دأبت البشرية عبر تاريخا الطويل على اجتراح نهج تعارض به النهج الإلهي في المعرفة ، فالحق سبحانه بين لعباده نهج المعرفة الحق بهم أي بصفحات وجودهم حيث قال تعالى{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الروم/30) ففطرة الله التي فطر عليها الناس كلهم هي (فأقم وجهك للدين حنيفا) والحنف هو الميلان ، والميلان هنا واضح دلالته كونه مسبوق بالأمر بإقامة الوجه ، فلا يكون الوجه مقاما في الباطل أو في الأهواء ، بل هو في الأهواء مائل ، ولذلك أمر بالإقامة ، والميل عن الهوى لأن كما يقال (نفي النفي إثبات) فالميل عن الميل هو استقامة ،
فصفحة وجود الإنسان مزودة بكل ما يجعلها عارفة بالحق ومتوجهة إليه وليس على صاحب الصفحة إلا النظر فيها والعمل على وفق ما سطر فيها من أمور دالة على إقامة الوجه ، واستناداً إلى ذلك نفهم أن الله سبحانه لو لم يبعث نبيا ولا رسولا يدعو الناس إلى نفسه ، ولكنه جعله بينهم هكذا دون أن يدعو لكان على الناس واجب معرفته استنادا إلى ما سطر في صفحة وجودهم (ليس العلم في السماء فينزل لكم ولا في الأرض فيخرج إليكم إنما العلم في أنفسكم فاستفهموا الله يفهمكم) فكون وجود رسول في كل أمة هذا من لوازم الفطرة ولو كان المرء نظر بفطرته لعرف أن هذا قانون إلهي لا يتبدل ولا يتغير ثابت ما ثبتت الفطرة ، ولذا يكون عليه واجب البحث عن هذا الرسول حتى يلقاه ويأخذ عنه تماما كما هي مسيرة سلمان المحمدي(ع) حيث أدرك بالفطرة بطلان ما عليه آباؤه في عبادة النار وخرج يطلب ربه سبحانه استجابة لنداء فطرته ، حتى أوصله نداء الفطرة إلى غايته وبغيتها وهو محمد(ص) رسول الحق ، وهذا يعني أننا لو نظرنا بفطرتنا التي فطرنا الله عليها لرأينا بأم أعيننا أسماء وأوصاف وكل ما يتعلق بحجة الله في زمننا ولعرفناه بالبحث عنه ولا ننتظر هو من يدعونا إليه ، ولكن من رحمة الله بنا نحن العباد الغافلين أن جعل حجته يذكرنا ويدعونا لنفسه ، ولو بقي صامتا لهلكنا وأقيمت علينا الحجة .
وعلى الرغم من هذه الرحمة الإلهية العظيمة بتكليف حجته الموصوف في فطرة الخلق بالدعوة لنفسه وتعريف الناس به ، نجد الناس تعرض عن هذه الرحمة الإلهية وتنزع إلى دين الآباء والأجداد وهو دين نحتته الآراء والأهواء والعادات والتقاليد والأعراف ، فليس في كتاب الله ولا عترة نبيه(ص) أن يتوجه الناس إلى الفقهاء لأخذ دينهم ، بل إن وصية رسول الله(ص) للناس كافة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بأن مصادر تلقي الدين هما مصدران لا ثالث لهما (القرآن والعترة) وما عداهما فهو ابتداع من جهة ، ومن جهة أخرى اتهام لرسول الله(ص) ـ وحاشاه ـ أنه لم