[الأديان البديلة]
لا أقصد بالدين هنا فقط الأديان المتعارفة، بل للدين مفهوم واسع يشمل التيارات والأفكار الفلسفية والسياسية والاقتصادية، التي لا تخلو من مبدأ القداسة والرؤية الكونية للكون والحياة والمجتمع والأخلاق. فكل الجهات التي تتخذ فلسفة أو مفاهيم معينة؛ عندما تُهاجم الدين أو عندما تُكرِّس طاقاتها وأنشطتها لإقناع الإنسان بضرورة رفض الدين والتخلي عنه؛ إنّما تريد في الحقيقة أنْ تملأ فكره وعقله بدين جديد، بعد أنْ تفرغه قدر الإمكان من الدين أو الأفكار السابقة أو القديمة.
العقل الإنساني لا يمكن أن يبقى فارغاً، وأصحاب الأديان البديلة أو الأديان البشرية يدركون ذلك جيداً، ولذلك فهم يستبسلون أولاً في تشويه الدين المتعارف، لكي يقلع عنه أكبر عدد من البشر، ولكي تكون هناك مساحة كافية في الفكر والوعي الإنساني، ليأتي دور عملية (ملء الفراغ) !
لا يوجد على الاطلاق تيار فكري نزيه تماماً، يهدف الى محض تحرر الإنسان من العبودية والتبعية، بل كل ما شهده التاريخ البشري إنما هو عملية استبدال لعبودية بعبودية أخرى، ولتبعية بتبعية أخرى، ولصنمية بصنمية أخرى، قد تكون أقبح من سابقتها بكثير!
من الخطأ الفظيع تصور أنَّ الدين يعني فقط الطقوس والعبادات أو الاعتقاد بإله، وهذا ما يحاول أصحاب (الأديان البديلة) ترسيخه في أذهان الناس، لكي يخفوا عنهم حقيقة أنهم يسعون الى اخراجهم من دين ليدخلوهم في دين آخر أو دين جديد !
وقد حذَّر القرآن الكريم من ظاهرة الآلهة والأديان البديلة في عدّة مواطن منها قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...}، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
الآيتان بعد دلالتهما وتأكيدهما على أنَّ الدين عند الله منذ أنْ كلَّف الله البشر هو الإسلام لا غير؛ تدّلان أيضاً على أنَّ هناك أديان أرضية أخرى تسعى الى الاستحواذ على عقول وأرواح الناس، لتقوم بتوجيه الإنسان والتحكم به، بدلاً عن دين السماء الإسلام، فهما بصدد التحذير من الأديان المناوئة للإسلام والمنحرفة عنه، وهي بالطبع أديان بشرية الصنع !
وبما أنَّ مصدر الشرور هو الشيطان والهوى، فلا شك في كونهما مصنع الأديان البديلة التي تُقدَّم للناس بأشكال وصيغ متعددة، وقد أكدّ الله سبحانه على هذين المصدرين بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ...}.
وقد روى الشيخ الكليني في الكافي (6/434) عن أبي جعفر عليه السلام قال:
(مَنْ أَصْغى إِلى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ).
فالله سمَّى السير على منهج وفكر معين عبادة، والعبادة هي الدين، فسواء سار الإنسان على منهج صحيح أو منهج منحرف؛ فهو متدين ومتعبد، فإنْ كان يتبع الناطقين عن الله فقد عبد الله سبحانه، وإنْ كان يتبع الناطقين عن الشيطان والهوى فقد عبد الهوى والشيطان، واتخذ ديناً منحرفاً يُراد له أنْ يزاحم وينافس الدين الإلهي.
فعندما ترى جهة أو جماعة تشن هجوماً لتحطيم قالب معين، فهي في الحقيقة تريد أن تستبدله بقالب آخر، وعندما تحرض على تشويه نموذج معين فهي بلا شك تريد أن تستبدله بنموذج آخر.
وبهذا الصدد يقول زيجموند باومان في كتابه (الحداثة السائلة): (واقع الأمر لا يوجد قالب تعرض للتحطيم إلا وحلَّ محله قالب آخر، وما أُطلق سراح الناس من سجونهم القديمة إلا ليدخلوا سجن التعنيف والتوبيخ والإنذار إذا ما عجزوا عن نقل أنفسهم الى مكان جديد بالاعتماد على جهودهم الفردية الدؤوبة طوال حياتهم، في الأماكن الجاهزة التي أعدها النظام الجديد ...).
إنْ وجِدتْ مفاهيم أو مبادئ مقدسة ومتعالية أو تُطرح على أنها الحقيقة المطلقة أو الأسمى، وإنْ وجِدتْ رؤية أو فلسفة بخصوص الوجود والإنسان والأخلاق يتطلب تصديقها أو الاعتقاد بها، وإنْ وجِدَ منظرون يمارسون مهمة ودور الكهنة والأحبار في تقنين حياة المجتمع الإنساني؛ فهو الدين بعينه الذي سيتمخض عاجلاً عن (الطوطم) الذي يجتمع حوله أصحاب ذلك الفكر كالشعار أو العلم أو الرمز، كما هو متعارف عند كل الحركات والتيارات الفكرية والسياسية، وستكون هناك طقوس وشعائر مخصوصة تناسب الهوية الفكرية، وقد تكون مصحوبة بموسيقى هادئة أو صاخبة تتخللها إيماءات أو حركات معينة من قبيل تحية ومراسيم رفع العلم وتحية القائد وما شابه، وسيكون هناك ما يماثل الكتب المقدسة تتمثل بكتب وأفكار القادة والمؤسسين، وكذلك سيتم إنشاء أماكن وآثار مقدسة كقبور عظماء الفكر والشهداء والنُصب التذكارية أو تماثيل العلماء البارزين أو المؤسسين للأديان البديلة، وأيضاً لابد من وجود منظمات أو جمعيات أو مراكز مرجعية تمثل وتجمع كل المنتمين الى الدين الجديد !
وقد تُولَد هكذا أديان وهي تصحب معها كل أو أغلب معالم ومظاهر الدين. فالدين لا يرتبط بالضرورة بعقيدة الإله، كما يحلو لأعداء الدين الإلهي الإصرار عليه والترويج له. وقد أكدّ هذه الحقيقة كثيرٌ من مفكري وفلاسفة الغرب وأوروبا، منهم الفيلسوف الفرنسي البارز ريجيس دوبريه Régis Debray، حيث يؤكد على أنّ الديني "ليس على علاقة فقط بما هو إلهي وسماوي، بل إن الشيوعية المعاصرة أنتجت هي الأخرى مقدّسات، أي إنها بطريقة أو بأخرى أفرزت الديني، وهكذا نرى أن الديني غير ممكن تجنّبه".
وقد أصاب الحقيقة في هذا الموضوع ابن عربي – على ما يُنسب إليه – عندما قال: (إن العبادة قدر على العباد حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته).
فمثلاً في المجال السياسي تم اعتبار الماركسية ديناً يناهض المسيحية والأديان الأخرى. واعتبار الماركسية ديناً وعقيدة ليس من مخترعات نقادها، بل هذا الماركسي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci كتب عن الماركسية ووصفها بأنها: (هي تحديداً الدين الذي قتل المسيحيّة. إنّها دين بمعنى أنّها أيضاً تمتلك إيمانها بأسرارها وممارساتها، ولأنّها قد أحلّت في وعينا محلّ الإيمان بالإله الكاثوليكي المفارق، الإيمان بالإنسان وطاقاته العظمى باعتباره الحقيقة الروحيّة الوحيدة).
