رد: من هو الطاهر علي ابن ابي طالب ام ابا بكر
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيه قولان : أحدهما : على النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني : على أبي بكر. ابن العربي : قال علماؤنا وهو الأقوى ، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة ، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق : "هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت" رواه أبو الدرداء.]
-واقرأ هذا الكلام للفخر الرازى
دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه : الأول : أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله ، فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر ، بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع ، لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره ، لخافه من أن يدل أعداءه عليه ، وأيضاً لخافه من أن يقدم على قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة ، دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره . الثاني : وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى ، وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر ، فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة ، وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة ، وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين . الثالث : أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما هو فما سبق رسول الله كغيره ، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم . الرابع : أنه تعالى سماه { ثَانِيَ اثنين } فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والكل آمنوا على يديه ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو رضي الله عنه { ثَانِيَ اثنين } في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه ، فكان ثاني اثنين في مجلسه ، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ، ولما توفي دفن بجنبه ، فكان ثاني اثنين هناك أيضاً ، وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن ، فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى .
والجواب : أن هذا تعسف بارد ، لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد ، أما ههنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين } تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره ، فأين أحد الجانبين من الآخر؟
والوجه الخامس : من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام « ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ » ولا شك أن هذا منصب علي ، ودرجة رفيعة .
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم جبريل ، وأرادوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلياً ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة ، فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم ، فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون ، فقال رحمه الله : لكم ما هو خير منه بقوله : « ما ظنك باثنين الله ثالثهما » ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل .
والوجه السادس : أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل . قال الحسين بن فضيل البجلي : من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافراً ، لأن الأمة مجمعة على أن المراد من { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } هو أبو بكر ، وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له ، اعترضوا وقالوا : إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن ، وهو قوله : { قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ }.
والجواب : أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال ، وهو قوله : { أَكَفَرْتَ } أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ، ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة؟ والوجه السابع : في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر . قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } ولا شك أن المراد من هذه المعية ، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة ، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية ، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد ، لزمهم إدخال الرسول فيه ، وإن حملوها على محمل رفيع شريف ، لزمهم إدخال أبي بكر فيه ، ونقول بعبارة أخرى ، دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه ، وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين ، لقوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] والمراد منه الحصر ، والمعنى : إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم ، وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين .
والوجه الثامن : في تقرير هذا المطلوب أن قوله : { إِنَّ الله مَعَنَا } يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية ، كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وذلك منصب في غاية الشرف .
والوجه التاسع : أن قوله : { لاَ تَحْزَنْ } نهى عن الحزن مطلقاً ، والنهي يوجب الدوام والتكرار ، وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة ، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت .
والوجه العاشر : قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ومن قال الضمير في قوله : { عَلَيْهِ } عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه :
الوجه الأول : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر ، لأنه تعالى قال : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } والتقدير : إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن ، وعلى هذا التقدير : فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر ، فوجب عود الضمير إليه .
والوجه الثاني : أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام ، فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً ، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه ، أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس .
والوجه الثالث : أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال : إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه ، فقال لصاحبه لا تحزن ، ولما لم يكن كذلك ، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة ، وهو قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر .
ثم يقول الفخر الرازى
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين : فالأول : قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر : « لا تحزن » فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه؟ وإن كان خطأ ، لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن ، والثاني : قالوا يحتمل أن يقال : إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه ، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه ، فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر . والثالث : وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء ، فهذا العمل من علي ، أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول ، فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب .
والجواب عن الأول : أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة ، قال : فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه ، وذلك طعن في الأنبياء ، ويجب في قوله تعالى في إبراهيم ، حيث قالت الملائكة له : { لاَ تَخَفْ } في قصة العجل المشوي مثل ذلك ، وفي قولهم للوط : { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } مثل ذلك .
فإذا قالوا : إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله : { لاَ تَخَفْ } ليفيد الأمن ، وفراغ القلب .
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك .
فإن قالوا : أليس إنه تعالى قال : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } فكيف خاف مع سماع هذه الآية؟ فنقول : هذه الآية إنما نزلت في المدينة ، وهذه الواقعة سابقة على نزولها ، وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ، ولكنه ما كان آمناً من الضرب ، والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم ، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً ، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ، ولما خاف وبكى قالوا : هذا السؤال الركيك ، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق ، وإنما مقصودهم محض الطعن!
والجواب عن الثاني : أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية ، فإن أبا بكر لو كان قاصداً له ، لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار ، وقال لهم نحن ههنا ، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه ، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك .
والجواب عن الثالث من وجوه : الأول : أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع ، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلي كان غائباً ، والحاضر أعلى حالاً من الغائب . الثاني : أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة ، أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ، ولم يتعرضوا له . أما أبو بكر ، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة ، فكان بلاؤه أشد . الثالث : أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه ، وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين ، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته ، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان ، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن ، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ، ولا جهاد بالسيف والسنان ، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة ، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال ، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ، ولهذا السبب ، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي لم يتعرضوا له ألبتة ، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم ، فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم أشد من خوف علي كرم الله وجهه ، فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل . هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار .
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة GAYSH AL GHADAB
مشاهدة المشاركة
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيه قولان : أحدهما : على النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني : على أبي بكر. ابن العربي : قال علماؤنا وهو الأقوى ، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة ، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق : "هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت" رواه أبو الدرداء.]
-واقرأ هذا الكلام للفخر الرازى
دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه : الأول : أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله ، فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر ، بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع ، لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره ، لخافه من أن يدل أعداءه عليه ، وأيضاً لخافه من أن يقدم على قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة ، دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره . الثاني : وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى ، وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر ، فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة ، وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة ، وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين . الثالث : أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما هو فما سبق رسول الله كغيره ، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم . الرابع : أنه تعالى سماه { ثَانِيَ اثنين } فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والكل آمنوا على يديه ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو رضي الله عنه { ثَانِيَ اثنين } في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه ، فكان ثاني اثنين في مجلسه ، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ، ولما توفي دفن بجنبه ، فكان ثاني اثنين هناك أيضاً ، وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن ، فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى .
والجواب : أن هذا تعسف بارد ، لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد ، أما ههنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين } تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره ، فأين أحد الجانبين من الآخر؟
والوجه الخامس : من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام « ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ » ولا شك أن هذا منصب علي ، ودرجة رفيعة .
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم جبريل ، وأرادوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلياً ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة ، فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم ، فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون ، فقال رحمه الله : لكم ما هو خير منه بقوله : « ما ظنك باثنين الله ثالثهما » ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل .
والوجه السادس : أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل . قال الحسين بن فضيل البجلي : من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافراً ، لأن الأمة مجمعة على أن المراد من { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } هو أبو بكر ، وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له ، اعترضوا وقالوا : إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن ، وهو قوله : { قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ }.
والجواب : أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال ، وهو قوله : { أَكَفَرْتَ } أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ، ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة؟ والوجه السابع : في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر . قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } ولا شك أن المراد من هذه المعية ، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة ، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية ، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد ، لزمهم إدخال الرسول فيه ، وإن حملوها على محمل رفيع شريف ، لزمهم إدخال أبي بكر فيه ، ونقول بعبارة أخرى ، دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه ، وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين ، لقوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] والمراد منه الحصر ، والمعنى : إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم ، وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين .
والوجه الثامن : في تقرير هذا المطلوب أن قوله : { إِنَّ الله مَعَنَا } يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية ، كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وذلك منصب في غاية الشرف .
والوجه التاسع : أن قوله : { لاَ تَحْزَنْ } نهى عن الحزن مطلقاً ، والنهي يوجب الدوام والتكرار ، وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة ، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت .
والوجه العاشر : قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } ومن قال الضمير في قوله : { عَلَيْهِ } عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه :
الوجه الأول : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر ، لأنه تعالى قال : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } والتقدير : إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن ، وعلى هذا التقدير : فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر ، فوجب عود الضمير إليه .
والوجه الثاني : أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام ، فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً ، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه ، أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس .
والوجه الثالث : أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال : إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه ، فقال لصاحبه لا تحزن ، ولما لم يكن كذلك ، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة ، وهو قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر .
ثم يقول الفخر الرازى
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين : فالأول : قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر : « لا تحزن » فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه؟ وإن كان خطأ ، لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن ، والثاني : قالوا يحتمل أن يقال : إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه ، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه ، فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر . والثالث : وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء ، فهذا العمل من علي ، أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول ، فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب .
والجواب عن الأول : أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة ، قال : فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه ، وذلك طعن في الأنبياء ، ويجب في قوله تعالى في إبراهيم ، حيث قالت الملائكة له : { لاَ تَخَفْ } في قصة العجل المشوي مثل ذلك ، وفي قولهم للوط : { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } مثل ذلك .
فإذا قالوا : إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله : { لاَ تَخَفْ } ليفيد الأمن ، وفراغ القلب .
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك .
فإن قالوا : أليس إنه تعالى قال : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } فكيف خاف مع سماع هذه الآية؟ فنقول : هذه الآية إنما نزلت في المدينة ، وهذه الواقعة سابقة على نزولها ، وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ، ولكنه ما كان آمناً من الضرب ، والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم ، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً ، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ، ولما خاف وبكى قالوا : هذا السؤال الركيك ، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق ، وإنما مقصودهم محض الطعن!
والجواب عن الثاني : أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية ، فإن أبا بكر لو كان قاصداً له ، لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار ، وقال لهم نحن ههنا ، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه ، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك .
والجواب عن الثالث من وجوه : الأول : أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع ، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلي كان غائباً ، والحاضر أعلى حالاً من الغائب . الثاني : أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة ، أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ، ولم يتعرضوا له . أما أبو بكر ، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة ، فكان بلاؤه أشد . الثالث : أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه ، وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين ، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته ، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان ، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن ، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ، ولا جهاد بالسيف والسنان ، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة ، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال ، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ، ولهذا السبب ، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي لم يتعرضوا له ألبتة ، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم ، فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم أشد من خوف علي كرم الله وجهه ، فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل . هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار .
Comment