المهديّون الإثنا عشر أبناء الإمام المهدي عليه السلام
تعقيباً على ما كتبه الشيخ محمد السند تحت عنوان (المهديّون الاثنا عشر بعد الأئمّة الاثني عشر)
القسم الأول
عبدالرزاق هاشم محمد
في بحثه المذكور في العنوان الجانبي ذهب الشيخ محمد السند مذهباً غير مسبوق حيث زعم أن ما ورد من روايات كثيرة جداً بخصوص المهديين يُراد منه التعبير عن معنى الرجعة ولكن ((بلسان غير عنوان الرجعة وغير لفظة الكرَّة والأوبة وغير بقيّة عناوين وأسماء الرجعة)) على حد تعبيره. فالمهديون الإثنا عشر الذين ذكرت الروايات مجيئهم بعد الأئمة الإثني عشر يراد منهم - برأي الشيخ محمد السند – ((نفس الأئمّة الاثنا عشر بلحاظ رجوعهم وكرَّتهم بعد الموت إلى الدنيا لإقامة دولة محمّد وآل محمّد))!
لا شك في أن الانطباع السريع الذي يتبادر لكل من يقرأ كلام الشيخ سيتجسد بصورة علامة استفهام كبيرة مع الكثير من الاستغراب، باعتبار أن التعبير عن (الرجعة) بمصطلحات من قبيل (الكرة)، و(الأوبة)، أمر مستساغ، وطبيعي تماماً، بحيث لا نجد أنفسنا بحاجة لتوضيح شيء ما لأحد ما، فالكرة والأوبة لهما الدلالة ذاتها التي لكلمة الرجعة، فالجميع تشير إلى معنى واحد هو أن أناساً كانوا يعيشون في عالم الدنيا ثم توفوا وسيعودون بعد موتهم. لكنّ غير المستساغ، وغير الطبيعي أن يتم التعبير عن هذا المعنى بكلمة بعيدة كلياً، بل لا علاقة لها البتة بالمعنى الذي ذكرناه، فأين كلمة (المهديون) من كلمات مثل (الكرة، الأوبة، الرجعة)؟
ولعل الشيخ السند قد شعر بمقدار التمحل الكبير الذي ينطوي عليه كلامه فحاول التخفيف من وقعه على القارئ بزعم أن ثمة ((حِكَم ومغازي)) اقتضت التعبير بكلمة (المهديون) عن معنى الرجعة! وعلى الرغم من أن عذرنا سيكون ظاهراً كما لا يخفى إذا لم نكلف أنفسنا عناء النظر للحكم والمغازي المزعومة، إذ كيف لأحد أن يتعامل بجدية مع هذه الفكرة الغريبة القائلة بأن التعبير بما لا علاقة له بالشيء ينطوي على حكمة ومغزى!؟ أقول على الرغم من ذلك فإن قراءة ما سيخطه قلم الشيخ مفيدٌ على مستوى تصور مدى جدية الشيخ في التعاطي مع موضوعه، ومهم كذلك على مستوى استكناه الدوافع الحقيقية التي تحرك قلم الشيخ وفكره.
الحكم والمغازي المزعومة:
يذكر الشيخ حكمتين، أو مغزيين؛ أولهما ((اعتماد التعبير الكنائي عن الرجعة حيث إنَّ عقيدة الرجعة تعني مشروع إقامة الدولة لدى أهل البيت عليهم السلام وإبراز هذا المشروع بمكان من الخطورة السياسية والأمنية وليس هو عقيدة تجريدية بحتة)).
ويرد عليه:
1- إن مشروع إقامة الدولة لدى أهل البيت عليهم السلام غير متوقف على الرجعة، بل هو معدّ للتحقيق في كل زمان، ولكن الظروف التأريخية، وتعلق هذا المشروع بتوفر القابل المناسب جعله مؤجلاً إلى حين ظهور قائمهم عليهم السلام، وليس إلى زمن الرجعة، كما يظن الشيخ السند. بل سنرى الشيخ السند نفسه يستشهد بأحاديث من قبيل: «فلا تعجلوا فوَالله قد قرب هذا الأمر ثلاث مرَّات فأذعتموه، فأخَّره الله». وهل تخفى دلالة مثل هذا الحديث على معنى أنهم عليهم السلام في حالة تطلع دائب ودائم لتحقيق الهدف الإلهي المقدس المتمثل بإقامة دولة العدل الإلهي، وإلا بربك قل لي لأي شيء قطعتهم السيوف والسموم، ألأجل التعبيرات الكنائية الباردة؟
الحق إن ما يطرحه الشيخ السند غريب جداً، ويكاد لا ينقضي العجب منه، فالأحاديث التي بشرت بدولة العدل التي يقيمها قائم آل محمد عليهم السلام كثيرة جداً، واليقين المتولد عنها ألهب نار الأشواق في صدور بسطاء الناس وعلمائهم، فليت شعري أين صدر الشيخ السند عن هذا الجمر المقدس؟
2- إن الكثير جداً من الروايات الصادرة عنهم عليهم السلام قد ذكرت نصاً وبصراحة كاملة أن لهم دولة يقيمها مهديهم، ومثلها الروايات التي صرحت بالرجعة، فالعقيدة بالمهدي ودولته المباركة، ومثلها العقيدة بالرجعة ليستا مما خفي عن الناس حتى يُقال إنهم عليهم السلام اختاروا الطريق الكنائي في التعبير عنها لدواعي أمنية وسياسية؟
وها هو المأمون يسأل الإمام الرضا عليه السلام عن الرجعة ويجيبه الإمام عنها دون حرج، فقد ورد في عيون أخبار الرضا: ج1 ص218: ((... فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة فقال الرضا عليه السلام: إنها لحق قد كانت في الأمم السالفة ونطق به القرآن وقد قال رسول الله (ص) يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ..الخ)).
أما ثانية الحكمتين، أو المغزيين، فهي برأي الشيخ السند: ((أنَّه إشارة إلى أنَّ هذا المقام من المقامات التي يصل إليها أئمّة أهل البيت، وهم موعودون بها من قبل الله تعالى)).
أقول: ما يقصده الشيخ السند هو أن (المهديون) مقام مرتبط بإقامة الدولة، فقد قال في بعض مواضع بحثه: ((أنَّ عنوان المهدي والمهديّون له تفسير مستفيض بل متواتر في روايات أهل البيت عليهم السلام هو كالأصل في معناه ويراد به الإمام من الأئمّة الاثني عشر عندما يقيم الدولة الظاهرة الممكّنة لدولة آل محمّد عليهم السلام)). وقال في موضع آخر: ((ومعنى وصف ومنصب عنوان المهدي للأئمّة الاثني عشر أهل البيت عليهم السلام كمقام خاصّ لمن يقيم دولة محمّد وآل محمّد في الإعلان الظاهر وبنحوٍ تبقى مستمرّة إلى يوم القيامة)). وقال كذلك: ((فالمراد بالمهديين الاثني عشر هم الأئمّة الاثني عشر أنفسهم، فلهم مقام المهدوية بعد تسنّمهم أصل مقام الإمامة من دون دولة ظاهرة معلنة)).
وكلام الشيخ هذا تخرص لا أكثر، وما زعمه من تفسير مستفيض، بل متواتر في روايات أهل البيت عليهم السلام شيء توهمه على ما يبدو، فالنصوص تنحو منحى مغايراً، فقد ورد في الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 536: ((عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن زيد أبي الحسن، عن الحكم بن أبي نعيم قال: أتيت أبا جعفر عليه السلام وهو بالمدينة، فقلت له: علي نذر بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا، فلم يجبني بشئ، فأقمت ثلاثين يوما، ثم استقبلني في طريق فقال: يا حكم وإنك لههنا بعد، فقلت: نعم إني أخبرتك بما جعلت لله علي، فلم تأمرني ولم تنهني عن شئ ولم تجبني بشئ؟ فقال: بكر علي غدوة المنزل، فغدوت عليه فقال عليه السلام: سل عن حاجتك، فقلت: إني جعلت لله علي نذرا وصياما وصدقة بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا، فإن كنت أنت رابطتك وإن لم تكن أنت، سرت في الأرض فطلبت المعاش، فقال: يا حكم كلنا قائم بأمر الله، قلت: فأنت المهدي؟ قال: كلنا نهدي إلى الله، قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: كلنا صاحب السيف ووارث السيف، قلت: فأنت الذي تقتل أعداء الله ويعز بك أولياء الله ويظهر بك دين الله؟ فقال: يا حكم كيف أكون أنا وقد بلغت خمسا وأربعين [سنة]؟ وإن صاحب هذا الأمر أقرب عهدا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة)).
الإمام الباقر عليه السلام يفسر (المهدي) في هذه الرواية بمعنى الذي يهدي إلى الله، وأين هذا مما زعمه الشيخ السند؟
بل ورد في كثير من الروايات إن المهدي إنما سمي مهدياً ((لأنه يهدي لأمر قد خفي))[انظر: علل الشرائع: الشيخ الصدوق. ج1 ص160 – 161، وروضة الواعظين: الفتال النيسابوري ص 264 – 265، والغيبة - الشيخ الطوسي - ص 471، وغيرها].
الشيخ السند على ما يبدو لا يبني آراءه ومعتقداته على بحث حقيقي، فقد قرأت له أكثر من بحث اتسمت طروحاته فيها بالغرابة الشديدة والاختلاف الصارخ عن كل ما هو مطروح، هذا فضلاً عن كون الرجل في بحثه هذا تحديداً مدفوع بأهداف صراعية، عادة ما تشوش الرؤية، بل تعميّ عليها.
هذه الأهداف الصراعية يدل عليها قوله: ((أنَّ هذه العقيدة والمعرفة بالرجعة بهذا الشكل قد التَبس على جماعة لتقمّص أدعياء أرادوا بالمؤمنين ضلالاً عن صراط الحقّ وعن التمسّك بأئمّة الاثني عشر لأهل البيت عليهم السلام إلى أنداد وشركاء يُشركون بهم في الولاية الإلهية ليزيلوا الحقّ عن مقرّه ويصرفوا الناس عن الأئمّة الاثني عشر التباساً عليهم باسم الاتّصال بالإمام المهدي عليه السلام الإمام الثاني عشر، بل ربَّما تمادى الغبيُّ عندهم إلى تهميش الإمام الثاني عشر ودفعه عن مقامه الذي رتَّبه الله فيها، وأنَّه ليس هو المهدي وليس هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، تمنّيهم أنفسهم وشياطينهم إلى طاعة الشيطان والأبالسة مع استخدام للسحر والشعبذة ليغووا ضعفة العقول والقلوب ومرضى النفوس، الذين لم يتفقَّهوا في الدين ولم يلجؤوا إلى علم وركن ركين)).
بطبيعة الحال لسنا من المؤمنين بمقولة مكيافللي (الغاية تبرر الوسيلة)، وعليه لا نرى الهدف الصراعي مسوغاً لهذه الفوضى العقدية التي تشيعها كتابات الشيخ محمد السند، وسنجعل من فكرة التفقه في الدين واللجوء إلى العلم والركن الركين، كما ذكر، فيصلاً وحيداً بيننا وبينه.
كلام الشيخ السند عن رواية الوصية:
بعد عرض وصية رسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة وفاته، يكتب الشيخ السند، تحت عنوان (المغالطة في الرواية):
((توهّم: إنَّ هذه الرواية دالّة على أنَّ الإمام الثاني عشر يسلّم الوصيّة إلى ابنٍ له ثلاثة أسماء، فيكون قول النبي صلى الله عليه وآله في هذه الفقرة: (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المهديين) بإرجاع الضمير في (إذا حضرته) إلى الإمام الثاني عشر، وكذلك ضمير (ابنه) إلى الإمام الثاني عشر عليه السلام، وأنَّ هذه الثلاثة أسماء هي أسماء لابن الإمام الثاني عشر)).