بل تم الحديث عن الديانة الماركسية منذ أيام كارل ماركس نفسه، فقد انتقد الشاب الهيغليّ ماكس ستيرنر Max Stirner الشيوعيّة الماركسيّة، وأكد على أنَّ الشيوعية (تمجّد الإنسان الى نفس الدرجة التي تمجّد بها الأديان الأخرى إلهها أو رمزها).
وعن الشيوعية يقول أيه. جي. تايلور A. J. Taylor في مقدمته للبيان الشيوعي، إذ قال بأنها (العقيدة المقبولة أو الدين لملايين البشر). وأكدّ تايلور على أنّ البيان الشيوعي (يُعتبر كتاباً مقدّساً على السواء مع الكتاب المقدس والقرآن). أما النبي المؤسس للدين الشيوعي فلم يغفل عن ذكره الكُتّاب والباحثون في هذا الشأن، فقد عنون جوزيف شمبيتر Joseph Schumpeter الفصل الأول من كتابه (الرأسماليّة، والشيوعيّة، والديمقراطيّة) بـ (ماركس كنبي)، ويبتدئ هذا الفصل بقوله:
(إنّ التناص الجزئيّ مع العالم الدينيّ في عنوان هذا الفصل تناصّ مقصود. فهناك ما هو أكثر من تناصّ. فبمعنى من المعاني المهمّة، يمكن القول بأنّ الماركسيّة دين؛ فهي تقدّم للمؤمنين بها نظاماً من الغايات النهائيّة التي تجسّد معنى الحياة، كما تقدّم لهم معايير مطلقة ليحاكموا بها الأحداث والأفعال، كما أنها تضع لهم دليلاً الى هذه الغايات يتضمّن خطّة للخلاص وعلامة على الشرّ الذي سينجو منه البشر، أو الجزء المُختار من البشر. يمكننا أن نستمرّ في تحديد سمات التشابه: فالشيوعيّة الماركسيّة تنتمي أيضاً الى الجماعة الفرعيّة الموعودة بالفردوس على جانب المقبرة).
أما الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ Ludwig Feuerbach (1804 – 1872 م) فقد أعلن بصراحة عن ضرورة اتخاذ السياسة كدين جديد، فقال:
(علينا أن نصبح متديّنين من جديد؛ ينبغي أن تصبح السياسة ديننا، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا امتلكنا في منظوراتنا قيمة عليا لتصنع ديننا السياسي).
الشعور الديني لدى البشر شعور فطري طبيعي، لا يمكن أبداً أنْ يبقى الإنسان بلا دين بصورة أو بأخرى. وعندما يغيب أو يُستبعد الدين الإلهي الحقيقي، لا يمكن أن يبقى مكانه فارغاً، فإما أن يحلّ محله دين الكهنة المنحرفين المتشبهين بالأنبياء، وإما أنْ يتربع فيه دينٌ دنيوي من صنع البشر. هذه الحقيقة يعترف بها بعض الملحدين بصراحة، وينكرها البعض الآخر ليستمروا في الضحك على أكبر عدد ممكن من الناس وكسبهم الى صفهم.
يقول عالم البيولوجيا التطوُّري الملحد البريطاني جوليان هكسلي Julian Huxley (1887 – 1975 م): (إن التشكيك الكلي غير ممكن، وأنه يجب أن يؤمن الإنسان بقدر من "العقيدة"؛ لأن "ديناً من نوع ما يكاد يكون ضرورياً").
فمسألة عدم ضرورة ارتباط الدين بالإله أو الله، وإمكان وجود دين من دون إله، كانت حاضرة لدى بعض العلماء الملاحدة أو اللاأدرية، فقد كان الملحد جوليان هكسلي داعية الى هكذا دين بلا إله، وقد بلغ من تحمسه لهذه العقيدة أن أصدر في عام 1957 م كتاباً بعنوان (دين بغير تنزيل)، ويرى هكسلي أن فكرة التلازم بين الدين والله إنَّما هو من الخطأ في فهم جوهر الدين، (فليس من الضروري أن نؤمن بالله كي نؤمن بالدين. ويدلل على ذلك بالبوذية في أنقى صورها، فالبوذية لا تؤمن بوجود إله أو كائن أسمى الأمر الذي جعل الفيلسوف الفرنسي رينان يصف البوذية بأنها كثلكة بدون الإيمان بوجود الله مضيفاً أن هذا الدين الملحد يتحلى بأسمى الأخلاق وأرفع أعمال الصلاح. يقول هكسلي إن كثيراً من دارسي الأديان البدائية يرون أنه من الممكن إستثارة المشاعر الدينية دون الإيمان بوجود الله كما يحدث في حالة رؤية الإنسان للموت. ومن ثم فإنه يعرّف الدين بأنه قائم على تبجيل الإنسان بعض الأشياء وإضفاء القداسة عليها. وتتصل هذه الأشياء بالمصير البشري كما أنها تتصل بالقوى التي يرتبط بها هذا المصير ...
ويؤكد جوليان هكسلي في أكثر من موضع أن انهيار الديني في العصر الحديث لا يعني اندثار ما يسميه بالدافع الديني لدى الإنسان. كل ما هنالك أنه يجب على هذا الدافع أو الحافز الديني الكامن في الإنسان أن يأخذ شكلاً جديداً أو يستبعد فكرة الله من مجاله. ويرى هكسلي أن الدين الجديد لا يكتفي باستبعاد فكرة الله فحسب بل يعهد الى الإنسان بكل المسئوليات التي كانت في الماضي تقع على عاتق الله ...).
أما المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان Jacques Lacan (1901 – 1981 م) فيؤكد على هذا الأمر بقوله: (كل الناس متدينون، حتى الملاحدة).
إذن يجب علينا قبل كل شيء؛ أنْ نعلم جيداً هذه الحقيقة التي تكاد تصل حدَّ البداهة، وهي أنَّ الإنسان متدين بطبعه، فإنْ لم يعثر على الدين الحقيقي الذي يروي الظمأ الروحي لديه، يهرع الى ارواء هذا الظمأ بأي فكر أو مبدأ يتم فرضه عليه أو تسريته إليه، فيقبله بوعي أو لا وعي وهو يتوهم أنه يتمتع بالحرية عندما ترك دينه، ولا يعلم أنَّ حقيقة الحال أنه قد انتقل الى صنمية مُحدَّثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى !
وأعتقد أنَّ الكاتبة الشهيرة كارين آرمسترونغ كانت تعي هذه الحقيقة تماماً عندما عنونتْ الجزء الأول من كتابها (الله لماذا ؟) بـ "الإنسان ... ذلك المخلوق الديني – Homo religious)، وقد أكدّ هذه الحقيقة بعض الباحثين في كتبهم المختصة بالمجال الديني.
