أخرجَ الخطيبُ البغدادي في " تاريخ بغداد " (1/123) بسنده فقال :
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري ، قال : أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال : نبأنا مُكرم بن أحمد قال : أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال : نبأنا علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إني لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليتُ ركعتين وجئت إلى قبره ، وسألت الله تعالى عنده ، فما تبعد عني حتى تُقضى . وقال محمد نسيب الرفاعي في " التوصل إلى حقيقة التوسل " ( ص 331 - 332) :
توسل الشافعي بأبي حنيفة رضي الله عنهما
قال ابن حجر المكي في كتابه المسمى (( الخيرات الحسان )) في مناقب أبي حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة يجيء إلى ضريحه يزوره فيسلم عليه ثم يتوسل إلى الله به في قضاء حاجاته .
حديث أنس عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنه، وهو حديث طويل، وفي آخره: « وقال : الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين»([16]). والحديث في سنده مقال اختلف أهل الحديث في رجال؛ وذلك لأن سند الحديث فيه «روح بن صلاح» ،وقد وثقه ابن حبان، وعده ابن الجوزي من المجهولين؛ وعلى هذا فقد اُختلف في صحة هذا الحديث وضعفه، من حيث رفع سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن معناه صحيح مؤيد بما مر من أحاديث صحيحة.
وسل آدم عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم أن يغفر له في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما اقترف آدم الخطيئة، قال : يا رب أسألك بحق محمد، لما غفرت لي. فقال الله : يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه ؟ قال : يا رب؛ لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا : لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك »([17]). وقد صححه الحاكم حيث عقبه بقوله : «هذا حديث صحيح الإسناد
حديث : «أعينوا عباد الله»؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة ،يكتبون ما يسقط من نوى الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة؛ فليناد : أعينوا عباد الله »([19]). قال عن سنده الحافظ الهيثمي : «رواه الطبراني ورجاله ثقات»
قصة الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره في زمن عمر، فعن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ،فقال : «إيت عمر، فأقرئه مني السلام، وأخبره أنهم يسقون، وقل له : عليك بالكيس الكيس» ،فأتى الرجل عمر فأخبر عمر فقال : يا رب ما آلو إلا ما عجزت ([21]). وهو حديث صحيح صححه الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ حيث قال ما نصه : «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ،من رواية أبي صالح السمان ،عن مالك الداري - وكان خازن عمر - قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال : يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام ،فقيل له : «ائت عمر ... » الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة» ([22])، وقد ذكر الرواية كذلك الحافظ ابن كثير ،وقال : «هذا إسناد صحيح» ([23]). والحديث قد صححه كبار الحفاظ، فيصلح أن يكون دليلًا على جواز الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بالاستسقاء والدعاء بعد انتقاله الشريف صلى الله عليه وسلم.
8- قصة الخليفة المنصور مع الإمام مالك رضي الله عنه وهي : «أن مالكًا رضي الله عنه لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي - ثاني خلفاء بني العباس - يا أبا عبد الله : أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو ؟ فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله » ([24])، وفيه إشارة إلى اعتبار حديث توسل آدم عليه السلام عند الإمام مالك، وأنه يرى أن من الخير استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به صلى الله عليه وسلم.
الشيخ بن باديس يجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و كذالك ذوات الصالحين.
