الذوبان العظيم: نهاية العصر الجليدي أنيل أنانثسوامي ترجمة زينب عاطف١٨ فبراير ٢٠١٣
منذ ٢٠ ألف سنة فقط، كان الجليد يسود الكوكب. فلماذا إذن أرخى قبضته؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال أصبحت في متناولنا أخيرًا.
خلال صيف عام ٢٠٠٨ وصل عمال الحفر في جراوند زيرو (موقع برجي مركز التجارة العالمي سابقًا) في مانهاتن السفلى إلى صخر الأديم. وهناك وجدوا شيئًا غير متوقع: أخدودًا ضخمًا يصل عمقه إلى أكثر من ١٠ أمتار، ازدحمت حول الشقوق المحيطة به حجارة من مختلف أنواع الصخور. وتعرف المستشار الجيولوجي على الفور على هذه الصفات. إن هذه الصخور حملها نهر جليدي، من أميال عديدة، كان يمر عبر صخر الأديم. وفي مرحلة ما نَحَتَ تيار مياه النهر الجليدي المذابة الأخدود.
عندما ذاب الجليد.
توجد أدلة على العصر الذي سيطر فيه الجليد على العالم في كل مكان من حولنا، بداية من الأخاديد الموجودة في مدينة نيويورك وحتى الغابات الموجودة تحت سطح البحر. بدأ آخر عصر جليدي عظيم منذ ما يقرب من ١٢٠ ألف سنة. فكبِر حجم غطاء جليدي عملاق — يصل سمكه إلى أكثر من ٣ كيلومترات في بعض الأماكن — على مراحل متقطعة حتى غطى كل كندا تقريبًا وامتد إلى الجنوب حتى وصل إلى مانهاتن. وامتد غطاء آخر عبر معظم سيبيريا وأوروبا الشمالية وبريطانيا وتوقف مباشرة قبل ما يعرف الآن بلندن. وتكونت في أماكن أخرى غطاءات جليدية أصغر حجمًا وأنهار جليدية، وتحولت مساحات شاسعة إلى سهول جليدية جرداء وانتشرت الصحاري الجليدية مع زيادة جفاف الكوكب.
مع زيادة الجليد على اليابسة، كان مستوى سطح البحر أدنى من مستواه الحالي بنحو ١٢٠ مترًا. وكانت بريطانيا وأيرلندا جزءًا من يابسة قارة أوروبا. وكان حجم فلوريدا ضعف حجمها الحالي، في حين كانت مدينة تامبا بعيدة عن الساحل. وكانت أستراليا وتسمانيا وغينيا الجديدة جزءًا من كتلة أرض واحدة تسمى ساهول. وكان يصعب للغاية التعرف على الكوكب.
ثم بدأ منذ ٢٠ ألف سنة ذوبان عظيم. فارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية على مدار العشرة آلاف سنة التالية بنحو ٣٫٥ درجة مئوية، وذاب معظم الجليد. ابتلعت البحار التي ارتفع منسوب المياه فيها المناطق التي تقع على منسوب منخفض مثل القناة الإنجليزية وبحر الشمال، مما أجبر أجدادنا على هجر الكثير من المستوطنات. إذن ما الذي جلب هذا التحول الجوهري للكوكب؟
تغيرات غامضة
نعرف منذ وقت طويل أن الذوبان بدأ مع زيادة ضوء شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي، مما أذاب الجليد والثلج. ما حدث بعد ذلك هو ما بقي غامضًا. فبعد بدء الذوبان مباشرة، على سبيل المثال، بدأ نصف الكرة الجنوبي يصبح دافئًا وبرد نصف الكرة الشمالي، وهو عكس المتوقع من التغيرات في ضوء الشمس. الآن وبعد قرنين من الصراع مع اكتشافات بدت متناقضة نعتقد أننا فهمنا أخيرًا كيف انتهى العصر الجليدي.
بدأ كل شيء في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما لاحظ لويس أجاسيز أن هذه الصفات المميزة التي أحدثتها الأنهار الجليدية، مثل الخدوش في حجر الأديم والصخور «المجروفة» الملقاة بعيدًا عن مكان نشأتها، يمكن العثور عليها بعيدًا عن الأنهار الجليدية الموجودة. وسرعان ما حدثت اكتشافات مماثلة في جميع أنحاء العالم، من كندا وحتى شيلي. فأصبح واضحًا أن الكوكب قد مر بسلسلة كاملة من العصور الجليدية.
ما الذي جعل الجليد يأتي ويذهب؟ في عام ١٨٦٤ اقترح جيمس كرول أن التغييرات في كم ضوء الشمس الذي يصل إلى أجزاء مختلفة من سطح الأرض، نتيجة للتغيرات في مدار الكوكب، هي المسئولة عن هذا. واقترح أيضًا أن التأثيرات المدارية ضخمتها آليات ارتجاعية متنوعة، مثل ذوبان الثلج والجليد العاكسين للحرارة، والتغيرات في تيارات المحيطات.
كثير من التفاصيل التي أوردها كرول خاطئة، لكنه كان على المسار الصحيح. في أوائل القرن العشرين استنتج عالم الفلك الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش أن ضوء شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي لا بد أن يكون العامل الأساسي، وأمضى سنوات مضنية في حساب كيف تغير هذا على مدار الستمائة ألف سنة الماضية. لم تكن أفكاره مقبولة في هذا الوقت، لكن في سبعينيات القرن العشرين أظهرت دراسات عينات رواسب المحيطات الجوفية أن حالات تقدم وتراجع العصور الجليدية تتزامن بالفعل مع «دورات ميلانكوفيتش».
مع ذلك ظل العديد من الألغاز. بداية، كانت التغيرات في أشعة الشمس طفيفة. حتى وإن كانت تضخمت بامتصاص الكوكب لمزيد من حرارة الشمس مع ذوبان الجليد والثلج، فيصعب أن تفسر كم التغيرات العالمية. الأكثر من ذلك أنه عندما تزيد أشعة شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي، فإنها تقل في نصف الكرة الجنوبي. دفع هذا كرول إلى اقتراح أن العصور الجليدية تتناوب بين نصفي الكرة؛ فعندما يتجمد الشمال يذوب الجنوب والعكس صحيح. لكن اتضح منذ وقت طويل أن العالم بأكمله كساه الدفء تقريبًا في الوقت نفسه.
بدأت الإجابات عن هذه الألغاز تظهر في ثمانينيات القرن العشرين عندما أظهرت العينات الجليدية الجوفية التي أخذت من القارة القطبية الجنوبية علاقة وطيدة مذهلة بين مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ودرجات الحرارة.
يقول جيرمي شاكون من جامعة هارفارد: «كما ترون، على مدار المليون سنة الماضية كان هذان الاثنان يصعدان ويهبطان، يصعدان ويهبطان معًا خلال كل عصر جليدي، وباتساق يكاد يكون كاملًا. إنها علاقة من أجمل ما يمكن أن تقدمه الطبيعة.»
فإذا كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون ارتفعت مباشرة بعد بدء الذوبان في الشمال، فإن هذا يفسر سبب بدء الدفء في نصف الكرة الجنوبي أيضًا. سيساعد هذا أيضًا في تفسير الكم الهائل من التغييرات. إلا أن هذه الفكرة الواعدة اصطدمت بمشكلة كبيرة؛ فمنذ نحو عقد مضى أصبح من الواضح أن القارة القطبية الجنوبية بدأت ترتفع درجة حرارتها قبل أن تبدأ مستويات ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع ببضعة قرون. لذا بينما تتسبب مستويات ثاني أكسيد الكربون المرتفعة دون أدنى شك في ارتفاع درجة حرارة الكوكب، يعتقد حاليًّا أنها مسئولة عما يقرب من نصف مقدار ارتفاع درجات الحرارة منذ نهاية العصر الجليدي؛ فهي ليست السبب المبدئي. يقول دانيال سيجمان من جامعة برينستون: «شيء آخر كان يتسبب في ارتفاع درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية.»
لغز حبوب اللقاح
لم يكن هذا هو اللغز الوحيد. ففي ثلاثينيات القرن العشرين أشارت دراسات للرواسب التي تحتوي على حبوب لقاح زهرة «درياس أوكتوبيتالا» التي تنبت في جبال الألب ونباتات أخرى أنه عندما بدأت تقريبًا درجات الحرارة في أوروبا ترتفع، انخفضت فجأة مرة أخرى. وامتدت مرحلة البرد هذه التي تسمى «درياس الأقدم» أو «فترة الغموض» من نحو ١٧٥٠٠ سنة مضت حتى ١٤٧٠٠ سنة مضت. وأظهرت عينات الجليد الجوفية فيما بعد أن جرينلاند انخفضت درجات الحرارة بها في الوقت نفسه.
مع ذلك، ارتفعت درجات الحرارة في القارة القطبية الجنوبية بانتظام خلال هذه الفترة. ويقول سيجمان: «على المقياس التفصيلي يبدو أن الجنوب ترتفع درجة الحرارة به قبل الشمال.» لكن ما الذي يجعل نصف الكرة الجنوبي ترتفع درجة حرارته في الوقت الذي تنخفض فيه في نصفها الشمالي؟ لا يمكن أن يكون هذا بسبب التغيرات المدارية أو بسبب ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون، لكن ربما يكون نتيجة تغير تيارات المحيط.
عندما بدأت غطاءات الجليد الضخمة في الذوبان منذ ١٩ ألف سنة مضت، انهمرت كميات ضخمة من المياه العذبة في شمال المحيط الأطلنطي.
وتظهر دراسات الرواسب البحرية قبالة سواحل البحر الأيرلندي، مثلًا، أن مستوى سطح البحر ارتفع هناك نحو ١٠ أمتار في غضون بضعة قرون (ساينس، المجلد ٣٠٤، ص١١٤١).
في الوقت الحالي تبرد المياه المالحة التي تصل من المنطقة الاستوائية في شمال الأطلنطي، وتصبح كثيفة للغاية وتغوص إلى القاع. وتتدفق هذه المياه العميقة الباردة نحو نصف الكرة الجنوبي، وتتدفق مياه السطح الدافئة، بما فيها تيار الخليج، شمالًا. ويطلق على نظام التيارات هذا دوران الانقلاب الطولي الأطلنطي.
