بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
2535 - حَدِيث عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى وَإِسْنَاده كُلّه كُوفِيُّونَ ،
وَقَوْله : " حَدَّثَنَا مَالِك " هُوَ اِبْن مِغْوَل ، ظَاهِره أَنَّ شَيْخ الْبُخَارِيّ لَمْ يَنْسُبهُ فَلِذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيّ : " هُوَ اِبْن مَغُول " وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْوَاو ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ أَنَّ مَالِك بْن مَغُول تَفَرَّدَ بِهِ .
قَوْله : ( هَلْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى ؟ فَقَالَ : لَا )
هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَاب ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَال وَقَعَ عَنْ وَصِيَّة خَاصَّة فَلِذَلِكَ سَاغَ نَفْيهَا ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْي الْوَصِيَّة مُطْلَقًا ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَعْد ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه .
قَوْله : ( أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ )
شَكّ مِنْ الرَّاوِي : هَلْ قَالَ كَيْفَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّة ، أَوْ قَالَ كَيْفَ أُمِرُوا بِهَا ؟ زَادَ الْمُصَنِّف فِي فَضَائِل الْقُرْآن " وَلَمْ يُوصِ " وَبِذَلِكَ يَتِمّ الِاعْتِرَاض ، أَيْ كَيْفَ يُؤْمَر الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ وَلَا يَفْعَلهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ النَّوَوِيّ : لَعَلَّ اِبْن أَبِي أَوْفَى أَرَادَ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَاله لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُك بَعْده مَالًا ، وَأَمَّا الْأَرْض فَقَدْ سَبَّلَهَا فِي حَيَاته ، وَأَمَّا السِّلَاح وَالْبَغْلَة وَنَحْو ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تُورَث عَنْهُ بَلْ جَمِيع مَا يَخْلُفهُ صَدَقَة ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْد ذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ مِنْ الْجِهَة الْمَالِيَّة . وَأَمَّا الْوَصَايَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يُرِدْ اِبْن أَبِي أَوْفَى نَفْيهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَنْفِيّ وَصِيَّته إِلَى عَلِيّ بِالْخِلَافَةِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيح بِهِ فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي بَعْده ، وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة الدَّارِمِيِّ عَنْ مُحَمَّد بْن يُوسُف شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْد اِبْن مَاجَهْ وَأَبِي عَوَانَة فِي آخِر حَدِيث الْبَاب " قَالَ طَلْحَة فَقَالَ هُزَيْل بْن شُرَحْبِيل : أَبُو بَكْر كَانَ يَتَأَمَّر عَلَى وَصِيّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَّ أَبُو بَكْر أَنَّهُ كَانَ وَجَدَ عَهْدًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَزَمَ أَنْفه بِخِزَامٍ " وَهُزَيْل هَذَا بِالزَّايِ مُصَغَّر أَحَد كِبَار التَّابِعِينَ وَمِنْ ثِقَات أَهْل الْكُوفَة ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَدِيث قَرِينَة تُشْعِر بِتَخْصِيصِ السُّؤَال بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَنَحْو ذَلِكَ ، لَا مُطْلَق الْوَصِيَّة . قُلْت : أَخْرَجَ اِبْن حِبَّانَ الْحَدِيث مِنْ طَرِيق اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل بِلَفْظٍ يُزِيل الْإِشْكَال فَقَالَ : " سُئِلَ اِبْن أَبِي أَوْفَى : هَلْ أَوْصَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَا تَرَكَ شَيْئًا يُوصِي فِيهِ . قِيلَ : فَكَيْفَ أَمَرَ النَّاس بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوصِ ؟ قَالَ : أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه " وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : اِسْتِبْعَاد طَلْحَة وَاضِح لِأَنَّهُ أَطْلَقَ ، فَلَوْ أَرَادَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَخَصَّهُ بِهِ ، فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّة وَأُمِرُوا بِهَا فَكَيْفَ لَمْ يَفْعَلهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَجَابَهُ بِمَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي مَوْضِع التَّقْيِيد ، قَالَ : وَهَذَا يُشْعِر بِأَنَّ اِبْن أَبِي أَوْفَى وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّ الْوَصِيَّة وَاجِبَة ، كَذَا قَالَ ، وَقَوْل اِبْن أَبِي أَوْفَى " أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه " أَيْ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَرَكْت فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا كِتَاب اللَّه " ، وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي مُسْلِم وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوْصَى عِنْد مَوْته بِثَلَاثٍ : لَا يَبْقَيَنَّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَب دِينَانِ " وَفِي لَفْظ " أَخْرِجُوا الْيَهُود مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب " وَقَوْله : " أَجِيزُوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ بِهِ " وَلَمْ يَذْكُر الرَّاوِي الثَّالِثَة ، وَكَذَا مَا ثَبَتَ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " كَانَ آخِر مَا تَكَلَّمَ بِهِ الصَّلَاة وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث الَّتِي يُمْكِن حَصْرهَا بِالتَّتَبُّعِ ، فَالظَّاهِر أَنَّ اِبْن أَبِي أَوْفَى لَمْ يُرِدْ نَفْيه ، وَلَعَلَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى الْوَصِيَّة بِكِتَابِ اللَّه لِكَوْنِهِ أَعْظَم وَأَهَمّ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تِبْيَان كُلّ شَيْء إِمَّا بِطَرِيقِ النَّصّ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاط ، فَإِذَا اِتَّبَعَ النَّاس مَا فِي الْكِتَاب عَمِلُوا بِكُلِّ مَا أَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ ) الْآيَة ، أَوْ يَكُون لَمْ يَحْضُر شَيْئًا مِنْ الْوَصَايَا الْمَذْكُورَة أَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرهَا حَال قَوْله ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّفْيِ الْوَصِيَّة بِالْخِلَافَةِ أَوْ بِالْمَالِ ، وَسَاغَ إِطْلَاق النَّفْي أَمَّا فِي الْأَوَّل فَبِقَرِينَةِ الْحَال وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِر عُرْفًا ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوصِ " أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق أَرْقَم بْن شُرَحْبِيل عَنْهُ ، مَعَ أَنَّ اِبْن عَبَّاس هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلَاثٍ ، وَالْجَمْع بَيْنهمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قَوْله : " أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه " الْبَاء زَائِدَة أَيْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَأَطْلَقَ الْوَصِيَّة عَلَى سَبِيل الْمُشَاكَلَة ، فَلَا مُنَافَاة بَيْن النَّفْي وَالْإِثْبَات . قُلْت : وَلَا يَخْفَى بَعْدَمَا قَالَ وَتَكَلَّفَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَوْ الْمَنْفِيّ الْوَصِيَّة بِالْمَالِ أَوْ الْإِمَامَة ، وَالْمُثْبَت الْوَصِيَّة بِكِتَابِ اللَّه ، أَيْ بِمَا فِي كِتَاب اللَّه أَنْ يَعْمَل بِهِ اِنْتَهَى . وَهَذَا الْأَخِير هُوَ الْمُعْتَمَد . فتح الباري : ج8 ص294.