فكما أنَّ الإنسان (كائن ناطق)، فهو كذلك (كائن متدين)، يبحث دائماً وأبداً عن التعلق بمبدأ مفارق أو متسامي ومتعالي عن ذات (الأنا) الإنسانية، وهذا المبدأ المفارق أو المتعالي ليس بالضرورة أنْ يكون إلهاً بالمعنى المتعارف، بل قد يكون فكراً أو توجهاً تخلع عليه القداسة أو القيمة المتعالية عن النقد والنقص.
والأصل الأصيل لهكذا آلهة هو الهوى والأنانية – كما تقدم -، يقول الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}. ولعبادة الهوى والنفس مراتب ومظاهر، أدناها بساطةً وسذاجةً أنْ يجعل الإنسان من رغباته ونزواته ومصالحه هدفاً وقيمة عليا يلهث ورائها ويعيش من أجلها، وتتفتت وتتلاشى كل المُثل والقيم الأخرى دونها ! ثم تتدرج الأنانية لتظهر وتتمثل في العائلة ثم القبيلة ثم القومية ثم الإنسانية، أي الجنس الإنساني كقيمة أو مبدأ عام مفارق للإنسان الفرد المتشخص، وهو ما يسمى بالدين الإنساني أو (الإنسانوية) أو (الهيومانية –Humanism )، التي اتخذها بعض الملاحدة ديناً لهم، وكان من أبرز المنادين بها أو المؤسسين لها في القرون الحديثة هو عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت Auguste Comte (1798 – 1857 م).
لقد كان للأديان البديلة من الوضوح والظهور بحيث استفزت ولفتت انتباه واهتمام الفلاسفة والباحثين، بحيث عزموا على تكريس الوقت والجهد لدراستها والتحذير منها، وكتبوا في ذلك مقالات وكتباً متعددة، منها –علة سبيل المثال - كتاب (الاقتصاد كدين) لروبرت نيلسون Robert Nilson، وكتاب (دين السوق) لديفيد لوي David Loy، وكتاب (الأديان السياسية) لإريك فوجلين Erich Vogelin، وكتاب (السياسة كدين) لإميلليو جنتايل Emilio Gentile، ومقالة روبرت بيلاه Robert Bellsh الشهيرة (الدين المدني في أمريكا) وما أثارته من نقاش كبير في عام 1967 م، وكتاب (العلم كدين) لبول كاروس Paul Carus، وكتاب (القومية كدين) للمؤرخ الأمريكي كارلتون هايس Carlton Hayes (1882 – 1964 م).
يرى كارلتون هايس في كتابه هذا: (بأنّ البشر يمتلكون "شعوراً دينياً" بشكل طبيعي، أي إيماناً بوجود قوّة أكبر من الإنسان تتطلّب نوعاً من التبجيل، وهو ما يعبّر عنه عادة بالشعائر البرّانيّة. ويرى هايس بأنّ انحدار المسيحيّة في الحيّز العمومي مع صدور الدولة الحديثة قد ترك فراغاً في الحسّ الديني، وهو الفراغ الذي امتلأ بالشعور المقدس تجاه الأمّة وبـ "تتويج الدولة القومية – الوطن – كموضوع مركزيّ للعبادة").
بعد أنْ تكلم الكاتب الأمريكي المعاصر وليام كافانو William Cavanaugh في كتابه (أسطورة العنف الديني) عن الأديان السياسية كالماركسية والشيوعية والقومية؛ علّق قائلاً: (أما الأمثلة الأخرى البارزة عن الأديان السياسيّة فهي الفاشيّة الإيطاليّة والنازيّة الألمانيّة؛ ففي وقت مبكّر (1912)، كان بنيتو موسوليني ينادي بـ "مفهوم ديني للاشتراكيّة". لقد أصبح مألوفاً بين نقاد أنظمة موسوليني وهتلر، وبين علماء السياسة، أن يركّزوا على الطبيعة الطقوسيّة الكثيفة والتي تحتوي الفرد في أيديولوجيا تلك الأنظمة، كما أصبح شائعاً اعتبارها أدياناً. إنّ الأمثلة كثيرة جداً، ولذا فإنني لست بحاجة لتكرار نفس النقطة هنا).
الباحث الإسكتلندي المعاصر مالوري ناي Malory Nye، في كتابه (الدين: الأسس)، أيضاً يتطرق الى موضوع (ملء الفراغ) الديني بأديان بشرية بديلة، فيقول:
(يمكننا القول إن الأيديولوجيات الدنيوية مثل الماركسية "أو الشيوعية"، قد نشأت من أجل شغل الأدوار والوظائف التي كان الدين يملؤها من قبل، أو بمعنى آخر قد قدمت القومية مجموعة من "الآلهة" الجديدة للكثيرين في الغرب وفي العالم أجمع. بينما كان هناك آخرون تطلعوا الى القومية الشاملة وثقافة الدولة أو "الدين المتمدن" من الذين سعوا الى خلق حس ديني يربط بين هؤلاء الذين لهم خلفيات دينية متعددة، وكذلك هؤلاء الذين ليس لهم أي خلفيات دينية على الإطلاق).
أما الكاتبة البريطانية كارين آرمسترونغ Karen Armstrong فهي الأخرى تؤكد هذا المعنى في كتابها (حقول الدم) بقولها: (يخبرنا مؤرّخو الأديان أن أي شيء على الاطلاق يمكن أن يصبح رمزاً للإلهي وأن المقدّس يمكن أن يظهر في أي مساحة من الحياة النفسية، أو الاقتصادية، أو الروحية أو الاجتماعية. وهذا ما اثبتته الحالة الفرنسية. ففي اللحظة ذاتها التي تخلّص فيها الفرنسيون من الدين، ابتكروا ديناً جديداً، جاعلين من "الأمة" (Nation) تجسيداً للقيمة المقدّسة. كان هذا عملاً ذكياً وجريئاً من قادة الثورة الذين أدركوا أن المشاعر القوية التي كانت مرتبطة تقليدياً بالكنيسة يمكن أن تكون بالقوة ذاتها مع توجيهها نحو رمز جديد).
ثم تقول آرمسترونغ:
(كانت الجماهير الكاثوليكية سمة مميزة في المواكب الاحتفالية المبكرة، ولكن بحلول عام 1793 م، تم إقصاء الكهنة من شعائر الدولة هذه. في هذه السنة قام جاك إيبير Jacques Hebert بتتويج آلهة العقل على مذبح كاتدرائية نوتردام التي تحوّلت الى معبد للفلسفة، وأصبحت السياسة الثورية نفسها محلّاً للعبادة. استعمل قادة الثورة مصطلحات كـ "العقيدة" "Credo"، "التعصب" "Zealot"، "السر المقدّس" "Sacrament"، "الموعظة" "Sermon" بذكاء شديد لوصف الأحداث السياسية. كتب أونوريه ميرابو Honore Mirabeau بأن "إعلان حقوق الإنسان أصبح إنجيلاً سياسياً، وأن الدستور الفرنسي أصبح ديناً يمكن أن يضحي البشر بحياتهم من أجله". وأخبر الشاعر ماري – جوزيف دي شينييه Marie-Joseph Chenier المؤتمر الوطني:
"أنتم ستعرفون الطريق الذي ستسيرون فيه، فوق حطام الخرافة، الى الدين العالمي الواحد، الذي سيكون مشرّعونا فيه هم الوعّاظ والمبشرين به، وسيكون قضاتنا هم أحباره، وعندها ستُشعل العائلة البشرية البخور فقط على مذبح الوطن، أمنا المشتركة والمقدّسة").