عملت الكميات الهائلة من المياه العذبة التي انهمرت في المحيط منذ ١٩ ألف عام على تخفيف المياه المالحة وجعلتها أقل كثافة. النتيجة: إبطاء دوران الانقلاب. جاء الدليل في عام ٢٠٠٤ من دراسة لرواسب المحيط. فأظهرت النسبة بين عنصرين ثقيلين، التي تشير إلى سرعة التيار العميق، أن دوران الانقلاب توقف تقريبًا منذ ١٧٥٠٠ عام (نيتشر، المجلد ٤٢٨، ص٨٣٤).
كانت النتيجة نوعًا من التأثير التأرجحي. فمع حمل التيارات السطحية لكم أقل من الحرارة إلى الشمال، انخفضت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت المناطق المدارية وشبه المدارية ترتفع درجة حرارتها حيث كانت تفقد حرارة أقل لصالح الشمال. ويفسر هذا العديد من الاكتشافات المحيرة. يستطيع بطء التيار الأطلنطي أيضًا أن يساعد في تفسير لماذا ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون خلال فترة الذوبان العظيم.
في تسعينيات القرن العشرين ركز البحث عن مصدر ثاني أكسيد الكربون على المحيط الجنوبي. وأشارت النظائر في رواسب المحيط إلى تراكم مخزون ضخم من ثاني أكسيد الكربون في المياه العميقة خلال العصر الجليدي. ومن المعتقد أن هذا الغاز حُبس بسبب غياب الخلط الرأسي لمياه المحيط فضلًا عن وجود غطاء من الجليد البحري. إلا أنه في أثناء الذوبان تحرر المحيط وأطلق معظم ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي.
جاء إثبات هذا الأمر في وقت مبكر من هذا العام بفضل تحليل النظائر شديد التفصيل لثاني أكسيد الكربون المحبوس في عينات الجليد الجوفية المأخوذة من القارة القطبية الجنوبية. يقول يوخن شميت عضو فريق في جامعة برن في سويسرا: «لا بد أن ثاني أكسيد الكربون جاء من عمق المحيط.»
يسود اعتقاد واسع النطاق حاليًّا بأن زيادة الخلط الرأسي في المحيط الجنوبي وراء انبعاث ثاني أكسيد الكربون. ففي عام ٢٠٠٩، على سبيل المثال، أعلن بوب أندرسن من مرصد لامونت دوهيرتي للأرض في نيويورك أن المحيط الجنوبي شهد زيادات كبيرة في نمو العوالق بأصداف من السليكا خلال فترة «درياس الأقدم»، عندما بدأت درجة حرارة النصف الجنوبي في الارتفاع (ساينس، المجلد ٣٢٣، ص١٤٤٣). بما أن نمو هذه الكائنات محدود بمقدار السليكا الذائبة الموجودة في مياه السطح، فإن الزيادات لا بد أن تكون نتيجة لصعود المياه الغنية بالسليكا وغيرها من العناصر الغذائية.
لكن ما الذي تسبب في ذلك؟ توجد فكرتان: يشير سيجمان إلى أن درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية بدأت في الارتفاع تقريبًا في الوقت نفسه الذي ارتفعت فيه درجة حرارة المسطحات المائية جنوب خط الاستواء. إلا أن توقف التيار الأطلنطي وحده كان من المفترض أن يتسبب في رفع درجة حرارة المياه في المنطقة الاستوائية فحسب، ولكن ليس في مناطق ببعد القارة القطبية الجنوبية. في عام ٢٠٠٧ أشار فريق سيجمان إلى أنه عندما توقف الناقل الأطلنطي حل محله دوران انقلاب محلي في المياه المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية. وغاصت مياه السطح عالية الكثافة وصعدت مياه الأعماق مما أطلق الحرارة وثاني أكسيد الكربون. يقول سيجمان: «وهذا يفسر كلًّا من ارتفاع حرارة القارة القطبية الجنوبية وثاني أكسيد الكربون.»
مع ذلك يرى أندرسن وزملاؤه أن زيادة الموجات المتقلبة كان مدفوعًا بتغيرات في الرياح. تمتلك الأرض أحزمة مميزة من الرياح السائدة يحركها التفاوت في درجات الحرارة بين القطبين والمنطقة الاستوائية، مصحوبًا بدوران الكوكب. ويمكن أن تتغير مواضعها عندما يتغير التفاوت في درجات الحرارة.
خلال العصر الجليدي كان حزام الرياح الغربية في نصف الكرة الجنوبي — التي يطلق عليها البحارة رياح الأربعينيات المزمجرة نسبة إلى موقعها في دوائر العرض — من المفترض أن يكون أبعد شمالًا. إلا أن التأثير التأرجحي نقله في اتجاه الجنوب عبر المحيط الجنوبي، مما أدى إلى ارتفاع درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية وإحداث اضطراب في البحر المحيط بالقارة المتجمدة. على وجه الخصوص كان التيار الدائري الذي تدفعه الرياح سينتج موجات متقلبة أكثر في مياه في المنطقة الأكثر ضحالة بين أمريكا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية.