- قَوْله : ( يَوْم الْخَمِيس )
هُوَ خَبَر لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوف أَوْ عَكْسه ، وَقَوْله : " وَمَا يَوْم الْخَمِيس " يُسْتَعْمَل عِنْد إِرَادَة تَفْخِيم الْأَمْر فِي الشِّدَّة وَالتَّعَجُّب مِنْهُ ، زَادَ فِي أَوَاخِر الْجِهَاد مِنْ هَذَا الْوَجْه " ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَّبَ دَمْعه الْحَصَى " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق طَلْحَة بْن مُصَرِّف عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " ثُمَّ جَعَلَ تَسِيل دُمُوعه حَتَّى رَأَيْتهَا عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَام اللُّؤْلُؤ " وَبُكَاء اِبْن عَبَّاس يَحْتَمِل لِكَوْنِهِ تَذَكَّرَ وَفَاة رَسُول اللَّه فَتَجَدَّدَ لَهُ الْحُزْن عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَا فَاتَ فِي مُعْتَقَده مِنْ الْخَيْر الَّذِي كَانَ يَحْصُل لَوْ كَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَاب ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة أَنَّ ذَلِكَ رَزِيَّة ، ثُمَّ بَالَغَ فِيهَا فَقَالَ : كُلّ الرَّزِيَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْعِلْم الْجَوَاب عَمَّنْ اِمْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
قَوْله : ( اِشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعه )
زَادَ فِي الْجِهَاد " يَوْم الْخَمِيس " وَهَذَا يُؤَيِّد أَنَّ اِبْتِدَاء مَرَضه ، كَانَ قَبْل ذَلِكَ ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " لَمَّا حُضِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْت ، وَفِي إِطْلَاق ذَلِكَ تَجَوُّز ، فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْد ذَلِكَ إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ .
قَوْله : ( كِتَابًا )
قِيلَ هُوَ تَعْيِين الْخَلِيفَة بَعْده ، وَسَيَأْتِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَاب الْأَحْكَام فِي " بَابِ الِاسْتِخْلَاف " مِنْهُ .
قَوْله : ( لَنْ تَضِلُّوا )
فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " لَا تَضِلُّونَ " وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ وَكَذَا فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهه .
قَوْله : ( وَلَا يَنْبَغِي عِنْد نَبِيّ تَنَازُع )
هُوَ مِنْ جُمْلَة الْحَدِيث الْمَرْفُوع ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُدْرَجًا مِنْ قَوْل اِبْن عَبَّاس . وَالصَّوَاب الْأَوَّل ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْم بِلَفْظِ " لَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع " .
قَوْله : ( فَقَالُوا مَا شَأْنه ؟ أَهَجَرَ )
بِهَمْزَةٍ لِجَمِيعِ رُوَاة الْبُخَارِيّ ، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الْجِهَاد بِلَفْظِ " فَقَالُوا هَجَرَ " بِغَيْرِ هَمْزَة ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَاكَ " فَقَالُوا هَجَرَ ، هَجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَعَادَ هَجَرَ مَرَّتَيْنِ . قَالَ عِيَاض : مَعْنَى أَهْجَرَ أَفْحَشَ ، يُقَال هَجَرَ الرَّجُل إِذَا هَذَى ، وَأَهْجَرَ إِذَا أَفْحَشَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون بِسُكُونِ الْهَاء وَالرِّوَايَات كُلّهَا إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عِيَاض وَغَيْره عَلَى هَذَا الْمَوْضِع فَأَطَالُوا ، وَلَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيّ تَلْخِيصًا حَسَنًا ثُمَّ لَخَّصْته مِنْ كَلَامه ، وَحَاصِله أَنَّ قَوْله هَجَرَ الرَّاجِح فِيهِ إِثْبَات هَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَبِفَتَحَاتٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاضٍ ، قَالَ : وَلِبَعْضِهِمْ أَهُجْرًا بِضَمِّ الْهَاء وَسُكُون الْجِيم وَالتَّنْوِين عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول بِفِعْلٍ مُضْمِر أَيْ قَالَ هُجْرًا ، وَالْهُجْر بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُون الْهَذَيَان وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا مَا يَقَع مِنْ كَلَام الْمَرِيض الَّذِي لَا يَنْتَظِم وَلَا يُعْتَدّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَته . وَوُقُوع ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحِيل لِأَنَّهُ مَعْصُوم فِي صِحَّته وَمَرَضه لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي لَا أَقُول فِي الْغَضَب وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا " وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُوقَف فِي اِمْتِثَال أَمْره بِإِحْضَارِ الْكَتِف وَالدَّوَاة فَكَأَنَّهُ قَالَ : كَيْفَ تَتَوَقَّف أَتَظُنُّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ يَقُول الْهَذَيَان فِي مَرَضه ؟ اِمْتَثِلْ أَمْره وَأَحْضِرْهُ مَا طَلَبَ فَإِنَّهُ لَا يَقُول إِلَّا الْحَقّ ، قَالَ : هَذَا أَحْسَن الْأَجْوِبَة ، قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنَّ بَعْضهمْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ شَكّ عَرَضَ لَهُ ، وَلَكِنْ يُبْعِدهُ أَنْ لَا يُنْكِرهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنهمْ مِنْ كِبَار الصَّحَابَة ، وَلَوْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ لَنُقِلَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الَّذِي قَالَ ذَلِكَ صَدَرَ عَنْ دَهَش وَحَيْرَة كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ عِنْد مَوْته ، وَقَالَ غَيْره : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ اِشْتَدَّ وَجَعه فَأَطْلَقَ اللَّازِم وَأَرَادَ الْمَلْزُوم ، لِأَنَّ الْهَذَيَان الَّذِي يَقَع لِلْمَرِيضِ يَنْشَأ عَنْ شِدَّة وَجَعه . وَقِيلَ : قَالَ ذَلِكَ لِإِرَادَةِ سُكُوت الَّذِينَ لَغَطُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتهمْ عِنْده ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيه وَيُفْضِي فِي الْعَادَة إِلَى مَا ذُكِرَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْله أَهْجَرَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ الْهَجْر بِفَتْحِ الْهَاء وَسُكُون الْجِيم وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَيْ الْحَيَاة ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَة لِمَا رَأَى مِنْ عَلَامَات الْمَوْت . قُلْت : وَيَظْهَر لِي تَرْجِيح ثَالِث الِاحْتِمَالَات الَّتِي ذَكَرهَا الْقُرْطُبِيّ وَيَكُون قَائِل ذَلِكَ بَعْض مَنْ قَرُبَ دُخُوله فِي الْإِسْلَام وَكَانَ يَعْهَد أَنَّ مَنْ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَع قَدْ يَشْتَغِل بِهِ عَنْ تَحْرِير مَا يُرِيد أَنْ يَقُولهُ لِجَوَازِ وُقُوع ذَلِكَ ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " فَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّهُ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَع " وَوَقَعَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن خَلَّادٍ عَنْ سُفْيَان فِي هَذَا الْحَدِيث " فَقَالُوا مَا شَأْنه يَهْجُر ، اِسْتَفْهِمُوهُ " وَعَنْ اِبْن سَعْد مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " أَنَّ نَبِيّ اللَّه لَيَهْجُر " ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ بَعْد أَنْ قَالَ ذَلِكَ اِسْتَفْهَمُوهُ بِصِيغَةِ الْأَمْر بِالِاسْتِفْهَامِ أَيْ اِخْتَبِرُوا أَمْرَهُ بِأَنْ يَسْتَفْهِمُوهُ عَنْ هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ وَابْحَثُوا مَعَهُ فِي كَوْنه الْأَوْلَى أَوْ لَا . وَفِي قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة : " فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول قَرِّبُوا يَكْتُب لَكُمْ " مَا يُشْهِر بِأَنَّ بَعْضهمْ كَانَ مُصَمِّمًا عَلَى الِامْتِثَال وَالرَّدّ عَلَى مَنْ اِمْتَنَعَ مِنْهُمْ ، وَلَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ الِاخْتِلَاف اِرْتَفَعَتْ الْبَرَكَة كَمَا جَرَتْ الْعَادَة بِذَلِكَ عِنْد وُقُوع التَّنَازُع وَالتَّشَاجُر . وَقَدْ مَضَى فِي الصِّيَام أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرهُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْر فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فَرُفِعَتْ ، قَالَ الْمَازِرِيُّ : إِنَّمَا جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْكِتَاب مَعَ صَرِيح أَمْره لَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَامِر قَدْ يُقَارِنهَا مَا يَنْقُلهَا مِنْ الْوُجُوب ، فَكَأَنَّهُ ظَهَرَتْ مِنْهُ قَرِينَة دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمْر لَيْسَ عَلَى التَّحَتُّم بَلْ عَلَى الِاخْتِيَار فَاخْتَلَفَ اِجْتِهَادهمْ ، وَصَمَّمَ عُمَر عَلَى الِامْتِنَاع لِمَا قَامَ عِنْده مِنْ الْقَرَائِن بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ عَنْ غَيْر قَصْد جَازِم ، وَعَزْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِمَّا بِالْوَحْيِ وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ ، وَكَذَلِكَ تَرْكه إِنْ كَانَ بِالْوَحْيِ فَبِالْوَحْيِ وَإِلَّا فَبِالِاجْتِهَادِ أَيْضًا ، وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ قَالَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْعِيَّات . وَقَالَ النَّوَوِيّ : اِتَّفَقَ قَوْل الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ قَوْل عُمَر " حَسْبنَا كِتَاب اللَّه " مِنْ قُوَّة فِقْهه وَدَقِيق نَظَره ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُب أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَة لِكَوْنِهَا مَنْصُوصَة ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَنْسَدّ بَاب الِاجْتِهَاد عَلَى الْعُلَمَاء . وَفِي تَرْكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْكَار عَلَى عُمَر إِشَارَة إِلَى تَصْوِيبه رَأْيه ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : " حَسْبنَا كِتَاب اللَّه " إِلَى قَوْله تَعَالَى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَصَدَ التَّخْفِيف عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ شِدَّة الْكَرْب ، وَقَامَتْ عِنْده قَرِينَة بِأَنَّ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَته لَيْسَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل لَمْ يَتْرُكهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ اِخْتِلَافهمْ ، وَلَا يُعَارِض ذَلِكَ قَوْل اِبْن عَبَّاس إِنَّ الرَّزِيَّة إِلَخْ ، لِأَنَّ عُمَر كَانَ أَفْقَه مِنْهُ قَطْعًا . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَمْ يَتَوَهَّم عُمَر الْغَلَط فِيمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيد كِتَابَته ، بَلْ اِمْتِنَاعه مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْكَرْب وَحُضُور الْمَوْت خَشِيَ أَنْ يَجِد الْمُنَافِقُونَ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْن فِيمَا يَكْتُبهُ وَإِلَى حَمْله عَلَى تِلْكَ الْحَالَة الَّتِي جَرَتْ الْعَادَة فِيهَا بِوُقُوعِ بَعْض مَا يُخَالِف الِاتِّفَاق فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب تَوَقُّف عُمَر ، لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ مُخَالَفَة قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَوَاز وُقُوع الْغَلَط عَلَيْهِ حَاشَا وَكَلَّا . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْح حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي أَوَاخِر كِتَاب الْعِلْم ، وَقَوْله : " وَقَدْ ذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَنْهُ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد يَرُدُّونَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدُوا عَلَيْهِ مَقَالَته وَيَسْتَثْبِتُونَهُ فِيهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد يَرُدُّونَ عَنْهُ الْقَوْل الْمَذْكُور عَلَى مَنْ قَالَهُ .
قَوْله : ( فَقَالَ دَعُونِي : فَاَلَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْر مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )
قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ وَغَيْره : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى دَعُونِي فَاَلَّذِي أُعَايِنهُ مِنْ كَرَامَة اللَّه الَّتِي أَعَدَّهَا لِي بَعْد فِرَاق الدُّنْيَا خَيْر مِمَّا أَنَا فِيهِ فِي الْحَيَاة ، أَوْ أَنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ مِنْ الْمُرَاقَبَة وَالتَّأَهُّب لِلِقَاءِ اللَّه وَالتَّفَكُّر فِي ذَلِكَ وَنَحْوه أَفْضَل مِنْ الَّذِي تَسْأَلُونَنِي فِيهِ مِنْ الْمُبَاحَثَة عَنْ الْمَصْلَحَة فِي الْكِتَابَة أَوْ عَدَمهَا . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى فَإِنَّ اِمْتِنَاعِي مِنْ أَنْ أَكْتُب لَكُمْ خَيْر مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَة . قُلْت : وَيَحْتَمِل عَكْسه أَيْ الَّذِي أَشَرْت عَلَيْكُمْ بِهِ مِنْ الْكِتَابَة خَيْر مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ عَدَمهَا بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِر ، وَعَلَى الَّذِي قَبْله كَانَ ذَلِكَ الْأَمْر اِخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا فَهَدَى اللَّه عُمَر لِمُرَادِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى غَيْره . وَأَمَّا قَوْل اِبْن بَطَّال : عُمَر أَفْقَه مِنْ اِبْن عَبَّاس حَيْثُ اِكْتَفَى بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَكْتَفِ اِبْن عَبَّاس بِهِ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِطْلَاق ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ فَإِنَّ قَوْل عُمَر : " حَسْبنَا كِتَاب اللَّه " لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ عَنْ بَيَان السُّنَّة ، بَلْ لِمَا قَامَ عِنْده مِنْ الْقَرِينَة ، وَخَشِيَ مِنْ الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَى كِتَابَة الْكِتَاب مِمَّا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَيْهِ ، فَرَأَى أَنَّ الِاعْتِمَاد عَلَى الْقُرْآن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا خَشِيَهُ ، وَأَمَّا اِبْن عَبَّاس فَلَا يُقَال فِي حَقّه لَمْ يَكْتَفِ بِالْقُرْآنِ مَعَ كَوْنه حَبْر الْقُرْآن وَأَعْلَم النَّاس بِتَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيله ، وَلَكِنَّهُ أَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْبَيَان بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِنْبَاط وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَسَيَأْتِي فِي كَفَّارَة الْمَرَض فِي هَذَا الْحَدِيث زِيَادَة لِابْنِ عَبَّاس وَشَرْحهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ )
أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَة ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكْتُبهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مُتَحَتِّمًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكهُ لِوُقُوعِ اِخْتِلَافهمْ ، وَلَعَاقَبَ اللَّه مَنْ حَالَ بَيْنه وَبَيْن تَبْلِيغه ، وَلَبَلَّغَهُ لَهُمْ لَفْظًا كَمَا أَوْصَاهُمْ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْر ذَلِكَ ، وَقَدْ عَاشَ بَعْد هَذِهِ الْمَقَالَة أَيَّامًا وَحَفِظُوا عَنْهُ أَشْيَاء لَفْظًا ، فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَجْمُوعهَا مَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَجَزِيرَة الْعَرَب تَقَدَّمَ بَيَانهَا فِي كِتَاب الْجِهَاد . وَقَوْله : " أَجِيزُوا الْوَفْد " أَيْ أَعْطَوْهُمْ ، وَالْجَائِزَة الْعَطِيَّة ، وَقِيلَ أَصْله أَنَّ نَاسًا وَفَدُوا عَلَى بَعْض الْمُلُوك وَهُوَ قَائِم عَلَى قَنْطَرَة فَقَالَ : أَجِيزُوهُمْ فَصَارُوا يُعْطُونَ الرَّجُل وَيُطْلِقُونَهُ فَيَجُوز عَلَى الْقَنْطَرَة مُتَوَجِّهًا فَسُمِّيَتْ عَطِيَّة مَنْ يَقْدَم عَلَى الْكَبِير جَائِزَة ، وَتُسْتَعْمَل أَيْضًا فِي إِعْطَاء الشَّاعِر عَلَى مَدْحه وَنَحْو ذَلِكَ . وَقَوْله بِنَحْوِ : " مَا كُنْت أُجِيزهُمْ " أَيْ بِقَرِيبٍ مِنْهُ ، وَكَانَتْ جَائِزَة الْوَاحِد عَلَى عَهْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقِيَّة مِنْ فِضَّة وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