يضع الأمة على منهاج الهدى فترك لها نهجا معرفيا ومصادر تلقٍ ناقصة ، ولذلك لم يجد الفقهاء الذين جاؤوا بعده بداً من تكميلها!!! ولا أظن أن نصف عاقل يقول بهذا القول فضلا على العاقل ، ولكننا على الرغم من ذلك وجدنا في مسيرة أمة خاتم الأنبياء(ص) ـ الذي ينبغي أن تكون قد فهمت أن مسؤوليتها أعظم ممن سبقها لأنها انكشف لها ما لم يكشف لمن سبقها ـ أزمانا وقعت فيها الأمة في مستنقع الصنمية ، ويا للأسف حين نراها تحذو حذو من سبقها في العمل على بعث نهج الصنمية كلما وجدت لذلك مندوحة تؤسس فيها لصورة جديدة من هذا المنهج العقيم ، فمن صنمية الأحجار ، إلى صنمية التجسيم الذي وقع فيه دعاة السلفية حينما ابتدعوا سبيلا اجترحوه من عند أنفسهم بعد أن عطلوا سبيل الله سبحانه ، متجاهلين قول الحق سبحانه{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(النساء/150) الذي يصف حالهم وصفا دقيقاً ، وصولا اليوم إلى النهج اليهودي في الصنمية ألا وهو صنمية الفقهاء (المراجع) التي وقع بها من يدَّعون الانتماء إلى مدرسة الطاهرين آل محمد(ص) الذين كان ينبغي عليهم ولوضوح وبيان ما لديهم من منهج التوحيد أن يكونوا أبعد الناس عن الانزلاق في مستنقع الصنمية ، ولكن فقهاء الضلالة ما إن يجدون فترة يغيب فيها حجة الله من بين ظهراني الناس وهي فترة لاختبار الناس وابتلائهم فيما سطر بفطرتهم ، حتى يقفزوا إلى الساحة ليعيدوا الحياة إلى منهج الصنمية ويقومون بنفخ الروح فيه من جديد ليتنفس بصدور الناس ، ويعبث بفطرتهم ويجعلها تنتكس بعد أن كانت على وضعها الصحيح ، ولكي يقوم فقهاء الضلالة بذلك يشرعون في جملة من الأعمال منها :
1- العمل على تجهيل القاعدة بأمور الدين والعمل على حضهم للانغماس في الدنيا وطلبها بداعي أن الساعي على رزق عياله هو كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، وداعي (قل من حرم زينة الله) ، وداعي أن التفقه في الدين هو مقتصر على جماعة ولم يكلف به كل الناس ، وما إلى ذلك من النصوص المتشابهة التي تحتمل معان كثيرة وتأويلها يكون بحسب ما صدر من أهل الذكر وهم آل محمد(ص) العلماء الذين أمرنا الله سبحانه بالرجوع إليهم والأخذ عنهم ، قال تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(الأنبياء/7) ، فينجح أولئك الفقهاء في بناء الجدار الأول بين الناس والدين وأهل الدين الحق ، ويصير لدى الناس فهم أن العامة يعملون للدنيا ، ودينهم يتكفل به الفقهاء وهم الخاصة الذين (نذروا) أنفسهم لهذا السبيل ، وبانطلاء هذه الخدعة على الناس يصبح الجانب الديني في قلوب الناس مظلما تماما ، ومن هنا يبدأ الفقهاء خطوتهم الثانية .