مع أن التفاصيل لا تزال محل جدال، إلا أن المسألة كلها تبدو الآن أكثر وضوحًا. يقول أندرسن: «لا يزال يوجد خلاف حول العمليات التي حدثت في القارة القطبية الجنوبية مع انتهاء العصر الجليدي الأخير، لكن على الأقل السمات العريضة متفق عليها إلى حد بعيد.»
في أوائل هذه السنة جمع شاكون وزملاؤه العديد من خطوط الأبحاث فضلًا عن تحليل أكثر من ٨٠ سجلًّا مختلفًا من سجلات درجات الحرارة وتكوين الغلاف الجوي على مدار ٢٢ ألف سنة مضت (نيتشر، المجلد ٤٨٤، ص٤٩). ويؤكد عملهم إلى حد بعيد تسلسل الأحداث التي أنهت العصر الجليدي، وترتيبها كالتالي:
منذ نحو ٢٠ ألف سنة أوغلت غطاءات الجليد الشمالية في الانتشار جنوبًا، حتى إن زيادة ضئيلة في مقدار أشعة الشمس أدت إلى ذوبان واسع النطاق. ونظرًا لتدفق المياه العذبة في شمال المحيط الأطلنطي توقف دوران الانقلاب، فانخفضت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي في حين ارتفعت حرارة النصف الجنوبي. وكانت هذه التغيرات غالبًا نتيجة لإعادة توزيع الحرارة، ومنذ ١٧٥٠٠ سنة ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بنحو ٠٫٣ درجة مئوية فقط.
تسببت الرياح المتغيرة أو التيارات المتغيرة، أو كلاهما، في رفع المياه الأكثر عمقًا إلى السطح في المحيط الجنوبي، مما أدى إلى خروج ثاني أكسيد الكربون الذي كان محبوسًا لآلاف السنين. ومع ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لأكثر من ١٩٠ جزءًا في المليون، بدأت ترتفع درجة حرارة الكوكب بأكمله. وكان أقصى الشمال أبطأ أجزاء الكوكب استجابة، لكن منذ ما يقرب من ١٥ ألف سنة عندما اقتربت مستويات ثاني أكسيد الكربون من ٢٤٠ جزءًا في المليون وزادت سرعة دوران الانقلاب الأطلنطي مرة أخرى، بدأت درجات الحرارة ترتفع سريعًا. وكان لانتعاش دوران الانقلاب تأثير عكسي في نصف الكرة الجنوبي؛ فتوقف ارتفاع درجة الحرارة وانبعاث ثاني أكسيد الكربون.
منذ ما يقرب من ١٢٩٠٠ عام، حدث التأثير التأرجحي مرة أخرى. فهبطت درجات الحرارة في دوائر العرض الشمالية فجأة، وظلت باردة لمدة نحو ١٣٠٠ سنة. ويعتقد أن نوبة الصقيع هذه، التي يطلق عليها «درياس الأصغر»، سببتها بحيرة ضخمة من المياه الذائبة في أمريكا الشمالية، كان يوجد بها كمية من المياه تفوق الموجودة في البحيرات العظمى مجتمعة، التي فاضت فجأة في المحيط الأطلنطي فأوقفت دوران الانقلاب مرة أخرى.
في هذه الأثناء، بدأ المحيط الجنوبي يطلق ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى. وارتفعت نسبته في الغلاف الجوي إلى ٢٦٠ جزءًا في المليون، مما تسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب بأكمله سريعًا على مدار الألفيتين التاليتين. ومنذ ما يقرب من ١٠ آلاف سنة، تغير شكل الأرض. فتراجع الجليد، وارتفع منسوب البحار وبدأ أسلافنا يتعلمون كيفية الزراعة.
مع ذلك، لم ينتهِ العصر الجليدي فعليًّا. فقد تقدم الجليد وتراجع مرات عديدة على مدار ملايين من السنين الماضية، لكن بقي بعض الجليد دومًا في القطبين. ومع ذلك، ربما لن يستمر ذلك وقتًا طويلًا. فقد تطلب ذوبان الغطاءات الجليدية الضخمة التي كانت تغطي في وقت من الأوقات أوراسيا وأمريكا، ارتفاعًا بسيطًا في أشعة الشمس وزيادة تدريجية في ثاني أكسيد الكربون بمقدار ٧٠ جزءًا في المليون فحسب. ومنذ بزوغ شمس العصر الصناعي ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون بنحو ١٣٠ جزءًا في المليون وما زالت في تصاعد. وإن لم نكن قد أطلقنا في الغلاف الجوي بالفعل كمية من ثاني أكسيد الكربون تكفي لإذابة الغطاءات الجليدية التي تغطي جرين لاند والقارة القطبية الجنوبية، فربما نفعل قريبًا.
لحسن حظنا ربما يستغرق اختفاء آخر الغطاءات الجليدية الضخمة تمامًا آلاف السنين. وإن حدث هذا، فربما يجد عمال البناء في القارة القطبية الجنوبية أخاديد هائلة في صخر الأديم نحتتها المياه الذائبة، ويتفكرون في تحول جذري آخر للكوكب.