قَوْله : ( وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَة أَوْ قَالَ : فَنَسِيتهَا )
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَائِل ذَلِكَ هُوَ سَعِيد بْن جُبَيْر ، ثُمَّ وَجَدْت عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ التَّصْرِيح بِأَنَّ قَائِل ذَلِكَ هُوَ اِبْن عُيَيْنَةَ . وَفِي " مُسْنَد الْحُمَيْدِيِّ " وَمِنْ طَرِيقه أَبُو نُعَيْم فِي " الْمُسْتَخْرَج " : قَالَ سُفْيَان : قَالَ سُلَيْمَان أَيْ اِبْن أَبِي مُسْلِم : لَا أَدْرِي أَذَكَرَ سَعِيد بْن جُبَيْر الثَّالِثَة فَنَسِيتهَا أَوْ سَكَتَ عَنْهَا . وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَح ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ : الثَّالِثَة الْوَصِيَّة بِالْقُرْآنِ ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْن التِّين وَقَالَ الْمُهَلَّب : بَلْ هُوَ تَجْهِيز جَيْش أُسَامَة ، وَقَوَّاهُ اِبْن بَطَّال بِأَنَّ الصَّحَابَة لَمَّا اِخْتَلَفُوا عَلَى أَبِي بَكْر فِي تَنْفِيذ جَيْش أُسَامَة قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْر : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ بِذَلِكَ عِنْد مَوْته . وَقَالَ عِيَاض : يَحْتَمِل أَنْ تَكُون هِيَ قَوْله : " وَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا " فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُوَطَّأ مَقْرُونَة بِالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُود ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَا وَقَعَ فِي حَدِيث أَنَس أَنَّهَا قَوْله : " الصَّلَاة وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " . فتح الباري : ج12 ص252.
2045 - قَوْلُهُ : ( عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ )
بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ صَادٍ وَكَسْرِ رَاءٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الصَّوَابِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَبِفَاءٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ هَذَا هُوَ اِبْنُ عَمْرٍو بْنِ كَعْبٍ الْيَامِيُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ قَارِئٌ فَاضِلٌ مِنْ الْخَامِسَةِ .
قَوْلُهُ : ( قُلْت لِابْنِ أَبِي أَوْفَى )
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيُّ صَحَابِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَعَمَرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَهْرًا ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ لَا )
هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَابَ وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ وَصِيَّةٍ خَاصَّةٍ فَلِذَلِكَ سَاغَ نَفْيَهَا لَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا . لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ بِكِتَابِ اللَّهِ
( وَكَيْفَ كُتِبَتْ الْوَصِيَّةُ وَكَيْفَ أَمَرَ النَّاسَ )
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ : كَيْفَ كَتَبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةَ أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ . وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الِاعْتِرَاضُ ، أَيْ كَيْفَ يُؤْمَرُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ وَلَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ النَّوَوِيُّ : لَعَلَّ اِبْنَ أَبِي أَوْفَى أَرَادَ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ بَعْدَهُ مَالًا وَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَدْ سَلَبَهَا فِي حَيَاتِهِ ، وَأَمَّا السِّلَاحُ وَالْبَغْلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تُورَثُ عَنْهُ بَلْ جَمِيعُ مَا يَخْلُفُهُ صَدَقَةٌ ، فَلَمْ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَأَمَّا الْوَصَايَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يُرِدْ اِبْنُ أَبِي أَوْفَى نَفْيَهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ وَصِيَّتَهُ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا عِنْدَهَا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ الْحَدِيثَ . وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ اِبْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ بِلَفْظٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ فَقَالَ : سُئِلَ اِبْنُ أَبِي أَوْفَى هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ مَا تَرَكَ شَيْئًا يُوصِي فِيهِ ، قِيلَ فَكَيْفَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوصِ ؟ قَالَ : أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : اِسْتِبْعَادُ طَلْحَةَ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ فَلَوْ أَرَادَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَخَصَّهُ بِهِ فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةَ وَأُمِرُوا بِهَا فَكَيْفَ لَمْ يَفْعَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَجَابَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ
( أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى )
أَيْ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَرَكْت فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ " . وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ لَا يَبْقَيْنَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ ، وَفِي لَفْظٍ : أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَقَوْلُهُ " أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ بِهِ " . وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّاوِي الثَّالِثَةَ ، وَكَذَا مَا ثَبَتَ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ : " الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُمْكِنُ حَصْرُهَا بِالتَّتَبُّعِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اِبْنَ أَبِي أَوْفَى لَمْ يُرِدْ نَفْيَهُ وَلَعَلَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ وَأَهَمَّ وَلِأَنَّ فِيهِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ إِمَّا بِطَرِيقِ النَّصْرِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، فَإِذَا اِتَّبَعَ النَّاسُ مَا فِي الْكِتَابِ عَمِلُوا بِكُلِّ مَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } الْآيَةَ ، أَوْ يَكُونُ لَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنْ الْوَصَايَا الْمَذْكُورَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حَالَ قَوْلِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّفْيِ الْوَصِيَّةَ بِالْخِلَافَةِ أَوْ بِالْمَالِ وَسَاغَ إِطْلَاقُ النَّفْيِ ، أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَبِقَرِينِهِ الْحَالِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ عُرْفًا . وَقَدْ صَحَّ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوصِ ، أَخْرَجَهُ اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْهُ ، مَعَ أَنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلَاثٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْوَصَايَا وَفِي الْمَغَازِي وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي الْوَصَايَا . تحفة الاحوذي : ج5 ص401.