ومعنى كلام الشيخ هذا إن من يفهم عودة الضمير (الهاء) في كلمة (حضرته)، وكلمة (ابنه) إلى الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، ويرى بالنتيجة أن هناك ابناً للإمام محمد بن الحسن ستؤول له مقاليد الأمر بعد وفاة أبيه، فهو واهم!! أما لماذا هو واهم فسنسمع الجواب من الشيخ السند، يقول تحت عنوان (دفع التوهم):
((هذا الإرجاع للضمير إلى الإمام الثاني عشر خطأ فاحش في تركيب عبارات الجمل وسياقاتها، فإنَّ الصحيح أنَّ الضمير يرجع إلى الإمام الحادي عشر، الإمام الحسن العسكري عليه السلام، أي إذا حضرت الإمام العسكري عليه السلام الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الإمام الثاني عشر عليه السلام الذي له ثلاثة أسماء وهو الإمام الثاني عشر أوَّل المهديين، والإمام الثاني عشر له ثلاثة أسماء: اسم كاسم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله، والاسم الآخر عبد الله وأحمد، والثالث وهو اللقب المهدي، وهو الإمام الثاني عشر أوَّل المؤمنين، وفي بعض النسخ: (اسم كاسمي واسم أبيه وهو عبد الله)، وعلى هذه النسخة يكون اسم الإمام الحسن العسكري عليه السلام عبد الله، وسنبيّن وجه كون الإمام الثاني عشر أوَّل المهديين وأوَّل المؤمنين)).
إذن كل ما قاله الشيخ السند لغاية الآن هو تكرار الدعوى نفسها، فالضمائر لا تعود للإمام المهدي عليه السلام لأنها لا تعود له، أي إن دليل الدعوى هو الدعوى ذاتها!
ولكن لماذا يكون إرجاع الضمير (الهاء) إلى الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام خطأ فاحشاً، أليس هذا هو الظاهر من العبارة، وبوضوح لا تكاد تخطئه عين؟ لنقرأ الرواية:
((عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي عليه السلام: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة، فأملى رسول الله صلى الله عليه وآله وصيَّته حتَّى انتهى إلى هذا الموضع. فقال: يا علي إنَّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أوَّل الاثني عشر إماماً، سمّاك الله تعالى في سمائه: علياً المرتضى، وأمير المؤمنين، والصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصحُّ هذه الأسماء لأحد غيرك. يا علي، أنت وصيّي على أهل بيتي حيّهم وميّتهم، وعلى نسائي فمن ثبَّتها لقيتني غداً، ومن طلَّقتها فأنا بريء منها، لم ترَني ولم أرَها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمّتي من بعدي. فإذا حضرتك الوفاة فسلّمها إلى ابني الحسن البرّ الوصول. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه سيّد العابدين ذي الثفنات علي. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الباقر. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه جعفر الصادق. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه موسى الكاظم. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الرضا. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الثقة التقي. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الناصح. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الحسن الفاضل. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد عليهم السلام فذلك اثنا عشر إماماً. ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث المهدي وهو أوَّل المؤمنين)).
لاحظوا أن سياق العبارة هو التالي: (ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين) فالمشار إليه بعبارة (إذا حضرته الوفاة) هو من يكون بعده إثنا عشر مهدياً، فمن هو هذا؟ إنه الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام بطبيعة الحال، فهو تمام الإثني عشر إماماً (فذلك اثنا عشر إماماً) ومن بعده المهديون الإثنا عشر. وبطبيعة الحال الذي تحضره الوفاة هو من يسلمها إلى ابنه، فيكون الضمير (الهاء) عائد على الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، والابن هو أول الإثني عشر مهدياً. اعتقد الأمر واضح للغاية ولا يحتاج إلى مزيد شرح وبيان، ولكن لماذا يريد الشيخ السند أن يجعل من هذا الأمر الواضح مسألة بالغة التعقيد، وتستدعي عمقاً تحليلياً يطيح بكل ثوابت العقل السليم، ومعه العقائد السليمة؟ أظن الجواب يكمن في الهدف الصراعي المشار إليه.
ولكن تعالوا نستخدم (حساب العرب)، كما يعبرون، ونرى هل المسألة معقدة فعلاً، أم إنها ببساطة (حساب العرب)؟ انظروا: (فإذا حضرتك الوفاة فسلّمها إلى ابني الحسن) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام علي عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابني الحسين)، الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الحسن. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه سيّد العابدين ذي الثفنات علي) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الحسين عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الباقر) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام السجاد عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه جعفر الصادق) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الباقر عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه موسى الكاظم) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الصادق عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الرضا) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الكاظم عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الثقة التقي) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الرضا عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الناصح) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الجواد عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الحسن الفاضل) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الهادي عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد عليهم السلام) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الحسن العسكري عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، فما رأيكم هل هذه الحقيقة أوضح، أم الشمس في يوم عرسها؟
ولكن لأن الباطل لجلج بعكس الحق الذي هو أبلج، يسوق الشيخ السند جملة مما يسميه (الشواهد على هذا التفسير).
شواهد الشيخ السند:
الشاهد الأول:
((الشاهد الأوَّل: ما ورد في عدَّة روايات من الفريقين أنَّ الذي له أسماء ثلاثة هو نفس الإمام الثاني عشر عليه السلام:
1 _ فقد روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة عن الفضل بن شاذان، عن إسماعيل بن عياش، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر المهدي فقال: «إنَّه يبايع بين الركن والمقام، اسمه أحمد وعبد الله والمهدي، فهذه أسماؤه ثلاثتها»)). ويرد عليه:
لا أشك في أن الكثير من القراء سيفهمون ما صنعه الشيخ محمد السند هنا على أنه استشهاد بالرواية الواردة عن حذيفة لفهم المراد من رواية الوصية المذكورة أعلاه، والرجل على أية حال صرح بهذا بقوله (الشاهد الأول ...الخ)، وعملية كهذه، كما هو معروف لا غبار عليها، ولكن هل حقاً لا غبار على ما صنعه الشيخ محمد السند؟
لنتذكر أن الشيخ محمد السند يريد أن يقنعنا بأن الضمير (الهاء) الوارد في كلمة (حضرته)، و(ابنه) في آخر فقرات رواية الوصية يعود إلى الإمام العسكري عليه السلام، وأن صاحب الأسماء الثلاثة بالتالي هو الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام. والفقرة المقصودة هي: (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث المهدي وهو أوَّل المؤمنين)؟
وقد سبق أن أوضحنا أن الرواية نفسها تبين بوضوح بالغ أن الضمير (الهاء) يعود على الإمام المهدي عليه السلام، فهو المعني بحضور الوفاة، وأن صاحب الأسماء الثلاثة الذي يتسلم الإمامة منه هو ابنه (أحمد). ومعنى هذا إننا أثبتنا بالضرورة أن اسم (المهدي) من جملة أسماء الابن، فهو (مهدي)، كما أن أباه مهدياً كذلك، فالاسم مشترك بينهما.
إذا اتضح هذا يتضح لنا إذن أن الشيخ محمد السند قد ارتكب مغالطة، بل حاول جرّ أقدامنا إلى الطريق الخاطئة. ذلك أن الرواية الأخيرة التي أتى بها شاهداً لا تتضمن قرينة، أو أي شيء يمكن أن نحدد من خلاله هوية المهدي المذكور فيها، على العكس تماماً من رواية الوصية التي اتضح لنا فيما تقدم أن بالإمكان – و بيسر بالغ – تحديد هوية المهدي فيها، وعليه فالإجراء الصحيح هو أن نستهدي برواية الوصية، ونتخذ منها مرشداً نحدد على ضوئه هوية المقصود من المهدي في الرواية التي جاء بها الشيخ السند شاهداً، لا العكس كما فعل الشيخ السند!
الروايات الدالة على وجود مهديين في عصر الظهور:
بطبيعة الحال ما فعله الشيخ السند كان مغالطة، وتحكماً، بيد أن ملاحظة هذه المغالطة قد لا تتسنى للكثيرين بسبب المفهوم المغلوط المترسخ في الأذهان عن دلالة لفظ المهدي – ولاسيما مهدي آخر الزمان – على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام.
من هنا أجد لزاماً عليّ أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض الروايات التي تدل بوضوح على أن ثمة مهدياً، أو قائماً يولد في آخر الزمان، لتكون النتيجة أن لدينا في عصر الظهور مهديين اثنين؛ أولهما الإمام محمد بن الحسن عليه السلام، وثانيهما ولده أحمد الذي ذكرته وصية رسول الله صلى الله عليه وآله، وكما يلي:
1- ورد في كتاب سليم بن قيس ص429، في خبر طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ((... ثم ضرب بيده على الحسين عليه السلام فقال: يا سلمان، مهدي أمتي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما من ولد هذا. إمام بن إمام، عالم بن عالم، وصي بن وصي، أبوه الذي يليه إمام وصي عالم. قال: قلت: يا نبي الله، المهدي أفضل أم أبوه؟ قال: أبوه أفضل منه. للأول مثل أجورهم كلهم لأن الله هداهم به)). وفي هذه الرواية قرينتان تبينان هوية المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، أولهما قوله صلى الله عليه وآله: (أبوه الذي يليه)، فهذه العبارة تعني أن أبا المهدي يأتي بعده، وهو ما لا ينطبق على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام لأن أباه كان قبله، ولكن ينطبق على (أحمد) ابن الإمام المهدي لأنه يرسله أبوه ليقوم بالأمر ويطهر الأرض. لكن يهمني هنا أن أوضح للقارئ أن قيام (أحمد) بمهمة تطهير الأرض لا يعني أن الإمام المهدي ليس هو من يزهق الباطل ويقيم الحق، فالحقيقة أن نسبة الأمر له عليه السلام من باب أولى لأنه الآمر، وقد نسب الله عز وجل إخراج الأنفس (الموت) في القرآن لنفسه، ونسبه لملائكته، ونسبه كذلك لملك الموت، دون أن يعني ذلك وجود تعارض أو تنافي فما يفعله ملائكة الموت يفعلونه بأمر ملك الموت (عزرائيل) عليه السلام، وهو بدوره يفعله بأمر الله عز وجل.
بل لقد ورد في الكافي ج1 ص535(عن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قد يقوم الرجل بعدل أو يجور وينسب إليه ولم يكن قام به، فيكون ذلك ابنه أو ابن ابنه من بعده ، فهو هو)). وفيه كذلك، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((إن الله تعالى أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا، مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام، فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى، أي لا يكون البنت رسولا يقول الله عز وجل والله أعلم بما وضعت، فلما وهب الله تعالى لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك)).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((إذا قلنا في رجل قولا، فلم يكن فيه وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء)).
وفي الإمامة والتبصرة/ ص94: ((عن أبي عبيدة الحذاء: قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذا الأمر، متى يكون؟ قال: إن كنتم تؤملون أن يجيئكم من وجه، ثم جاءكم من وجه فلا تنكرونه)).