مجلة نيو ساينتيست، المجلد ٢١٦، العدد ٢٨٨٩، الصفحات ٣٢–٣٥
٣ نوفمبر ٢٠١٢
منذ ٢٠ ألف سنة فقط، كان الجليد يسود الكوكب. فلماذا إذن أرخى قبضته؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال أصبحت في متناولنا أخيرًا.
خلال صيف عام ٢٠٠٨ وصل عمال الحفر في جراوند زيرو (موقع برجي مركز التجارة العالمي سابقًا) في مانهاتن السفلى إلى صخر الأديم. وهناك وجدوا شيئًا غير متوقع: أخدودًا ضخمًا يصل عمقه إلى أكثر من ١٠ أمتار، ازدحمت حول الشقوق المحيطة به حجارة من مختلف أنواع الصخور. وتعرف المستشار الجيولوجي على الفور على هذه الصفات. إن هذه الصخور حملها نهر جليدي، من أميال عديدة، كان يمر عبر صخر الأديم. وفي مرحلة ما نَحَتَ تيار مياه النهر الجليدي المذابة الأخدود.
عندما ذاب الجليد.
توجد أدلة على العصر الذي سيطر فيه الجليد على العالم في كل مكان من حولنا، بداية من الأخاديد الموجودة في مدينة نيويورك وحتى الغابات الموجودة تحت سطح البحر. بدأ آخر عصر جليدي عظيم منذ ما يقرب من ١٢٠ ألف سنة. فكبِر حجم غطاء جليدي عملاق — يصل سمكه إلى أكثر من ٣ كيلومترات في بعض الأماكن — على مراحل متقطعة حتى غطى كل كندا تقريبًا وامتد إلى الجنوب حتى وصل إلى مانهاتن. وامتد غطاء آخر عبر معظم سيبيريا وأوروبا الشمالية وبريطانيا وتوقف مباشرة قبل ما يعرف الآن بلندن. وتكونت في أماكن أخرى غطاءات جليدية أصغر حجمًا وأنهار جليدية، وتحولت مساحات شاسعة إلى سهول جليدية جرداء وانتشرت الصحاري الجليدية مع زيادة جفاف الكوكب.
مع زيادة الجليد على اليابسة، كان مستوى سطح البحر أدنى من مستواه الحالي بنحو ١٢٠ مترًا. وكانت بريطانيا وأيرلندا جزءًا من يابسة قارة أوروبا. وكان حجم فلوريدا ضعف حجمها الحالي، في حين كانت مدينة تامبا بعيدة عن الساحل. وكانت أستراليا وتسمانيا وغينيا الجديدة جزءًا من كتلة أرض واحدة تسمى ساهول. وكان يصعب للغاية التعرف على الكوكب.
ثم بدأ منذ ٢٠ ألف سنة ذوبان عظيم. فارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية على مدار العشرة آلاف سنة التالية بنحو ٣٫٥ درجة مئوية، وذاب معظم الجليد. ابتلعت البحار التي ارتفع منسوب المياه فيها المناطق التي تقع على منسوب منخفض مثل القناة الإنجليزية وبحر الشمال، مما أجبر أجدادنا على هجر الكثير من المستوطنات. إذن ما الذي جلب هذا التحول الجوهري للكوكب؟
تغيرات غامضة
نعرف منذ وقت طويل أن الذوبان بدأ مع زيادة ضوء شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي، مما أذاب الجليد والثلج. ما حدث بعد ذلك هو ما بقي غامضًا. فبعد بدء الذوبان مباشرة، على سبيل المثال، بدأ نصف الكرة الجنوبي يصبح دافئًا وبرد نصف الكرة الشمالي، وهو عكس المتوقع من التغيرات في ضوء الشمس. الآن وبعد قرنين من الصراع مع اكتشافات بدت متناقضة نعتقد أننا فهمنا أخيرًا كيف انتهى العصر الجليدي.
بدأ كل شيء في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما لاحظ لويس أجاسيز أن هذه الصفات المميزة التي أحدثتها الأنهار الجليدية، مثل الخدوش في حجر الأديم والصخور «المجروفة» الملقاة بعيدًا عن مكان نشأتها، يمكن العثور عليها بعيدًا عن الأنهار الجليدية الموجودة. وسرعان ما حدثت اكتشافات مماثلة في جميع أنحاء العالم، من كندا وحتى شيلي. فأصبح واضحًا أن الكوكب قد مر بسلسلة كاملة من العصور الجليدية.
ما الذي جعل الجليد يأتي ويذهب؟ في عام ١٨٦٤ اقترح جيمس كرول أن التغييرات في كم ضوء الشمس الذي يصل إلى أجزاء مختلفة من سطح الأرض، نتيجة للتغيرات في مدار الكوكب، هي المسئولة عن هذا. واقترح أيضًا أن التأثيرات المدارية ضخمتها آليات ارتجاعية متنوعة، مثل ذوبان الثلج والجليد العاكسين للحرارة، والتغيرات في تيارات المحيطات.
