الإمام أحمد الحسن مرة أخرى
قالَ ليَ المحبوبُ لمّا زرتُهُ
مَن ببابي ؟ قلتُ ؛ بالبابِ أنا
قالَ لي ؛ أخطأتَ توحيد الهوى
حينما فرّقتَ فيه بيننا
ومضى عامٌ ، فلمّا جئتُهُ
أطرقُ الباب عليه موهنا
قالَ لي ؛ مَن أنتَ ؟ قلتُ ؛ انظر فما
ثمَّ إلا أنتَ بالباب هنا
قال لي ؛ أدركتَ تعريف الهوى
وعرفتَ الحبَّ ، فادخل يا أنا
سعدي الشيرازي
أراني مجدّدا أكتب عنك لا أريد سوى وجه الله ، وأيّ وجهةٍ غيره ليست سوى محظ هباء ..
يا أبا العبّاس ؛ جنيتُ على نفسي ، إن تناولتكَ ، يا سيدي ، بسوء ، فما أنتَ بمتّهمٍ عندي ، ولا بذي رغبةٍ في الدنيا ، لتسعى ، هائمَ اللبّ إليها ، تجمع من أقطاب الأرض أنصاراً ، لتبني على انخطاف أعمارهم مجدك ..
فما المجد لديكَ سوى إقبالُ وجهه إليك ، ودنوّه لدنوّك ، فالوصلُ مناك ، والهجر والقلى هلاككَ - يا نقيّ القلب - وبلواك ..
لكنها شطحاتُ السّالكين ، لم يسلم منها أفذاذٌ مرّوا ، لا شكّ تعرفهمْ ، وتعرفُ كيف السّكر غيّبَهم عنهم ، فباحوا بما لا يُقال ، وتغيّرت بهم الأحوال ، وتنقلوا في المَقامات والمنازل ، حتى وصلوا غاية الفناء ، وحملتهم بأكفّ حنوّها بُسُط البقاء ..
كيف ، لعمري ، يعودون ؟ وهم لا مُقام يسعهم ولا رحيل ..
أتذكُرُ ، يا سيدي ، طه ؟ ..
صبيٌ ما تجاوز العاشرة من العمر ..
أليسَ وهماً صَلاتنا خلفهُ ، استسلمتَ وبعضا منّا ، أنصار اللهِ ، إليه ؟! ..
كيف لنا ان نفهم هذا دون الإفتراض بأنّ السالك ، مهما تجرّدَ من أناه ، ليس بمعزل عن التّيه في أودية الأوهام ؟...
سيدي وشيخي أحمد الحسن ؛ نفسُكَ حبسُك ، فنحنُ بنا وإن توهّمنا فنائنا عنّا ، فلا أنا ، لا أنتَ تدري ، أيّة دروبٍ خفيّة تسلكها النفسُ ، لتوقعنا في شرَك البعد متّخذاً هيئة قربْ ، فألف وجهٍ ووجهٍ لها ...
لستَ ، يا منخلع الفؤاد شوقا لمولاكَ ، أولُ من مسّه الوهمُ ، ولستَ ، لا شكّ ، آخرهم ، فهذا الدرب مسكون بالأسرار وبالأغيار ، حيث لا مكان للغير إن أردنا الوصول ، ولا وصول ...
ألستَ غيره ؟! .. فكيف تسير إليه بغيره ؟!...
أتعرفُ ، يا سيدي ، نقاء عمق قرة العين الطاهرة ؟..
أتعرف انقطاعها عنها وعن الدنيا بأسرها ميمّمة عين القلب شطر كعبة المحبوب ، لا ترى من أحدٍ سواه ؟!
أتعرفُ ، رغمَ ذا ، لم تسلم من الوهم يلتهمُ ، دونما شفقةٍ ، نضارة شبابها ، لتنتهي شنقا ، وما تخلتْ عن اعتقادها بمهدوية الباب وقائميته ..
الباب لم يكن دجّالا ، إنما كان واهماً ، برغم كل تقواه وصلاحه وحسن سريرته ..
الرؤى والكشف أوحيا إليه ، في بدء الأمر ، بأنه المصطفى من الخلق ليكون باباً للقائم ، ومعراجا للوصول إليه ، ثم اصّاعدَ الوهمُ فيه موحيا إليه بأنه هو ذاته الموعود المنتظر ..
ولم نعدم ، كذلك ، أنصاراً للباب استحوذت عليهم الرؤى وهاتف السّماء !! ..