2- بعد أن نجح الفقهاء في عزل العامة عن الدين عزلا يتيح لهم اللعب على راحتهم من دون أن يراهم أو ينظر إليهم أحد من العامة ، يبدؤون في رسم نظام العمل القائم على إسباغ المسميات والمصطلحات على شخوصهم وابتداع الألقاب ، أو السطو على ألقاب الأولياء وإسباغها على أولئك بوصفهم العاملين على ذات النهج ، وهذا العمل يحتاج إلى ناعقين يحملونه إلى العامة كي يتحقق المراد منه ، فاصطنعوا الجدار الثاني بذريعة أن الدين يحتاج إلى أناس ينذرون أنفسهم لخدمة طلبة العلم ، وهؤلاء لهم أجر مثل أجر من يخدمونهم ، ومن هنا بدأ تأسيس (شلة الحبربشية) وأعتذر عن استخدام هذا المصطلح الدارج ولكنه الأنسب في وصف هذه الطبقة ، وبالفصيح يوصفون بفرقة الطبالين والزمارين الذين كلما احتاج الفقهاء (المراجع) أمرا نفخوه في أذن هذه الفرقة وهي راحت تذيعه بين الناس ، فأول ما يظهر كإشاعة مفقودة المصدر ولكنه بالشياع يصبح حقيقة واقعة (والشياع) لدى أولئك الفقهاء من المصطلحات المبتدعة التي استندوا إليها في الترويج لبدعة التقليد بوصفهم حماة الدين ، وجعلوا من فرقة الطبالين تركزها بأذهان الناس العامة إنها من سبل المعرفة الصحيحة ، وما يثبت بـ(الشياع) يكون ثابت بالشرع ، ومن هذه المصطلحات المجترحة بدأ العمل حتى صار دينا لا يعرف العامة غيره ، وصاروا يتوهمونه هو الدين الحق ، ونجح الفقهاء في أن يكونوا هم ميزان الدين وليس الدينالحق ميزانا يوزن به العالم العامل من غيره ليستبين من يدعو للحق ، ومن يدعو للباطل ، بل صار ما هو أعظم وهو المرحلة الثالثة .
3- العمل على محاصرة كل فقيه تقي ورع ، وتهديده بأن يختار الصمت أو يقتل بإسقاط شخصيته بين العامة أو تصفيته بدنيا ، أو بالاستعانة بالطاغوت لتصفيته ، وهذه المرحلة هي من أخطر المراحل ولذلك يعمل فقهاء الضلالة على مد جسور اللقاء السرية بينهم وبين سلطة الطاغوت ليجعلوه جسرا لمرادهم وبالمقابل هم يجعلون أنفسهم جسرا لمراداته ، وبهذا الاتفاق الخطير بين أولئك الفقهاء الفاسدين (المراجع) ، وسلطة الطاغوت يبدأ العمل بتصفية العلماء العاملين الذي لا يذعنون للتهديد ، ورأينا على ذلك أدلة واضحة لا تحتاج إلى دقيق نظر ، فهذا السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) سلمته المؤسسة الدينية وبطيب خاطر بيد الطاغوت (صدام) لعنه الله ليصفيه جسديا بعد أن أعيتهم الحيل في ترويضه ، بل وفي فترة مشحونة بالتحول الخطير الذي نشهده رأى العامة بأم أعينهم حركة تصفية لم يشهدها تاريخ التشيع هكذا شاهرا ظاهرا فقتل عدد من الفقهاء في فترة زمنية متقاربة جدا منهم ؛ البروجردي ، والغروي ، وبعد عمل مكثف وجهد جهيد في إسقاط شخصيته وإشاعة الأباطيل عنه بين العامة لحق هذه القافلة السيد محمد محمد صادق الصدر(رحمه الله) الذي كان الوحيد في وقته الذي رفض ما حاولت تلك المرجعيات الفاسدة فرضه عليه ، بل وصدع يبين فساد تلك المؤسسة واقترابها من الانهيار ، وعمل على إعادة الاعتبار لعدد من الأمور التي هي من دين الحق الذي حاول الفقهاء طمسه وإجهاضه ، بل لعل أهم الأمور التي عمل على التركيز عليها وأذاب الجليد فيها من ذاكرة الناس هي قضية الإمام المهدي(ص) التي قاربت المرجعية الفاسدة على إغلاق صفحتها المشرقة لولا نهوض هذا العالم العامل بهذا الأمر ، ولكن الأمر أعظم من ذلك بكثير ، والفساد الذي أحدثه أولئك المراجع في هذه المؤسسة ـ التي كان ينبغي أن تكون قلعة للدفاع عن الحق وبيانه للناس ، فتحولت إلى دهليز للفساد مرعب ـ أكبر وأخطر من أن يقوم بإصلاحه فقيه عامل كالسيد الصدر(رحمه الله) قبال فوج من الفقهاء الضالين وحواشيهم الناعقين ، حتى أن عدداً من المخدوعين من الناس الذين دخلوا إلى هذه المؤسسة أصيبوا بصدمة كبيرة من جراء الفساد المهول الذي شاهدوه فخرجوا منها إما بأمراض نفسية لم يتعالجوا منها ، أو أرغموا على السكوت بداعي الحفاظ على أسرار المذهب من الأعداء ، وبهذه الفرية المسوقة على الناس (المحافظة على أسرار المذهب) أسكت فقهاء السوء كل لسان يريد وصف حال تلك المؤسسة من الداخل واستعدوا عليه العامة ، فإذا لم يسكت سلطوا عليه كلابهم كي ينهشوه في وضح النهار .