كثير من التفاصيل التي أوردها كرول خاطئة، لكنه كان على المسار الصحيح. في أوائل القرن العشرين استنتج عالم الفلك الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش أن ضوء شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي لا بد أن يكون العامل الأساسي، وأمضى سنوات مضنية في حساب كيف تغير هذا على مدار الستمائة ألف سنة الماضية. لم تكن أفكاره مقبولة في هذا الوقت، لكن في سبعينيات القرن العشرين أظهرت دراسات عينات رواسب المحيطات الجوفية أن حالات تقدم وتراجع العصور الجليدية تتزامن بالفعل مع «دورات ميلانكوفيتش».
مع ذلك ظل العديد من الألغاز. بداية، كانت التغيرات في أشعة الشمس طفيفة. حتى وإن كانت تضخمت بامتصاص الكوكب لمزيد من حرارة الشمس مع ذوبان الجليد والثلج، فيصعب أن تفسر كم التغيرات العالمية. الأكثر من ذلك أنه عندما تزيد أشعة شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي، فإنها تقل في نصف الكرة الجنوبي. دفع هذا كرول إلى اقتراح أن العصور الجليدية تتناوب بين نصفي الكرة؛ فعندما يتجمد الشمال يذوب الجنوب والعكس صحيح. لكن اتضح منذ وقت طويل أن العالم بأكمله كساه الدفء تقريبًا في الوقت نفسه.
بدأت الإجابات عن هذه الألغاز تظهر في ثمانينيات القرن العشرين عندما أظهرت العينات الجليدية الجوفية التي أخذت من القارة القطبية الجنوبية علاقة وطيدة مذهلة بين مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ودرجات الحرارة.
يقول جيرمي شاكون من جامعة هارفارد: «كما ترون، على مدار المليون سنة الماضية كان هذان الاثنان يصعدان ويهبطان، يصعدان ويهبطان معًا خلال كل عصر جليدي، وباتساق يكاد يكون كاملًا. إنها علاقة من أجمل ما يمكن أن تقدمه الطبيعة.»
فإذا كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون ارتفعت مباشرة بعد بدء الذوبان في الشمال، فإن هذا يفسر سبب بدء الدفء في نصف الكرة الجنوبي أيضًا. سيساعد هذا أيضًا في تفسير الكم الهائل من التغييرات. إلا أن هذه الفكرة الواعدة اصطدمت بمشكلة كبيرة؛ فمنذ نحو عقد مضى أصبح من الواضح أن القارة القطبية الجنوبية بدأت ترتفع درجة حرارتها قبل أن تبدأ مستويات ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع ببضعة قرون. لذا بينما تتسبب مستويات ثاني أكسيد الكربون المرتفعة دون أدنى شك في ارتفاع درجة حرارة الكوكب، يعتقد حاليًّا أنها مسئولة عما يقرب من نصف مقدار ارتفاع درجات الحرارة منذ نهاية العصر الجليدي؛ فهي ليست السبب المبدئي. يقول دانيال سيجمان من جامعة برينستون: «شيء آخر كان يتسبب في ارتفاع درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية.»
لغز حبوب اللقاح
لم يكن هذا هو اللغز الوحيد. ففي ثلاثينيات القرن العشرين أشارت دراسات للرواسب التي تحتوي على حبوب لقاح زهرة «درياس أوكتوبيتالا» التي تنبت في جبال الألب ونباتات أخرى أنه عندما بدأت تقريبًا درجات الحرارة في أوروبا ترتفع، انخفضت فجأة مرة أخرى. وامتدت مرحلة البرد هذه التي تسمى «درياس الأقدم» أو «فترة الغموض» من نحو ١٧٥٠٠ سنة مضت حتى ١٤٧٠٠ سنة مضت. وأظهرت عينات الجليد الجوفية فيما بعد أن جرينلاند انخفضت درجات الحرارة بها في الوقت نفسه.
مع ذلك، ارتفعت درجات الحرارة في القارة القطبية الجنوبية بانتظام خلال هذه الفترة. ويقول سيجمان: «على المقياس التفصيلي يبدو أن الجنوب ترتفع درجة الحرارة به قبل الشمال.» لكن ما الذي يجعل نصف الكرة الجنوبي ترتفع درجة حرارته في الوقت الذي تنخفض فيه في نصفها الشمالي؟ لا يمكن أن يكون هذا بسبب التغيرات المدارية أو بسبب ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون، لكن ربما يكون نتيجة تغير تيارات المحيط.
عندما بدأت غطاءات الجليد الضخمة في الذوبان منذ ١٩ ألف سنة مضت، انهمرت كميات ضخمة من المياه العذبة في شمال المحيط الأطلنطي.
وتظهر دراسات الرواسب البحرية قبالة سواحل البحر الأيرلندي، مثلًا، أن مستوى سطح البحر ارتفع هناك نحو ١٠ أمتار في غضون بضعة قرون (ساينس، المجلد ٣٠٤، ص١١٤١).
في الوقت الحالي تبرد المياه المالحة التي تصل من المنطقة الاستوائية في شمال الأطلنطي، وتصبح كثيفة للغاية وتغوص إلى القاع. وتتدفق هذه المياه العميقة الباردة نحو نصف الكرة الجنوبي، وتتدفق مياه السطح الدافئة، بما فيها تيار الخليج، شمالًا. ويطلق على نظام التيارات هذا دوران الانقلاب الطولي الأطلنطي.