قال الشيخ ابن باديس رحمه الله [ ابن باديس حياته و آثاره ؛ جمع و دراسة عمّار الطّالبي الجزء 3 ص 37 طبعة دار الغرب الإسلامي ] :
نصحني سيدي الطالب اذا يسر الله لي زيارة القبر الشريف أن أسأله عليه و آله الصلاة و السلام الشفاعة ، و قد يسر الله لي ذالك و له الحمد و المنة منذ عشرين سنة ، وقد دعوت الله وحده و توسلت له بنبيه و توجهت اليه به أن يميتني على ملته ، و يجعلني من أنصار سنته ، وأهل شفاعته ، الى أشياء أخرى قد استجاب الله تعالى بعضه ( المحقق : كذا في الأصل و لعله : بعضها ) ، وأنا أرجو الاستجابة في الباقي.اهــــ
و قال رحمه الله [ نفس المصدر ، الجزء 3 ص 160] :
اعلم ان السادة العارفين هم أرسخ الناس قدما في محبة النبي صلى الله عليه و سلم و تعظيم حرمته ، و مراعاة شريف جانبه ، وتعزيره و توقيره و بره . تجد ذالك في صلواتهم عليه ، وفي ادعيتهم لله تعالى عند ذكره ، و التوسل به ، و في مناجاتهم له عند الشوق اليه ، و في تأليفهم عند الكلام في حقه.اهــــ
و قال أيضاً [ نفس المصدر ، الجزء 2 ص 192 ] :
الرّاجح هو الوجه الأوّل الّذي يجيز التّوسّل بذات النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نظرا لمقامه العظيم عند ربّه لوجهين، الأوّل : أنّ ذلك هـو ظاهر اللّفظ ولا موجب للتّقدير ولا منافاة بين أن يكون في قوله أسألك وأتوجّه إليك بنبّيك وقوله إنّي توجّهت بك قد سأل بذاته، وفي قوله اللّهم شفّعه فيّ قد سأل قبول دعائه له وسؤاله...والثّاني أنّه لمّا كان جائزا السّؤال من المخلوقين بما له مقام عظيم عندهم فلا مانع من أن يسأل اللّه تعالى بنبيّه بحسب مقامه العظيم عنده.اهـــ
و قد توسّع في بسط المسألة ، فليرجع الى كلامه كل من يريد التحقيق ؛ تجده في "ابن باديس حياته و آثاره جمع و دراسة عمّار الطّالبي الجزء 2 ص 187 طبعة دار الغرب الإسلامي ".
قال ابن باديس [ نفس المصدر ، الجزء 2 ص 196 ] : التوسّل بذات غيره من أهل المكانة المحقّقة له وجه في القياس.اهـــ
الإمام أحمد صاحب المذهب يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن مفلح الحنبلي [ الفروع لابن مفلح -> كتاب الصلاة -> باب صلاة الاستسقاء ، الجزء الأوّل صفحة 595 ] :
وَيَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِصَالِحٍ ، وَقِيلَ : يُسْتَحَبُّ ، قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرُّوذِيِّ : إنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ.اهــ
الإمام النووي يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال الإمام النووي رحمه الله [ الْمَجْمُوع شَرْح المهذب -> كِتَابُ الْحَجِّ -> زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الجزء الثامن صفحة 274 ] :
وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوصِيَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ ، وَفُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْد مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ صَفِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَانِيَهُ فِي الْغَارِ ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا . ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلَامِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا عُمَرُ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.اهــ
الحافظ ابن حجر العسقلاني يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال رحمه الله [ فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، الجزء 11 صفحة 441 ] :
وَفِيهِ أَنَّ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يَسْتَصْحِبُونَ حَالهمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّوَسُّل إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي حَوَائِجهمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ.اهـــ
الإمام الشوكاني يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال الشوكاني رحمه الله [ " تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين " صفحة 50 ] :
(قوله ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين) أقول ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح غريب والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري. قال أو أدعك فقال يا رسول الله أني قد شق علي ذهاب بصري. قال فانطلق فتوضأ فصل ركعتين ثم قل : " اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة " الحديث وسيأتي هذا الحديث في هذا الكتاب عند ذكر صلاة الحاجة. وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا الخ.اهــــ
و قال رحمه الله [ المصدر ذاته ، صفحة 180 ] :
"يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في" ( ت ، س ، مس)
الحديث أخرجه الترمذي والحاكم في المستدرك والنسائي كما قال المصنف رحمه الله وهو من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال [ جاء أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله لي أن يعافيني. قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال فادعه قال فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ] وزاد النسائي في بعض طرقه [ فتوضأ فصلى ركعتين ] ثم ذكر في الترمذي ما ذكره المصنف من قوله صلى الله عليه وسلم اللهم [إني أسألك الخ ] وأخرجه من حديثه أيضا ابن ماجه والحاكم في المستدرك ، وقال صحيح على شرط الشيخين ، وزاد فيه : فدعا بهذا الدعاء ، فقام وقد أبصر ، وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي ، وقال وأخرجه الطبراني بعد ذكر طرقه التي روي بها والحديث صحيح وصححه أيضا ابن خزيمة فقد صحح الحديث هؤلاء الأئمة ، وقد تفرد النسائي بذكر الصلاة ، و وافقه الطبراني في بعض الطرق التي رواها. وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، وأنه المعطي المانع ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.اهــــ
قال الشوكاني - رحمه الله - في " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد " :
و أما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه اهـ . ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه وابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( توضأ وصل ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد ، يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي فيّ )) وقال : (( فإن كان لك حاجة فمثل ذلك )) فرد الله بصره.
