هل الفكر المهدوي خرافي أم الفكر العلماني
أبو محمد الأنصاري
لو سألنا النسخة العربية من العلمانيين عن معنى الفكر الخرافي ؛ كيف يكون هذا الفكر خرافياً ، وذاك علمياً ، وعلى أي أساس يقوم مثل هذا التصنيف ، فلا شك في أن إجاباتهم ستختلف كثيراً على مستوى الصياغة اللغوية ، وإن كانت تدور بمجموعها حول معنى واحد محدد ( ومستورد بطبيعة الحال ) ، واختلاف الصياغة من لوازم الحداثة كما هو معروف !
يكون الفكر خرافياً بالنسبة لهم طالما لم يكن وليد التجربة البشرية ولغة المختبرات ، ولو تفحصنا هذه المقولة لوجدناها منبثقة عن رؤية مادية للكون والحياة ، أي إنها رؤية تنطلق على المستوى الفلسفي من تصور مسبق مفاده أن لا وجود لشئ آخر غير المادة ، وأن التجربة – بمعنى المباشرة المحسوسة للأشياء – هي وحدها المعيار الصحيح في قبول الأفكار ورفضها .
وعلى ما يبدو بوضوح إن العلمانيين ( في نسختهم العربية دائماً ) ينظرون لتصورهم هذا للكون والحياة على أنه حقيقة الحقائق ، وعلى أساس من هذه اليقينية المستوردة يصنفون الآخر المختلف في خانة الخرافة والإبتعاد عن الحقيقة .
لا أدري هل يستطيع العلمانيون العرب أن يتقبلوا فكرة أن الكون والحياة أوسع كثيراً مما يتصورونهما ، هل بإمكانهم تصور وجود لغير المحسوس ؟ هل يعون أن اليقينية التي يتحدثون بها مزيفة ومبتنية على أساس مغلوط ؟ فقولهم إن التجربة بحدودها المادية هي المعيار في تحديد الحقائق ، هذا القول علاوة على أنه غير خاضع للتجربة ، منطلق في الحقيقة بدوافع إيديولوجية صراعية خلفيتها التجربة الأوربية والصراع مع التصور الكنيسي المنحرف للدين .
فالحقيقة أن الكثير من إشكاليات التجربة الصراعية الأوربية مع التصور الديني ( ولا أقول نفس الدين ) هي غير ذات موضوع فيما لو نظرنا لها من المنظور الإسلامي ، وما يجري فرضه في واقعنا الفكري والثقافي والإجتماعي على أنه إشكالية فكرية أو ثقافية أو إجتماعية ليس في الحقيقة سوى تحكم يحاول العلمانيون العرب الكسالى من خلال فرضه إيجاد نوع من التشابه في التجربة يسوغ لهم نقل الفكر الذي تعلموه أو قل اخترق رؤوسهم ، وتشكل وعيهم على وفقه .
فالعلمانيون العرب لا يملكون من الشجاعة وحرية التفكير ما يؤهلهم للنظر في هوية الشعوب التي ينتمون لها بعيداً عن المنظار القيمي والتصوري الغربي ، من هنا تراهم يلجأون الى التصيد في المياه العكرة بغية العثور ولو على مثل نشاز يؤيد فكرتهم ليطبلوا له على أنه هو هذا الواقع وما عداه نشاز تكرس بفعل التخلف والقمع الديني .. و .. و .. الى آخر المعزوفة المعروفة .
إن الهوية ليست قميصاً يستبدل به العلمانيون قميصاً آخر من الطراز الأوربي ، فلا المنقول ولا المنقول له يتقبل هذا النوع من السذاجة ، ومن هذه الناحية على الأقل يبدو العلمانيون العرب أكثر خرافية حتى من الأقوام البدائية ، إذ حتى ما نصطلح عليه اليوم فكراً خرافياً كانت تخضع لسلطته الأقوام البدائية كان في الحقيقة فكراً واقعياً من حيث كونه مستلاً من نفس واقع هذه الأقوام ومن حيث كونه – وهو الأهم ربما – قابل للتفاعل مع الواقع المشار إليه ، ولم يكن في يوم ما نبتة غريبة يراد استزراعها في تربة لا تعرفها .