والحمدلله وحده وحده وحده
وَقَوْله : " حَدَّثَنَا مَالِك " هُوَ اِبْن مِغْوَل ، ظَاهِره أَنَّ شَيْخ الْبُخَارِيّ لَمْ يَنْسُبهُ فَلِذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيّ : " هُوَ اِبْن مَغُول " وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْوَاو ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ أَنَّ مَالِك بْن مَغُول تَفَرَّدَ بِهِ .
قَوْله : ( هَلْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى ؟ فَقَالَ : لَا )
هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَاب ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَال وَقَعَ عَنْ وَصِيَّة خَاصَّة فَلِذَلِكَ سَاغَ نَفْيهَا ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْي الْوَصِيَّة مُطْلَقًا ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَعْد ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه .
قَوْله : ( أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ )
شَكّ مِنْ الرَّاوِي : هَلْ قَالَ كَيْفَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّة ، أَوْ قَالَ كَيْفَ أُمِرُوا بِهَا ؟ زَادَ الْمُصَنِّف فِي فَضَائِل الْقُرْآن " وَلَمْ يُوصِ " وَبِذَلِكَ يَتِمّ الِاعْتِرَاض ، أَيْ كَيْفَ يُؤْمَر الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ وَلَا يَفْعَلهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ النَّوَوِيّ : لَعَلَّ اِبْن أَبِي أَوْفَى أَرَادَ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَاله لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُك بَعْده مَالًا ، وَأَمَّا الْأَرْض فَقَدْ سَبَّلَهَا فِي حَيَاته ، وَأَمَّا السِّلَاح وَالْبَغْلَة وَنَحْو ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تُورَث عَنْهُ بَلْ جَمِيع مَا يَخْلُفهُ صَدَقَة ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْد ذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ مِنْ الْجِهَة الْمَالِيَّة . وَأَمَّا الْوَصَايَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يُرِدْ اِبْن أَبِي أَوْفَى نَفْيهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَنْفِيّ وَصِيَّته إِلَى عَلِيّ بِالْخِلَافَةِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيح بِهِ فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي بَعْده ، وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة الدَّارِمِيِّ عَنْ مُحَمَّد بْن يُوسُف شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْد اِبْن مَاجَهْ وَأَبِي عَوَانَة فِي آخِر حَدِيث الْبَاب " قَالَ طَلْحَة فَقَالَ هُزَيْل بْن شُرَحْبِيل : أَبُو بَكْر كَانَ يَتَأَمَّر عَلَى وَصِيّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَّ أَبُو بَكْر أَنَّهُ كَانَ وَجَدَ عَهْدًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَزَمَ أَنْفه بِخِزَامٍ " وَهُزَيْل هَذَا بِالزَّايِ مُصَغَّر أَحَد كِبَار التَّابِعِينَ وَمِنْ ثِقَات أَهْل الْكُوفَة ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَدِيث قَرِينَة تُشْعِر بِتَخْصِيصِ السُّؤَال بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَنَحْو ذَلِكَ ، لَا مُطْلَق الْوَصِيَّة . قُلْت : أَخْرَجَ اِبْن حِبَّانَ الْحَدِيث مِنْ طَرِيق اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل بِلَفْظٍ يُزِيل الْإِشْكَال فَقَالَ : " سُئِلَ اِبْن أَبِي أَوْفَى : هَلْ أَوْصَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَا تَرَكَ شَيْئًا يُوصِي فِيهِ . قِيلَ : فَكَيْفَ أَمَرَ النَّاس بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوصِ ؟ قَالَ : أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه " وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : اِسْتِبْعَاد طَلْحَة وَاضِح لِأَنَّهُ أَطْلَقَ ، فَلَوْ أَرَادَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَخَصَّهُ بِهِ ، فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّة وَأُمِرُوا بِهَا فَكَيْفَ لَمْ يَفْعَلهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَجَابَهُ بِمَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي مَوْضِع التَّقْيِيد ، قَالَ : وَهَذَا يُشْعِر بِأَنَّ اِبْن أَبِي أَوْفَى وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّ الْوَصِيَّة وَاجِبَة ، كَذَا قَالَ ، وَقَوْل اِبْن أَبِي أَوْفَى " أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه " أَيْ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَرَكْت فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا كِتَاب اللَّه " ، وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي مُسْلِم وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوْصَى عِنْد مَوْته بِثَلَاثٍ : لَا يَبْقَيَنَّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَب دِينَانِ " وَفِي لَفْظ " أَخْرِجُوا الْيَهُود مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب " وَقَوْله : " أَجِيزُوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ بِهِ " وَلَمْ يَذْكُر الرَّاوِي الثَّالِثَة ، وَكَذَا مَا ثَبَتَ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " كَانَ آخِر مَا تَكَلَّمَ بِهِ الصَّلَاة وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث الَّتِي يُمْكِن حَصْرهَا بِالتَّتَبُّعِ ، فَالظَّاهِر أَنَّ اِبْن أَبِي أَوْفَى لَمْ يُرِدْ نَفْيه ، وَلَعَلَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى الْوَصِيَّة بِكِتَابِ اللَّه لِكَوْنِهِ أَعْظَم وَأَهَمّ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تِبْيَان كُلّ شَيْء إِمَّا بِطَرِيقِ النَّصّ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاط ، فَإِذَا اِتَّبَعَ النَّاس مَا فِي الْكِتَاب عَمِلُوا بِكُلِّ مَا أَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ ) الْآيَة ، أَوْ يَكُون لَمْ يَحْضُر شَيْئًا مِنْ الْوَصَايَا الْمَذْكُورَة أَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرهَا حَال قَوْله ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّفْيِ الْوَصِيَّة بِالْخِلَافَةِ أَوْ بِالْمَالِ ، وَسَاغَ إِطْلَاق النَّفْي أَمَّا فِي الْأَوَّل فَبِقَرِينَةِ الْحَال وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِر عُرْفًا ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوصِ " أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق أَرْقَم بْن شُرَحْبِيل عَنْهُ ، مَعَ أَنَّ اِبْن عَبَّاس هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلَاثٍ ، وَالْجَمْع بَيْنهمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قَوْله : " أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه " الْبَاء زَائِدَة أَيْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَأَطْلَقَ الْوَصِيَّة عَلَى سَبِيل الْمُشَاكَلَة ، فَلَا مُنَافَاة بَيْن النَّفْي وَالْإِثْبَات . قُلْت : وَلَا يَخْفَى بَعْدَمَا قَالَ وَتَكَلَّفَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَوْ الْمَنْفِيّ الْوَصِيَّة بِالْمَالِ أَوْ الْإِمَامَة ، وَالْمُثْبَت الْوَصِيَّة بِكِتَابِ اللَّه ، أَيْ بِمَا فِي كِتَاب اللَّه أَنْ يَعْمَل بِهِ اِنْتَهَى . وَهَذَا الْأَخِير هُوَ الْمُعْتَمَد . فتح الباري : ج8 ص294.