وللناس في معنى هذا قولان :
أحدهما : أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال : كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا وهو في صحيح البخاري وغيره فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء ، ثم توسل بعمه العباس بعد موته ، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه ، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً وداعياً لهم .
و القول الثاني : أن التوسل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه ، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعاً سكوتياً لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في التوسل بالعباس رضي الله عنه ، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين :
الأول : ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم .
والثاني : أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله .
فإذا قال القائل : ( اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني ) فهو باعتبار ما قام به من العلم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة ، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم ، و بهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ونحو قوله تعالى { فلا تدعوا مع الله أحداً } ونحو قوله تعالى { له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء } ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النـزاع بما هو أجنبي عنه ، فإن قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } مصرح بأنهم عبدوهم لذلك ، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك ، وكذلك قوله { ولا تدعوا مع الله أحداً } فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره كأن يقول بالله وبفلان ، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله فإنما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم وكذلك قوله { والذين يدعون من دونه } الاَية فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه ، وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النـزاع خروجاً زائداً على ما ذكرناه كاستدلالهم بقوله تعالى { وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } فإن هذه الاَية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين وأنه ليس لغيره من الأمر شيء ، و المتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين ، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبياً أو غير نبي فهو في ضلال مبين ، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله { ليس لك من الأمر شيء } و قوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } فإن هاتين الاَيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شيء وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف يملك لغيره ، وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء ، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له سل تعطه واشفع تشفع وقيل ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى ، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئاً ، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا ً، فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله تعالى نفعه ، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلاً عن غيرهم شيئاً من الله ، وهذا معلوم لكل مسلم و ليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سبباً للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين .اهــــ
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري ، قال : أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال : نبأنا مُكرم بن أحمد قال : أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال : نبأنا علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إني لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليتُ ركعتين وجئت إلى قبره ، وسألت الله تعالى عنده ، فما تبعد عني حتى تُقضى . وقال محمد نسيب الرفاعي في " التوصل إلى حقيقة التوسل " ( ص 331 - 332) :
توسل الشافعي بأبي حنيفة رضي الله عنهما
قال ابن حجر المكي في كتابه المسمى (( الخيرات الحسان )) في مناقب أبي حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة يجيء إلى ضريحه يزوره فيسلم عليه ثم يتوسل إلى الله به في قضاء حاجاته .
حديث أنس عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنه، وهو حديث طويل، وفي آخره: « وقال : الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين»([16]). والحديث في سنده مقال اختلف أهل الحديث في رجال؛ وذلك لأن سند الحديث فيه «روح بن صلاح» ،وقد وثقه ابن حبان، وعده ابن الجوزي من المجهولين؛ وعلى هذا فقد اُختلف في صحة هذا الحديث وضعفه، من حيث رفع سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن معناه صحيح مؤيد بما مر من أحاديث صحيحة.
وسل آدم عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم أن يغفر له في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما اقترف آدم الخطيئة، قال : يا رب أسألك بحق محمد، لما غفرت لي. فقال الله : يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه ؟ قال : يا رب؛ لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا : لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك »([17]). وقد صححه الحاكم حيث عقبه بقوله : «هذا حديث صحيح الإسناد
حديث : «أعينوا عباد الله»؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة ،يكتبون ما يسقط من نوى الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة؛ فليناد : أعينوا عباد الله »([19]). قال عن سنده الحافظ الهيثمي : «رواه الطبراني ورجاله ثقات»
قصة الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره في زمن عمر، فعن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ،فقال : «إيت عمر، فأقرئه مني السلام، وأخبره أنهم يسقون، وقل له : عليك بالكيس الكيس» ،فأتى الرجل عمر فأخبر عمر فقال : يا رب ما آلو إلا ما عجزت ([21]). وهو حديث صحيح صححه الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ حيث قال ما نصه : «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ،من رواية أبي صالح السمان ،عن مالك الداري - وكان خازن عمر - قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال : يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام ،فقيل له : «ائت عمر ... » الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة» ([22])، وقد ذكر الرواية كذلك الحافظ ابن كثير ،وقال : «هذا إسناد صحيح» ([23]). والحديث قد صححه كبار الحفاظ، فيصلح أن يكون دليلًا على جواز الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بالاستسقاء والدعاء بعد انتقاله الشريف صلى الله عليه وسلم.