وببلوغ هذه المرحلة تصل هذه المؤسسة إلى النقطة التي تم بها عزل العامة عن الدين عزلا تاما ، وصارت العامة ترى أن الدين يسكن هذه المؤسسة ولذلك فعينها دائما عليها ، ومنها تتلقى دينها حتى وصل الحال بزمرة من خطباء المنابر الذين هم جوقة من جوقات الطبالين والمزمرين للمرجعية الفاسدة يقول بلسان غريب (لو أن الإمام المهدي(ص) جاءني وقال لي أنا الإمام وعرفته تماما فسأقول له أعذرني مولاي لابد أن آخذ إذن من المرجعية وأسألهم عن أمركم)؟؟؟!! هل هناك انحراف وضلال أشد من ذلك الانحراف والضلال ، بعد أن أوصلوا الناس إلى هذه المرحلة المزرية من العبادة القبيحة ، التي هي قطعا ليست عبادة الله الواحد الأحد .
لماذا الآن وفي هذا الوقت عمل أولئك الفقهاء على إحياء نهج الصنمية من جديد؟؟!!
ربما الواقع اليوم يجيب على هذا السؤال بوضوح تام ، فهذه المؤسسة لا تصل إلى هذا الحال المزري في استعباد الناس إلا إذا صار ثابتا لديها باليقين أنها في زمن ظهور الإمامالمهدي(ص) وهو الزمن الذي تنهار به هذه المؤسسة التي عمل الفقهاء على بنائها كي تستمر فيهم وفي أحفادهم ، كما هي المؤسسات الدينية الأخرى التابعة للفرق الأخرى أو الأديان الأخرى ، فكل مجموعة من الفقهاء تحصنت داخل منظومة من الأفكار والآراء أشاعت بين الناس أنها هي الحق ودين الله وما سواه باطل ، وعلى العامة أن تتمسك بما يصدر من أولئك حتى وإن كان متناقضا واضح التناقض كما في مقالة النصارى (أن الأقانيم الثلاثة كل أقنوم هو حقيقة بذاته منفصلة عن الأقنومين الآخرين من جهة ومن جهة هذه الأقانيم واحد حقيقي وعلى الناس أن تؤمن بذلك لأن هذا الإيمان فوق إدراك العقول ولذا لا يصح النظر له بالعقول) وهذه لاشك في أنه مصادرة واضحة على المطلوب ، كيف يطالب الإنسان هكذا بالإيمان دون حصول أدنى معرفة أو بالرضا بمعرفة واضحة التناقض ، فمن أين يكونون ثلاثة وبنفس الوقت يكونون واحدا أحدا؟؟ هل يقول بذلك منصف يحترم إنسانيته؟؟
نعم بهذا المنهج العقيم نصبوا أنفسهم أصناما تعبد من دون الله سبحانه ، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال : [إياكم والتقليد ، فإنه من قلد في دينه هلك ، إن الله تعالى يقول {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً ، فقلدوهم في ذلك فعبدوهم وهم لا يشعرون](تصحيح الاعتقاد – للشيخ المفيد: 73) وهذه الرواية الشريفة تعد دليلا كافيا وافيا لأي منصف يحترم إنسانيته أن هذه المؤسسات الدينية سواء منها اليهودية أو النصرانية أو الإسلامية ما هي إلا مؤسسات تعتاش على منهج الصنمية العقيم الذي أضل الناس عن دعاة الحق ، وحقق عليهم ما تمناه الشيطان(لع) حيث ذكر الحق طلبه بقوله تعالى{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف/14-17) .