وقد لاحظ المؤرخ والسياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل de Tocqueville Alexis (1805 - 1859 م) ذلك وأبدى ملاحظته قائلاً:
(ظهر نوع جديد من الدين، نوع غير كامل، من دون إله وطقوس وحياة بعد الموت، غير أنّه على الرغم من ذلك دين، غطى الأرض بالجنود والحواريين والشهداء، كما فعل الإسلام من قبل).
إذن، على الإنسان ابتداءً أنْ يكون حذراً ومتيقظاً جداً قبل الخوض في تاريخ وتفاصيل ومنجزات عصر التنوير وعصر الحداثة. ينبغي:
أولاً: الحذر من هيمنة الانبهار بالحاضر المنظور، الذي ينسينا التفكير أو الالتفات الى ماضيه، فالشعوب الأوروبية لم تولد هكذا دفعة واحدة بهذا التطور والرفاه، ولم تنزل من السماء على حالها وشكلها الحاضر من التقدم والتطور، بل عاشت نحو ألف سنة في العصور القديمة في أدنى مستوى من البدائية والجهل والتخلف، ثم عاشت أيضاً نحو ألف سنة أخرى في العصور الوسطى، حيث التخلف والوحشية والطائفية والدمار والحروب والأوبئة الجارفة، فضلاً عن الفقر والتدهور الاقتصادي، وكان هذا المشهد المخيف والمرعب من ثمار حكم وسياسة الكنسية ورجال الدين آنذاك!
واستمر الحال هكذا مع انفراج تدريجي في عصر النهضة فعصر التنوير ثم عصر الحداثة، فقد شهد عصر الحداثة أكبر المجازر ومشاهد الإبادة الجماعية على مرّ التاريخ، فما بين عامي 1914 و 1945 م أدى الإرهاب والقمع والعنصرية بمقتل وموت 70 مليون إنسان في أوروبا والاتحاد السوفياتي ! حسب ما ذكرته كارين آرمسترونغ.
إذن فالأمر يحتاج الى جهود وتضحيات واستعداد لنبذ الصنمية والتعصب، والخروج ولو تدريجياً من سياسة القطيع التي تستغل الشعوب لتنفيذ أيديولوجيا وأجندة تنفذ وتبسط أفكار وأهداف أشخاص ينطلقون غالباً في قراراتهم من رؤى ضيقة نابعة من أمراض وعقد نفسية، فلا يرف لهم جفن عندما يرون الشعوب تعاني من وطأة الجوع والحرمان والجهل والتخلف، في سبيل تحقيق تلك الأهداف والسياسات، في حين أنَّ هؤلاء القادة (السياسيين / الدينيين) لا ينغص عيشهم شيء يُسمى الجوع أو الفقر أو الحرمان، فلا يطرق لهم باباً ولا يرونه حتى في الأحلام !
ثانياً: ضرورة النظر بعين فاحصة الى التيارات التي استغلت فشل وغياب وضعف المؤسسة الدينية. فالتنوير جهد وتجربة بشرية يعتريها ويشوبها ما يشوب أي جهد بشري من نقص وضعف وانحراف وتطرّف في بعض الجوانب. فهو ليس وحياً سماوياً نزل من جهة أو مصدر يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة والحياد التام. لذلك علينا أنْ نتوقع التطرف في الرؤى والتوجهات حتى من أصحاب النوايا الحسنة من العلماء والمفكرين، وكذلك ينبغي أنْ نتوقع استغلال ثورة التغيير والتنوير من قبل أشخاص وجهات لا تنطلق من حسن النية، أو لديهم رؤاهم وأهدافهم الخاصة التي تتسم بالتطرف والدوغما، فما أنْ يخرج المجتمع من عبودية حتى يدخل في عبودية أخرى قد تكون أبشع من سابقتها بأضعاف مضاعفة.
فالمجتمع عند غليان الثورة وهياج التغيير يفتقر غالباً الى نقطة الارتكاز، ويشهد حالة من التخلخل والاضطراب، مما يعني سهولة الانقياد والتأثر بصيحة أو هتاف من هنا أو هناك. وهذا ما حدث فعلاً عندما استغل التيار المادي والإلحادي هذه الحالة، وسعى بقوة الى انتزاع المجتمع البشري تدريجياً من ساحة الإيمان والدين، ليزج به في صحراء المادة والإلحاد والتخلي تدريجياً عن الأخلاق والقيم التي تمثل الوجه المشرق للإنسانية.
ثالثاً: الحذر كل الحذر من الأصوات النشاز، التي تسعى بشتى السبل الى تشويه وشيطنة كل المشروع التنويري، أو أصل فكرة التنوير والتحرر، فهؤلاء إمّا من الذين يحنّون الى عصور الظلام وسلطة الكنيسة والعرش الملكي، وإمّا هم الآن عبيد وأتباع للمؤسسات الدينية المنحرفة أو تربطهم معها مصالح دنيوية أو مصيرية، سواء كانوا على علم بفساد وانحراف المؤسسات الدينية أو كانوا من المغرر بهم، فهم {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} !
ويبدو أنهم يدركون مدى التشابه بينهم وبين كنيسة عصور الظلام، لذلك يشعرون بأنّهم سيلقون نفس المصير الذي حاق بكنيسة عصور الظلام ورجال الدين المتطرفين.
يعتبر مشروع التنوير من أبرز وأهم المشاريع التحررية على طول مسيرة التاريخ البشري، بل لم يزل التنوير يبزغ ثم يغيب أو يتلاشى منذ أول مرحلة من مراحل التطور البشري، ولكن كان له حظٌ أوفر في القرن الثامن عشر فصاعداً، ونجح في استنقاذ الإنسان من قبضة الكنيسة وجناحها المسلح أو التنفيذي (العرش الملكي). أقول هذا؛ مع الاعتراف بأنّ التنوير قد وقع في مطبات ومنحدرات بعيدة كل البعد عن جذوره، وعن هدفه السامي المقدس، الذي هو بالأساس هدف كل أنبياء ورسل السماء، المتمثل في رفض وشجب استلاب عقل وحرية وقرار الإنسان في تحديد مصيره دنيوياً وأخروياً، والوقوف بوجه القوى والجهات التي تريد تغييب وتهميش إرادة الإنسان، هذه الإرادة التي احترمها الله سبحانه، ولم يجبر أو يضطر الإنسان حتى في مسألة الإيمان والدين وتطبيق حاكمية الله، فترك للناس الحرية في الاختيار، مع التأكيد على أنهم سيتحملون نتيجة وعواقب اختيارهم في الدنيا قبل الآخرة.
. مقتبس من كتاب (الأديان البديلة)، يصدر قريباً إن شاء الله تعالى.
