحيحه (2|617) من قول أبي الزبير، وهذا طبعاً لا يفيد تصحيحه، إنما يفيد تصحيحه لأبي الزبير فحسب. وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
والأثر منقطعٌ في أية حال كما ذكر الذهبي. فأبي الزبير لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس ولا من عائشة. وقال عنه أبو حاتم: «رأى ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة». وقال سفيان بن عيينة: «يقولون أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس». وهو في كل حالٍ منكر المتن، مخالفٌ لرواية الثقات، لأن رسول الله r طاف يوم النحر نهاراً.
قال ابن القيم في زاد المعاد (2|275) ما خلاصته: «أفاض r إلى مكة قبل الظهر راكباً، فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة والصدر، ولم يطف غيره ولم يسع معه. هذا هو الصواب. وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل. وهو قول طاووس ومجاهد وعروة. واستدلوا بحديث أبي الزبير المكي عن عائشة وابن عباس المخرج في سنن أبي داود والترمذي. قال الترمذي: حديث حسن (وهذا علامة ضعفه!). وهذا الحديث غَلَطٌ بيِّنٌ خِلافَ المعلوم من فعله r الذي لا يَشكّ فيه أهل العلم بحجته. وقال أبو الحسن القطان: عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح. إنما طاف النبي r يومئذ نهاراً. وإنما اختلفوا هل هو صلى الظهر بمكة، أو رجع إلى منى فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فابن عمر يقول إنه رجع إلى منى فصلى الظهر بها. وجابر يقول إنه صلى الظهر بمكة. وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخّر الطواف إلى الليل. وهذا شيء لم يُروَ إلا من هذا الطريق. وأبو الزبير مُدَلّسٌ لم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة، وقد عهد أنه يروي عنها بواسطة. ولا عن ابن عباس أيضاً، فقد عهد كذلك أنه يروي عنه بواسطة. وإن كان قد سمع منه، فيجب التوقف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يذكر فيه سماعه منهما، لما عُرِفَ به من التدليس. لو عرف سماعه منها لغير هذا. فأما ولم يصح لنا أنه من عائشة، فالأمر بيِّنٌ في وجوب التوقف فيه. وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمّن قد عُلِمَ لقاؤه له وسماعه منه. هاهنا يقول قوم يُقبل، ويقول آخرون يُرَدّ ما يعنعنه عنهم حتى يتبيّن الاتصال في حديث حديث. وأما ما يعنعنه المدلس عمن لم يعلم لقاؤه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يُقبل. ولو كنا نقول بقول مسلم بأن معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقاؤهما، فإنما ذلك في غير المدلسين. وأيضاً فلما قدمناه من صحة طواف النبي يومئذ نهاراً. والخلاف في رد حديث المدلسين حتى يعلم اتصاله أو قبوله حتى يعلم انقطاعه، إنما هو إذا لم يعارضه ما لا شك في صحته. وهذا قد عارضه ما لا شك في صِحَته. انتهى كلامه. وقال البيهقي: "وأصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة". يعني أنه طاف نهاراً». انتهى مختصراً.
أحاديث ضعيفة أخرى
. حديث الرجل يفضي سر امرأته
أخرج مسلم في صحيحه (2|1060 #1437): من طريق عمر بن حمزة بن عبد الله العمري، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله r: «إن من أشرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرّجُل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها». وفي لفظ «إن من أعظم الأمانة الرجل...».
أخرجه مسلم من طريق عمر بن حمزة، وهو ضعيفٌ باتفاق أهل النقد. قال أحمد: «أحاديثه أحاديث مناكير». وقال عنه ابن معين: «ضعيف»، وهو جرحٌ شديدٌ باصطلاحه. وذكره النسائي في كتاب "الضعفاء والمتروكين" (1|83) وقال: «ليس بالقوي». وقال ابن حبان: «كان ممن يخطئ». وذكره العقيلي في ضعفائه (3|153). وكذلك ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين" (2|207). ولم يخرج له البخاري إلا تعليقاً. وقال عنه ابن حجر في التقريب: «ضعيف». أما قول الحاكم في المستدرك «أحاديثه كلها مستقيمة» فإن توثيق الحاكم في المستدرك غير معتبر عند أهل العلم. وهذا الحديث قد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (2|192). بل عده الذهبي في الميزان (5|230) من منكرات ابن حمزة هذا.