فصفحة وجود الإنسان مزودة بكل ما يجعلها عارفة بالحق ومتوجهة إليه وليس على صاحب الصفحة إلا النظر فيها والعمل على وفق ما سطر فيها من أمور دالة على إقامة الوجه ، واستناداً إلى ذلك نفهم أن الله سبحانه لو لم يبعث نبيا ولا رسولا يدعو الناس إلى نفسه ، ولكنه جعله بينهم هكذا دون أن يدعو لكان على الناس واجب معرفته استنادا إلى ما سطر في صفحة وجودهم (ليس العلم في السماء فينزل لكم ولا في الأرض فيخرج إليكم إنما العلم في أنفسكم فاستفهموا الله يفهمكم) فكون وجود رسول في كل أمة هذا من لوازم الفطرة ولو كان المرء نظر بفطرته لعرف أن هذا قانون إلهي لا يتبدل ولا يتغير ثابت ما ثبتت الفطرة ، ولذا يكون عليه واجب البحث عن هذا الرسول حتى يلقاه ويأخذ عنه تماما كما هي مسيرة سلمان المحمدي(ع) حيث أدرك بالفطرة بطلان ما عليه آباؤه في عبادة النار وخرج يطلب ربه سبحانه استجابة لنداء فطرته ، حتى أوصله نداء الفطرة إلى غايته وبغيتها وهو محمد(ص) رسول الحق ، وهذا يعني أننا لو نظرنا بفطرتنا التي فطرنا الله عليها لرأينا بأم أعيننا أسماء وأوصاف وكل ما يتعلق بحجة الله في زمننا ولعرفناه بالبحث عنه ولا ننتظر هو من يدعونا إليه ، ولكن من رحمة الله بنا نحن العباد الغافلين أن جعل حجته يذكرنا ويدعونا لنفسه ، ولو بقي صامتا لهلكنا وأقيمت علينا الحجة .
وعلى الرغم من هذه الرحمة الإلهية العظيمة بتكليف حجته الموصوف في فطرة الخلق بالدعوة لنفسه وتعريف الناس به ، نجد الناس تعرض عن هذه الرحمة الإلهية وتنزع إلى دين الآباء والأجداد وهو دين نحتته الآراء والأهواء والعادات والتقاليد والأعراف ، فليس في كتاب الله ولا عترة نبيه(ص) أن يتوجه الناس إلى الفقهاء لأخذ دينهم ، بل إن وصية رسول الله(ص) للناس كافة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بأن مصادر تلقي الدين هما مصدران لا ثالث لهما (القرآن والعترة) وما عداهما فهو ابتداع من جهة ، ومن جهة أخرى اتهام لرسول الله(ص) ـ وحاشاه ـ أنه لم يضع الأمة على منهاج الهدى فترك لها نهجا معرفيا ومصادر تلقٍ ناقصة ، ولذلك لم يجد الفقهاء الذين جاؤوا بعده بداً من تكميلها!!! ولا أظن أن نصف عاقل يقول بهذا القول فضلا على العاقل ، ولكننا على الرغم من ذلك وجدنا في مسيرة أمة خاتم الأنبياء(ص) ـ الذي ينبغي أن تكون قد فهمت أن مسؤوليتها أعظم ممن سبقها لأنها انكشف لها ما لم يكشف لمن سبقها ـ أزمانا وقعت فيها الأمة في مستنقع الصنمية ، ويا للأسف حين نراها تحذو حذو من سبقها في العمل على بعث نهج الصنمية كلما وجدت لذلك مندوحة تؤسس فيها لصورة جديدة من هذا المنهج العقيم ، فمن صنمية الأحجار ، إلى صنمية التجسيم الذي وقع فيه دعاة السلفية حينما ابتدعوا سبيلا اجترحوه من عند أنفسهم بعد أن عطلوا سبيل الله سبحانه ، متجاهلين قول الحق سبحانه{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(النساء/150) الذي يصف حالهم وصفا دقيقاً ، وصولا اليوم إلى النهج اليهودي في الصنمية ألا وهو صنمية الفقهاء (المراجع) التي وقع بها من يدَّعون الانتماء إلى مدرسة الطاهرين آل محمد(ص) الذين كان