أما القرينة الثانية فهي قوله صلى الله عليه وآله: (أبوه أفضل منه)، أي إن أبا المهدي أفضل منه، وهذا بدوره لا ينطبق على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام، إذ هو أفضل من أبيه، بل أفضل من آبائه جميعهم باستثناء أصحاب الكساء، فقد ورد كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني ص73: ((عن أبي بصير، عن أبي عبد الله، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل اختار من كل شئ شيئا، اختار من الأرض مكة، واختار من مكة المسجد، واختار من المسجد الموضع الذي فيه الكعبة، واختار من الأنعام إناثها، ومن الغنم الضأن، واختار من الأيام يوم الجمعة، واختار من الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس بني هاشم، واختارني وعليا من بني هاشم، واختار مني ومن علي الحسن والحسين، وتكملة اثني عشر إماما من ولد الحسين تاسعهم باطنهم، وهو ظاهرهم، وهو أفضلهم، وهو قائمهم)).
2- وفي كتاب سليم بن قيس كذلك ص 133 وما بعدها: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة: ((إن لعلي بن أبي طالب ثمانية أضراس ثواقب نوافذ ، ومناقب ليست لأحد من الناس ... إلى قوله صلى الله عليه وآله: منهم المهدي والذي قبله أفضل منه، الأول خير من الآخر لأنه إمامه والآخر وصي الأول)).
في هذه الرواية أيضاً يقول الرسول صلى الله عليه وآله إن أبا المهدي أفضل منه – أي أفضل من المهدي وقد علمنا أن الإمام المهدي محمد بن الحسن أفضل من أبيه العسكري بل أفضل من جميع الأئمة من ذرية الحسين، فيتحصل أن المراد من المهدي في الرواية هو أحمد ابن الإمام محمد بن الحسن المذكور في وصية رسول الله.
3- ورد الكافي ج1 ص534: ((عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من ولدي اثنا عشر نقيبا، نجباء، محدثون، مفهمون، آخرهم القائم بالحق يملاها عدلا كما ملئت جورا)).
ومثله ما ورد في الكافي / ج1: 534 عن أبي جعفر، قال: ((قال رسول الله: إني وإثني عشر من ولدي و أنت يا علي زر الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الأرض أن تسيخ بأهلها فإذا ذهب الإثنا عشر من ولدي ساخت بأهلها ولم ينظروا)).
وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله بعد استثناء علي عليه السلام لأنه أخوه هم: 1- الحسن 2- الحسين 3- السجاد 4- الباقر 5- الصادق 6- الكاظم 7- الرضا 8- الجواد 9- الهادي 10- العسكري 11- المهدي 12- أحمد بن المهدي، وهو القائم بنص الحديث.
4- ورد في الكافي: ج1 ص532 والخصال: ص477 – 478: ((عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: دخلت على فاطمة وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت أثني عشر آخرهم القائم؛ ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم علي)). وأبناء فاطمة عليها السلام الإثنا عشر هم أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله ذاتهم، أي باستثناء علي عليه السلام، وآخرهم القائم، أي (أحمد) هو القائم.
5- في غيبة النعماني ص168 عن أبي جعفر عليه السلام قال: ((في صاحب هذا الأمر سنن من أربعة أنبياء: سنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من يوسف، وسنة من محمد صلوات الله عليهم أجمعين، فقلت: ما سنة موسى؟ قال: خائف يترقب. قلت: وما سنة عيسى؟ فقال: يقال فيه ما قيل في عيسى، قلت: فما سنة يوسف؟ قال: السجن والغيبة. قلت: وما سنة محمد صلى الله عليه وآله؟ قال: إذا قام سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أنه يبين آثار محمد، ويضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر هرجا هرجا، حتى رضي (يرضى) الله قلت: فكيف يعلم رضا الله؟ قال: يلقي الله في قلبه الرحمة)).
والإمام المهدي عليه السلام لا يُسجن فيكون المعني غيره، أي أحمد، وقوله عليه السلام (ويضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر) يدلنا على أن المقصود رجل من أهل بيت الإمام المهدي (أي ولده) يخرج في المشرق، وليس في مكة، فعن أمير المؤمنين إنه قال: ((... يخرج رجل قبل المهدي من أهل بيته من المشرق يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل ويقتل ويتوجه إلى بيت المقدس فلا يبلغه حتى يموت)) الملاحم والفتن: السيد ابن طاووس/ص139].
أكتفي بهذا المقدار من الروايات، وإن كان ما لم أذكره منها أكثر بكثير.
رواية أخرى يستدل بها الشيخ السند:
أما الرواية الثانية التي يسوقها الشيخ محمد السند تحت عنوان (الشاهد الأول)، فهي ما ورد عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، قال: ((قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان أبيض اللون، مشرب بالحمرة، مبدح البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكبين، بظهره شامتان: شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبيّ صلى الله عليه وآله، له اسمان: اسم يخفى واسم يعلن، فأمَّا الذي يخفى فأحمد، وأمَّا الذي يعلن فمحمّد)).
وهذه الرواية في الحقيقة لا تنفع الشيخ السند، بل هي تؤكد ما نقوله. فلو تساءلنا عن معنى قوله عليه السلام (له اسمان)، فهل المراد أن هناك شخص واحد يُطلق عليه اسمان، أم إن المقصود هو أن هناك شخصان يشتركان بعنوان القائم؟ بطبيعة الحال المعنى الثاني الذي ذكرناه لا يتبادر من لفظ (اسمان) منذ الوهلة الأولى بخلاف المعنى الأول. ولكنه، أي المعنى الثاني تضطرنا القرينة إلى المصير إليه، فقوله عليه السلام (اسم يخفى واسم يعلن، فأمَّا الذي يخفى فأحمد، وأمَّا الذي يعلن فمحمّد) لا يستقيم إلا على المعنى الثاني.
إذ لا معنى لئن يكون الاسم (أحمد) خافياً والرواية نفسها قد ذكرته (فأمَّا الذي يخفى فأحمد)، اللهم إلا إذا كان مراده من الاسم هو المسمى، أو الشخص، وعليه يكون معنى له اسمان، أي إن هناك شخصان كل منهما هو القائم، وهذا هو المطلوب.
الشاهد الثاني:
أما (الشاهد الثاني) الذي جاء به الشيخ محمد السند ليشهد لنظريته في أن المهديين عليهم السلام هم الأئمة أنفسهم فهو التالي:
((أنَّ عنوان المهدي والمهديّون له تفسير مستفيض بل متواتر في روايات أهل البيت عليهم السلام هو كالأصل في معناه ويراد به الإمام من الأئمّة الاثني عشر عندما يقيم الدولة الظاهرة الممكّنة لدولة آل محمّد عليهم السلام، ومن المستفيض في رواياتهم عليهم السلام أنَّ الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام يرجعون كما هو مقتضى عقيدة الرجعة، ويقيمون دولة آل محمّد عليهم السلام واحداً بعد آخر، وهو مقتضى قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (القصص: 5).
وهذا الخطاب عامّ لكلّ الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام حتَّى أنَّ الإمام الثاني عشر أيضاً تكون له رجعة.
فالمراد بالمهديين الاثني عشر هم الأئمّة الاثني عشر أنفسهم، فلهم مقام المهدوية بعد تسنّمهم أصل مقام الإمامة من دون دولة ظاهرة معلنة، والحال ذلك حتَّى في الإمام الثاني عشر منذ الوصيّة والإمامة من أبيه الحسن العسكري عليه السلام إلى يوم ظهوره، حينئذٍ يتحقَّق له الوصف الفعلي لمقام المهدي، وإلى هذا المفاد يشير قول النبيّ صلى الله عليه وآله في الرواية المزبورة: «فذلك اثنا عشر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً»، أي بعد إمامة الإمام الثاني عشر وامتدادها في عصر الغيبة يتحقَّق بدؤ إقامة دولة محمّد وآل محمّد عليهم السلام، وأوَّل من يقيمها هو الإمام الثاني عشر، ومن ثَمَّ يكون الإمام الثاني عشر أوَّل المهديين بعد أن كان له أصل مقام الإمامة طيلة فترة الغيبة، وهو أوَّل المؤمنين أيضاً من الأئمّة الاثني عشر الذين وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض بدولة معلنة)).
لا أدري حقاً أي نمط من الشهود هذا الشاهد، فكما ترون ما يقوله هذا الشاهد هو نفس الدعوى، فكيف يكون المدعي شاهداً؟
حتى الشيخ السند سنكتشف أنه لم يكن مقتنعاً بشاهده، ولذلك سيأتي بشهود ليشهدوا لشاهده!
إذن هذا الشاهد يقول: (أنَّ عنوان المهدي والمهديّون له تفسير مستفيض بل متواتر في روايات أهل البيت هو كالأصل في معناه ويراد به الإمام من الأئمّة الاثني عشر عندما يقيم الدولة الظاهرة الممكّنة لدولة آل محمّد عليهم السلام)، وقد سبق أن ناقشنا هذا الكلام وألفتنا إلى أن صاحب هذه الدعوى لم يأتِ ولو برواية واحدة من هذه الروايات المستفيضة، أو المتواترة، كما يزعم، للدلالة على مذهبه الغريب. وهنا سأستعرض بعض الروايات الواردة في المهديين عليهم السلام لأبين أن هذه الروايات ذاتها تكذب تصور الشيخ السند، وكما يلي:
1- قوله صلى الله عليه وآله في رواية الوصية: ((فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه))، يدل على أن المهديين ليسوا هم الأئمة، فالأئمة هم آباء الإمام المهدي عليه السلام كما هو معلوم، وهنا يسلمها لابنه.
2- ورد في الغيبة للطوسي: ص280، دعاء عن الإمام المهدي عليه السلام نقله الضراب، وفيه: ((... اللهم صل على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن الرضا، والحسين المصفى، وجميع الأوصياء، مصابيح الدجى وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم، وصلّ على وليك وولاة عهده والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم دنيا وديناً وآخره إنك على كل شيء قدير)).
وقوله (الأئمة من ولده) المقصود به المهديون، فهم إذن أبناء الإمام المهدي وليسوا آباءه.
3- ورد في مصباح المتهجد: ص405 – 411، الغيبة للطوسي: ص273 وما بعدها الدعاء الوارد عن الإمام الرضا، وفيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلّ على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وحجة رب العالمين، المنتجب في الميثاق، المصطفى في الظلال، المطهر من كل آفة، البريء من كل عيب، المؤمل للنجاة، المرتجى للشفاعة، المفوض إليه دين الله... (إلى قوله ): اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تقر به عينه وتسر به نفسه، وبلغه أفضل ما أمله في الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير... (ثم يقول ): وصلّ على وليك وولاة عهدك والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم وزد في آجالهم وبلغهم أقصى آمالهم ديناً ودنيا وآخرة إنك على كل شيء قدير)).
وهو كسابقه يدل على أن المهديين هم أبناء الإمام المهدي عليه السلام، وليسوا آباءه.
4- جاء في شرح الأخبار ج2 ص42: ((... عن النبي، أنه ذكر المهدي، وما يجريه الله من الخيرات والفتح على يديه. فقيل له: يا رسول الله، كل هذا يجمعه الله له؟ قال: نعم. وما لم يكن منه في حياته وأيامه هو كائن في أيام الأئمة من بعده من ذريته)).
وهو صريح في أن المهديين من ذرية الإمام المهدي عليه السلام، وليسوا آباءه.
سأكتفي بهذا المقدار خشية الإطالة، وربما تنضم له أدلة أخرى من خلال مناقشة الشيخ السند.
شهود للشاهد:
أما الشهود الذين جاء بهم ليشهدوا لشاهده، فقد قدم لهم بقوله: ((ويتَّضحُ هذا التفسير بشكل مفهم جلي من الروايات الواردة في بيان هذا المعنى لعنوان ووصف المهدي))، ثم زج بهم بالطريقة التالية:
شاهد رقم واحد:
((1 _ روى في تحف العقول وصيّة الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق أبي جعفر محمّد بن النعمان الأحول في وصيّة طويلة عليه السلام بمراعاة التقيّة والكتمان وعدم الإذاعة: «فلا تعجلوا فوَالله قد قرب هذا الأمر ثلاث مرَّات فأذعتموه، فأخَّره الله».