عملت الكميات الهائلة من المياه العذبة التي انهمرت في المحيط منذ ١٩ ألف عام على تخفيف المياه المالحة وجعلتها أقل كثافة. النتيجة: إبطاء دوران الانقلاب. جاء الدليل في عام ٢٠٠٤ من دراسة لرواسب المحيط. فأظهرت النسبة بين عنصرين ثقيلين، التي تشير إلى سرعة التيار العميق، أن دوران الانقلاب توقف تقريبًا منذ ١٧٥٠٠ عام (نيتشر، المجلد ٤٢٨، ص٨٣٤).
كانت النتيجة نوعًا من التأثير التأرجحي. فمع حمل التيارات السطحية لكم أقل من الحرارة إلى الشمال، انخفضت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت المناطق المدارية وشبه المدارية ترتفع درجة حرارتها حيث كانت تفقد حرارة أقل لصالح الشمال. ويفسر هذا العديد من الاكتشافات المحيرة. يستطيع بطء التيار الأطلنطي أيضًا أن يساعد في تفسير لماذا ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون خلال فترة الذوبان العظيم.
في تسعينيات القرن العشرين ركز البحث عن مصدر ثاني أكسيد الكربون على المحيط الجنوبي. وأشارت النظائر في رواسب المحيط إلى تراكم مخزون ضخم من ثاني أكسيد الكربون في المياه العميقة خلال العصر الجليدي. ومن المعتقد أن هذا الغاز حُبس بسبب غياب الخلط الرأسي لمياه المحيط فضلًا عن وجود غطاء من الجليد البحري. إلا أنه في أثناء الذوبان تحرر المحيط وأطلق معظم ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي.
جاء إثبات هذا الأمر في وقت مبكر من هذا العام بفضل تحليل النظائر شديد التفصيل لثاني أكسيد الكربون المحبوس في عينات الجليد الجوفية المأخوذة من القارة القطبية الجنوبية. يقول يوخن شميت عضو فريق في جامعة برن في سويسرا: «لا بد أن ثاني أكسيد الكربون جاء من عمق المحيط.»
يسود اعتقاد واسع النطاق حاليًّا بأن زيادة الخلط الرأسي في المحيط الجنوبي وراء انبعاث ثاني أكسيد الكربون. ففي عام ٢٠٠٩، على سبيل المثال، أعلن بوب أندرسن من مرصد لامونت دوهيرتي للأرض في نيويورك أن المحيط الجنوبي شهد زيادات كبيرة في نمو العوالق بأصداف من السليكا خلال فترة «درياس الأقدم»، عندما بدأت درجة حرارة النصف الجنوبي في الارتفاع (ساينس، المجلد ٣٢٣، ص١٤٤٣). بما أن نمو هذه الكائنات محدود بمقدار السليكا الذائبة الموجودة في مياه السطح، فإن الزيادات لا بد أن تكون نتيجة لصعود المياه الغنية بالسليكا وغيرها من العناصر الغذائية.
لكن ما الذي تسبب في ذلك؟ توجد فكرتان: يشير سيجمان إلى أن درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية بدأت في الارتفاع تقريبًا في الوقت نفسه الذي ارتفعت فيه درجة حرارة المسطحات المائية جنوب خط الاستواء. إلا أن توقف التيار الأطلنطي وحده كان من المفترض أن يتسبب في رفع درجة حرارة المياه في المنطقة الاستوائية فحسب، ولكن ليس في مناطق ببعد القارة القطبية الجنوبية. في عام ٢٠٠٧ أشار فريق سيجمان إلى أنه عندما توقف الناقل الأطلنطي حل محله دوران انقلاب محلي في المياه المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية. وغاصت مياه السطح عالية الكثافة وصعدت مياه الأعماق مما أطلق الحرارة وثاني أكسيد الكربون. يقول سيجمان: «وهذا يفسر كلًّا من ارتفاع حرارة القارة القطبية الجنوبية وثاني أكسيد الكربون.»
مع ذلك يرى أندرسن وزملاؤه أن زيادة الموجات المتقلبة كان مدفوعًا بتغيرات في الرياح. تمتلك الأرض أحزمة مميزة من الرياح السائدة يحركها التفاوت في درجات الحرارة بين القطبين والمنطقة الاستوائية، مصحوبًا بدوران الكوكب. ويمكن أن تتغير مواضعها عندما يتغير التفاوت في درجات الحرارة.
خلال العصر الجليدي كان حزام الرياح الغربية في نصف الكرة الجنوبي — التي يطلق عليها البحارة رياح الأربعينيات المزمجرة نسبة إلى موقعها في دوائر العرض — من المفترض أن يكون أبعد شمالًا. إلا أن التأثير التأرجحي نقله في اتجاه الجنوب عبر المحيط الجنوبي، مما أدى إلى ارتفاع درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية وإحداث اضطراب في البحر المحيط بالقارة المتجمدة. على وجه الخصوص كان التيار الدائري الذي تدفعه الرياح سينتج موجات متقلبة أكثر في مياه في المنطقة الأكثر ضحالة بين أمريكا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية.