ينبغي عليهم ولوضوح وبيان ما لديهم من منهج التوحيد أن يكونوا أبعد الناس عن الانزلاق في مستنقع الصنمية ، ولكن فقهاء الضلالة ما إن يجدون فترة يغيب فيها حجة الله من بين ظهراني الناس وهي فترة لاختبار الناس وابتلائهم فيما سطر بفطرتهم ، حتى يقفزوا إلى الساحة ليعيدوا الحياة إلى منهج الصنمية ويقومون بنفخ الروح فيه من جديد ليتنفس بصدور الناس ، ويعبث بفطرتهم ويجعلها تنتكس بعد أن كانت على وضعها الصحيح ، ولكي يقوم فقهاء الضلالة بذلك يشرعون في جملة من الأعمال منها :
1- العمل على تجهيل القاعدة بأمور الدين والعمل على حضهم للانغماس في الدنيا وطلبها بداعي أن الساعي على رزق عياله هو كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، وداعي (قل من حرم زينة الله) ، وداعي أن التفقه في الدين هو مقتصر على جماعة ولم يكلف به كل الناس ، وما إلى ذلك من النصوص المتشابهة التي تحتمل معان كثيرة وتأويلها يكون بحسب ما صدر من أهل الذكر وهم آل محمد(ص) العلماء الذين أمرنا الله سبحانه بالرجوع إليهم والأخذ عنهم ، قال تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(الأنبياء/7) ، فينجح أولئك الفقهاء في بناء الجدار الأول بين الناس والدين وأهل الدين الحق ، ويصير لدى الناس فهم أن العامة يعملون للدنيا ، ودينهم يتكفل به الفقهاء وهم الخاصة الذين (نذروا) أنفسهم لهذا السبيل ، وبانطلاء هذه الخدعة على الناس يصبح الجانب الديني في قلوب الناس مظلما تماما ، ومن هنا يبدأ الفقهاء خطوتهم الثانية .
2- بعد أن نجح الفقهاء في عزل العامة عن الدين عزلا يتيح لهم اللعب على راحتهم من دون أن يراهم أو ينظر إليهم أحد من العامة ، يبدؤون في رسم نظام العمل القائم على إسباغ المسميات والمصطلحات على شخوصهم وابتداع الألقاب ، أو السطو على ألقاب الأولياء وإسباغها على أولئك بوصفهم العاملين على ذات النهج ، وهذا العمل يحتاج إلى ناعقين يحملونه إلى العامة كي يتحقق المراد منه ، فاصطنعوا الجدار الثاني بذريعة أن الدين يحتاج إلى أناس ينذرون أنفسهم لخدمة طلبة العلم ، وهؤلاء لهم أجر مثل أجر من يخدمونهم ، ومن هنا بدأ تأسيس (شلة الحبربشية) وأعتذر عن استخدام هذا المصطلح الدارج ولكنه الأنسب في وصف هذه الطبقة ، وبالفصيح يوصفون بفرقة الطبالين والزمارين الذين كلما احتاج الفقهاء (المراجع) أمرا نفخوه في أذن هذه الفرقة وهي راحت تذيعه بين الناس ، فأول ما يظهر كإشاعة مفقودة المصدر ولكنه بالشياع يصبح حقيقة واقعة (والشياع) لدى أولئك الفقهاء من المصطلحات المبتدعة التي استندوا إليها في الترويج لبدعة التقليد بوصفهم حماة الدين ، وجعلوا من فرقة الطبالين تركزها بأذهان الناس العامة إنها من سبل المعرفة الصحيحة ، وما يثبت بـ(الشياع) يكون ثابت بالشرع ، ومن هذه المصطلحات المجترحة بدأ العمل حتى صار دينا لا يعرف العامة غيره ، وصاروا يتوهمونه هو الدين الحق ، ونجح الفقهاء في أن يكونوا هم ميزان الدين وليس الدينالحق ميزانا يوزن به العالم العامل من غيره ليستبين من يدعو للحق ، ومن يدعو للباطل ، بل صار ما هو أعظم وهو المرحلة الثالثة .