ومراده عليه السلام من هذا الأمر أي قيام دولة آل محمّد صلى الله عليه وآله التي تبقى إلى يوم القيامة ... والحاصل أنَّ هذه الطائفة تعزّز أنَّ المهدوية مقام لأئمّة أهل البيت الاثني عشر هو بلحاظ قيامهم بالدولة المعلنة التي تستمرّ إلى يوم القيامة.
وإلى ذلك يشير قول الأمير عليه السلام فيما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «... والمهدي يجعله الله من شاء منّا أهل البيت»)).
أقول: لا علاقة لهذا الحديث بمسألة المهديين أبداً، وإذا كان الشيخ السند يريد إثبات أن (المهديون) مقام للأئمة أنفسهم فالحديث هذا – ومثله الأحاديث الأخرى المشابهة التي ساقها – لا ينفعه بشيء على الإطلاق في هذا الصدد.
فهذا الحديث، ونظراؤه يمكن أن نستدل منه معنى أن الأمة قد فرطت بفرجها أكثر من مرة، ولأسباب مختلفة، وأن القيادة المتمثلة بالأئمة عليهم السلام مستعدة على الدوام للنهوض بمهمة تطهير الأرض، فلا عذر للأمة من هذه الجهة. ولكن هذا المعنى ما علاقته بمسألة المهديين؟ ولماذا يتم التعاطي مع مسألة المهديين عليهم السلام بكل هذا التعقيد، وكأنها تخلخل بناء فكرياً، أو عقائدياً ما؟ والحال إنها طبيعة تماماً، ومنسجمة كل الانسجام مع البناء الفكري والعقائدي للدين الإلهي.
ولعل من المناسب هنا أن استشهد بما قاله السيد المرتضى وهو يواجه المسألة نفسها، أي مسألة المهديين عليهم السلام، فقد جاء في رسائل المرتضى ج3 ص145 – 146: ((وسئل (رضي الله عنه) عن الحال بعد إمام الزمان في الإمامة، فقال: إذا كان المذهب المعلوم أنّ كل زمان لا يجوز أن يخلو من إمام يقوم بإصلاح الدين ومصالح المسلمين، ولم يكن لنا بالدليل الصحيح أنّ خروج القائم يطابق زوال التكليف، فلا يخلو الزمان بعده من أن يكون فيه إمام مفترض الطاعة، أو ليس يكون. فإن قلنا: بوجود إمام بعده خرجنا من القول بالاثني عشرية، وإن لم نقل بوجود إمام بعده، أبطلنا الأصل الذي هو عماد المذهب، وهو قبح خلو الزمان من الإمام. فأجاب (رضي الله عنه) وقال: إنا لا نقطع على مصادفة خروج صاحب الزمان محمد بن الحسن (عليهما السلام) زوال التكليف، بل يجوز أن يبقى العالم بعده زماناً كثيراً، ولا يجوز خلو الزمان بعده من الأئمة. ويجوز أن يكون بعده عِدّة أئمة يقومون بحفظ الدين ومصالح أهله، وليس يضرنا ذلك فيما سلكناه من طرق الإمامة؛ لأن الذي كلفنا إياه وتعبدنا منه أن نعلم إمامة هؤلاء الاثني عشر، ونبينه بياناً شافياً، إذ هو موضع الخلاف والحاجة. ولا يخرجنا هذا القول عن التسمي بالاثني عشرية، لأن هذا الاسم عندنا يطلق على من يثبت إمامة اثني عشر إماماً. وقد أثبتنا نحن ولا موافق لنا في هذا المذهب، فانفردنا نحن بهذا الاسم دون غيرنا)).
فالأصل كما يقول السيد المرتضى هو عدم جواز خلو الزمان من إمام، أو حجة لله في الأرض، وإذا كان التركيز قد استقر على الأئمة الإثني عشر، فإن ذلك لا يعني عدم وجود غيرهم، والفيصل في الأمر هو كلام الطاهرين عليهم السلام.
اعترافات بالمهديين عليهم السلام:
والحقيقة إن كلام الشيخ السند إذا ما تأملناه على خلفية الاعترافات الكثيرة التي صدرت من الكثير من العلماء فيما يتعلق بموضوعة المهديين، فإنه يبدو غريباً، ومثيراً للكثير من علامات الاستفهام خاصة مع هذا المستوى الاستدلالي الظاهر الوهن.
ولا بأس هنا من نقل كلمات بعض العلماء بشأن المهديين، وسأبدأ بالسيد محمد باقر الصدر الذي قال في كتابه المجتمع الفرعوني ص175: ((ثم بعده - أي المهدي - يأتي اثنا عشر خليفة، يسيرون في الناس وفق تلك المناهج التي وضعت تحت إشراف الحجة المهدي، وخلال فترة ولاية الإثني عشر خليفة يكون المجتمع في سير حثيث نحو التكامل والرقي)).
ومثله ما قاله الشيخ النمازي في مستدرك سفينة البحار ج10 ص516 – 517 - باب خلفاء المهدي وأولاده وما يكون بعده، بعد نقله الرواية التالية: "إكمال الدين: عن أبي بصير، قال: قلت للصادق جعفر بن محمد صلوات الله عليه: يا بن رسول الله، سمعت من أبيك أنه قال: يكون بعد القائم اثني عشر مهدياً، فقال: إنما قال: اثني عشر مهدياً ولم يقل إثنا عشر إماماً، ولكنهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا".
قال: ((أقول: هذا مبين للمراد من رواية أبي حمزة ورواية منتخب البصائر ولا إشكال فيه وغيرهما مما دل على أن بعد الإمام القائم اثني عشر مهدياً، وأنهم المهديون من أوصياء القائم والقوّام بأمره كي لا يخلو الزمان من الحجة)).
أمّا السيد محمد محمد صادق الصدر فقد عقد مبحثاً في كتابه (تاريخ ما بعد الظهور ص625 وما بعدها) للحديث عن المهديين الذين أسماهم (الأولياء الصالحون). وفيه رد على من زعم أنهم الأئمة الإثنا عشر.
أما استشهاد الشيخ السند بقول أمير المؤمنين عليه السلام: «المهدي يجعله الله من شاء منّا أهل البيت»، فأقل ما يمكن أن يقال في جوابه: إن بالإمكان فهم هذا الحديث بعدة معاني كلها أقرب بكثير مما زعمه الشيخ السند، فالحديث يستفاد منه المعنى الذي سبق أن ذكرناه عن كون الأئمة عليهم السلام على أهبة الاستعداد لإقامة دولة العدل الإلهي، ويستفاد منه الإشارة إلى معنى تعرضنا له كذلك وهو التنبيه إلى ضرورة أن لا نستنكر إذا تبين لنا أن المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً هو ابن الإمام محمد بن الحسن عليه السلام، فيكون المعنى هو إنكم قد تتصورون أن لديكم معرفة كاملة بالمهدي بحيث تميزونه من كل الناس، ولكنكم ضعوا في حسبانكم إن الله عز وجل يختبر عباده وقد يتضح لكم أن المهدي شخص آخر غير من تظنونه، وهذا ما قاله الإمام الباقر لمالك الجهني. فعن مالك الجهني، قال: ((قلت لأبي جعفر: إنا نصف صاحب هذا الأمر بالصفة التي ليس بها أحد من الناس. فقال: لا والله، لا يكون ذلك أبداً حتى يكون هو الذي يحتج عليكم بذلك، ويدعوكم إليه))[غيبة النعماني ص337].
وعلى أي حال يكفي احتمال أي معنى من هذه المعاني، أو غيرها لدحض ما يقوله الشيخ السند. ولا أدري حقاً لماذا لا يلتفت الشيخ السند إلى أنه يتحدث بأمر عقائدي خطير، وعليه بالتالي أن يرتكز على أدلة محكمة من جهة الدلالة، لا أن يتحدث بهذا المستوى من المجازفة! فالشيخ السند – وهذه ملاحظة تشمل أكثر من بحث رأيته له – يعتمد كثيراً على كل ما قد يخطر في باله تفسيراً للنصوص، حتى لو كان بعيدا أو منبت الصلة بها! بل أحياناً – وكما هو الحال في بحثه هذا – يقترح معنى لنص ما لا علاقة تربط بينهما، ثم يحاول أن يدلل عليه فيأتي بنصوص أخرى يقترح لها دلالات غير ذات صلة فنكون بإزاء متوالية غير مترابطة، وكل ذلك لأن الشيخ يحاول جاهداً تهريب الدلالات الواضحة القريبة للنصوص بعيداً عن وعي القارئ، ولا أدري حقاً لماذا يفعل هذا، ولحساب أي وهم، أو أي همّ سياسي أو ما شاكل؟
شاهد رقم اثنين:
((2 _ ما رواه في مختصر بصائر الدرجات عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: «ألا اُحدّثك ثلاثاً قبل أن يدخل عليَّ وعليك داخل؟»، قلت: بلى! فقال: «أنا عبد الله، أنا دابّة الأرض صدقها وعدلها وأخو نبيّها وأنا عبد الله. ألا اُخبرك بأنف المهدي وعينه؟»، قال: قلت: نعم، فضرب بيده إلى صدره فقال: «أنا».
وروى أيضاً عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على علي عليه السلام فقال: «اُحدّثك بسبعة أحاديث إلاَّ أن يدخل علينا داخل»، قال: قلت: افعل جُعلت فداك، قال: «أتعرف أنف المهدي وعينه؟»، قال: قلت: أنت يا أمير المؤمنين...».
وقد وردت روايات مستفيضة بأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام هو صاحب الكرّات والرجعات ودولة الدول، ومن ثَمَّ يكون هو المهدي الأكبر من أئمّة أهل البيت كما هو مفاد هاتين الروايتين أنَّه عين المهدي وأنفه حيث تضمَّن تشبيه المهدي بأعضاء جسم بعضها رئيسي مركزي وهو العين والأنف وأنَّ مقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بين الأئمّة الاثني عشر في الاتّصاف بوصف المهدي هو موقع العين، وهذا يبيّن أنَّ صدق عنوان المهدي على الأئمّة الاثني عشر هو بتفاوت)).
حين يقول أمير المؤمنين عليه السلام أنه أنف المهدي وعينه، فالذي يظهر من كلامه هو أن المهدي عليه السلام شخص آخر غيره، أما ما معنى أن علياً عليه السلام هو أنفه وعينه، فمن الممكن أن يكون المعنى أن علياً عليه السلام هو قدوته، كما نعبر، أي إنه يقتص أثره ويترسم خطاه.
هذا الظاهر يصرف الشيخ محمد السند نظره عنه كلياً ليجرد المهدي من شخصانيته، ويحيله إلى فكرة مجردة، أو مفهوم، يقبل الانطباق على مصاديق متعددة (الأئمة عليهم السلام) يكون علي عليه السلام هو المصداق الأكمل من بينها.
وهذا التوجيه فضلاً عن مخالفته لظاهر الرواية، عاجز على تفسير السبب الذي من أجله اقترن لقب المهدي بشخص الإمام محمد بن الحسن عليه السلام دون باقي الأئمة ولاسيما الحسن والحسين عليهما السلام.
فمن الواضح أن استحقاق علي عليه السلام أن يكون المصداق الأكمل للمهدي منشؤه أفضليته على باقي الأئمة من ولده عليهم السلام، وحيث أن الحسن والحسين عليهما السلام هما الأفضل بعده، فكان الأولى أن يقترن لقب المهدي بهما أكثر من الإمام محمد بن الحسن عليه السلام.