- قَوْله : ( يَوْم الْخَمِيس )
هُوَ خَبَر لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوف أَوْ عَكْسه ، وَقَوْله : " وَمَا يَوْم الْخَمِيس " يُسْتَعْمَل عِنْد إِرَادَة تَفْخِيم الْأَمْر فِي الشِّدَّة وَالتَّعَجُّب مِنْهُ ، زَادَ فِي أَوَاخِر الْجِهَاد مِنْ هَذَا الْوَجْه " ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَّبَ دَمْعه الْحَصَى " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق طَلْحَة بْن مُصَرِّف عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " ثُمَّ جَعَلَ تَسِيل دُمُوعه حَتَّى رَأَيْتهَا عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَام اللُّؤْلُؤ " وَبُكَاء اِبْن عَبَّاس يَحْتَمِل لِكَوْنِهِ تَذَكَّرَ وَفَاة رَسُول اللَّه فَتَجَدَّدَ لَهُ الْحُزْن عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَا فَاتَ فِي مُعْتَقَده مِنْ الْخَيْر الَّذِي كَانَ يَحْصُل لَوْ كَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَاب ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة أَنَّ ذَلِكَ رَزِيَّة ، ثُمَّ بَالَغَ فِيهَا فَقَالَ : كُلّ الرَّزِيَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْعِلْم الْجَوَاب عَمَّنْ اِمْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
قَوْله : ( اِشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعه )
زَادَ فِي الْجِهَاد " يَوْم الْخَمِيس " وَهَذَا يُؤَيِّد أَنَّ اِبْتِدَاء مَرَضه ، كَانَ قَبْل ذَلِكَ ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " لَمَّا حُضِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْت ، وَفِي إِطْلَاق ذَلِكَ تَجَوُّز ، فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْد ذَلِكَ إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ .
قَوْله : ( كِتَابًا )
قِيلَ هُوَ تَعْيِين الْخَلِيفَة بَعْده ، وَسَيَأْتِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَاب الْأَحْكَام فِي " بَابِ الِاسْتِخْلَاف " مِنْهُ .
قَوْله : ( لَنْ تَضِلُّوا )
فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " لَا تَضِلُّونَ " وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ وَكَذَا فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهه .
قَوْله : ( وَلَا يَنْبَغِي عِنْد نَبِيّ تَنَازُع )
هُوَ مِنْ جُمْلَة الْحَدِيث الْمَرْفُوع ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُدْرَجًا مِنْ قَوْل اِبْن عَبَّاس . وَالصَّوَاب الْأَوَّل ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْم بِلَفْظِ " لَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع " .
قَوْله : ( فَقَالُوا مَا شَأْنه ؟ أَهَجَرَ )
بِهَمْزَةٍ لِجَمِيعِ رُوَاة الْبُخَارِيّ ، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الْجِهَاد بِلَفْظِ " فَقَالُوا هَجَرَ " بِغَيْرِ هَمْزَة ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَاكَ " فَقَالُوا هَجَرَ ، هَجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَعَادَ هَجَرَ مَرَّتَيْنِ . قَالَ عِيَاض : مَعْنَى أَهْجَرَ أَفْحَشَ ، يُقَال هَجَرَ الرَّجُل إِذَا هَذَى ، وَأَهْجَرَ إِذَا أَفْحَشَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون بِسُكُونِ الْهَاء وَالرِّوَايَات كُلّهَا إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عِيَاض وَغَيْره عَلَى هَذَا الْمَوْضِع فَأَطَالُوا ، وَلَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيّ تَلْخِيصًا حَسَنًا ثُمَّ لَخَّصْته مِنْ كَلَامه ، وَحَاصِله أَنَّ قَوْله هَجَرَ الرَّاجِح فِيهِ إِثْبَات هَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَبِفَتَحَاتٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاضٍ ، قَالَ : وَلِبَعْضِهِمْ أَهُجْرًا بِضَمِّ الْهَاء وَسُكُون الْجِيم وَالتَّنْوِين عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول بِفِعْلٍ مُضْمِر أَيْ قَالَ هُجْرًا ، وَالْهُجْر بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُون الْهَذَيَان وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا مَا يَقَع مِنْ كَلَام الْمَرِيض الَّذِي لَا يَنْتَظِم وَلَا يُعْتَدّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَته . وَوُقُوع ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحِيل لِأَنَّهُ مَعْصُوم فِي صِحَّته وَمَرَضه لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي لَا أَقُول فِي الْغَضَب وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا " وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُوقَف فِي اِمْتِثَال أَمْره بِإِحْضَارِ الْكَتِف وَالدَّوَاة فَكَأَنَّهُ قَالَ : كَيْفَ تَتَوَقَّف أَتَظُنُّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ يَقُول الْهَذَيَان فِي مَرَضه ؟ اِمْتَثِلْ أَمْره وَأَحْضِرْهُ مَا طَلَبَ فَإِنَّهُ لَا يَقُول إِلَّا الْحَقّ ، قَالَ : هَذَا أَحْسَن الْأَجْوِبَة ، قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنَّ بَعْضهمْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ شَكّ عَرَضَ لَهُ ، وَلَكِنْ يُبْعِدهُ أَنْ لَا يُنْكِرهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنهمْ مِنْ كِبَار الصَّحَابَة ، وَلَوْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ لَنُقِلَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الَّذِي قَالَ ذَلِكَ صَدَرَ عَنْ دَهَش وَحَيْرَة كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ عِنْد مَوْته ، وَقَالَ غَيْره : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ اِشْتَدَّ وَجَعه فَأَطْلَقَ اللَّازِم وَأَرَادَ الْمَلْزُوم ، لِأَنَّ الْهَذَيَان الَّذِي يَقَع لِلْمَرِيضِ يَنْشَأ عَنْ شِدَّة وَجَعه . وَقِيلَ : قَالَ ذَلِكَ لِإِرَادَةِ سُكُوت الَّذِينَ لَغَطُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتهمْ عِنْده ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيه وَيُفْضِي فِي الْعَادَة إِلَى مَا ذُكِرَ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْله أَهْجَرَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنْ الْهَجْر بِفَتْحِ الْهَاء وَسُكُون الْجِيم وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَيْ الْحَيَاة ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَة لِمَا رَأَى مِنْ عَلَامَات الْمَوْت . قُلْت : وَيَظْهَر لِي تَرْجِيح ثَالِث الِاحْتِمَالَات الَّتِي ذَكَرهَا الْقُرْطُبِيّ وَيَكُون قَائِل ذَلِكَ بَعْض مَنْ قَرُبَ دُخُوله فِي الْإِسْلَام وَكَانَ يَعْهَد أَنَّ مَنْ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَع قَدْ يَشْتَغِل بِهِ عَنْ تَحْرِير مَا يُرِيد أَنْ يَقُولهُ لِجَوَازِ وُقُوع ذَلِكَ ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة " فَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّهُ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَع " وَوَقَعَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن خَلَّادٍ عَنْ سُفْيَان فِي هَذَا الْحَدِيث " فَقَالُوا مَا شَأْنه يَهْجُر ، اِسْتَفْهِمُوهُ " وَعَنْ اِبْن سَعْد مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " أَنَّ نَبِيّ اللَّه لَيَهْجُر " ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ بَعْد أَنْ قَالَ ذَلِكَ اِسْتَفْهَمُوهُ بِصِيغَةِ الْأَمْر بِالِاسْتِفْهَامِ أَيْ اِخْتَبِرُوا أَمْرَهُ بِأَنْ يَسْتَفْهِمُوهُ عَنْ هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ وَابْحَثُوا مَعَهُ فِي كَوْنه الْأَوْلَى أَوْ لَا . وَفِي قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة : " فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول قَرِّبُوا يَكْتُب لَكُمْ " مَا يُشْهِر بِأَنَّ بَعْضهمْ كَانَ مُصَمِّمًا عَلَى الِامْتِثَال وَالرَّدّ عَلَى مَنْ اِمْتَنَعَ مِنْهُمْ ، وَلَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ الِاخْتِلَاف اِرْتَفَعَتْ الْبَرَكَة كَمَا جَرَتْ الْعَادَة بِذَلِكَ عِنْد وُقُوع التَّنَازُع وَالتَّشَاجُر . وَقَدْ مَضَى فِي الصِّيَام أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرهُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْر فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فَرُفِعَتْ ، قَالَ الْمَازِرِيُّ : إِنَّمَا جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْكِتَاب مَعَ صَرِيح أَمْره لَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَامِر قَدْ يُقَارِنهَا مَا يَنْقُلهَا مِنْ الْوُجُوب ، فَكَأَنَّهُ ظَهَرَتْ مِنْهُ قَرِينَة دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمْر لَيْسَ عَلَى التَّحَتُّم بَلْ عَلَى الِاخْتِيَار فَاخْتَلَفَ اِجْتِهَادهمْ ، وَصَمَّمَ عُمَر عَلَى الِامْتِنَاع لِمَا قَامَ عِنْده مِنْ الْقَرَائِن بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ عَنْ غَيْر قَصْد جَازِم ، وَعَزْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِمَّا بِالْوَحْيِ وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ ، وَكَذَلِكَ تَرْكه إِنْ كَانَ بِالْوَحْيِ فَبِالْوَحْيِ وَإِلَّا فَبِالِاجْتِهَادِ أَيْضًا ، وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ قَالَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْعِيَّات . وَقَالَ النَّوَوِيّ : اِتَّفَقَ قَوْل الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ قَوْل عُمَر " حَسْبنَا كِتَاب اللَّه " مِنْ قُوَّة فِقْهه وَدَقِيق نَظَره ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُب أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَة لِكَوْنِهَا مَنْصُوصَة ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَنْسَدّ بَاب الِاجْتِهَاد عَلَى الْعُلَمَاء . وَفِي تَرْكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْكَار عَلَى عُمَر إِشَارَة إِلَى تَصْوِيبه رَأْيه ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : " حَسْبنَا كِتَاب اللَّه " إِلَى قَوْله تَعَالَى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَصَدَ التَّخْفِيف عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ شِدَّة الْكَرْب ، وَقَامَتْ عِنْده قَرِينَة بِأَنَّ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَته لَيْسَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل لَمْ يَتْرُكهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ اِخْتِلَافهمْ ، وَلَا يُعَارِض ذَلِكَ قَوْل اِبْن عَبَّاس إِنَّ الرَّزِيَّة إِلَخْ ، لِأَنَّ عُمَر كَانَ أَفْقَه مِنْهُ قَطْعًا . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَمْ يَتَوَهَّم عُمَر الْغَلَط فِيمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيد كِتَابَته ، بَلْ اِمْتِنَاعه مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْكَرْب وَحُضُور الْمَوْت خَشِيَ أَنْ يَجِد الْمُنَافِقُونَ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْن فِيمَا يَكْتُبهُ وَإِلَى حَمْله عَلَى تِلْكَ الْحَالَة الَّتِي جَرَتْ الْعَادَة فِيهَا بِوُقُوعِ بَعْض مَا يُخَالِف الِاتِّفَاق فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب تَوَقُّف عُمَر ، لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ مُخَالَفَة قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَوَاز وُقُوع الْغَلَط عَلَيْهِ حَاشَا وَكَلَّا . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْح حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي أَوَاخِر كِتَاب الْعِلْم ، وَقَوْله : " وَقَدْ ذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَنْهُ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد يَرُدُّونَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدُوا عَلَيْهِ مَقَالَته وَيَسْتَثْبِتُونَهُ فِيهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد يَرُدُّونَ عَنْهُ الْقَوْل الْمَذْكُور عَلَى مَنْ قَالَهُ .
قَوْله : ( فَقَالَ دَعُونِي : فَاَلَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْر مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )
قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ وَغَيْره : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى دَعُونِي فَاَلَّذِي أُعَايِنهُ مِنْ كَرَامَة اللَّه الَّتِي أَعَدَّهَا لِي بَعْد فِرَاق الدُّنْيَا خَيْر مِمَّا أَنَا فِيهِ فِي الْحَيَاة ، أَوْ أَنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ مِنْ الْمُرَاقَبَة وَالتَّأَهُّب لِلِقَاءِ اللَّه وَالتَّفَكُّر فِي ذَلِكَ وَنَحْوه أَفْضَل مِنْ الَّذِي تَسْأَلُونَنِي فِيهِ مِنْ الْمُبَاحَثَة عَنْ الْمَصْلَحَة فِي الْكِتَابَة أَوْ عَدَمهَا . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى فَإِنَّ اِمْتِنَاعِي مِنْ أَنْ أَكْتُب لَكُمْ خَيْر مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ الْكِتَابَة . قُلْت : وَيَحْتَمِل عَكْسه أَيْ الَّذِي أَشَرْت عَلَيْكُمْ بِهِ مِنْ الْكِتَابَة خَيْر مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ عَدَمهَا بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِر ، وَعَلَى الَّذِي قَبْله كَانَ ذَلِكَ الْأَمْر اِخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا فَهَدَى اللَّه عُمَر لِمُرَادِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى غَيْره . وَأَمَّا قَوْل اِبْن بَطَّال : عُمَر أَفْقَه مِنْ اِبْن عَبَّاس حَيْثُ اِكْتَفَى بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَكْتَفِ اِبْن عَبَّاس بِهِ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِطْلَاق ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ فَإِنَّ قَوْل عُمَر : " حَسْبنَا كِتَاب اللَّه " لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ عَنْ بَيَان السُّنَّة ، بَلْ لِمَا قَامَ عِنْده مِنْ الْقَرِينَة ، وَخَشِيَ مِنْ الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَى كِتَابَة الْكِتَاب مِمَّا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَيْهِ ، فَرَأَى أَنَّ الِاعْتِمَاد عَلَى الْقُرْآن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا خَشِيَهُ ، وَأَمَّا اِبْن عَبَّاس فَلَا يُقَال فِي حَقّه لَمْ يَكْتَفِ بِالْقُرْآنِ مَعَ كَوْنه حَبْر الْقُرْآن وَأَعْلَم النَّاس بِتَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيله ، وَلَكِنَّهُ أَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْبَيَان بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِنْبَاط وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَسَيَأْتِي فِي كَفَّارَة الْمَرَض فِي هَذَا الْحَدِيث زِيَادَة لِابْنِ عَبَّاس وَشَرْحهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ )
أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَة ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكْتُبهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مُتَحَتِّمًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكهُ لِوُقُوعِ اِخْتِلَافهمْ ، وَلَعَاقَبَ اللَّه مَنْ حَالَ بَيْنه وَبَيْن تَبْلِيغه ، وَلَبَلَّغَهُ لَهُمْ لَفْظًا كَمَا أَوْصَاهُمْ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْر ذَلِكَ ، وَقَدْ عَاشَ بَعْد هَذِهِ الْمَقَالَة أَيَّامًا وَحَفِظُوا عَنْهُ أَشْيَاء لَفْظًا ، فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَجْمُوعهَا مَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَجَزِيرَة الْعَرَب تَقَدَّمَ بَيَانهَا فِي كِتَاب الْجِهَاد . وَقَوْله : " أَجِيزُوا الْوَفْد " أَيْ أَعْطَوْهُمْ ، وَالْجَائِزَة الْعَطِيَّة ، وَقِيلَ أَصْله أَنَّ نَاسًا وَفَدُوا عَلَى بَعْض الْمُلُوك وَهُوَ قَائِم عَلَى قَنْطَرَة فَقَالَ : أَجِيزُوهُمْ فَصَارُوا يُعْطُونَ الرَّجُل وَيُطْلِقُونَهُ فَيَجُوز عَلَى الْقَنْطَرَة مُتَوَجِّهًا فَسُمِّيَتْ عَطِيَّة مَنْ يَقْدَم عَلَى الْكَبِير جَائِزَة ، وَتُسْتَعْمَل أَيْضًا فِي إِعْطَاء الشَّاعِر عَلَى مَدْحه وَنَحْو ذَلِكَ . وَقَوْله بِنَحْوِ : " مَا كُنْت أُجِيزهُمْ " أَيْ بِقَرِيبٍ مِنْهُ ، وَكَانَتْ جَائِزَة الْوَاحِد عَلَى عَهْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقِيَّة مِنْ فِضَّة وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