الندوة العلمية والثقافية الاسبوعية
ندوة بعنوان ( الأديان البديلة )
ألقاها الشيخ الدكتور ناظم العقيلي بتاريخ ٢٢/٣/٢٠٢٣
بإمكانكم ايضاً التحميل والمشاهدة عبر اليوتوب:
#الحوزة_العلمية
#ندوات
#الاديان_البديلة
#احمد_الحسن
#فتح_المكتب
لا أقصد بالدين هنا فقط الأديان المتعارفة، بل للدين مفهوم واسع يشمل التيارات والأفكار الفلسفية والسياسية والاقتصادية، التي لا تخلو من مبدأ القداسة والرؤية الكونية للكون والحياة والمجتمع والأخلاق. فكل الجهات التي تتخذ فلسفة أو مفاهيم معينة؛ عندما تُهاجم الدين أو عندما تُكرِّس طاقاتها وأنشطتها لإقناع الإنسان بضرورة رفض الدين والتخلي عنه؛ إنّما تريد في الحقيقة أنْ تملأ فكره وعقله بدين جديد، بعد أنْ تفرغه قدر الإمكان من الدين أو الأفكار السابقة أو القديمة.
العقل الإنساني لا يمكن أن يبقى فارغاً، وأصحاب الأديان البديلة أو الأديان البشرية يدركون ذلك جيداً، ولذلك فهم يستبسلون أولاً في تشويه الدين المتعارف، لكي يقلع عنه أكبر عدد من البشر، ولكي تكون هناك مساحة كافية في الفكر والوعي الإنساني، ليأتي دور عملية (ملء الفراغ) !
لا يوجد على الاطلاق تيار فكري نزيه تماماً، يهدف الى محض تحرر الإنسان من العبودية والتبعية، بل كل ما شهده التاريخ البشري إنما هو عملية استبدال لعبودية بعبودية أخرى، ولتبعية بتبعية أخرى، ولصنمية بصنمية أخرى، قد تكون أقبح من سابقتها بكثير!
من الخطأ الفظيع تصور أنَّ الدين يعني فقط الطقوس والعبادات أو الاعتقاد بإله، وهذا ما يحاول أصحاب (الأديان البديلة) ترسيخه في أذهان الناس، لكي يخفوا عنهم حقيقة أنهم يسعون الى اخراجهم من دين ليدخلوهم في دين آخر أو دين جديد !
وقد حذَّر القرآن الكريم من ظاهرة الآلهة والأديان البديلة في عدّة مواطن منها قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...}، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
الآيتان بعد دلالتهما وتأكيدهما على أنَّ الدين عند الله منذ أنْ كلَّف الله البشر هو الإسلام لا غير؛ تدّلان أيضاً على أنَّ هناك أديان أرضية أخرى تسعى الى الاستحواذ على عقول وأرواح الناس، لتقوم بتوجيه الإنسان والتحكم به، بدلاً عن دين السماء الإسلام، فهما بصدد التحذير من الأديان المناوئة للإسلام والمنحرفة عنه، وهي بالطبع أديان بشرية الصنع !
وبما أنَّ مصدر الشرور هو الشيطان والهوى، فلا شك في كونهما مصنع الأديان البديلة التي تُقدَّم للناس بأشكال وصيغ متعددة، وقد أكدّ الله سبحانه على هذين المصدرين بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ...}.
وقد روى الشيخ الكليني في الكافي (6/434) عن أبي جعفر عليه السلام قال:
(مَنْ أَصْغى إِلى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ).
فالله سمَّى السير على منهج وفكر معين عبادة، والعبادة هي الدين، فسواء سار الإنسان على منهج صحيح أو منهج منحرف؛ فهو متدين ومتعبد، فإنْ كان يتبع الناطقين عن الله فقد عبد الله سبحانه، وإنْ كان يتبع الناطقين عن الشيطان والهوى فقد عبد الهوى والشيطان، واتخذ ديناً منحرفاً يُراد له أنْ يزاحم وينافس الدين الإلهي.
فعندما ترى جهة أو جماعة تشن هجوماً لتحطيم قالب معين، فهي في الحقيقة تريد أن تستبدله بقالب آخر، وعندما تحرض على تشويه نموذج معين فهي بلا شك تريد أن تستبدله بنموذج آخر.
وبهذا الصدد يقول زيجموند باومان في كتابه (الحداثة السائلة): (واقع الأمر لا يوجد قالب تعرض للتحطيم إلا وحلَّ محله قالب آخر، وما أُطلق سراح الناس من سجونهم القديمة إلا ليدخلوا سجن التعنيف والتوبيخ والإنذار إذا ما عجزوا عن نقل أنفسهم الى مكان جديد بالاعتماد على جهودهم الفردية الدؤوبة طوال حياتهم، في الأماكن الجاهزة التي أعدها النظام الجديد ...).
إنْ وجِدتْ مفاهيم أو مبادئ مقدسة ومتعالية أو تُطرح على أنها الحقيقة المطلقة أو الأسمى، وإنْ وجِدتْ رؤية أو فلسفة بخصوص الوجود والإنسان والأخلاق يتطلب تصديقها أو الاعتقاد بها، وإنْ وجِدَ منظرون يمارسون مهمة ودور الكهنة والأحبار في تقنين حياة المجتمع الإنساني؛ فهو الدين بعينه الذي سيتمخض عاجلاً عن (الطوطم) الذي يجتمع حوله أصحاب ذلك الفكر كالشعار أو العلم أو الرمز، كما هو متعارف عند كل الحركات والتيارات الفكرية والسياسية، وستكون هناك طقوس وشعائر مخصوصة تناسب الهوية الفكرية، وقد تكون مصحوبة بموسيقى هادئة أو صاخبة تتخللها إيماءات أو حركات معينة من قبيل تحية ومراسيم رفع العلم وتحية القائد وما شابه، وسيكون هناك ما يماثل الكتب المقدسة تتمثل بكتب وأفكار القادة والمؤسسين، وكذلك سيتم إنشاء أماكن وآثار مقدسة كقبور عظماء الفكر والشهداء والنُصب التذكارية أو تماثيل العلماء البارزين أو المؤسسين للأديان البديلة، وأيضاً لابد من وجود منظمات أو جمعيات أو مراكز مرجعية تمثل وتجمع كل المنتمين الى الدين الجديد !
وقد تُولَد هكذا أديان وهي تصحب معها كل أو أغلب معالم ومظاهر الدين. فالدين لا يرتبط بالضرورة بعقيدة الإله، كما يحلو لأعداء الدين الإلهي الإصرار عليه والترويج له. وقد أكدّ هذه الحقيقة كثيرٌ من مفكري وفلاسفة الغرب وأوروبا، منهم الفيلسوف الفرنسي البارز ريجيس دوبريه Régis Debray، حيث يؤكد على أنّ الديني "ليس على علاقة فقط بما هو إلهي وسماوي، بل إن الشيوعية المعاصرة أنتجت هي الأخرى مقدّسات، أي إنها بطريقة أو بأخرى أفرزت الديني، وهكذا نرى أن الديني غير ممكن تجنّبه".
وقد أصاب الحقيقة في هذا الموضوع ابن عربي – على ما يُنسب إليه – عندما قال: (إن العبادة قدر على العباد حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته).
فمثلاً في المجال السياسي تم اعتبار الماركسية ديناً يناهض المسيحية والأديان الأخرى. واعتبار الماركسية ديناً وعقيدة ليس من مخترعات نقادها، بل هذا الماركسي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci كتب عن الماركسية ووصفها بأنها: (هي تحديداً الدين الذي قتل المسيحيّة. إنّها دين بمعنى أنّها أيضاً تمتلك إيمانها بأسرارها وممارساتها، ولأنّها قد أحلّت في وعينا محلّ الإيمان بالإله الكاثوليكي المفارق، الإيمان بالإنسان وطاقاته العظمى باعتباره الحقيقة الروحيّة الوحيدة).