تعقيباً على ما كتبه الشيخ محمد السند تحت عنوان (المهديّون الاثنا عشر بعد الأئمّة الاثني عشر)
القسم الأول
عبدالرزاق هاشم محمد
في بحثه المذكور في العنوان الجانبي ذهب الشيخ محمد السند مذهباً غير مسبوق حيث زعم أن ما ورد من روايات كثيرة جداً بخصوص المهديين يُراد منه التعبير عن معنى الرجعة ولكن ((بلسان غير عنوان الرجعة وغير لفظة الكرَّة والأوبة وغير بقيّة عناوين وأسماء الرجعة)) على حد تعبيره. فالمهديون الإثنا عشر الذين ذكرت الروايات مجيئهم بعد الأئمة الإثني عشر يراد منهم - برأي الشيخ محمد السند – ((نفس الأئمّة الاثنا عشر بلحاظ رجوعهم وكرَّتهم بعد الموت إلى الدنيا لإقامة دولة محمّد وآل محمّد))!
لا شك في أن الانطباع السريع الذي يتبادر لكل من يقرأ كلام الشيخ سيتجسد بصورة علامة استفهام كبيرة مع الكثير من الاستغراب، باعتبار أن التعبير عن (الرجعة) بمصطلحات من قبيل (الكرة)، و(الأوبة)، أمر مستساغ، وطبيعي تماماً، بحيث لا نجد أنفسنا بحاجة لتوضيح شيء ما لأحد ما، فالكرة والأوبة لهما الدلالة ذاتها التي لكلمة الرجعة، فالجميع تشير إلى معنى واحد هو أن أناساً كانوا يعيشون في عالم الدنيا ثم توفوا وسيعودون بعد موتهم. لكنّ غير المستساغ، وغير الطبيعي أن يتم التعبير عن هذا المعنى بكلمة بعيدة كلياً، بل لا علاقة لها البتة بالمعنى الذي ذكرناه، فأين كلمة (المهديون) من كلمات مثل (الكرة، الأوبة، الرجعة)؟
ولعل الشيخ السند قد شعر بمقدار التمحل الكبير الذي ينطوي عليه كلامه فحاول التخفيف من وقعه على القارئ بزعم أن ثمة ((حِكَم ومغازي)) اقتضت التعبير بكلمة (المهديون) عن معنى الرجعة! وعلى الرغم من أن عذرنا سيكون ظاهراً كما لا يخفى إذا لم نكلف أنفسنا عناء النظر للحكم والمغازي المزعومة، إذ كيف لأحد أن يتعامل بجدية مع هذه الفكرة الغريبة القائلة بأن التعبير بما لا علاقة له بالشيء ينطوي على حكمة ومغزى!؟ أقول على الرغم من ذلك فإن قراءة ما سيخطه قلم الشيخ مفيدٌ على مستوى تصور مدى جدية الشيخ في التعاطي مع موضوعه، ومهم كذلك على مستوى استكناه الدوافع الحقيقية التي تحرك قلم الشيخ وفكره.
الحكم والمغازي المزعومة:
يذكر الشيخ حكمتين، أو مغزيين؛ أولهما ((اعتماد التعبير الكنائي عن الرجعة حيث إنَّ عقيدة الرجعة تعني مشروع إقامة الدولة لدى أهل البيت عليهم السلام وإبراز هذا المشروع بمكان من الخطورة السياسية والأمنية وليس هو عقيدة تجريدية بحتة)).
ويرد عليه:
1- إن مشروع إقامة الدولة لدى أهل البيت عليهم السلام غير متوقف على الرجعة، بل هو معدّ للتحقيق في كل زمان، ولكن الظروف التأريخية، وتعلق هذا المشروع بتوفر القابل المناسب جعله مؤجلاً إلى حين ظهور قائمهم عليهم السلام، وليس إلى زمن الرجعة، كما يظن الشيخ السند. بل سنرى الشيخ السند نفسه يستشهد بأحاديث من قبيل: «فلا تعجلوا فوَالله قد قرب هذا الأمر ثلاث مرَّات فأذعتموه، فأخَّره الله». وهل تخفى دلالة مثل هذا الحديث على معنى أنهم عليهم السلام في حالة تطلع دائب ودائم لتحقيق الهدف الإلهي المقدس المتمثل بإقامة دولة العدل الإلهي، وإلا بربك قل لي لأي شيء قطعتهم السيوف والسموم، ألأجل التعبيرات الكنائية الباردة؟
الحق إن ما يطرحه الشيخ السند غريب جداً، ويكاد لا ينقضي العجب منه، فالأحاديث التي بشرت بدولة العدل التي يقيمها قائم آل محمد عليهم السلام كثيرة جداً، واليقين المتولد عنها ألهب نار الأشواق في صدور بسطاء الناس وعلمائهم، فليت شعري أين صدر الشيخ السند عن هذا الجمر المقدس؟
2- إن الكثير جداً من الروايات الصادرة عنهم عليهم السلام قد ذكرت نصاً وبصراحة كاملة أن لهم دولة يقيمها مهديهم، ومثلها الروايات التي صرحت بالرجعة، فالعقيدة بالمهدي ودولته المباركة، ومثلها العقيدة بالرجعة ليستا مما خفي عن الناس حتى يُقال إنهم عليهم السلام اختاروا الطريق الكنائي في التعبير عنها لدواعي أمنية وسياسية؟
وها هو المأمون يسأل الإمام الرضا عليه السلام عن الرجعة ويجيبه الإمام عنها دون حرج، فقد ورد في عيون أخبار الرضا: ج1 ص218: ((... فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة فقال الرضا عليه السلام: إنها لحق قد كانت في الأمم السالفة ونطق به القرآن وقد قال رسول الله (ص) يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ..الخ)).
أما ثانية الحكمتين، أو المغزيين، فهي برأي الشيخ السند: ((أنَّه إشارة إلى أنَّ هذا المقام من المقامات التي يصل إليها أئمّة أهل البيت، وهم موعودون بها من قبل الله تعالى)).
أقول: ما يقصده الشيخ السند هو أن (المهديون) مقام مرتبط بإقامة الدولة، فقد قال في بعض مواضع بحثه: ((أنَّ عنوان المهدي والمهديّون له تفسير مستفيض بل متواتر في روايات أهل البيت عليهم السلام هو كالأصل في معناه ويراد به الإمام من الأئمّة الاثني عشر عندما يقيم الدولة الظاهرة الممكّنة لدولة آل محمّد عليهم السلام)). وقال في موضع آخر: ((ومعنى وصف ومنصب عنوان المهدي للأئمّة الاثني عشر أهل البيت عليهم السلام كمقام خاصّ لمن يقيم دولة محمّد وآل محمّد في الإعلان الظاهر وبنحوٍ تبقى مستمرّة إلى يوم القيامة)). وقال كذلك: ((فالمراد بالمهديين الاثني عشر هم الأئمّة الاثني عشر أنفسهم، فلهم مقام المهدوية بعد تسنّمهم أصل مقام الإمامة من دون دولة ظاهرة معلنة)).
وكلام الشيخ هذا تخرص لا أكثر، وما زعمه من تفسير مستفيض، بل متواتر في روايات أهل البيت عليهم السلام شيء توهمه على ما يبدو، فالنصوص تنحو منحى مغايراً، فقد ورد في الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 536: ((عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن زيد أبي الحسن، عن الحكم بن أبي نعيم قال: أتيت أبا جعفر عليه السلام وهو بالمدينة، فقلت له: علي نذر بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا، فلم يجبني بشئ، فأقمت ثلاثين يوما، ثم استقبلني في طريق فقال: يا حكم وإنك لههنا بعد، فقلت: نعم إني أخبرتك بما جعلت لله علي، فلم تأمرني ولم تنهني عن شئ ولم تجبني بشئ؟ فقال: بكر علي غدوة المنزل، فغدوت عليه فقال عليه السلام: سل عن حاجتك، فقلت: إني جعلت لله علي نذرا وصياما وصدقة بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا، فإن كنت أنت رابطتك وإن لم تكن أنت، سرت في الأرض فطلبت المعاش، فقال: يا حكم كلنا قائم بأمر الله، قلت: فأنت المهدي؟ قال: كلنا نهدي إلى الله، قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: كلنا صاحب السيف ووارث السيف، قلت: فأنت الذي تقتل أعداء الله ويعز بك أولياء الله ويظهر بك دين الله؟ فقال: يا حكم كيف أكون أنا وقد بلغت خمسا وأربعين [سنة]؟ وإن صاحب هذا الأمر أقرب عهدا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة)).
الإمام الباقر عليه السلام يفسر (المهدي) في هذه الرواية بمعنى الذي يهدي إلى الله، وأين هذا مما زعمه الشيخ السند؟
بل ورد في كثير من الروايات إن المهدي إنما سمي مهدياً ((لأنه يهدي لأمر قد خفي))[انظر: علل الشرائع: الشيخ الصدوق. ج1 ص160 – 161، وروضة الواعظين: الفتال النيسابوري ص 264 – 265، والغيبة - الشيخ الطوسي - ص 471، وغيرها].
الشيخ السند على ما يبدو لا يبني آراءه ومعتقداته على بحث حقيقي، فقد قرأت له أكثر من بحث اتسمت طروحاته فيها بالغرابة الشديدة والاختلاف الصارخ عن كل ما هو مطروح، هذا فضلاً عن كون الرجل في بحثه هذا تحديداً مدفوع بأهداف صراعية، عادة ما تشوش الرؤية، بل تعميّ عليها.
هذه الأهداف الصراعية يدل عليها قوله: ((أنَّ هذه العقيدة والمعرفة بالرجعة بهذا الشكل قد التَبس على جماعة لتقمّص أدعياء أرادوا بالمؤمنين ضلالاً عن صراط الحقّ وعن التمسّك بأئمّة الاثني عشر لأهل البيت عليهم السلام إلى أنداد وشركاء يُشركون بهم في الولاية الإلهية ليزيلوا الحقّ عن مقرّه ويصرفوا الناس عن الأئمّة الاثني عشر التباساً عليهم باسم الاتّصال بالإمام المهدي عليه السلام الإمام الثاني عشر، بل ربَّما تمادى الغبيُّ عندهم إلى تهميش الإمام الثاني عشر ودفعه عن مقامه الذي رتَّبه الله فيها، وأنَّه ليس هو المهدي وليس هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، تمنّيهم أنفسهم وشياطينهم إلى طاعة الشيطان والأبالسة مع استخدام للسحر والشعبذة ليغووا ضعفة العقول والقلوب ومرضى النفوس، الذين لم يتفقَّهوا في الدين ولم يلجؤوا إلى علم وركن ركين)).
بطبيعة الحال لسنا من المؤمنين بمقولة مكيافللي (الغاية تبرر الوسيلة)، وعليه لا نرى الهدف الصراعي مسوغاً لهذه الفوضى العقدية التي تشيعها كتابات الشيخ محمد السند، وسنجعل من فكرة التفقه في الدين واللجوء إلى العلم والركن الركين، كما ذكر، فيصلاً وحيداً بيننا وبينه.
كلام الشيخ السند عن رواية الوصية:
بعد عرض وصية رسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة وفاته، يكتب الشيخ السند، تحت عنوان (المغالطة في الرواية):
((توهّم: إنَّ هذه الرواية دالّة على أنَّ الإمام الثاني عشر يسلّم الوصيّة إلى ابنٍ له ثلاثة أسماء، فيكون قول النبي صلى الله عليه وآله في هذه الفقرة: (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المهديين) بإرجاع الضمير في (إذا حضرته) إلى الإمام الثاني عشر، وكذلك ضمير (ابنه) إلى الإمام الثاني عشر عليه السلام، وأنَّ هذه الثلاثة أسماء هي أسماء لابن الإمام الثاني عشر)).