8- قصة الخليفة المنصور مع الإمام مالك رضي الله عنه وهي : «أن مالكًا رضي الله عنه لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي - ثاني خلفاء بني العباس - يا أبا عبد الله : أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو ؟ فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله » ([24])، وفيه إشارة إلى اعتبار حديث توسل آدم عليه السلام عند الإمام مالك، وأنه يرى أن من الخير استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به صلى الله عليه وسلم.
الشيخ بن باديس يجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و كذالك ذوات الصالحين.
قال الشيخ ابن باديس رحمه الله [ ابن باديس حياته و آثاره ؛ جمع و دراسة عمّار الطّالبي الجزء 3 ص 37 طبعة دار الغرب الإسلامي ] :
نصحني سيدي الطالب اذا يسر الله لي زيارة القبر الشريف أن أسأله عليه و آله الصلاة و السلام الشفاعة ، و قد يسر الله لي ذالك و له الحمد و المنة منذ عشرين سنة ، وقد دعوت الله وحده و توسلت له بنبيه و توجهت اليه به أن يميتني على ملته ، و يجعلني من أنصار سنته ، وأهل شفاعته ، الى أشياء أخرى قد استجاب الله تعالى بعضه ( المحقق : كذا في الأصل و لعله : بعضها ) ، وأنا أرجو الاستجابة في الباقي.اهــــ
و قال رحمه الله [ نفس المصدر ، الجزء 3 ص 160] :
اعلم ان السادة العارفين هم أرسخ الناس قدما في محبة النبي صلى الله عليه و سلم و تعظيم حرمته ، و مراعاة شريف جانبه ، وتعزيره و توقيره و بره . تجد ذالك في صلواتهم عليه ، وفي ادعيتهم لله تعالى عند ذكره ، و التوسل به ، و في مناجاتهم له عند الشوق اليه ، و في تأليفهم عند الكلام في حقه.اهــــ
و قال أيضاً [ نفس المصدر ، الجزء 2 ص 192 ] :
الرّاجح هو الوجه الأوّل الّذي يجيز التّوسّل بذات النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نظرا لمقامه العظيم عند ربّه لوجهين، الأوّل : أنّ ذلك هـو ظاهر اللّفظ ولا موجب للتّقدير ولا منافاة بين أن يكون في قوله أسألك وأتوجّه إليك بنبّيك وقوله إنّي توجّهت بك قد سأل بذاته، وفي قوله اللّهم شفّعه فيّ قد سأل قبول دعائه له وسؤاله...والثّاني أنّه لمّا كان جائزا السّؤال من المخلوقين بما له مقام عظيم عندهم فلا مانع من أن يسأل اللّه تعالى بنبيّه بحسب مقامه العظيم عنده.اهـــ
و قد توسّع في بسط المسألة ، فليرجع الى كلامه كل من يريد التحقيق ؛ تجده في "ابن باديس حياته و آثاره جمع و دراسة عمّار الطّالبي الجزء 2 ص 187 طبعة دار الغرب الإسلامي ".