بل تم الحديث عن الديانة الماركسية منذ أيام كارل ماركس نفسه، فقد انتقد الشاب الهيغليّ ماكس ستيرنر Max Stirner الشيوعيّة الماركسيّة، وأكد على أنَّ الشيوعية (تمجّد الإنسان الى نفس الدرجة التي تمجّد بها الأديان الأخرى إلهها أو رمزها).
وعن الشيوعية يقول أيه. جي. تايلور A. J. Taylor في مقدمته للبيان الشيوعي، إذ قال بأنها (العقيدة المقبولة أو الدين لملايين البشر). وأكدّ تايلور على أنّ البيان الشيوعي (يُعتبر كتاباً مقدّساً على السواء مع الكتاب المقدس والقرآن). أما النبي المؤسس للدين الشيوعي فلم يغفل عن ذكره الكُتّاب والباحثون في هذا الشأن، فقد عنون جوزيف شمبيتر Joseph Schumpeter الفصل الأول من كتابه (الرأسماليّة، والشيوعيّة، والديمقراطيّة) بـ (ماركس كنبي)، ويبتدئ هذا الفصل بقوله:
(إنّ التناص الجزئيّ مع العالم الدينيّ في عنوان هذا الفصل تناصّ مقصود. فهناك ما هو أكثر من تناصّ. فبمعنى من المعاني المهمّة، يمكن القول بأنّ الماركسيّة دين؛ فهي تقدّم للمؤمنين بها نظاماً من الغايات النهائيّة التي تجسّد معنى الحياة، كما تقدّم لهم معايير مطلقة ليحاكموا بها الأحداث والأفعال، كما أنها تضع لهم دليلاً الى هذه الغايات يتضمّن خطّة للخلاص وعلامة على الشرّ الذي سينجو منه البشر، أو الجزء المُختار من البشر. يمكننا أن نستمرّ في تحديد سمات التشابه: فالشيوعيّة الماركسيّة تنتمي أيضاً الى الجماعة الفرعيّة الموعودة بالفردوس على جانب المقبرة).
أما الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ Ludwig Feuerbach (1804 – 1872 م) فقد أعلن بصراحة عن ضرورة اتخاذ السياسة كدين جديد، فقال:
(علينا أن نصبح متديّنين من جديد؛ ينبغي أن تصبح السياسة ديننا، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا امتلكنا في منظوراتنا قيمة عليا لتصنع ديننا السياسي).
الشعور الديني لدى البشر شعور فطري طبيعي، لا يمكن أبداً أنْ يبقى الإنسان بلا دين بصورة أو بأخرى. وعندما يغيب أو يُستبعد الدين الإلهي الحقيقي، لا يمكن أن يبقى مكانه فارغاً، فإما أن يحلّ محله دين الكهنة المنحرفين المتشبهين بالأنبياء، وإما أنْ يتربع فيه دينٌ دنيوي من صنع البشر. هذه الحقيقة يعترف بها بعض الملحدين بصراحة، وينكرها البعض الآخر ليستمروا في الضحك على أكبر عدد ممكن من الناس وكسبهم الى صفهم.
يقول عالم البيولوجيا التطوُّري الملحد البريطاني جوليان هكسلي Julian Huxley (1887 – 1975 م): (إن التشكيك الكلي غير ممكن، وأنه يجب أن يؤمن الإنسان بقدر من "العقيدة"؛ لأن "ديناً من نوع ما يكاد يكون ضرورياً").
فمسألة عدم ضرورة ارتباط الدين بالإله أو الله، وإمكان وجود دين من دون إله، كانت حاضرة لدى بعض العلماء الملاحدة أو اللاأدرية، فقد كان الملحد جوليان هكسلي داعية الى هكذا دين بلا إله، وقد بلغ من تحمسه لهذه العقيدة أن أصدر في عام 1957 م كتاباً بعنوان (دين بغير تنزيل)، ويرى هكسلي أن فكرة التلازم بين الدين والله إنَّما هو من الخطأ في فهم جوهر الدين، (فليس من الضروري أن نؤمن بالله كي نؤمن بالدين. ويدلل على ذلك بالبوذية في أنقى صورها، فالبوذية لا تؤمن بوجود إله أو كائن أسمى الأمر الذي جعل الفيلسوف الفرنسي رينان يصف البوذية بأنها كثلكة بدون الإيمان بوجود الله مضيفاً أن هذا الدين الملحد يتحلى بأسمى الأخلاق وأرفع أعمال الصلاح. يقول هكسلي إن كثيراً من دارسي الأديان البدائية يرون أنه من الممكن إستثارة المشاعر الدينية دون الإيمان بوجود الله كما يحدث في حالة رؤية الإنسان للموت. ومن ثم فإنه يعرّف الدين بأنه قائم على تبجيل الإنسان بعض الأشياء وإضفاء القداسة عليها. وتتصل هذه الأشياء بالمصير البشري كما أنها تتصل بالقوى التي يرتبط بها هذا المصير ...
ويؤكد جوليان هكسلي في أكثر من موضع أن انهيار الديني في العصر الحديث لا يعني اندثار ما يسميه بالدافع الديني لدى الإنسان. كل ما هنالك أنه يجب على هذا الدافع أو الحافز الديني الكامن في الإنسان أن يأخذ شكلاً جديداً أو يستبعد فكرة الله من مجاله. ويرى هكسلي أن الدين الجديد لا يكتفي باستبعاد فكرة الله فحسب بل يعهد الى الإنسان بكل المسئوليات التي كانت في الماضي تقع على عاتق الله ...).
أما المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان Jacques Lacan (1901 – 1981 م) فيؤكد على هذا الأمر بقوله: (كل الناس متدينون، حتى الملاحدة).
إذن يجب علينا قبل كل شيء؛ أنْ نعلم جيداً هذه الحقيقة التي تكاد تصل حدَّ البداهة، وهي أنَّ الإنسان متدين بطبعه، فإنْ لم يعثر على الدين الحقيقي الذي يروي الظمأ الروحي لديه، يهرع الى ارواء هذا الظمأ بأي فكر أو مبدأ يتم فرضه عليه أو تسريته إليه، فيقبله بوعي أو لا وعي وهو يتوهم أنه يتمتع بالحرية عندما ترك دينه، ولا يعلم أنَّ حقيقة الحال أنه قد انتقل الى صنمية مُحدَّثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى !
وأعتقد أنَّ الكاتبة الشهيرة كارين آرمسترونغ كانت تعي هذه الحقيقة تماماً عندما عنونتْ الجزء الأول من كتابها (الله لماذا ؟) بـ "الإنسان ... ذلك المخلوق الديني – Homo religious)، وقد أكدّ هذه الحقيقة بعض الباحثين في كتبهم المختصة بالمجال الديني.