ومعنى كلام الشيخ هذا إن من يفهم عودة الضمير (الهاء) في كلمة (حضرته)، وكلمة (ابنه) إلى الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، ويرى بالنتيجة أن هناك ابناً للإمام محمد بن الحسن ستؤول له مقاليد الأمر بعد وفاة أبيه، فهو واهم!! أما لماذا هو واهم فسنسمع الجواب من الشيخ السند، يقول تحت عنوان (دفع التوهم):
((هذا الإرجاع للضمير إلى الإمام الثاني عشر خطأ فاحش في تركيب عبارات الجمل وسياقاتها، فإنَّ الصحيح أنَّ الضمير يرجع إلى الإمام الحادي عشر، الإمام الحسن العسكري عليه السلام، أي إذا حضرت الإمام العسكري عليه السلام الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الإمام الثاني عشر عليه السلام الذي له ثلاثة أسماء وهو الإمام الثاني عشر أوَّل المهديين، والإمام الثاني عشر له ثلاثة أسماء: اسم كاسم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله، والاسم الآخر عبد الله وأحمد، والثالث وهو اللقب المهدي، وهو الإمام الثاني عشر أوَّل المؤمنين، وفي بعض النسخ: (اسم كاسمي واسم أبيه وهو عبد الله)، وعلى هذه النسخة يكون اسم الإمام الحسن العسكري عليه السلام عبد الله، وسنبيّن وجه كون الإمام الثاني عشر أوَّل المهديين وأوَّل المؤمنين)).
إذن كل ما قاله الشيخ السند لغاية الآن هو تكرار الدعوى نفسها، فالضمائر لا تعود للإمام المهدي عليه السلام لأنها لا تعود له، أي إن دليل الدعوى هو الدعوى ذاتها!
ولكن لماذا يكون إرجاع الضمير (الهاء) إلى الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام خطأ فاحشاً، أليس هذا هو الظاهر من العبارة، وبوضوح لا تكاد تخطئه عين؟ لنقرأ الرواية:
((عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي عليه السلام: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة، فأملى رسول الله صلى الله عليه وآله وصيَّته حتَّى انتهى إلى هذا الموضع. فقال: يا علي إنَّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أوَّل الاثني عشر إماماً، سمّاك الله تعالى في سمائه: علياً المرتضى، وأمير المؤمنين، والصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصحُّ هذه الأسماء لأحد غيرك. يا علي، أنت وصيّي على أهل بيتي حيّهم وميّتهم، وعلى نسائي فمن ثبَّتها لقيتني غداً، ومن طلَّقتها فأنا بريء منها، لم ترَني ولم أرَها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمّتي من بعدي. فإذا حضرتك الوفاة فسلّمها إلى ابني الحسن البرّ الوصول. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه سيّد العابدين ذي الثفنات علي. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الباقر. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه جعفر الصادق. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه موسى الكاظم. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الرضا. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الثقة التقي. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الناصح. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الحسن الفاضل. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد عليهم السلام فذلك اثنا عشر إماماً. ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث المهدي وهو أوَّل المؤمنين)).
لاحظوا أن سياق العبارة هو التالي: (ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين) فالمشار إليه بعبارة (إذا حضرته الوفاة) هو من يكون بعده إثنا عشر مهدياً، فمن هو هذا؟ إنه الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام بطبيعة الحال، فهو تمام الإثني عشر إماماً (فذلك اثنا عشر إماماً) ومن بعده المهديون الإثنا عشر. وبطبيعة الحال الذي تحضره الوفاة هو من يسلمها إلى ابنه، فيكون الضمير (الهاء) عائد على الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، والابن هو أول الإثني عشر مهدياً. اعتقد الأمر واضح للغاية ولا يحتاج إلى مزيد شرح وبيان، ولكن لماذا يريد الشيخ السند أن يجعل من هذا الأمر الواضح مسألة بالغة التعقيد، وتستدعي عمقاً تحليلياً يطيح بكل ثوابت العقل السليم، ومعه العقائد السليمة؟ أظن الجواب يكمن في الهدف الصراعي المشار إليه.
ولكن تعالوا نستخدم (حساب العرب)، كما يعبرون، ونرى هل المسألة معقدة فعلاً، أم إنها ببساطة (حساب العرب)؟ انظروا: (فإذا حضرتك الوفاة فسلّمها إلى ابني الحسن) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام علي عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابني الحسين)، الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الحسن. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه سيّد العابدين ذي الثفنات علي) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الحسين عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الباقر) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام السجاد عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه جعفر الصادق) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الباقر عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه موسى الكاظم) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الصادق عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الرضا) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الكاظم عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد الثقة التقي) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الرضا عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه علي الناصح) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الجواد عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الحسن الفاضل) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الهادي عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد عليهم السلام) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام الحسن العسكري عليه السلام. (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين) الذي تحضره الوفاة هنا هو الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام، فما رأيكم هل هذه الحقيقة أوضح، أم الشمس في يوم عرسها؟
ولكن لأن الباطل لجلج بعكس الحق الذي هو أبلج، يسوق الشيخ السند جملة مما يسميه (الشواهد على هذا التفسير).
شواهد الشيخ السند:
الشاهد الأول:
((الشاهد الأوَّل: ما ورد في عدَّة روايات من الفريقين أنَّ الذي له أسماء ثلاثة هو نفس الإمام الثاني عشر عليه السلام:
1 _ فقد روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة عن الفضل بن شاذان، عن إسماعيل بن عياش، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر المهدي فقال: «إنَّه يبايع بين الركن والمقام، اسمه أحمد وعبد الله والمهدي، فهذه أسماؤه ثلاثتها»)). ويرد عليه:
لا أشك في أن الكثير من القراء سيفهمون ما صنعه الشيخ محمد السند هنا على أنه استشهاد بالرواية الواردة عن حذيفة لفهم المراد من رواية الوصية المذكورة أعلاه، والرجل على أية حال صرح بهذا بقوله (الشاهد الأول ...الخ)، وعملية كهذه، كما هو معروف لا غبار عليها، ولكن هل حقاً لا غبار على ما صنعه الشيخ محمد السند؟
لنتذكر أن الشيخ محمد السند يريد أن يقنعنا بأن الضمير (الهاء) الوارد في كلمة (حضرته)، و(ابنه) في آخر فقرات رواية الوصية يعود إلى الإمام العسكري عليه السلام، وأن صاحب الأسماء الثلاثة بالتالي هو الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام. والفقرة المقصودة هي: (فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث المهدي وهو أوَّل المؤمنين)؟
وقد سبق أن أوضحنا أن الرواية نفسها تبين بوضوح بالغ أن الضمير (الهاء) يعود على الإمام المهدي عليه السلام، فهو المعني بحضور الوفاة، وأن صاحب الأسماء الثلاثة الذي يتسلم الإمامة منه هو ابنه (أحمد). ومعنى هذا إننا أثبتنا بالضرورة أن اسم (المهدي) من جملة أسماء الابن، فهو (مهدي)، كما أن أباه مهدياً كذلك، فالاسم مشترك بينهما.
إذا اتضح هذا يتضح لنا إذن أن الشيخ محمد السند قد ارتكب مغالطة، بل حاول جرّ أقدامنا إلى الطريق الخاطئة. ذلك أن الرواية الأخيرة التي أتى بها شاهداً لا تتضمن قرينة، أو أي شيء يمكن أن نحدد من خلاله هوية المهدي المذكور فيها، على العكس تماماً من رواية الوصية التي اتضح لنا فيما تقدم أن بالإمكان – و بيسر بالغ – تحديد هوية المهدي فيها، وعليه فالإجراء الصحيح هو أن نستهدي برواية الوصية، ونتخذ منها مرشداً نحدد على ضوئه هوية المقصود من المهدي في الرواية التي جاء بها الشيخ السند شاهداً، لا العكس كما فعل الشيخ السند!
الروايات الدالة على وجود مهديين في عصر الظهور:
بطبيعة الحال ما فعله الشيخ السند كان مغالطة، وتحكماً، بيد أن ملاحظة هذه المغالطة قد لا تتسنى للكثيرين بسبب المفهوم المغلوط المترسخ في الأذهان عن دلالة لفظ المهدي – ولاسيما مهدي آخر الزمان – على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام.
من هنا أجد لزاماً عليّ أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض الروايات التي تدل بوضوح على أن ثمة مهدياً، أو قائماً يولد في آخر الزمان، لتكون النتيجة أن لدينا في عصر الظهور مهديين اثنين؛ أولهما الإمام محمد بن الحسن عليه السلام، وثانيهما ولده أحمد الذي ذكرته وصية رسول الله صلى الله عليه وآله، وكما يلي:
1- ورد في كتاب سليم بن قيس ص429، في خبر طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ((... ثم ضرب بيده على الحسين عليه السلام فقال: يا سلمان، مهدي أمتي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما من ولد هذا. إمام بن إمام، عالم بن عالم، وصي بن وصي، أبوه الذي يليه إمام وصي عالم. قال: قلت: يا نبي الله، المهدي أفضل أم أبوه؟ قال: أبوه أفضل منه. للأول مثل أجورهم كلهم لأن الله هداهم به)). وفي هذه الرواية قرينتان تبينان هوية المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، أولهما قوله صلى الله عليه وآله: (أبوه الذي يليه)، فهذه العبارة تعني أن أبا المهدي يأتي بعده، وهو ما لا ينطبق على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام لأن أباه كان قبله، ولكن ينطبق على (أحمد) ابن الإمام المهدي لأنه يرسله أبوه ليقوم بالأمر ويطهر الأرض. لكن يهمني هنا أن أوضح للقارئ أن قيام (أحمد) بمهمة تطهير الأرض لا يعني أن الإمام المهدي ليس هو من يزهق الباطل ويقيم الحق، فالحقيقة أن نسبة الأمر له عليه السلام من باب أولى لأنه الآمر، وقد نسب الله عز وجل إخراج الأنفس (الموت) في القرآن لنفسه، ونسبه لملائكته، ونسبه كذلك لملك الموت، دون أن يعني ذلك وجود تعارض أو تنافي فما يفعله ملائكة الموت يفعلونه بأمر ملك الموت (عزرائيل) عليه السلام، وهو بدوره يفعله بأمر الله عز وجل.
بل لقد ورد في الكافي ج1 ص535(عن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قد يقوم الرجل بعدل أو يجور وينسب إليه ولم يكن قام به، فيكون ذلك ابنه أو ابن ابنه من بعده ، فهو هو)). وفيه كذلك، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((إن الله تعالى أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا، مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام، فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى، أي لا يكون البنت رسولا يقول الله عز وجل والله أعلم بما وضعت، فلما وهب الله تعالى لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك)).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((إذا قلنا في رجل قولا، فلم يكن فيه وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء)).
وفي الإمامة والتبصرة/ ص94: ((عن أبي عبيدة الحذاء: قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذا الأمر، متى يكون؟ قال: إن كنتم تؤملون أن يجيئكم من وجه، ثم جاءكم من وجه فلا تنكرونه)).