قال الألباني في كتاب "الزفاف" (ص61 ط4): «ويُستَنتَجُ من هذه الأقوال لهؤلاء الأئمة أن الحديث ضعيف وليس صحيح. وتوسط ابن القطان فقال كما في فيض القدير (2|539): "وعمر ضعفه ابن معين، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، فالحديث حسنٌ، لا صحيح". ولا أدري كيف حَكَمَ بحُسنِهِ مع التضعيف الذي حكاه هو نفسه! فلعله أخذ بهيبة الصحيح. ولم أجد حتى الآن ما أشد به عضد هذا الحديث. والله أعلم». قلت: تحسين المتأخرين فيه نظر. إلا إن قصدنا حسن معنى الحديث، فهو كذلك. وللحديث شواهد لكنها ضعيفة.
. حديث من نسي فليستقئ
أخرج مسلم في الشواهد (3|1601 #2026): من طريق عمر بن حمزة، قال: أخبرني أبو غطفان المري أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله رسول الله r: «لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقىء».
وهذا حديثٌ شاذٌ بهذا اللفظ تفرد به مسلم، وقد ذكره في الشواهد في آخر الباب، مما يعني أنه لا يصححه بالضرورة. وهو من طريق عمر بن حمزة الذي سبق وبيّنا اتفاق العلماء على ضعفه. وقد جاء معنى هذا الحديث من غير هذا الطريق، ما عدا آخر الحديث «فمن نسي فليستقىء».
وهذا الحديث أنكره الألباني في سلسلته الضعيفة (2|326) وقال عنه: «وقد صح النهي عن الشرب قائماً في غير ما حديثٍ، عن غير واحد من الصحابة ومنهم أبو هريرة. لكن بغير هذا اللفظ. وفيه الأمر بالاستقاء، ليس فيه ذكر النسيان. فهذا هو المستنكر من الحديث». ونقل ابن حجر في فتح الباري (10|83): عن القاضي عياض قوله: «وأما حديث أبي هريرة، ففي سنده عمر بن حمزة. ولا يَحتمِل منه مثل هذا، لمخالفة غيره له. والصحيح أنه موقوف».
والصواب هو ما رواه ابن حبان (12|142) في صحيحه وأحمد في مسنده (2|283): عن عبد الرزاق ثنا معمر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً: «لو يعلم الذي يشرب –وهو قائم– ما في بطنه، لاستقائه». هذا وسبب النهي هو سبب صحي، كما ذكر العلامة عبد القادر الأرنؤوط –رحمه الله–. وقد صح أن رسول الله r شرب قائماً.
حديث عهد بربه
أخرج مسلم في الشواهد في آخر الباب (2|615 #898): وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس قال: أصابنا –ونحن مع رسول الله r– مطر، فحسر رسول الله r ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: «يا رسول الله. لم صنعت هذا؟». قال: «لأنه حديث عهد بربه».
هذا الحديث ضعفه الألباني في إرواء الغليل (3|142). وقال أبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد كما في علل الجارودي (ص86 #15): «وهذا حديثٌ تفرَّدَ به جعفر بن سليمان من بين أصحاب ثابت، لم يروه غيره. وأخبرني الحسين بن إدريس، عن أبي حامد المخلدي، عن علي بن المديني، قال: "لم يكن عند جعفر كتاب، وعنده أشياء ليست عند غيره". وأخبرنا محمد بن أحمد بن البراء، عن علي بن المديني قال: "أما جعفر بن سليمان فأكثر عن ثابت، وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير".وسمعت الحسين يقول: سمعت محمد بن عثمان يقول: "جعفر ضعيف"».
قلت: جعفر بن سليمان ضعيف الحفظ لا يجوز أن يحتج به إذا تفرد، خاصة عن ثابت، لكثرة أصحاب ثابت الثقات وإلمامهم بحفظ حديثه. وكان ثابت كثير الحديث جداً عن أنس، فصار الضعفاء كلما أخطئوا في حديث جعلوه عن ثابت عن أنس. وهذا الحديث عده الذهبي من منكرات جعفر كما في الميزان (2|139)، وكذلك فعل ابن عدي في الكامل (2|149).
حديث خلق التربة يوم السبت
أخرج مسلم (4|2149 #2789): من طريق ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله r بيدي فقال: «خلق الله –عز وجل– التربة يوم السبت. وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور يوم الأربعاء. وبث فيها الدواب يوم الخميس. وخلق آدم –عليه السلام– بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل».
وهذا حديث باطل موضوع بلا شك، وليس من قول رسول الله r. ورجح الإمام البخاري أن هذا من الإسرائيليات من قول كعب الأحبار، فقال في التاريخ الكبير (1|413): «وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح». قال ابن كثير: «فكأن هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه (الإسرائيلية). فوهم بعض الرواة، فجعله مرفوعاً إلى النبي r. وأكد رفعه بقوله: أخذ رسول الله r بيدي».
