#هل_سنخرج_من_عصور_الظلام_كما_خرجت_أوروبا؟
الجزء الأول: عصور الظلام في أوروبا
️الحلقة الأولى
عندما نعود في الزمن الى القرون الوسطى أو كما اشتهرت بـ (عصور الظلام)، ونحاول الاطلاع على بعض معالمها، حيث كان الظلام في أوروبا دامساً، قاتماً موحشاً يخنق النفس ويتغلغل في الأعماق، كان المفكرون والعلماء والفلاسفة، يعيشون أوقاتاً صعبة للغاية، وهم يرون الظلم والإرهاب والقمع يُمارس باسم الرب وباسم الدين في نشوة وزهو منقطع النظير ! وكانت تهمة الهرطقة والكفر نصيب الأحرار وعمالقة الفكر والعلم، حيث تؤدي بهم الى المقصلة اللعينة أو حياة الغربة والخوف والقلق الذي يفتت الفؤاد. إما أنْ تكون تابعاً لتخاريف وجمود الكنيسة آنذاك، وإلا فعليك أنْ تعيش حياتك كعدو لله والمسيح، ترمقك الناس بعين المقت والاحتقار، ليس لأنك قد كفرتَ بالله سبحانه أو خالفت تعاليم عيسى المسيح، بل لأنك خالفت عقول الكهنة والبابوات في تفسيرهم لدين الله وتعاليم المسيح !
لقد أجرم نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus (1473 – 1543م)، بنظر الكنسية عندما أكتشف نظرية مركزية الشمس، خلافاً لنظرية بطليموس في مركزية الأرض، التي دامت عدّة قرون، وكانت الكنيسة تعتبرها من الثوابت التي لا ينبغي المساس بها وكأنَّها وحيٌ سماويٌ ! كادت نظرية مركزية الشمس أن تودي بحياة كوبرنيكوس الفيلسوف الراهب وعالم الرياضيات والفلكي الشهير، تعرَّض لضغوط قويّة جداً بسبب نظريته هذه، وكان محط تهكم واستصغار رجال الدين. وقد عبَّر كوبرنيكوس عن شديد إيمانه وثقته بالله في جوابه على اعتراض معاصريه القائل:
(إذا كانت نظريتك صحيحة فإن الزُّهرة لابد من أن ترينا من أوجهها ما يرينا القمر).
فقال لهم:
(إنكم على حق، ولست أدري ماذا أقول، ولكن الله رحيم ولابد من أن يوحي إليكم يوماً بما يمكن به الإجابة على ما تسألون) [بين الدين والعلم، أندرو ديكسون وايت].
وفعلاً قد صدَّق الله أملَ ونبوءة كوبرنيكوس على يد عالم الفلك والفيلسوف الفيزيائي الإيطالي جاليليو جاليلي Galileo Galilei (1564 – 1642 م)، بعد أنْ واصل نشر وتدعيم نظرية كوبرنيكوس، وأظهر للناس وجه كوكب الزُّهرة بمنظاره البدائي. رغم موقف الكنيسة آنذاك ضده ومحاكمته المشهورة التي انتهت بالإقامة الجبرية ومنعه من الترويج لنظرية كوبرنيكوس في مركزية الشمس للمجموعة الشمسية. حاول جاليليو أنّ يقنعهم بشتى السبل ولكن دون جدوى، حيث كان تفسير الحقائق العلمية محتكراً بشكل فظيع من قبل رجال الدين ! فقد كتب رسالة الى أحد رجال الدين، جاء فيها:
(إن التأويل الحرفي للنصوص المقدسة شيء عبثي ولا معنى له. فالروح القدس يحاول أن يفهمنا الحقائق الروحية عن طريق الصور المجازية. ولا يمكن بالتالي لأي شخص أن يعتمد على هذه الصورة المجازية لكي ينقض العلم). [هاشم صالح، مدخل الى التنوير الأوربي].