قَوْله : ( وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَة أَوْ قَالَ : فَنَسِيتهَا )
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَائِل ذَلِكَ هُوَ سَعِيد بْن جُبَيْر ، ثُمَّ وَجَدْت عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ التَّصْرِيح بِأَنَّ قَائِل ذَلِكَ هُوَ اِبْن عُيَيْنَةَ . وَفِي " مُسْنَد الْحُمَيْدِيِّ " وَمِنْ طَرِيقه أَبُو نُعَيْم فِي " الْمُسْتَخْرَج " : قَالَ سُفْيَان : قَالَ سُلَيْمَان أَيْ اِبْن أَبِي مُسْلِم : لَا أَدْرِي أَذَكَرَ سَعِيد بْن جُبَيْر الثَّالِثَة فَنَسِيتهَا أَوْ سَكَتَ عَنْهَا . وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَح ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ : الثَّالِثَة الْوَصِيَّة بِالْقُرْآنِ ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْن التِّين وَقَالَ الْمُهَلَّب : بَلْ هُوَ تَجْهِيز جَيْش أُسَامَة ، وَقَوَّاهُ اِبْن بَطَّال بِأَنَّ الصَّحَابَة لَمَّا اِخْتَلَفُوا عَلَى أَبِي بَكْر فِي تَنْفِيذ جَيْش أُسَامَة قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْر : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ بِذَلِكَ عِنْد مَوْته . وَقَالَ عِيَاض : يَحْتَمِل أَنْ تَكُون هِيَ قَوْله : " وَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا " فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُوَطَّأ مَقْرُونَة بِالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُود ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَا وَقَعَ فِي حَدِيث أَنَس أَنَّهَا قَوْله : " الصَّلَاة وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " . فتح الباري : ج12 ص252.
2045 - قَوْلُهُ : ( عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ )
بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ صَادٍ وَكَسْرِ رَاءٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الصَّوَابِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَبِفَاءٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ هَذَا هُوَ اِبْنُ عَمْرٍو بْنِ كَعْبٍ الْيَامِيُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ قَارِئٌ فَاضِلٌ مِنْ الْخَامِسَةِ .
قَوْلُهُ : ( قُلْت لِابْنِ أَبِي أَوْفَى )
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيُّ صَحَابِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَعَمَرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَهْرًا ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
قَوْلُهُ : ( قَالَ لَا )
هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَابَ وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ وَصِيَّةٍ خَاصَّةٍ فَلِذَلِكَ سَاغَ نَفْيَهَا لَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا . لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ بِكِتَابِ اللَّهِ
( وَكَيْفَ كُتِبَتْ الْوَصِيَّةُ وَكَيْفَ أَمَرَ النَّاسَ )
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ : كَيْفَ كَتَبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةَ أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ . وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الِاعْتِرَاضُ ، أَيْ كَيْفَ يُؤْمَرُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ وَلَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ النَّوَوِيُّ : لَعَلَّ اِبْنَ أَبِي أَوْفَى أَرَادَ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ بَعْدَهُ مَالًا وَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَدْ سَلَبَهَا فِي حَيَاتِهِ ، وَأَمَّا السِّلَاحُ وَالْبَغْلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تُورَثُ عَنْهُ بَلْ جَمِيعُ مَا يَخْلُفُهُ صَدَقَةٌ ، فَلَمْ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَأَمَّا الْوَصَايَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يُرِدْ اِبْنُ أَبِي أَوْفَى نَفْيَهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ وَصِيَّتَهُ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا عِنْدَهَا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ الْحَدِيثَ . وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ اِبْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ بِلَفْظٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ فَقَالَ : سُئِلَ اِبْنُ أَبِي أَوْفَى هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ مَا تَرَكَ شَيْئًا يُوصِي فِيهِ ، قِيلَ فَكَيْفَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوصِ ؟ قَالَ : أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : اِسْتِبْعَادُ طَلْحَةَ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ فَلَوْ أَرَادَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَخَصَّهُ بِهِ فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةَ وَأُمِرُوا بِهَا فَكَيْفَ لَمْ يَفْعَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَجَابَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ
( أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى )
أَيْ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَرَكْت فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ " . وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ لَا يَبْقَيْنَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ ، وَفِي لَفْظٍ : أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَقَوْلُهُ " أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ بِهِ " . وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّاوِي الثَّالِثَةَ ، وَكَذَا مَا ثَبَتَ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ : " الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُمْكِنُ حَصْرُهَا بِالتَّتَبُّعِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اِبْنَ أَبِي أَوْفَى لَمْ يُرِدْ نَفْيَهُ وَلَعَلَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ وَأَهَمَّ وَلِأَنَّ فِيهِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ إِمَّا بِطَرِيقِ النَّصْرِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، فَإِذَا اِتَّبَعَ النَّاسُ مَا فِي الْكِتَابِ عَمِلُوا بِكُلِّ مَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } الْآيَةَ ، أَوْ يَكُونُ لَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنْ الْوَصَايَا الْمَذْكُورَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حَالَ قَوْلِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّفْيِ الْوَصِيَّةَ بِالْخِلَافَةِ أَوْ بِالْمَالِ وَسَاغَ إِطْلَاقُ النَّفْيِ ، أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَبِقَرِينِهِ الْحَالِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ عُرْفًا . وَقَدْ صَحَّ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوصِ ، أَخْرَجَهُ اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْهُ ، مَعَ أَنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلَاثٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْوَصَايَا وَفِي الْمَغَازِي وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي الْوَصَايَا . تحفة الاحوذي : ج5 ص401.
والحمدلله وحده وحده وحده
Comment