وأعله إمام العلل علي بن المديني بأن إبراهيم بن أبي يحيى قد رواه عن أيوب. قال ابن المديني: «وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا، إلا عن إبراهيم ابن أبي يحيى». وقد حرر ذلك البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 276). و إبراهيم مرمي بالكذب.
وفي كل الأحوال فأيوب بن خالد ضعيف لا يجوز الاحتجاج بخبره. قال روح بن عبادة، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد: «كنت في البحر، فأجنبت ليلة ثالث و عشرين من رمضان. فاغتسلت من ماء البحر، فوجدته عذباً فراتاً». وهذا كذب ظاهر. و قال الأزدي في ترجمة إسحاق بن مالك التنيسي، بعد أن روى من طريق هذا حديثاً عن جابر: «أيوب بن خالد ليس حديثه بذاك. تكلم فيه أهل العلم بالحديث. و كان يحيى ين سعيد و نظراؤه لا يكتبون حديثه». وقال عنه –كما في لسان الميزان (1|369)–: «ضعيف». وقال ابن حجر في التقريب: «فيه لين». ومع تضعيف هؤلاء كلهم، فإنه ليس فيه توثيق معتبر.
والحديث منكر المتن جداً. فهو لم يذكر خلق السماء، وجعل خلق الأرض في ستة أيام. وجعل خلق الشجر قبل خلق النور! وهو محال. ومن الباطل أن يكون النور قد خلق في النهاية، لأن النور من السماء، والسماء خلقت مع الأرض بنفس الوقت. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (30) سورة الأنبياء. لكن بعض شراح الحديث فسروا "النور" بأنه كناية عن الخير. وبذلك تظهر العقيدة المجوسية لواضع هذا الحديث. فقد جعل خلق الشر يوم الثلاثاء، وخلق الخير يوم الأربعاء.
. حديث اليمين على نية المستحلف
أخرج مسلم (3|1274 #1653): من طريق هشيم بن بشير عن عبد الله بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك». وفي رواية أخرى من نفس الطريق: «اليمين على نية المستحلف».
وقد ضعفه الترمذي إذ قال في سننه (3|636): «حسن غريب... لا نعرفه إلا من حديث هشيم، عن عبد الله بن أبي صالح». وقد عد ابن عدي في الكامل (4|344) هذا الحديث من منكرات عباد بن أبي صالح. وكذلك فعل العقيلي وقال (2|251): «ولا يحفظ إلا عنه. وتابعه عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وهو دونه».
وكذلك فعل ابن حبان وقال في المجروحين (2|164): «يتفرد عن أبيه بما لا أصل له من حديث أبيه. لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد». قال ابن حبان «وهذا الخبر مشهور بعبد الله بن سعيد المقبري عن جده، ويقال له عباد أيضاً». قال الذهبي في الميزان (4|28): «وعباد بن أبي صالح يقال له أيضاً: عبد الله». وعبد الله بن سعيد: متروك متهم بالكذب. أما البخاري فقد قال كما في علل الترمذي (1|207): «هو حديث هشيم. لا أعرف أحداً رواه غيره».
أي أن الحديث لأحد هذين الرجلين، وخلط الرواة بينهما. وسواء كان حديث ابن سعيد المقبري أم حديث ابن أبي صالح، فكلاهما ضعيف. الأول متهم بالكذب. والثاني ضعيف خاصة عن أبيه. قال البخاري، عن علي ابن المديني: «ليس بشيء»، وهو جرح قوي. قال البخاري في "تاريخه الصغير": «منكر الحديث»، وكذلك نقل العقيلي عنه، وهو جرح شديد. و قال يحيى بن معين: «ثقة». وهو مقيد بغير ما روى عن أبيه. إذ قال الساجي، وتبعه الأزدي: «ثقة، إلا أنه روى عن أبيه ما لم يتابع عليه». وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى (ص344، القسم المتمم، مكتبة العلوم والحكم): «وكان قليل الحديث مستضعفاً». فهو ضعيف جداً بخاصة عن أبيه، رغم قلة حديثه.
. حديث إذا تكلم بالكلمة رددها ثلاثاً
صحيح البخاري (1|48): 94 حدثنا عبدة قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عبد الله بن المثنى قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس، عن النبي r أنه: «كان إذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً». 95 حدثنا عبدة بن عبد الله: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عبد الله بن المثنى قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس، عن النبي r أنه: «كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه. وإذا أتى على عليهم سلم عليهم ثلاثا».