أما القرينة الثانية فهي قوله صلى الله عليه وآله: (أبوه أفضل منه)، أي إن أبا المهدي أفضل منه، وهذا بدوره لا ينطبق على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام، إذ هو أفضل من أبيه، بل أفضل من آبائه جميعهم باستثناء أصحاب الكساء، فقد ورد كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني ص73: ((عن أبي بصير، عن أبي عبد الله، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل اختار من كل شئ شيئا، اختار من الأرض مكة، واختار من مكة المسجد، واختار من المسجد الموضع الذي فيه الكعبة، واختار من الأنعام إناثها، ومن الغنم الضأن، واختار من الأيام يوم الجمعة، واختار من الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس بني هاشم، واختارني وعليا من بني هاشم، واختار مني ومن علي الحسن والحسين، وتكملة اثني عشر إماما من ولد الحسين تاسعهم باطنهم، وهو ظاهرهم، وهو أفضلهم، وهو قائمهم)).
2- وفي كتاب سليم بن قيس كذلك ص 133 وما بعدها: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة: ((إن لعلي بن أبي طالب ثمانية أضراس ثواقب نوافذ ، ومناقب ليست لأحد من الناس ... إلى قوله صلى الله عليه وآله: منهم المهدي والذي قبله أفضل منه، الأول خير من الآخر لأنه إمامه والآخر وصي الأول)).
في هذه الرواية أيضاً يقول الرسول صلى الله عليه وآله إن أبا المهدي أفضل منه – أي أفضل من المهدي وقد علمنا أن الإمام المهدي محمد بن الحسن أفضل من أبيه العسكري بل أفضل من جميع الأئمة من ذرية الحسين، فيتحصل أن المراد من المهدي في الرواية هو أحمد ابن الإمام محمد بن الحسن المذكور في وصية رسول الله.
3- ورد الكافي ج1 ص534: ((عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من ولدي اثنا عشر نقيبا، نجباء، محدثون، مفهمون، آخرهم القائم بالحق يملاها عدلا كما ملئت جورا)).
ومثله ما ورد في الكافي / ج1: 534 عن أبي جعفر، قال: ((قال رسول الله: إني وإثني عشر من ولدي و أنت يا علي زر الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الأرض أن تسيخ بأهلها فإذا ذهب الإثنا عشر من ولدي ساخت بأهلها ولم ينظروا)).
وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله بعد استثناء علي عليه السلام لأنه أخوه هم: 1- الحسن 2- الحسين 3- السجاد 4- الباقر 5- الصادق 6- الكاظم 7- الرضا 8- الجواد 9- الهادي 10- العسكري 11- المهدي 12- أحمد بن المهدي، وهو القائم بنص الحديث.
4- ورد في الكافي: ج1 ص532 والخصال: ص477 – 478: ((عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: دخلت على فاطمة وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت أثني عشر آخرهم القائم؛ ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم علي)). وأبناء فاطمة عليها السلام الإثنا عشر هم أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله ذاتهم، أي باستثناء علي عليه السلام، وآخرهم القائم، أي (أحمد) هو القائم.
5- في غيبة النعماني ص168 عن أبي جعفر عليه السلام قال: ((في صاحب هذا الأمر سنن من أربعة أنبياء: سنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من يوسف، وسنة من محمد صلوات الله عليهم أجمعين، فقلت: ما سنة موسى؟ قال: خائف يترقب. قلت: وما سنة عيسى؟ فقال: يقال فيه ما قيل في عيسى، قلت: فما سنة يوسف؟ قال: السجن والغيبة. قلت: وما سنة محمد صلى الله عليه وآله؟ قال: إذا قام سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أنه يبين آثار محمد، ويضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر هرجا هرجا، حتى رضي (يرضى) الله قلت: فكيف يعلم رضا الله؟ قال: يلقي الله في قلبه الرحمة)).
والإمام المهدي عليه السلام لا يُسجن فيكون المعني غيره، أي أحمد، وقوله عليه السلام (ويضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر) يدلنا على أن المقصود رجل من أهل بيت الإمام المهدي (أي ولده) يخرج في المشرق، وليس في مكة، فعن أمير المؤمنين إنه قال: ((... يخرج رجل قبل المهدي من أهل بيته من المشرق يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل ويقتل ويتوجه إلى بيت المقدس فلا يبلغه حتى يموت)) الملاحم والفتن: السيد ابن طاووس/ص139].
أكتفي بهذا المقدار من الروايات، وإن كان ما لم أذكره منها أكثر بكثير.
رواية أخرى يستدل بها الشيخ السند:
أما الرواية الثانية التي يسوقها الشيخ محمد السند تحت عنوان (الشاهد الأول)، فهي ما ورد عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، قال: ((قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان أبيض اللون، مشرب بالحمرة، مبدح البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكبين، بظهره شامتان: شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبيّ صلى الله عليه وآله، له اسمان: اسم يخفى واسم يعلن، فأمَّا الذي يخفى فأحمد، وأمَّا الذي يعلن فمحمّد)).
وهذه الرواية في الحقيقة لا تنفع الشيخ السند، بل هي تؤكد ما نقوله. فلو تساءلنا عن معنى قوله عليه السلام (له اسمان)، فهل المراد أن هناك شخص واحد يُطلق عليه اسمان، أم إن المقصود هو أن هناك شخصان يشتركان بعنوان القائم؟ بطبيعة الحال المعنى الثاني الذي ذكرناه لا يتبادر من لفظ (اسمان) منذ الوهلة الأولى بخلاف المعنى الأول. ولكنه، أي المعنى الثاني تضطرنا القرينة إلى المصير إليه، فقوله عليه السلام (اسم يخفى واسم يعلن، فأمَّا الذي يخفى فأحمد، وأمَّا الذي يعلن فمحمّد) لا يستقيم إلا على المعنى الثاني.
إذ لا معنى لئن يكون الاسم (أحمد) خافياً والرواية نفسها قد ذكرته (فأمَّا الذي يخفى فأحمد)، اللهم إلا إذا كان مراده من الاسم هو المسمى، أو الشخص، وعليه يكون معنى له اسمان، أي إن هناك شخصان كل منهما هو القائم، وهذا هو المطلوب.
الشاهد الثاني:
أما (الشاهد الثاني) الذي جاء به الشيخ محمد السند ليشهد لنظريته في أن المهديين عليهم السلام هم الأئمة أنفسهم فهو التالي:
((أنَّ عنوان المهدي والمهديّون له تفسير مستفيض بل متواتر في روايات أهل البيت عليهم السلام هو كالأصل في معناه ويراد به الإمام من الأئمّة الاثني عشر عندما يقيم الدولة الظاهرة الممكّنة لدولة آل محمّد عليهم السلام، ومن المستفيض في رواياتهم عليهم السلام أنَّ الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام يرجعون كما هو مقتضى عقيدة الرجعة، ويقيمون دولة آل محمّد عليهم السلام واحداً بعد آخر، وهو مقتضى قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (القصص: 5).
وهذا الخطاب عامّ لكلّ الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام حتَّى أنَّ الإمام الثاني عشر أيضاً تكون له رجعة.
فالمراد بالمهديين الاثني عشر هم الأئمّة الاثني عشر أنفسهم، فلهم مقام المهدوية بعد تسنّمهم أصل مقام الإمامة من دون دولة ظاهرة معلنة، والحال ذلك حتَّى في الإمام الثاني عشر منذ الوصيّة والإمامة من أبيه الحسن العسكري عليه السلام إلى يوم ظهوره، حينئذٍ يتحقَّق له الوصف الفعلي لمقام المهدي، وإلى هذا المفاد يشير قول النبيّ صلى الله عليه وآله في الرواية المزبورة: «فذلك اثنا عشر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً»، أي بعد إمامة الإمام الثاني عشر وامتدادها في عصر الغيبة يتحقَّق بدؤ إقامة دولة محمّد وآل محمّد عليهم السلام، وأوَّل من يقيمها هو الإمام الثاني عشر، ومن ثَمَّ يكون الإمام الثاني عشر أوَّل المهديين بعد أن كان له أصل مقام الإمامة طيلة فترة الغيبة، وهو أوَّل المؤمنين أيضاً من الأئمّة الاثني عشر الذين وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض بدولة معلنة)).
لا أدري حقاً أي نمط من الشهود هذا الشاهد، فكما ترون ما يقوله هذا الشاهد هو نفس الدعوى، فكيف يكون المدعي شاهداً؟
حتى الشيخ السند سنكتشف أنه لم يكن مقتنعاً بشاهده، ولذلك سيأتي بشهود ليشهدوا لشاهده!
إذن هذا الشاهد يقول: (أنَّ عنوان المهدي والمهديّون له تفسير مستفيض بل متواتر في روايات أهل البيت هو كالأصل في معناه ويراد به الإمام من الأئمّة الاثني عشر عندما يقيم الدولة الظاهرة الممكّنة لدولة آل محمّد عليهم السلام)، وقد سبق أن ناقشنا هذا الكلام وألفتنا إلى أن صاحب هذه الدعوى لم يأتِ ولو برواية واحدة من هذه الروايات المستفيضة، أو المتواترة، كما يزعم، للدلالة على مذهبه الغريب. وهنا سأستعرض بعض الروايات الواردة في المهديين عليهم السلام لأبين أن هذه الروايات ذاتها تكذب تصور الشيخ السند، وكما يلي:
1- قوله صلى الله عليه وآله في رواية الوصية: ((فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه))، يدل على أن المهديين ليسوا هم الأئمة، فالأئمة هم آباء الإمام المهدي عليه السلام كما هو معلوم، وهنا يسلمها لابنه.
2- ورد في الغيبة للطوسي: ص280، دعاء عن الإمام المهدي عليه السلام نقله الضراب، وفيه: ((... اللهم صل على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن الرضا، والحسين المصفى، وجميع الأوصياء، مصابيح الدجى وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم، وصلّ على وليك وولاة عهده والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم دنيا وديناً وآخره إنك على كل شيء قدير)).
وقوله (الأئمة من ولده) المقصود به المهديون، فهم إذن أبناء الإمام المهدي وليسوا آباءه.
3- ورد في مصباح المتهجد: ص405 – 411، الغيبة للطوسي: ص273 وما بعدها الدعاء الوارد عن الإمام الرضا، وفيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلّ على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وحجة رب العالمين، المنتجب في الميثاق، المصطفى في الظلال، المطهر من كل آفة، البريء من كل عيب، المؤمل للنجاة، المرتجى للشفاعة، المفوض إليه دين الله... (إلى قوله ): اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تقر به عينه وتسر به نفسه، وبلغه أفضل ما أمله في الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير... (ثم يقول ): وصلّ على وليك وولاة عهدك والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم وزد في آجالهم وبلغهم أقصى آمالهم ديناً ودنيا وآخرة إنك على كل شيء قدير)).
وهو كسابقه يدل على أن المهديين هم أبناء الإمام المهدي عليه السلام، وليسوا آباءه.
4- جاء في شرح الأخبار ج2 ص42: ((... عن النبي، أنه ذكر المهدي، وما يجريه الله من الخيرات والفتح على يديه. فقيل له: يا رسول الله، كل هذا يجمعه الله له؟ قال: نعم. وما لم يكن منه في حياته وأيامه هو كائن في أيام الأئمة من بعده من ذريته)).
وهو صريح في أن المهديين من ذرية الإمام المهدي عليه السلام، وليسوا آباءه.
سأكتفي بهذا المقدار خشية الإطالة، وربما تنضم له أدلة أخرى من خلال مناقشة الشيخ السند.
شهود للشاهد:
أما الشهود الذين جاء بهم ليشهدوا لشاهده، فقد قدم لهم بقوله: ((ويتَّضحُ هذا التفسير بشكل مفهم جلي من الروايات الواردة في بيان هذا المعنى لعنوان ووصف المهدي))، ثم زج بهم بالطريقة التالية:
شاهد رقم واحد:
((1 _ روى في تحف العقول وصيّة الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق أبي جعفر محمّد بن النعمان الأحول في وصيّة طويلة عليه السلام بمراعاة التقيّة والكتمان وعدم الإذاعة: «فلا تعجلوا فوَالله قد قرب هذا الأمر ثلاث مرَّات فأذعتموه، فأخَّره الله».
