يتصور المسيحيون الإله من خلال فكرة الأقانيم الثلاثة، فاللاهوت برأيهم أقانيم ثلاثة أو أصول ثلاثة؛ الآب والابن والروح القدس، وكل من هؤلاء الثلاثة هو لاهوت مطلق، فالآب لاهوت مطلق وكذلك الابن والروح القدس، وهذه الثلاثة أقانيم هي ثلاثة حقيقية يستقل كل منها عن الآخر، وهي في الوقت ذاته واحد حقيقي، كما سبق القول.
والمسيحيون في الغالب لا يستطيعون تقديم جواب مقنع عن التناقض الواضح في قولهم أن الثلاثة الحقيقية هي واحد حقيقي، وعادة ما يكون جوابهم المفضل: إن فهم هذه المعادلة التي تناقض مبادئ الرياضيات البسيطة أمر يفوق قدرة العقول البشرية المحدودة، والأمر يحتاج بالنتيجة إلى عون خاص يقدمه الروح القدس كما يزعمون ( ).
ولو سألنا المسيحيين عن كيفية نشوء كل من الابن والروح القدس، لأجابونا: إن الابن والروح القدس قد صدرا أو انبثقا كلاهما عن الآب، أو إن الابن انبثق عن الآب ثم انبثق الروح القدس عن كليهما.
وعلى الرغم من أنهم لا يُعرّفون معنى الانبثاق بصورة واضحة، إلا أننا نعرف بالبداهة أن انبثاق شيء عن شيء يجعل المنبثق متأخراً عن المنبثق عنه ولو بآن أو لحظة، الأمر الذي يسلب عنه صفة الأزلية أو القِدم، فلا يكون في هذه الحالة لاهوتاً مطلقاً.
يمثل مفكرو المسيحية لفكرة الانبثاق بأمثلة من قبيل الضوء الصادر عن الشمس، والكلمة التي ينطق بها المتكلم، ولكن ضوء الشمس كما هو واضح متأخر عن وجودها ولو بلحظة، وكذلك الكلمة متأخرة عن المتكلم.
إذن بالنتيجة لا يمكن أن يكون كل من الابن والروح القدس لاهوتاً مطلقاً كما هو الآب.
كما أننا نعلم أن التمايز والاختلاف لا يمكن تصوره في الحقيقة البسيطة غير المركبة، فإذا كانت الأقانيم الثلاثة مستقلة على الحقيقة كما يقولون فلا يمكن أن تكون حقيقة واحدة؛ لأنه لابد من وجود جهة اختلاف حتمت استقلال كل منها عن الآخر، وجهة الاختلاف تقتضي أن يكون في بعضها نقص هو علة التمايز، وبالتالي لابد أن يكون أحدها لاهوتاً مطلقاً والآخران مفتقران له وليسا لاهوتاً مطلقاً.
إن القول بأن الابن قد صدر عن الآب وإن الابن لاهوت مطلق، أي إنه كامل لا يفتقر لغيره، قول متناقض وأقرب ما يكون إلى السفه؛ لأنه إن كان قد صدر عن الآب وحده فهو مطابق له تماماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى حقيقة لها جهة واحدة، فهو غني وغير مركب، فأي معنى وأي حكمة من هذا الصدور مع عدم وجود أي تمايز أو اختلاف أو تغاير يمكن تصوره؟ هل تقولون إن الآب غير حكيم ليصدر أو ليلد ابناً له لا فائدة له سبحانه ولا لغيره من صدوره؟
الحقيقة أنهم لابد أن يقولوا بوجود اختلاف أو تمايز بين الآب والابن، وهذا يقتضي بدوره أن يقولوا بوجود لاهوت ثانٍ مختلف عن الآب ويسبق الابن، ليكون الابن صادراً عنهما معاً فلا يطابق أحدهما، فهل يقولون بمثل هذا اللاهوت الثاني الذي يسبق الابن ؟
وبطبيعة الحال لابد أن يكون اللاهوت الثاني أقل كمالاً من الأول وليس لاهوتاً مطلقاً ليكون متمايزاً عنه.
إن الله نور لا ظلمة فيه، وكل عوالم الخلق هي نور مختلط بالظلمة وموجودات ظهرت بتجلي نوره سبحانه في الظلمات، ولذا فلا يمكن اعتبار أن الله قد حل في مخلوق أو ظهر في مخلوق ظهوراً تاماً في عوالم الخلق - كما يدعون أنه سبحانه ظهر بعيسى وروح القدس-؛ لأن معنى هذا أنها لا تبقى بل تفنى ولا يبقى إلا نور لا ظلمة فيه، أي لا يبقى خلق بل فقط الله سبحانه وهو نور لا ظلمة فيه.