ومن غرائب البخاري أنه أتى بلفظين للحديث في نفس الباب بنفس الإسناد! والحديث إسناده غريب. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14|153): «هذا من غرائب صحيح البخاري. رواه عن ثقة عن عبد الصمد بن عبد الوارث».
عبد الصمد: قال أبو حاتم: «صدوق صالح الحديث» (وهذا دون التوثيق). و قال ابن سعد: «كان ثقة إن شاء الله» (وهذا توثيق خفيف). و قال الحاكم: «ثقة مأمون» (والحاكم مفرط في التساهل). و قال ابن قانع: «ثقة يخطئ». و نقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. و قال علي ابن المديني: «عبد الصمد ثبت في شعبة» (وليس حديثه هنا عن شعبة).
عبد الله بن المثنى: قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، و أبو زرعة، و أبو حاتم: «صالح» (وهذا دون التوثيق). زاد أبو حاتم: «شيخ» (وهذه مرتبة دون التوثيق). و قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: «ليس بشيء» (وهذا جرح شديد). و قال الترمذي: «ثقة»، وقال عن حديثه السابق «حسن صحيح غريب» (والترمذي فيه تساهل خفيف). و قال النسائي: «ليس بالقوي». و قال ابن حبان: «ربما أخطأ». و قال أبو داود: «لا أخرج حديثه». و قال الدارقطني: «ثقة» (كأنه يقصد العدالة). و قال مرة: «ضعيف». و قال الساجي: «فيه ضعف، لم يكن من أهل الحديث، روى مناكير». و بنحوه قال الأزدي. و قال العقيلي: «لا يتابع على أكثر حديثه» (وهذا يدل على أنه كثير الخطأ).
. حديث من نفَّس عن مؤمن كربة
أخرج مسلم (4|2074 #2699): حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني –واللفظ ليحيى–. قال يحيى: أخبرنا. وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «مَن نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه». 2699 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي ح وحدثناه نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أسامة قالا: حدثنا الأعمش حدثنا ابن نمير عن أبي صالح. وفي حديث أبي أسامة: حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r ثم بمثل حديث أبي معاوية، غير أن حديث أبي أسامة ليس فيه ذكر التيسير على المعسر. انتهى.
جاء في العلل لابن عمار الشهيد (ص136 #35): «وهو حديث رواه الخلق عن الأعمش، عن أبي صالح. فلم يذكر الخبر في إسناده غير أبي أسامة، فإنه قال فيه: "عن الأعمش، قال: حدثنا أبو صالح". ورواه أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. والأعمش كان صاحب تدليس، فربما أخذ عن غير الثقات». هذا وأسباط ليس من أوثق أصحاب الأعمش.
قال ابن أبي حاتم في العلل (2|162 #1979): «سألت أبا زرعة عن حديث رواه جماعة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي r: من نفس عن مؤمن كربة». قال أبو زرعة: «منهم من يقول الأعمش عن رجل عن أبي هريرة عن النبي r. والصحيح عن رجل عن أبي هريرة عن النبي r».
ورواه الترمذي (4|34 #1425): عن قتيبة عن أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً، ثم قال: «حديث أبي هريرة هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي r، نحو رواية أبي عوانة. وروى أسباط بن محمد عن الأعمش قال: حُدِّثْتُ عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي r نحوه. وكأن هذا أصح من الحديث الأول».
. يذكر الله على كل أحيانه
جاء في علل ابن أبي حاتم: (1|51 #124) سألت أبا زرعة عن حديث خالد بن سلمة عن البهي عن عروة عن عائشة قالت: «كان النبي r يذكر الله على كل أحيانه» فقال: «ليس بذاك. هو حديث لا يروى إلا من ذا الوجه». فذكرت قول أبي زرعة لأبي رحمه الله فقال: «الذي أرى أن يذكر الله على كل حال، على الكنيف وغيره، على هذا الحديث».
وهذا حديث أخرجه مسلم في صحيحه (1|282 #373): من طريق يحيى بن أبي زائدة، عن أبيه (زكريا، ثقة مدلس)، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة t. وعلقه البخاري في صحيحه (1|227) عن أمنا عائشة t، مرفوعاً. وقد نصل على صحته كما في علل الترمذي (ص359) لكنه ليس على شرطه. ولعل السبب أنه لا خالد بن سلمة ولا البهي على شرطه. قال ابن حجر في "النكت على ابن الصلاح": «وخالد تكلم فيه بعض الأئمة. وليس هو من شرط البخاري. وقد تفرد بهذا الحديث» أما الترمذي فقد ضعف الحديث فقال عنه (5|463): «حسن غريب. لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة».