أسلم الرصاصُ روحَه لبارئها ، وما استسلم لحقيقة أنه من الغرقى الواهمين ..
وكذا الأمر ينطبق على الكثيرين ممن سلكوا درب العرفان ، وتوهّموا في مرحلة من مراحل السلوك ، أنهم قاب قوسين أو أدنى ، بل هم هوَ بلا فصل أو وصل .. !
الشيخ حيدر مشتت عفا الله عنه ، كان ممن توهّمَ الوصلَ حيث لا وصل ، فظنّ بأنه المعنيُّ بألطاف الله ونظره ، وأنه اليمانيُّ الحسنيُّ النسب ، وأنه باقراً باقرا ، وأنه الحسين ، وأنه وأنه ...
هي الأنا إذن ، وإن كنا من السّالكين ...
هو الوهم إذن ، وإن كنا من العارفين ...
عانق الرصاصَ ، أيضا ، والدماء ، قبل أن يغتسل في لجّ بحر الحقيقة ، لينزع عن قلبه كدر الأوهام ، وظلمة الحجب النوريّة ..
الإمام محمد أحمد بن عبد الله المهدي ، كان من أهل الله وخاصّته ، لكنه ، أيضا ، لم يسلم من هاوية الوهم ، فظن بأنه المهدي ، وكان يلتقي بحبيب الله دوماً ليأخذ منه العلوم ، ويستمدّ منه القوة والصبر على إنكار المنكرين ممن لا يؤمنون بالرؤى المتضافرة ، وهاتف السماء ...!
محمد بن عبد الله القحطاني ، وكان من الثقاة التقاة البكّائين ، ومن الذين أخلصوا الودّ لمحبوبهم ، لم ينجو أيضا من سطوة الوهم ، وكذا أنصاره الذين ما فتأت الرؤى والكشوفات تترى عليهم من الغيب ، تُنبؤهم بأنّ مهديَّهم هو المهديّ !! ..
كاظم الرشتي ، بدءُ الباب ومحبوبه ، وكان ممن لم تخطر الدنيا ببالهم طرفة عين أبدا ، ومن الذين انقطعوا عن العلائق والأغيار لاستحواذ بهاء نور المحبوب الذي دكّ جبل أناهم ، وغيّبهم عنهم ، فكانوا بهِ ، وإليه ..
هو أيضا ، لم يُعتقه الوهمُ من قيد أناه ، ولم يدرك سرّ أسرار أنوار الملكوت ، فتاهَ وأتاه ..
ومثلما أنّ الطرق إليه بعدد أنفاس الخلائق كلهم ، كذلك الحجب عنه بعدد ما ذرأ وبرأ وأنشأ ، ولذا لا وصول إليه بنا ، وإن توهّمنا الوصول ..
آآآه .. كم هو الفرق هائلٌ ، بين وحشة نقطة الغين التي تحجبنا عن طرب أنس رؤية العين ، ونقطة باء التكوين التي هي بدء البدء ، وأول فيضٍ لتجليه ...
وكم هي الهوّة شاسعةٌ بين مَن أجاب ، في عالم الذرّ ، بـ لا ، ومن قال ، بلهفة عاشقٍ ؛ بلى ..
يا أبا العبّاس ، لا يخلو السّالك من وهمٍ يورده الهلكات ، فارفق بنفسك و بمن آمنوا وأمنوا بدعواك ، فإنك مسؤولٌ عنها وعنهم جميعا ، وما أمرَّ السؤال إن لم نُحرْ عنه جواباً ، يوم تصفعنا " وقفوهم .. إنّهم مسؤولون " ..
اللهم إنك تعلم أنّا ما أردنا سوى وجهك ، والنصح لوليٍّ من أوليائك ، وعبدٍ من عبيدك ، استخلصته لعبادتك ومناجاتك ، وأفرغتَ قلبه لحبك ، وطهّرتَ سريرته بالنظر إليك ، والشوق لما عندك ، وزويتَ عنه الأنس بغيرك ، والتعلق بسواك ، اللهم فاجعله ممّن ينتصح إذا نُصح ، ويتذكّر إن ذُكّر ، وامنن ، يا ربّ ، عليه ، برفع غشاوة الأوهام ، ولبْس ما يُرى في اليقظة والمنام ، إنّك أنت الحق ، لا حقّ سواك ، يا أرحم الرّاحمين ...
آميــــــن ...
إبراهيم عبد علي
Comment