والحق أن الله سبحانه وتعالى رد في القران الكريم على الذين قالوا إن لله سبحانه ابن انفصل عنه أو وُلِدَ منه أو صَدَرَ عنه، بمعنى أن لاهوتاً مطلقاً قد صدر عن لاهوت مطلق، أو الذين يقولون إن الإنسان المخلوق يمكن أن يرتقي حتى يكون موصولاً باللاهوت المطلق، أي إن حقيقة هذا الإنسان تكون هي اللاهوت المطلق؛ لأنه اتحد باللاهوت المطلق وبهذا حسب تفكيرهم يكون اللاهوت المطلق قد نزل في الناسوت وبالجسد، أو بين الناس في إنسان منهم وهذا الإنسان يكون ابن الله.
قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾( ).
هذا النقض القرآني يعني أنكم تقولون إن لله ولداً وهذا الولد لاهوت مطلق، فإن كانا متطابقين تماماً فلا حكمة من صدور الولد، وإن قلتم بوجود تمايز بينهما فهذا يحتم وجود لاهوت ثان (صاحبة) ليكون الابن صادراً عن الاثنين معاً فلا يطابق أحدهما ( ).
ويدحض السيد أحمد الحسن القول بأن عيسى لاهوت مطلق بقوله: إن عيسى يقول عن نفسه إنه يجهل الساعة التي تكون فيها القيامة الصغرى ( ) (وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) ( ).
والجهل نقص بينما اللاهوت المطلق كامل مطلق لا يعتريه نقص أو جهل؛ لأنه نور لا ظلمة، فالجهل يعتري المخلوق لوجود الظلمة في صفحة وجوده، إذن عيسى نور وظلمة وهذا يثبت المطلوب إن عيسى ليس لاهوتاً مطلقاً بل عبد مخلوق من ظلمة ونور، وليس نوراً لا ظلمة فيه تعالى الله علواً كبيراً وفي هذا فصل الخطاب وبيان وموعظة لأولي الألباب.
* * *
الدكتور عبد الرزاق الديراوي - كتاب ( شبيه عيسى )
الهوامش /
- الأنعام : 101.
- انظر كتاب التوحيد: ص83 وما بعدها.
- المقصود من القيامة الصغرى هو يوم القائم أو المنقذ ، وليس القيامة الكبرى حيث يُحشر الناس للحساب.
- مرقس13: 32.
----------
والمسيحيون في الغالب لا يستطيعون تقديم جواب مقنع عن التناقض الواضح في قولهم أن الثلاثة الحقيقية هي واحد حقيقي، وعادة ما يكون جوابهم المفضل: إن فهم هذه المعادلة التي تناقض مبادئ الرياضيات البسيطة أمر يفوق قدرة العقول البشرية المحدودة، والأمر يحتاج بالنتيجة إلى عون خاص يقدمه الروح القدس كما يزعمون ( ).
ولو سألنا المسيحيين عن كيفية نشوء كل من الابن والروح القدس، لأجابونا: إن الابن والروح القدس قد صدرا أو انبثقا كلاهما عن الآب، أو إن الابن انبثق عن الآب ثم انبثق الروح القدس عن كليهما.
وعلى الرغم من أنهم لا يُعرّفون معنى الانبثاق بصورة واضحة، إلا أننا نعرف بالبداهة أن انبثاق شيء عن شيء يجعل المنبثق متأخراً عن المنبثق عنه ولو بآن أو لحظة، الأمر الذي يسلب عنه صفة الأزلية أو القِدم، فلا يكون في هذه الحالة لاهوتاً مطلقاً.
يمثل مفكرو المسيحية لفكرة الانبثاق بأمثلة من قبيل الضوء الصادر عن الشمس، والكلمة التي ينطق بها المتكلم، ولكن ضوء الشمس كما هو واضح متأخر عن وجودها ولو بلحظة، وكذلك الكلمة متأخرة عن المتكلم.
إذن بالنتيجة لا يمكن أن يكون كل من الابن والروح القدس لاهوتاً مطلقاً كما هو الآب.
كما أننا نعلم أن التمايز والاختلاف لا يمكن تصوره في الحقيقة البسيطة غير المركبة، فإذا كانت الأقانيم الثلاثة مستقلة على الحقيقة كما يقولون فلا يمكن أن تكون حقيقة واحدة؛ لأنه لابد من وجود جهة اختلاف حتمت استقلال كل منها عن الآخر، وجهة الاختلاف تقتضي أن يكون في بعضها نقص هو علة التمايز، وبالتالي لابد أن يكون أحدها لاهوتاً مطلقاً والآخران مفتقران له وليسا لاهوتاً مطلقاً.