خالد بن سلمة. على ابن المديني: «له نحو عشرة أحاديث». وقال ابن المديني و ابن عمار الموصلي، و يعقوب بن شيبة، و النسائي، و يحيى بن معين: «ثقة». و قال أبو حاتم: «شيخ يكتب حديثه». و قال ابن عدي: «و هو في عداد من يجمع حديثه، و لا أرى برواياته بأساً». وقال جرير: «كان خالد بن سلمة الفأفاء: رأساً في المرجئة، و كان يبغض علياً».
عبد الله البهي. قال ابن سعد (6|299): «وكان ثقة معروفاً قليل الحديث». و قال أبو حاتم (1|77): «ونفس البهي لا يحتج بحديثه، وهو مضطرب الحديث». فقد اضطرب في حديثه على قلته..
حديث مسح على الخفين والخمار
أخرج مسلم (1|231 #275): «وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا إسحاق أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال: "أن رسول الله r مسح على الخفين والخمار". وفي حديث عيسى حدثني الحكم حدثني بلال. وحدثنيه سويد بن سعيد حدثنا علي –يعني بن مسهر– عن الأعمش بهذا الإسناد».
جاء في العلل لعمار الشهيد (ص62): «وهذا حديث قد اختلف فيه على الأعمش: فرواه أبو معاوية، وعيسى، وابن فضيل، وعلي بن مسهر، وجماعة (هكذا). ورواه زائدة بن قدامة، وعمار بن زريق، عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء عن بلال. وزائدة: ثقة متقن. ورواه سفيان الثوري عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن بلال، ولم يذكر بينهما لا كعبا ولا البراء. وروايته أثبت الروايات. وقد رواه عن الحكم –عن غير الأعمش– أيضاً: شعبة، ومنصور ابن المعتمر، وأبان بن تغلب، وزيد بن أبي أنيسة، وجماعة: عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال، كما رواه الثوري عن الأعمش. وحديث الثوري عندنا أصح من حديث غيره. وابن أبي ليلى لم يلق بلالا».
وعدم التقاء ابن أبي ليلى ببلال، واضح ليس فيه خلاف. وانظر جامع التحصيل (1|226). وقد رجح النسائي كذلك رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى مرسلاً عن بلال، كما في المجتبى (1|75–76). إذ أنه يذكر الرواية الخطأ، ثم يختم بالرواية الصحيحة.
وجاء في علل ابن أبي حاتم (1|15 #12): «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه سفيان الثوري وشريك عن الأعمش عن الحكيم بن عتيبة عن الرحمن بن أبي ليلى عن بلال عن النبي r في المسح على الخفين». قالا: «ورواه أيضا عيسى بن يونس وأبو معاوية وابن نمير عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة بن بلال عن النبي r. ورواه زائدة عن الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء عن بلال عن النبي r». قلت لهما: «فأي هذا الصحيح؟». قال أبي: «الصحيح من حديث الأعمش عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب». قلت لأبي: «حديث الأعمش؟» (يقصد هل هو صحيح موافق للحفاظ؟). قال: «الصحيح ما يقول شعبة وأبان ابن تغلب وزيد بن أبي أنيسة أيضاً عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب». وقال أبي: «الثوري (الذي روى عن الأعمش) وشعبة (الذي روى عن الحكم) أحفظهم» (أي رجح الإرسال)... قلت لأبي زرعة: «أليس شعبة وأبان بن تغلب وزيد بن أبي أنيسة يقولون: عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب». قال أبو زرعة: «الأعمش حافظ. وأبو معاوية و عيسى بن يونس وابن نمير وهؤلاء قد حفظوا عنه (كأن في النص تحريف). حديث الأعمش الصحيح: عن ابن أبي ليلى عن بلال، بلا كعب. ورواه منصور وشعبة وزيد بن أبي أنيسة وغير واحد (موافقاً لحديث الأعمش الصحيح). إنما قلت: من حديث الأعمش».
وقد استقصى الدارقطني في العلل (7|171–175 #1282) بحث طرق هذا الحديث. والأرجح عندي أن الحديث مرسل.
****************************************************
هذا غيض من فيض
نصيحه لك ولغيرك اطلعوا على ما في كتبكم ولا ترددواعبارات تجهلونها
فمن كان بيته من زجاج لايرمي بيوت الناس بالحجاره
Comment