وإذا كانت النظريات والفلسفات الوضعية تنظّر للإنسان ولمشاكل وجوده ضمن إطار لا تتعدى دائرته حدود الواقع المادي الضيقة ، وتحدد معالجاتها ضمن هذا الإطار ، فإننا كمؤمنين بالدين الإسلامي والنظرة الإلهية للعالم نرى العالم والمشكلة الإنسانية من زاوية نظر أعمق وأكثر شمولاً ، يقول السيد أحمد الحسن : (( اعلموا أيها الأحبة من المؤمنين والمؤمنات إن المخلوق الأول هو العقل وهو العالم الأول الروحاني وهو عالم كلي،الموجودات فيه مستغرقة بعضها في بعض ولا تنافي بينها . وأهله على درجات أعلاها المس بعالم اللاهوت سبحانه ، وهي درجه خاصة بمحمد وعلي (ع) . فمحمد (ص) (دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم 8-9) . وعلي (ع) نفسه قال تعالى (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم ) (آل عمران 61). وعلي ممسوس بذات الله كما ورد عنه ( ص ) ، ودونهما درجات ، فهما (ص) محيطان ويعلمان بكل من دونهما ، ومن دونهما يعلم منهما بقدر درجته ولا يعرفهما أحد بتمام معرفتهما غير خالقهما ، كما لا يعرف الله سبحانه أحد غيرهما بتمام معرفته الممكنة للإنسان . ورد عن صاحب المقام المحمود (ص) ما معناه : ( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت ، وما عرفني إلا الله وأنت ، وما عرفك إلا الله وأنا).
أما العالم الثاني فهو عالم الملكوت ، وهو عالم مثالي صوري ، وهو عالم الأنفس شبيه بما يراه النائم . وذلك أن النائم غفل عن وجوده المادي فالتفت إلى وجوده الملكوتي ، ولك أن تقول المثالي أو النفسي .
أما العالم الثالث فهو العالم المادي وهو عالم شبيه بالعدم ليس له حظ من الوجود ، إلا قابليته للوجود ، وهو آخر درجات التـنـزل .فإذا أفيضت الصورة على المادة تكوّن الجسم ، وهو أول درجات الصعود أو العودة )) .
فالعالم المادي الذي يشغل كل تفكير العلمانيين هو عالم شبيه بالعدم وهو أدنى درجات الوجود ، ولا أظن العلمانيين يستطيعون الإنكار بطريقة لم نر ، لو نسمع ، لم نحس ، فالإنسان لا يمكن اختصاره بمقولات الحس إلا على نحو الإستبداد والقمع الفكري التي يرمون بها غيرهم .
والحق إن منهجهم العقيم هذا يمتد الى مسألة وجود الإمام المهدي (ع) فهم لا يستطيعون الإيمان بوجوده لأنهم لا يرون أبعد من أرنبة أنفهم ، فالإمام المهدي خرافة بالنسبة لهم لأنهم لا يتصورون إمكانية لوجود إنسان يعيش أكثر من ألف عام ، على الرغم من أن تجاربهم العزيزة لم تثبت لهم أبداً عدم هذه الإمكانية ، بل إنها ليس من شأنها الحديث عن الإمكان ، سبحان الله لأن الجسم أوسع من سريرهم يلجأون الى قص أطرافه ليناسب السرير بدل أن يوسعوا سريرهم ليناسب الجسم .
هذا النوع من التعامل البروكستي ( نسبة الى سرير بروكست ) هو عين التفكير الخرافي إن شاءوا الحديث عن الخرافة ، فلا شك في أن التعقل يمنع موقف الرفض غير المستند على دليل دامغ ، ويمنع الرفض بذريعة إن ما بأيدينا من الوسائل لم يدلنا على النتيجة التي تقولون بها ، لأننا نملك أن نقول لهم ببساطة العيب في وسائلكم أنتم .
والعجيب – بل ليس عجيباً – إن النسخة العربية من العلمانية لم تأخذ من أصلها المرونة والإنفتاح على الآخر والنظرة إليه على أنه حق ممكن على الأقل ، فالنسخة العربية أكثر حدية بل أكثر سلطوية ، وليس ذلك إلا لأنها لم تنبت في أحشاء الأرض التي زرعت فيها قسراً ولم تكن وليدة تجربة تأريخية أو فكرية حقيقية بل كانت وما زالت تعيش أفقاً منهجياً عنوانه ( كوبي بيست ) .