ومراده عليه السلام من هذا الأمر أي قيام دولة آل محمّد صلى الله عليه وآله التي تبقى إلى يوم القيامة ... والحاصل أنَّ هذه الطائفة تعزّز أنَّ المهدوية مقام لأئمّة أهل البيت الاثني عشر هو بلحاظ قيامهم بالدولة المعلنة التي تستمرّ إلى يوم القيامة.
وإلى ذلك يشير قول الأمير عليه السلام فيما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «... والمهدي يجعله الله من شاء منّا أهل البيت»)).
أقول: لا علاقة لهذا الحديث بمسألة المهديين أبداً، وإذا كان الشيخ السند يريد إثبات أن (المهديون) مقام للأئمة أنفسهم فالحديث هذا – ومثله الأحاديث الأخرى المشابهة التي ساقها – لا ينفعه بشيء على الإطلاق في هذا الصدد.
فهذا الحديث، ونظراؤه يمكن أن نستدل منه معنى أن الأمة قد فرطت بفرجها أكثر من مرة، ولأسباب مختلفة، وأن القيادة المتمثلة بالأئمة عليهم السلام مستعدة على الدوام للنهوض بمهمة تطهير الأرض، فلا عذر للأمة من هذه الجهة. ولكن هذا المعنى ما علاقته بمسألة المهديين؟ ولماذا يتم التعاطي مع مسألة المهديين عليهم السلام بكل هذا التعقيد، وكأنها تخلخل بناء فكرياً، أو عقائدياً ما؟ والحال إنها طبيعة تماماً، ومنسجمة كل الانسجام مع البناء الفكري والعقائدي للدين الإلهي.
ولعل من المناسب هنا أن استشهد بما قاله السيد المرتضى وهو يواجه المسألة نفسها، أي مسألة المهديين عليهم السلام، فقد جاء في رسائل المرتضى ج3 ص145 – 146: ((وسئل (رضي الله عنه) عن الحال بعد إمام الزمان في الإمامة، فقال: إذا كان المذهب المعلوم أنّ كل زمان لا يجوز أن يخلو من إمام يقوم بإصلاح الدين ومصالح المسلمين، ولم يكن لنا بالدليل الصحيح أنّ خروج القائم يطابق زوال التكليف، فلا يخلو الزمان بعده من أن يكون فيه إمام مفترض الطاعة، أو ليس يكون. فإن قلنا: بوجود إمام بعده خرجنا من القول بالاثني عشرية، وإن لم نقل بوجود إمام بعده، أبطلنا الأصل الذي هو عماد المذهب، وهو قبح خلو الزمان من الإمام. فأجاب (رضي الله عنه) وقال: إنا لا نقطع على مصادفة خروج صاحب الزمان محمد بن الحسن (عليهما السلام) زوال التكليف، بل يجوز أن يبقى العالم بعده زماناً كثيراً، ولا يجوز خلو الزمان بعده من الأئمة. ويجوز أن يكون بعده عِدّة أئمة يقومون بحفظ الدين ومصالح أهله، وليس يضرنا ذلك فيما سلكناه من طرق الإمامة؛ لأن الذي كلفنا إياه وتعبدنا منه أن نعلم إمامة هؤلاء الاثني عشر، ونبينه بياناً شافياً، إذ هو موضع الخلاف والحاجة. ولا يخرجنا هذا القول عن التسمي بالاثني عشرية، لأن هذا الاسم عندنا يطلق على من يثبت إمامة اثني عشر إماماً. وقد أثبتنا نحن ولا موافق لنا في هذا المذهب، فانفردنا نحن بهذا الاسم دون غيرنا)).
فالأصل كما يقول السيد المرتضى هو عدم جواز خلو الزمان من إمام، أو حجة لله في الأرض، وإذا كان التركيز قد استقر على الأئمة الإثني عشر، فإن ذلك لا يعني عدم وجود غيرهم، والفيصل في الأمر هو كلام الطاهرين عليهم السلام.
اعترافات بالمهديين عليهم السلام:
والحقيقة إن كلام الشيخ السند إذا ما تأملناه على خلفية الاعترافات الكثيرة التي صدرت من الكثير من العلماء فيما يتعلق بموضوعة المهديين، فإنه يبدو غريباً، ومثيراً للكثير من علامات الاستفهام خاصة مع هذا المستوى الاستدلالي الظاهر الوهن.
ولا بأس هنا من نقل كلمات بعض العلماء بشأن المهديين، وسأبدأ بالسيد محمد باقر الصدر الذي قال في كتابه المجتمع الفرعوني ص175: ((ثم بعده - أي المهدي - يأتي اثنا عشر خليفة، يسيرون في الناس وفق تلك المناهج التي وضعت تحت إشراف الحجة المهدي، وخلال فترة ولاية الإثني عشر خليفة يكون المجتمع في سير حثيث نحو التكامل والرقي)).
ومثله ما قاله الشيخ النمازي في مستدرك سفينة البحار ج10 ص516 – 517 - باب خلفاء المهدي وأولاده وما يكون بعده، بعد نقله الرواية التالية: "إكمال الدين: عن أبي بصير، قال: قلت للصادق جعفر بن محمد صلوات الله عليه: يا بن رسول الله، سمعت من أبيك أنه قال: يكون بعد القائم اثني عشر مهدياً، فقال: إنما قال: اثني عشر مهدياً ولم يقل إثنا عشر إماماً، ولكنهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا".
قال: ((أقول: هذا مبين للمراد من رواية أبي حمزة ورواية منتخب البصائر ولا إشكال فيه وغيرهما مما دل على أن بعد الإمام القائم اثني عشر مهدياً، وأنهم المهديون من أوصياء القائم والقوّام بأمره كي لا يخلو الزمان من الحجة)).
أمّا السيد محمد محمد صادق الصدر فقد عقد مبحثاً في كتابه (تاريخ ما بعد الظهور ص625 وما بعدها) للحديث عن المهديين الذين أسماهم (الأولياء الصالحون). وفيه رد على من زعم أنهم الأئمة الإثنا عشر.
أما استشهاد الشيخ السند بقول أمير المؤمنين عليه السلام: «المهدي يجعله الله من شاء منّا أهل البيت»، فأقل ما يمكن أن يقال في جوابه: إن بالإمكان فهم هذا الحديث بعدة معاني كلها أقرب بكثير مما زعمه الشيخ السند، فالحديث يستفاد منه المعنى الذي سبق أن ذكرناه عن كون الأئمة عليهم السلام على أهبة الاستعداد لإقامة دولة العدل الإلهي، ويستفاد منه الإشارة إلى معنى تعرضنا له كذلك وهو التنبيه إلى ضرورة أن لا نستنكر إذا تبين لنا أن المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً هو ابن الإمام محمد بن الحسن عليه السلام، فيكون المعنى هو إنكم قد تتصورون أن لديكم معرفة كاملة بالمهدي بحيث تميزونه من كل الناس، ولكنكم ضعوا في حسبانكم إن الله عز وجل يختبر عباده وقد يتضح لكم أن المهدي شخص آخر غير من تظنونه، وهذا ما قاله الإمام الباقر لمالك الجهني. فعن مالك الجهني، قال: ((قلت لأبي جعفر: إنا نصف صاحب هذا الأمر بالصفة التي ليس بها أحد من الناس. فقال: لا والله، لا يكون ذلك أبداً حتى يكون هو الذي يحتج عليكم بذلك، ويدعوكم إليه))[غيبة النعماني ص337].
وعلى أي حال يكفي احتمال أي معنى من هذه المعاني، أو غيرها لدحض ما يقوله الشيخ السند. ولا أدري حقاً لماذا لا يلتفت الشيخ السند إلى أنه يتحدث بأمر عقائدي خطير، وعليه بالتالي أن يرتكز على أدلة محكمة من جهة الدلالة، لا أن يتحدث بهذا المستوى من المجازفة! فالشيخ السند – وهذه ملاحظة تشمل أكثر من بحث رأيته له – يعتمد كثيراً على كل ما قد يخطر في باله تفسيراً للنصوص، حتى لو كان بعيدا أو منبت الصلة بها! بل أحياناً – وكما هو الحال في بحثه هذا – يقترح معنى لنص ما لا علاقة تربط بينهما، ثم يحاول أن يدلل عليه فيأتي بنصوص أخرى يقترح لها دلالات غير ذات صلة فنكون بإزاء متوالية غير مترابطة، وكل ذلك لأن الشيخ يحاول جاهداً تهريب الدلالات الواضحة القريبة للنصوص بعيداً عن وعي القارئ، ولا أدري حقاً لماذا يفعل هذا، ولحساب أي وهم، أو أي همّ سياسي أو ما شاكل؟
شاهد رقم اثنين:
((2 _ ما رواه في مختصر بصائر الدرجات عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: «ألا اُحدّثك ثلاثاً قبل أن يدخل عليَّ وعليك داخل؟»، قلت: بلى! فقال: «أنا عبد الله، أنا دابّة الأرض صدقها وعدلها وأخو نبيّها وأنا عبد الله. ألا اُخبرك بأنف المهدي وعينه؟»، قال: قلت: نعم، فضرب بيده إلى صدره فقال: «أنا».
وروى أيضاً عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على علي عليه السلام فقال: «اُحدّثك بسبعة أحاديث إلاَّ أن يدخل علينا داخل»، قال: قلت: افعل جُعلت فداك، قال: «أتعرف أنف المهدي وعينه؟»، قال: قلت: أنت يا أمير المؤمنين...».
وقد وردت روايات مستفيضة بأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام هو صاحب الكرّات والرجعات ودولة الدول، ومن ثَمَّ يكون هو المهدي الأكبر من أئمّة أهل البيت كما هو مفاد هاتين الروايتين أنَّه عين المهدي وأنفه حيث تضمَّن تشبيه المهدي بأعضاء جسم بعضها رئيسي مركزي وهو العين والأنف وأنَّ مقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بين الأئمّة الاثني عشر في الاتّصاف بوصف المهدي هو موقع العين، وهذا يبيّن أنَّ صدق عنوان المهدي على الأئمّة الاثني عشر هو بتفاوت)).
حين يقول أمير المؤمنين عليه السلام أنه أنف المهدي وعينه، فالذي يظهر من كلامه هو أن المهدي عليه السلام شخص آخر غيره، أما ما معنى أن علياً عليه السلام هو أنفه وعينه، فمن الممكن أن يكون المعنى أن علياً عليه السلام هو قدوته، كما نعبر، أي إنه يقتص أثره ويترسم خطاه.
هذا الظاهر يصرف الشيخ محمد السند نظره عنه كلياً ليجرد المهدي من شخصانيته، ويحيله إلى فكرة مجردة، أو مفهوم، يقبل الانطباق على مصاديق متعددة (الأئمة عليهم السلام) يكون علي عليه السلام هو المصداق الأكمل من بينها.
وهذا التوجيه فضلاً عن مخالفته لظاهر الرواية، عاجز على تفسير السبب الذي من أجله اقترن لقب المهدي بشخص الإمام محمد بن الحسن عليه السلام دون باقي الأئمة ولاسيما الحسن والحسين عليهما السلام.
فمن الواضح أن استحقاق علي عليه السلام أن يكون المصداق الأكمل للمهدي منشؤه أفضليته على باقي الأئمة من ولده عليهم السلام، وحيث أن الحسن والحسين عليهما السلام هما الأفضل بعده، فكان الأولى أن يقترن لقب المهدي بهما أكثر من الإمام محمد بن الحسن عليه السلام.
Comment