3- العمل على محاصرة كل فقيه تقي ورع ، وتهديده بأن يختار الصمت أو يقتل بإسقاط شخصيته بين العامة أو تصفيته بدنيا ، أو بالاستعانة بالطاغوت لتصفيته ، وهذه المرحلة هي من أخطر المراحل ولذلك يعمل فقهاء الضلالة على مد جسور اللقاء السرية بينهم وبين سلطة الطاغوت ليجعلوه جسرا لمرادهم وبالمقابل هم يجعلون أنفسهم جسرا لمراداته ، وبهذا الاتفاق الخطير بين أولئك الفقهاء الفاسدين (المراجع) ، وسلطة الطاغوت يبدأ العمل بتصفية العلماء العاملين الذي لا يذعنون للتهديد ، ورأينا على ذلك أدلة واضحة لا تحتاج إلى دقيق نظر ، فهذا السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) سلمته المؤسسة الدينية وبطيب خاطر بيد الطاغوت (صدام) لعنه الله ليصفيه جسديا بعد أن أعيتهم الحيل في ترويضه ، بل وفي فترة مشحونة بالتحول الخطير الذي نشهده رأى العامة بأم أعينهم حركة تصفية لم يشهدها تاريخ التشيع هكذا شاهرا ظاهرا فقتل عدد من الفقهاء في فترة زمنية متقاربة جدا منهم ؛ البروجردي ، والغروي ، وبعد عمل مكثف وجهد جهيد في إسقاط شخصيته وإشاعة الأباطيل عنه بين العامة لحق هذه القافلة السيد محمد محمد صادق الصدر(رحمه الله) الذي كان الوحيد في وقته الذي رفض ما حاولت تلك المرجعيات الفاسدة فرضه عليه ، بل وصدع يبين فساد تلك المؤسسة واقترابها من الانهيار ، وعمل على إعادة الاعتبار لعدد من الأمور التي هي من دين الحق الذي حاول الفقهاء طمسه وإجهاضه ، بل لعل أهم الأمور التي عمل على التركيز عليها وأذاب الجليد فيها من ذاكرة الناس هي قضية الإمام المهدي(ص) التي قاربت المرجعية الفاسدة على إغلاق صفحتها المشرقة لولا نهوض هذا العالم العامل بهذا الأمر ، ولكن الأمر أعظم من ذلك بكثير ، والفساد الذي أحدثه أولئك المراجع في هذه المؤسسة ـ التي كان ينبغي أن تكون قلعة للدفاع عن الحق وبيانه للناس ، فتحولت إلى دهليز للفساد مرعب ـ أكبر وأخطر من أن يقوم بإصلاحه فقيه عامل كالسيد الصدر(رحمه الله) قبال فوج من الفقهاء الضالين وحواشيهم الناعقين ، حتى أن عدداً من المخدوعين من الناس الذين دخلوا إلى هذه المؤسسة أصيبوا بصدمة كبيرة من جراء الفساد المهول الذي شاهدوه فخرجوا منها إما بأمراض نفسية لم يتعالجوا منها ، أو أرغموا على السكوت بداعي الحفاظ على أسرار المذهب من الأعداء ، وبهذه الفرية المسوقة على الناس (المحافظة على أسرار المذهب) أسكت فقهاء السوء كل لسان يريد وصف حال تلك المؤسسة من الداخل واستعدوا عليه العامة ، فإذا لم يسكت سلطوا عليه كلابهم كي ينهشوه في وضح النهار .