فكما أنَّ الإنسان (كائن ناطق)، فهو كذلك (كائن متدين)، يبحث دائماً وأبداً عن التعلق بمبدأ مفارق أو متسامي ومتعالي عن ذات (الأنا) الإنسانية، وهذا المبدأ المفارق أو المتعالي ليس بالضرورة أنْ يكون إلهاً بالمعنى المتعارف، بل قد يكون فكراً أو توجهاً تخلع عليه القداسة أو القيمة المتعالية عن النقد والنقص.
والأصل الأصيل لهكذا آلهة هو الهوى والأنانية – كما تقدم -، يقول الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}. ولعبادة الهوى والنفس مراتب ومظاهر، أدناها بساطةً وسذاجةً أنْ يجعل الإنسان من رغباته ونزواته ومصالحه هدفاً وقيمة عليا يلهث ورائها ويعيش من أجلها، وتتفتت وتتلاشى كل المُثل والقيم الأخرى دونها ! ثم تتدرج الأنانية لتظهر وتتمثل في العائلة ثم القبيلة ثم القومية ثم الإنسانية، أي الجنس الإنساني كقيمة أو مبدأ عام مفارق للإنسان الفرد المتشخص، وهو ما يسمى بالدين الإنساني أو (الإنسانوية) أو (الهيومانية –Humanism )، التي اتخذها بعض الملاحدة ديناً لهم، وكان من أبرز المنادين بها أو المؤسسين لها في القرون الحديثة هو عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت Auguste Comte (1798 – 1857 م).
لقد كان للأديان البديلة من الوضوح والظهور بحيث استفزت ولفتت انتباه واهتمام الفلاسفة والباحثين، بحيث عزموا على تكريس الوقت والجهد لدراستها والتحذير منها، وكتبوا في ذلك مقالات وكتباً متعددة، منها –علة سبيل المثال - كتاب (الاقتصاد كدين) لروبرت نيلسون Robert Nilson، وكتاب (دين السوق) لديفيد لوي David Loy، وكتاب (الأديان السياسية) لإريك فوجلين Erich Vogelin، وكتاب (السياسة كدين) لإميلليو جنتايل Emilio Gentile، ومقالة روبرت بيلاه Robert Bellsh الشهيرة (الدين المدني في أمريكا) وما أثارته من نقاش كبير في عام 1967 م، وكتاب (العلم كدين) لبول كاروس Paul Carus، وكتاب (القومية كدين) للمؤرخ الأمريكي كارلتون هايس Carlton Hayes (1882 – 1964 م).
يرى كارلتون هايس في كتابه هذا: (بأنّ البشر يمتلكون "شعوراً دينياً" بشكل طبيعي، أي إيماناً بوجود قوّة أكبر من الإنسان تتطلّب نوعاً من التبجيل، وهو ما يعبّر عنه عادة بالشعائر البرّانيّة. ويرى هايس بأنّ انحدار المسيحيّة في الحيّز العمومي مع صدور الدولة الحديثة قد ترك فراغاً في الحسّ الديني، وهو الفراغ الذي امتلأ بالشعور المقدس تجاه الأمّة وبـ "تتويج الدولة القومية – الوطن – كموضوع مركزيّ للعبادة").
بعد أنْ تكلم الكاتب الأمريكي المعاصر وليام كافانو William Cavanaugh في كتابه (أسطورة العنف الديني) عن الأديان السياسية كالماركسية والشيوعية والقومية؛ علّق قائلاً: (أما الأمثلة الأخرى البارزة عن الأديان السياسيّة فهي الفاشيّة الإيطاليّة والنازيّة الألمانيّة؛ ففي وقت مبكّر (1912)، كان بنيتو موسوليني ينادي بـ "مفهوم ديني للاشتراكيّة". لقد أصبح مألوفاً بين نقاد أنظمة موسوليني وهتلر، وبين علماء السياسة، أن يركّزوا على الطبيعة الطقوسيّة الكثيفة والتي تحتوي الفرد في أيديولوجيا تلك الأنظمة، كما أصبح شائعاً اعتبارها أدياناً. إنّ الأمثلة كثيرة جداً، ولذا فإنني لست بحاجة لتكرار نفس النقطة هنا).
الباحث الإسكتلندي المعاصر مالوري ناي Malory Nye، في كتابه (الدين: الأسس)، أيضاً يتطرق الى موضوع (ملء الفراغ) الديني بأديان بشرية بديلة، فيقول:
(يمكننا القول إن الأيديولوجيات الدنيوية مثل الماركسية "أو الشيوعية"، قد نشأت من أجل شغل الأدوار والوظائف التي كان الدين يملؤها من قبل، أو بمعنى آخر قد قدمت القومية مجموعة من "الآلهة" الجديدة للكثيرين في الغرب وفي العالم أجمع. بينما كان هناك آخرون تطلعوا الى القومية الشاملة وثقافة الدولة أو "الدين المتمدن" من الذين سعوا الى خلق حس ديني يربط بين هؤلاء الذين لهم خلفيات دينية متعددة، وكذلك هؤلاء الذين ليس لهم أي خلفيات دينية على الإطلاق).
أما الكاتبة البريطانية كارين آرمسترونغ Karen Armstrong فهي الأخرى تؤكد هذا المعنى في كتابها (حقول الدم) بقولها: (يخبرنا مؤرّخو الأديان أن أي شيء على الاطلاق يمكن أن يصبح رمزاً للإلهي وأن المقدّس يمكن أن يظهر في أي مساحة من الحياة النفسية، أو الاقتصادية، أو الروحية أو الاجتماعية. وهذا ما اثبتته الحالة الفرنسية. ففي اللحظة ذاتها التي تخلّص فيها الفرنسيون من الدين، ابتكروا ديناً جديداً، جاعلين من "الأمة" (Nation) تجسيداً للقيمة المقدّسة. كان هذا عملاً ذكياً وجريئاً من قادة الثورة الذين أدركوا أن المشاعر القوية التي كانت مرتبطة تقليدياً بالكنيسة يمكن أن تكون بالقوة ذاتها مع توجيهها نحو رمز جديد).
ثم تقول آرمسترونغ:
(كانت الجماهير الكاثوليكية سمة مميزة في المواكب الاحتفالية المبكرة، ولكن بحلول عام 1793 م، تم إقصاء الكهنة من شعائر الدولة هذه. في هذه السنة قام جاك إيبير Jacques Hebert بتتويج آلهة العقل على مذبح كاتدرائية نوتردام التي تحوّلت الى معبد للفلسفة، وأصبحت السياسة الثورية نفسها محلّاً للعبادة. استعمل قادة الثورة مصطلحات كـ "العقيدة" "Credo"، "التعصب" "Zealot"، "السر المقدّس" "Sacrament"، "الموعظة" "Sermon" بذكاء شديد لوصف الأحداث السياسية. كتب أونوريه ميرابو Honore Mirabeau بأن "إعلان حقوق الإنسان أصبح إنجيلاً سياسياً، وأن الدستور الفرنسي أصبح ديناً يمكن أن يضحي البشر بحياتهم من أجله". وأخبر الشاعر ماري – جوزيف دي شينييه Marie-Joseph Chenier المؤتمر الوطني:
"أنتم ستعرفون الطريق الذي ستسيرون فيه، فوق حطام الخرافة، الى الدين العالمي الواحد، الذي سيكون مشرّعونا فيه هم الوعّاظ والمبشرين به، وسيكون قضاتنا هم أحباره، وعندها ستُشعل العائلة البشرية البخور فقط على مذبح الوطن، أمنا المشتركة والمقدّسة").