الانصاف يحتم علينا الاعتراف برصانة رأي وتفسير جاليليو، وأنّ الكنسية لو أخذت به لحفظت ماء وجهها على أقل تقدير، ولكن العناد والمكابرة تؤدي بالإنسان الى المهالك. ولكن جاليليو لم يكتفِ بذلك فأراد أن يبين لهم بأن الخلل كامن عند المفسرين للكتب المقدسة وليس في الكتب المقدسة ذاتها، فقال لهم: (لا يمكن للكتابات المقدسة أن تكذب أو أن تخطئ ... ولكن أولئك الذين يفسرونها أو يؤولونها يمكن أن يخطئوا بأشكال شتى. وسوف ترتكب أخطاء عديدة وقاتلة إذا ما التزمنا دائماً بالمعنى الحرفي للكلمات. فهذا ما يجعلنا نقف أمام تناقضات كبيرة لا حل لها) [المصدر السابق]. كلام جاليليو كان بمثابة الإنذار المبكر قبل وقوع الكارثة، وكأنه يستشرف المستقبل وما سيحدث للكنيسة ورجالها من حرج لا يُحسدون عليه. لقد برهن جاليليو على عمق نظرته الثاقبة عندما أوضح مواطن الخلل والخطر وأعطي الحل المناسب، ولكن ما الفائدة إن وقع هكذا علماء كبار تحت سلطة قساوسة لا يرون الحقائق إلا تحت قبعاتهم !
وقد خاطبهم جاليليو بكلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب، وتلخص الوجود كله بكلمات قليلة غاية في الحكمة والروعة، عندما أوضح لهم بأن الطبيعة وحقائقها أيضاً كتاب الله وكلماته فلا يمكن أن تتعارض مع كلماته في الكتاب المقدس، إذ قال: (ينبغي أن نعلم أن الكتابات المقدسة والكتابات الطبيعية تصدر كلاهما عن الكلام الإلهي. فالأولى مُلْهَمَة من قبل الروح القدس، والثانية تنفِّذ بكل دقة القوانين التي أقامها الله في الكون ...). بمعنى أنَّ الكتاب المقدس هو كتاب الله التدويني، أما الطبيعة والمادة فهي كتاب الله التكويني، فلا يمكن التناقض بينهما، فإذا وجدنا حقيقة علمية في الطبيعة وبدليل تجريبي ملموس، فهذا بمثابة آية وكلمة من كلمات الله في كتابه المقدس التكويني. بل يمكننا القول - في الجملة - بتقديم آيات الله التكوينية على آياته التدوينية، إنْ لم يكن خليفة الله موجوداً بيننا، لأنّ الكتب التدوينية والحال هذه معرضة للتحريف والتأويل الخاطئ، بينما كلمات وآيات الله في الكون فهي تَعرض نفسها أمام الجميع للاختبار والتجربة والتحقيق في كل زمان ومكان.
ثم قال جاليليو بعد ذلك: (إن هدف الروح القدس في النصوص الدينية يكمن في تعليمنا كيف نذهب الى السماء، وليس كيف هي مصنوعة السماء) [المصدر السابق]. ويقصد جاليليو أنّ الكتب الدينية تعلمنا كيف نسمو ونرتقي أخلاقياً وسلوكياً، وكيف نسعى لرضا الله وطاعته ونيل الكمالات الروحية، لا أن تعلمنا قوانين الفلك وطبيعة السماء الفيزيائية والفلكية .. ولكن ما من مجيب ! بل لم يستطع جاليليو الحفاظ على نفسه إلا بصعوبة بالغة !
وإنْ كان الحظ قد حالف كوبرنيكوس وجاليليو في النجاة من الموت المحتم على أيدي رجال الدين؛ فلم ينجُ الفيلسوف الإيطالي الشهير جوردانو برونو Giordano Bruno (1548 - 1600 م)، فتم الحكم عليه بالموت حرقاً، نعم حرقاً باسم الرب بسبب آرائه الفلكية المؤيدة لنظرية كوبرنيكوس، هذه النظرية التي انتصرت وسادت العالم بجهود عمالقة العلم والفكر، وأصبحت مواقف رجال الدين في التمسك بنظرية بطليموس مدعاة للخجل والحرج.
تصوروا؛ أحرقت الكنيسة جوردانو برونو حياً، ومع ذلك فهي تدَّعي تمثيل عيسى المسيح الذي يقول:
أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ !!
وبعد عدَّة قرون اضطرت الكنيسة للاعتذار عن الظلم الذي وقع على جاليليو. يقول الدكتور الكاتب السوري هاشم صالح في كتابه (مدخل الى التنوير الأوربي): (... في الواقع إن البابا يوحنا بولس الثاني كان قد صرح منذ عام 1979 بمناسبة مرور مائة عام على ولادة أينشتاين: "إن عظمة غاليليو معروفة للجميع، تماماً كعظمة أينشتاين. ولكن الفرق بينهما هو أن غاليليو عانى كثيراً من ضغط الكنيسة ورجالاتها. وهذا ما لا نستطيع إنكاره أو إخفاؤه).