وببلوغ هذه المرحلة تصل هذه المؤسسة إلى النقطة التي تم بها عزل العامة عن الدين عزلا تاما ، وصارت العامة ترى أن الدين يسكن هذه المؤسسة ولذلك فعينها دائما عليها ، ومنها تتلقى دينها حتى وصل الحال بزمرة من خطباء المنابر الذين هم جوقة من جوقات الطبالين والمزمرين للمرجعية الفاسدة يقول بلسان غريب (لو أن الإمام المهدي(ص) جاءني وقال لي أنا الإمام وعرفته تماما فسأقول له أعذرني مولاي لابد أن آخذ إذن من المرجعية وأسألهم عن أمركم)؟؟؟!! هل هناك انحراف وضلال أشد من ذلك الانحراف والضلال ، بعد أن أوصلوا الناس إلى هذه المرحلة المزرية من العبادة القبيحة ، التي هي قطعا ليست عبادة الله الواحد الأحد .
لماذا الآن وفي هذا الوقت عمل أولئك الفقهاء على إحياء نهج الصنمية من جديد؟؟!!
ربما الواقع اليوم يجيب على هذا السؤال بوضوح تام ، فهذه المؤسسة لا تصل إلى هذا الحال المزري في استعباد الناس إلا إذا صار ثابتا لديها باليقين أنها في زمن ظهور الإمامالمهدي(ص) وهو الزمن الذي تنهار به هذه المؤسسة التي عمل الفقهاء على بنائها كي تستمر فيهم وفي أحفادهم ، كما هي المؤسسات الدينية الأخرى التابعة للفرق الأخرى أو الأديان الأخرى ، فكل مجموعة من الفقهاء تحصنت داخل منظومة من الأفكار والآراء أشاعت بين الناس أنها هي الحق ودين الله وما سواه باطل ، وعلى العامة أن تتمسك بما يصدر من أولئك حتى وإن كان متناقضا واضح التناقض كما في مقالة النصارى (أن الأقانيم الثلاثة كل أقنوم هو حقيقة بذاته منفصلة عن الأقنومين الآخرين من جهة ومن جهة هذه الأقانيم واحد حقيقي وعلى الناس أن تؤمن بذلك لأن هذا الإيمان فوق إدراك العقول ولذا لا يصح النظر له بالعقول) وهذه لاشك في أنه مصادرة واضحة على المطلوب ، كيف يطالب الإنسان هكذا بالإيمان دون حصول أدنى معرفة أو بالرضا بمعرفة واضحة التناقض ، فمن أين يكونون ثلاثة وبنفس الوقت يكونون واحدا أحدا؟؟ هل يقول بذلك منصف يحترم إنسانيته؟؟
نعم بهذا المنهج العقيم نصبوا أنفسهم أصناما تعبد من دون الله سبحانه ، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال : [إياكم والتقليد ، فإنه من قلد في دينه هلك ، إن الله تعالى يقول {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً ، فقلدوهم في ذلك فعبدوهم وهم لا يشعرون](تصحيح الاعتقاد – للشيخ المفيد: 73) وهذه الرواية الشريفة تعد دليلا كافيا وافيا لأي منصف يحترم إنسانيته أن هذه المؤسسات الدينية سواء منها اليهودية أو النصرانية أو الإسلامية ما هي إلا مؤسسات تعتاش على منهج الصنمية العقيم الذي أضل الناس عن دعاة الحق ، وحقق عليهم ما تمناه الشيطان(لع) حيث ذكر الحق طلبه بقوله تعالى{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف/14-17) .
Comment