وقد لاحظ المؤرخ والسياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل de Tocqueville Alexis (1805 - 1859 م) ذلك وأبدى ملاحظته قائلاً:
(ظهر نوع جديد من الدين، نوع غير كامل، من دون إله وطقوس وحياة بعد الموت، غير أنّه على الرغم من ذلك دين، غطى الأرض بالجنود والحواريين والشهداء، كما فعل الإسلام من قبل).
إذن، على الإنسان ابتداءً أنْ يكون حذراً ومتيقظاً جداً قبل الخوض في تاريخ وتفاصيل ومنجزات عصر التنوير وعصر الحداثة. ينبغي:
أولاً: الحذر من هيمنة الانبهار بالحاضر المنظور، الذي ينسينا التفكير أو الالتفات الى ماضيه، فالشعوب الأوروبية لم تولد هكذا دفعة واحدة بهذا التطور والرفاه، ولم تنزل من السماء على حالها وشكلها الحاضر من التقدم والتطور، بل عاشت نحو ألف سنة في العصور القديمة في أدنى مستوى من البدائية والجهل والتخلف، ثم عاشت أيضاً نحو ألف سنة أخرى في العصور الوسطى، حيث التخلف والوحشية والطائفية والدمار والحروب والأوبئة الجارفة، فضلاً عن الفقر والتدهور الاقتصادي، وكان هذا المشهد المخيف والمرعب من ثمار حكم وسياسة الكنسية ورجال الدين آنذاك!
واستمر الحال هكذا مع انفراج تدريجي في عصر النهضة فعصر التنوير ثم عصر الحداثة، فقد شهد عصر الحداثة أكبر المجازر ومشاهد الإبادة الجماعية على مرّ التاريخ، فما بين عامي 1914 و 1945 م أدى الإرهاب والقمع والعنصرية بمقتل وموت 70 مليون إنسان في أوروبا والاتحاد السوفياتي ! حسب ما ذكرته كارين آرمسترونغ.
إذن فالأمر يحتاج الى جهود وتضحيات واستعداد لنبذ الصنمية والتعصب، والخروج ولو تدريجياً من سياسة القطيع التي تستغل الشعوب لتنفيذ أيديولوجيا وأجندة تنفذ وتبسط أفكار وأهداف أشخاص ينطلقون غالباً في قراراتهم من رؤى ضيقة نابعة من أمراض وعقد نفسية، فلا يرف لهم جفن عندما يرون الشعوب تعاني من وطأة الجوع والحرمان والجهل والتخلف، في سبيل تحقيق تلك الأهداف والسياسات، في حين أنَّ هؤلاء القادة (السياسيين / الدينيين) لا ينغص عيشهم شيء يُسمى الجوع أو الفقر أو الحرمان، فلا يطرق لهم باباً ولا يرونه حتى في الأحلام !
ثانياً: ضرورة النظر بعين فاحصة الى التيارات التي استغلت فشل وغياب وضعف المؤسسة الدينية. فالتنوير جهد وتجربة بشرية يعتريها ويشوبها ما يشوب أي جهد بشري من نقص وضعف وانحراف وتطرّف في بعض الجوانب. فهو ليس وحياً سماوياً نزل من جهة أو مصدر يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة والحياد التام. لذلك علينا أنْ نتوقع التطرف في الرؤى والتوجهات حتى من أصحاب النوايا الحسنة من العلماء والمفكرين، وكذلك ينبغي أنْ نتوقع استغلال ثورة التغيير والتنوير من قبل أشخاص وجهات لا تنطلق من حسن النية، أو لديهم رؤاهم وأهدافهم الخاصة التي تتسم بالتطرف والدوغما، فما أنْ يخرج المجتمع من عبودية حتى يدخل في عبودية أخرى قد تكون أبشع من سابقتها بأضعاف مضاعفة.
فالمجتمع عند غليان الثورة وهياج التغيير يفتقر غالباً الى نقطة الارتكاز، ويشهد حالة من التخلخل والاضطراب، مما يعني سهولة الانقياد والتأثر بصيحة أو هتاف من هنا أو هناك. وهذا ما حدث فعلاً عندما استغل التيار المادي والإلحادي هذه الحالة، وسعى بقوة الى انتزاع المجتمع البشري تدريجياً من ساحة الإيمان والدين، ليزج به في صحراء المادة والإلحاد والتخلي تدريجياً عن الأخلاق والقيم التي تمثل الوجه المشرق للإنسانية.
ثالثاً: الحذر كل الحذر من الأصوات النشاز، التي تسعى بشتى السبل الى تشويه وشيطنة كل المشروع التنويري، أو أصل فكرة التنوير والتحرر، فهؤلاء إمّا من الذين يحنّون الى عصور الظلام وسلطة الكنيسة والعرش الملكي، وإمّا هم الآن عبيد وأتباع للمؤسسات الدينية المنحرفة أو تربطهم معها مصالح دنيوية أو مصيرية، سواء كانوا على علم بفساد وانحراف المؤسسات الدينية أو كانوا من المغرر بهم، فهم {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} !
ويبدو أنهم يدركون مدى التشابه بينهم وبين كنيسة عصور الظلام، لذلك يشعرون بأنّهم سيلقون نفس المصير الذي حاق بكنيسة عصور الظلام ورجال الدين المتطرفين.
يعتبر مشروع التنوير من أبرز وأهم المشاريع التحررية على طول مسيرة التاريخ البشري، بل لم يزل التنوير يبزغ ثم يغيب أو يتلاشى منذ أول مرحلة من مراحل التطور البشري، ولكن كان له حظٌ أوفر في القرن الثامن عشر فصاعداً، ونجح في استنقاذ الإنسان من قبضة الكنيسة وجناحها المسلح أو التنفيذي (العرش الملكي). أقول هذا؛ مع الاعتراف بأنّ التنوير قد وقع في مطبات ومنحدرات بعيدة كل البعد عن جذوره، وعن هدفه السامي المقدس، الذي هو بالأساس هدف كل أنبياء ورسل السماء، المتمثل في رفض وشجب استلاب عقل وحرية وقرار الإنسان في تحديد مصيره دنيوياً وأخروياً، والوقوف بوجه القوى والجهات التي تريد تغييب وتهميش إرادة الإنسان، هذه الإرادة التي احترمها الله سبحانه، ولم يجبر أو يضطر الإنسان حتى في مسألة الإيمان والدين وتطبيق حاكمية الله، فترك للناس الحرية في الاختيار، مع التأكيد على أنهم سيتحملون نتيجة وعواقب اختيارهم في الدنيا قبل الآخرة.
. مقتبس من كتاب (الأديان البديلة)، يصدر قريباً إن شاء الله تعالى.
الندوة العلمية والثقافية الاسبوعية
ندوة بعنوان ( الأديان البديلة )
ألقاها الشيخ الدكتور ناظم العقيلي بتاريخ ٢٢/٣/٢٠٢٣
بإمكانكم ايضاً التحميل والمشاهدة عبر اليوتوب:
#الحوزة_العلمية
#ندوات
#الاديان_البديلة
#احمد_الحسن
#فتح_المكتب