كانت هكذا أحداث ومواقف تشكل هزَّات قوية جداً تزلزل مواقف الناس وخصوصاً الأحرار والمفكرين تجاه الدين، كان العامل الأساس في تراجع الناس عن إيمانهم ودينهم هم رجال الدين والمؤسسة الدينية (الكنيسة) في ذلك الزمان. فقد كانت تعاليم الكنسية وممارساتها التعسفية مستفزة جداً، فضلاً عن مسألة صكوك الغفران وعقيدة الثالوث وما يحتويه الكتاب المقدس (بعهديه القديم والجديد) من عقائد وقضايا تخالف العقل والذوق السليم. وقع كثير من العلماء والفلاسفة بين خيارين أحلاهما مُرّ كما يقال؛ إما الكفر والخروج عن الدين كلياً، وإما الذهاب الى أن هذا الانحراف والتعارض والسلوكيات الخاطئة والظلم والقمع إنّما هو نتاج التحريف والتغيير الذي طال الكتب المقدسة ونتيجة اجتهاد وآراء ومواقف رجال الدين الغير متزنة، الذين هم بالنتيجة غير معصومين ولا يمثلون الدين بالضرورة، وأنّ دين الله أكبر من أن يكون محصوراً ومُمَثلاً في هكذا مؤسسات وشخصيات.
يُعتبر الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا Baruch Spinoza (1632 – 1677 م) من أشهر الشخصيات التي أخذت على عاتقها نقد الدين السائد آنذاك والكتب المقدسة وخصوصاً كتاب التوراة وما يتضمنه من تعارض وتحريف ونصوص لا يمكن قبولها بحال. فلم يسلم سبينوزا من قمع وإرهاب رجال الدين. كان سبينوزا من عائلة يهودية، وقد عكف على دراسة التوراة والتلمود بِنَهَمٍ وعُمقٍ وتتبع المذاهب الفلسفية واهتم كثيراً بفلسفة الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes (1596 – 1650 م). وقد كان نابغاً ومميّزاً جداً بين اليهود وكانوا يعقدون عليه آمالاً كبيرة، ولكنه سرعان ما بدأ بنقد التوراة وبعض العقائد والشعائر والممارسات اليهودية، وقد حاولوا كثيراً في كسبه واغرائه بشتى السبل ولكن دون جدوى.
ثم تمت محاكمة سبينوزا أمام رؤساء المجلس الملّي اليهودي، كما يقول الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي الكبير وِل ديورَانت Will Durant (1885 – 1981 م): (وتم القرار بموافقة أعضاء المجلس على إنزال اللعنة والحرمان بالمدعو سبينوزا وفصله عن شعب إسرائيل. وإنزال الحرم به من هذه اللحظة مع اللعنات الآتية: بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا، بموافقة الطائفة المقدسة كلها، وفي وجود الكتب المقدسة ذات الستمئة والثلاثة عشر ناموساً المكتوبة بها ... وليكن مغضوباً وملعوناً، نهاراً وليلاً، وفي نومه وصبحه، ملعوناً في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله ... وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفاً ... وأن لا يقترب أحد منه على مسافة أربعة أذرع، وأن لا يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه) قصة الفلسفة، وِل ديورَانت ص120 – 121.