إن القول بأن الابن قد صدر عن الآب وإن الابن لاهوت مطلق، أي إنه كامل لا يفتقر لغيره، قول متناقض وأقرب ما يكون إلى السفه؛ لأنه إن كان قد صدر عن الآب وحده فهو مطابق له تماماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى حقيقة لها جهة واحدة، فهو غني وغير مركب، فأي معنى وأي حكمة من هذا الصدور مع عدم وجود أي تمايز أو اختلاف أو تغاير يمكن تصوره؟ هل تقولون إن الآب غير حكيم ليصدر أو ليلد ابناً له لا فائدة له سبحانه ولا لغيره من صدوره؟
الحقيقة أنهم لابد أن يقولوا بوجود اختلاف أو تمايز بين الآب والابن، وهذا يقتضي بدوره أن يقولوا بوجود لاهوت ثانٍ مختلف عن الآب ويسبق الابن، ليكون الابن صادراً عنهما معاً فلا يطابق أحدهما، فهل يقولون بمثل هذا اللاهوت الثاني الذي يسبق الابن ؟
وبطبيعة الحال لابد أن يكون اللاهوت الثاني أقل كمالاً من الأول وليس لاهوتاً مطلقاً ليكون متمايزاً عنه.
إن الله نور لا ظلمة فيه، وكل عوالم الخلق هي نور مختلط بالظلمة وموجودات ظهرت بتجلي نوره سبحانه في الظلمات، ولذا فلا يمكن اعتبار أن الله قد حل في مخلوق أو ظهر في مخلوق ظهوراً تاماً في عوالم الخلق - كما يدعون أنه سبحانه ظهر بعيسى وروح القدس-؛ لأن معنى هذا أنها لا تبقى بل تفنى ولا يبقى إلا نور لا ظلمة فيه، أي لا يبقى خلق بل فقط الله سبحانه وهو نور لا ظلمة فيه.
والحق أن الله سبحانه وتعالى رد في القران الكريم على الذين قالوا إن لله سبحانه ابن انفصل عنه أو وُلِدَ منه أو صَدَرَ عنه، بمعنى أن لاهوتاً مطلقاً قد صدر عن لاهوت مطلق، أو الذين يقولون إن الإنسان المخلوق يمكن أن يرتقي حتى يكون موصولاً باللاهوت المطلق، أي إن حقيقة هذا الإنسان تكون هي اللاهوت المطلق؛ لأنه اتحد باللاهوت المطلق وبهذا حسب تفكيرهم يكون اللاهوت المطلق قد نزل في الناسوت وبالجسد، أو بين الناس في إنسان منهم وهذا الإنسان يكون ابن الله.
قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾( ).
هذا النقض القرآني يعني أنكم تقولون إن لله ولداً وهذا الولد لاهوت مطلق، فإن كانا متطابقين تماماً فلا حكمة من صدور الولد، وإن قلتم بوجود تمايز بينهما فهذا يحتم وجود لاهوت ثان (صاحبة) ليكون الابن صادراً عن الاثنين معاً فلا يطابق أحدهما ( ).
ويدحض السيد أحمد الحسن القول بأن عيسى لاهوت مطلق بقوله: إن عيسى يقول عن نفسه إنه يجهل الساعة التي تكون فيها القيامة الصغرى ( ) (وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) ( ).
والجهل نقص بينما اللاهوت المطلق كامل مطلق لا يعتريه نقص أو جهل؛ لأنه نور لا ظلمة، فالجهل يعتري المخلوق لوجود الظلمة في صفحة وجوده، إذن عيسى نور وظلمة وهذا يثبت المطلوب إن عيسى ليس لاهوتاً مطلقاً بل عبد مخلوق من ظلمة ونور، وليس نوراً لا ظلمة فيه تعالى الله علواً كبيراً وفي هذا فصل الخطاب وبيان وموعظة لأولي الألباب.
* * *
الدكتور عبد الرزاق الديراوي - كتاب ( شبيه عيسى )
الهوامش /
- الأنعام : 101.
- انظر كتاب التوحيد: ص83 وما بعدها.
- المقصود من القيامة الصغرى هو يوم القائم أو المنقذ ، وليس القيامة الكبرى حيث يُحشر الناس للحساب.
- مرقس13: 32.
----------