مع أن التفاصيل لا تزال محل جدال، إلا أن المسألة كلها تبدو الآن أكثر وضوحًا. يقول أندرسن: «لا يزال يوجد خلاف حول العمليات التي حدثت في القارة القطبية الجنوبية مع انتهاء العصر الجليدي الأخير، لكن على الأقل السمات العريضة متفق عليها إلى حد بعيد.»
في أوائل هذه السنة جمع شاكون وزملاؤه العديد من خطوط الأبحاث فضلًا عن تحليل أكثر من ٨٠ سجلًّا مختلفًا من سجلات درجات الحرارة وتكوين الغلاف الجوي على مدار ٢٢ ألف سنة مضت (نيتشر، المجلد ٤٨٤، ص٤٩). ويؤكد عملهم إلى حد بعيد تسلسل الأحداث التي أنهت العصر الجليدي، وترتيبها كالتالي:
منذ نحو ٢٠ ألف سنة أوغلت غطاءات الجليد الشمالية في الانتشار جنوبًا، حتى إن زيادة ضئيلة في مقدار أشعة الشمس أدت إلى ذوبان واسع النطاق. ونظرًا لتدفق المياه العذبة في شمال المحيط الأطلنطي توقف دوران الانقلاب، فانخفضت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي في حين ارتفعت حرارة النصف الجنوبي. وكانت هذه التغيرات غالبًا نتيجة لإعادة توزيع الحرارة، ومنذ ١٧٥٠٠ سنة ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بنحو ٠٫٣ درجة مئوية فقط.
تسببت الرياح المتغيرة أو التيارات المتغيرة، أو كلاهما، في رفع المياه الأكثر عمقًا إلى السطح في المحيط الجنوبي، مما أدى إلى خروج ثاني أكسيد الكربون الذي كان محبوسًا لآلاف السنين. ومع ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لأكثر من ١٩٠ جزءًا في المليون، بدأت ترتفع درجة حرارة الكوكب بأكمله. وكان أقصى الشمال أبطأ أجزاء الكوكب استجابة، لكن منذ ما يقرب من ١٥ ألف سنة عندما اقتربت مستويات ثاني أكسيد الكربون من ٢٤٠ جزءًا في المليون وزادت سرعة دوران الانقلاب الأطلنطي مرة أخرى، بدأت درجات الحرارة ترتفع سريعًا. وكان لانتعاش دوران الانقلاب تأثير عكسي في نصف الكرة الجنوبي؛ فتوقف ارتفاع درجة الحرارة وانبعاث ثاني أكسيد الكربون.
منذ ما يقرب من ١٢٩٠٠ عام، حدث التأثير التأرجحي مرة أخرى. فهبطت درجات الحرارة في دوائر العرض الشمالية فجأة، وظلت باردة لمدة نحو ١٣٠٠ سنة. ويعتقد أن نوبة الصقيع هذه، التي يطلق عليها «درياس الأصغر»، سببتها بحيرة ضخمة من المياه الذائبة في أمريكا الشمالية، كان يوجد بها كمية من المياه تفوق الموجودة في البحيرات العظمى مجتمعة، التي فاضت فجأة في المحيط الأطلنطي فأوقفت دوران الانقلاب مرة أخرى.
في هذه الأثناء، بدأ المحيط الجنوبي يطلق ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى. وارتفعت نسبته في الغلاف الجوي إلى ٢٦٠ جزءًا في المليون، مما تسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب بأكمله سريعًا على مدار الألفيتين التاليتين. ومنذ ما يقرب من ١٠ آلاف سنة، تغير شكل الأرض. فتراجع الجليد، وارتفع منسوب البحار وبدأ أسلافنا يتعلمون كيفية الزراعة.
مع ذلك، لم ينتهِ العصر الجليدي فعليًّا. فقد تقدم الجليد وتراجع مرات عديدة على مدار ملايين من السنين الماضية، لكن بقي بعض الجليد دومًا في القطبين. ومع ذلك، ربما لن يستمر ذلك وقتًا طويلًا. فقد تطلب ذوبان الغطاءات الجليدية الضخمة التي كانت تغطي في وقت من الأوقات أوراسيا وأمريكا، ارتفاعًا بسيطًا في أشعة الشمس وزيادة تدريجية في ثاني أكسيد الكربون بمقدار ٧٠ جزءًا في المليون فحسب. ومنذ بزوغ شمس العصر الصناعي ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون بنحو ١٣٠ جزءًا في المليون وما زالت في تصاعد. وإن لم نكن قد أطلقنا في الغلاف الجوي بالفعل كمية من ثاني أكسيد الكربون تكفي لإذابة الغطاءات الجليدية التي تغطي جرين لاند والقارة القطبية الجنوبية، فربما نفعل قريبًا.
لحسن حظنا ربما يستغرق اختفاء آخر الغطاءات الجليدية الضخمة تمامًا آلاف السنين. وإن حدث هذا، فربما يجد عمال البناء في القارة القطبية الجنوبية أخاديد هائلة في صخر الأديم نحتتها المياه الذائبة، ويتفكرون في تحول جذري آخر للكوكب.
مجلة نيو ساينتيست، المجلد ٢١٦، العدد ٢٨٨٩، الصفحات ٣٢–٣٥
٣ نوفمبر ٢٠١٢