وهكذا تم محاكمة الفيلسوف الكبير الشاب سبينوزا وطرده والبراءة منه ولعنه باسم الرب والدين، ولكن هذه المرة باسم رب اليهود لا رب المسيح ! وقد تبرأ منه وطرده حتى أبيه وحرمه من الميراث، فعاش حياة الحرمان والفقر والاعتزال والخوف. ولم يستطع نشر أهم كتبه في حياته وما تم نشره في حياته تم وضعه في القائمة السوداء وحظرتْ الحكومة طبعها وبيعها، وتم اتهامه بالإلحاد وتضليل الناس، وقد قال بهذا الصدد: (من المؤسف أن عدداً كبيراً من الناس قد صدقوا هذه الإشاعة، واستغل بعض رجال الدين هذه الفرصة لتقديم شكوى ضدي للأمير والقضاة). من أبرز القضايا التي أثارت حفيظة رجال الدين ضد سبينوزا، أنَّه كان يعتقد بأنه لا يجوز لرجال الدين فرض طاعتهم على الناس، وأنَّ هذا الحق كان لنبي الله موسى وضمن ضوابط، ففي كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة)؛ يرى سبينوزا أنّ بداية تدهور الدين حتى أصبح مجرد خرافة مشؤومة، هو استيلاء الأحبار ورجال الدين على مقام أو خلافة نبي الله موسى (ع)، وتنصيب أنفسهم حكاماً على الأمة وقوّاماً على الدين. كذلك أثار حفيظتهم رفضه للشعار والطقوس، وقوله بأنّ الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل) إنما كتبت بأيدٍ بشرية وليست كلها وحياً إلهياً، والاعتقاد بفكرة (وحدة الوجود)، مع أنه حاول بيان اللبس فيها بقوله: (على كل حال لقد أخطأ فهم أولئك الذين يقولون إن غرضي هو أن أبين أن الله والطبيعة شيء واحد، والقائلون بهذا يفهمون من لفظ الطبيعة كتلة معينة من المادة المجسدة، إنني لا أقصد ذلك).
وقد أبدى سبينوزاعن رأيه في تعاليم الأنبياء ووصاياهم، قائلاً: (إنهم لم يُعلموا أي قاعدة أخلاقية لا تتطابق تماماً مع العقل. وليس من قبيل الصدفة أن يكون كلام الله الوارد لدى الأنبياء متوافقاً كلياً مع كلام الله الذي نشعر به في أعماق أعماقنا) [مدخل الى التنوير الأوربي].
وبغض النظر عن تصويب أو تخطئة سبينوزا في آرائه ومعتقداته، ولكن لا يختلف اثنان في أنه كان من عمالقة الفكر والفلسفة، وقد حافظ على إيمانه بالله رغم كل ما واجهه من رجال الدين، ورغم كل ما اكتشفه من مشكلات وأخطاء في الكتب المقدسة. ولم يسلم حتى من العنف المسلح، فقد هاجمه رجل متدين ليلاً في الطريق وحاول قتله، وطعنه بخنجر في رقبته، ولكنه استدار هارباً والدماء تسيل من رقبته. وقال أحد المعاصرين له: (إن الناس كانوا يتحدثون عن سبينوزا باحتقار وكأنه كلب ميت). ويقول عنه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze (1925 – 1995): (ما وُجد فيلسوف على وجه الأرض أكثر كرامة منه ولا أكثر شهامة. ومع ذلك فلم يُشتم أي فيلسوف ولم يُكرَه مثلما شُتم وكُره هو) [المصدر السابق].
يقول هاشم صالح في حديثه عن سبينوزا: (وبعد موته بخمسين سنة كتب أحد اللاهوتيين المسيحيين العبارة التالية لكي توضع كشهادة على الضريح: هنا يرقد سبينوزا. ابصقوا على قبره !! ...
ولكن الهولنديين فهموا بعدئذ قيمته وراحوا يرفعون له تمثالاً في أشهر ساحاتهم العامة بالقرب من البيت الذي كان يسكنه في سنواته الأخيرة. ويرى البروفيسور جوزيف مورو ... أن ارنست رينان وجه إليه ثناءً حاراً في خطاب التدشين للتمثال وكان قد دُعي إليه مع حشد كبير من العلماء والمفكرين وختم خطابه بالكلمات التالية: ربما لم ير أحد الله عن كثب مثلما رؤي هنا من قبل سبينوزا !! فهذا الشخص اتهموه بالإلحاد كان حتماً أقرب الى الله – أي الى الحقيقة – من معظم رجال الدين في عصره .. وكان في استقامته، ونزاهته، وزهده في الحياة، مثلاً أعلى على الفكر الفلسفي).
نعم، ارتفع نجم سبينوزا لاحقاً حتى نال اعجاب العلماء والفلاسفة وأجبرهم على الانشغال بمتابعة فكره وفلسفته وشرحها وتفصيلها، وحتى قيل عنه إنه وُلِد قبل عصره بقرون. ومع أنَّ عمره لم يتجاوز خمسة وأربعين عاماً، "فقد سجله التاريخ كأحد كبار الفلاسفة على مر العصور. فالساعة التي يعيشها سبينوزا تساوي سنة بالنسبة للآخرين، أو كما يقول الشاعر هنري ميشو: في كل ثانية محيطٌ من القرون". (المصدر السابق).
يتبع إن شاء الله
Comment