قال ابن باديس [ نفس المصدر ، الجزء 2 ص 196 ] : التوسّل بذات غيره من أهل المكانة المحقّقة له وجه في القياس.اهـــ
الإمام أحمد صاحب المذهب يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن مفلح الحنبلي [ الفروع لابن مفلح -> كتاب الصلاة -> باب صلاة الاستسقاء ، الجزء الأوّل صفحة 595 ] :
وَيَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِصَالِحٍ ، وَقِيلَ : يُسْتَحَبُّ ، قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرُّوذِيِّ : إنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ.اهــ
الإمام النووي يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال الإمام النووي رحمه الله [ الْمَجْمُوع شَرْح المهذب -> كِتَابُ الْحَجِّ -> زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الجزء الثامن صفحة 274 ] :
وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوصِيَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ ، وَفُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْد مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ صَفِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَانِيَهُ فِي الْغَارِ ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا . ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلَامِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا عُمَرُ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.اهــ
الحافظ ابن حجر العسقلاني يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال رحمه الله [ فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، الجزء 11 صفحة 441 ] :
وَفِيهِ أَنَّ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يَسْتَصْحِبُونَ حَالهمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّوَسُّل إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي حَوَائِجهمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ.اهـــ
الإمام الشوكاني يُجيز التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم
قال الشوكاني رحمه الله [ " تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين " صفحة 50 ] :
(قوله ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين) أقول ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح غريب والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري. قال أو أدعك فقال يا رسول الله أني قد شق علي ذهاب بصري. قال فانطلق فتوضأ فصل ركعتين ثم قل : " اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة " الحديث وسيأتي هذا الحديث في هذا الكتاب عند ذكر صلاة الحاجة. وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا الخ.اهــــ
و قال رحمه الله [ المصدر ذاته ، صفحة 180 ] :
"يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في" ( ت ، س ، مس)
الحديث أخرجه الترمذي والحاكم في المستدرك والنسائي كما قال المصنف رحمه الله وهو من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال [ جاء أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله لي أن يعافيني. قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال فادعه قال فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ] وزاد النسائي في بعض طرقه [ فتوضأ فصلى ركعتين ] ثم ذكر في الترمذي ما ذكره المصنف من قوله صلى الله عليه وسلم اللهم [إني أسألك الخ ] وأخرجه من حديثه أيضا ابن ماجه والحاكم في المستدرك ، وقال صحيح على شرط الشيخين ، وزاد فيه : فدعا بهذا الدعاء ، فقام وقد أبصر ، وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي ، وقال وأخرجه الطبراني بعد ذكر طرقه التي روي بها والحديث صحيح وصححه أيضا ابن خزيمة فقد صحح الحديث هؤلاء الأئمة ، وقد تفرد النسائي بذكر الصلاة ، و وافقه الطبراني في بعض الطرق التي رواها. وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، وأنه المعطي المانع ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.اهــــ
قال الشوكاني - رحمه الله - في " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد " :
و أما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه اهـ . ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه وابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( توضأ وصل ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد ، يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي فيّ )) وقال : (( فإن كان لك حاجة فمثل ذلك )) فرد الله بصره.
وللناس في معنى هذا قولان :
أحدهما : أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال : كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا وهو في صحيح البخاري وغيره فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء ، ثم توسل بعمه العباس بعد موته ، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه ، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً وداعياً لهم .
و القول الثاني : أن التوسل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه ، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعاً سكوتياً لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في التوسل بالعباس رضي الله عنه ، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين :
الأول : ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم .
والثاني : أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله .
فإذا قال القائل : ( اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني ) فهو باعتبار ما قام به من العلم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة ، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم ، و بهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ونحو قوله تعالى { فلا تدعوا مع الله أحداً } ونحو قوله تعالى { له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء } ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النـزاع بما هو أجنبي عنه ، فإن قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } مصرح بأنهم عبدوهم لذلك ، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك ، وكذلك قوله { ولا تدعوا مع الله أحداً } فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره كأن يقول بالله وبفلان ، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله فإنما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم وكذلك قوله { والذين يدعون من دونه } الاَية فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه ، وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النـزاع خروجاً زائداً على ما ذكرناه كاستدلالهم بقوله تعالى { وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } فإن هذه الاَية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين وأنه ليس لغيره من الأمر شيء ، و المتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين ، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبياً أو غير نبي فهو في ضلال مبين ، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله { ليس لك من الأمر شيء } و قوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } فإن هاتين الاَيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شيء وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف يملك لغيره ، وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء ، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له سل تعطه واشفع تشفع وقيل ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى ، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئاً ، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا ً، فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله تعالى نفعه ، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلاً عن غيرهم شيئاً من الله ، وهذا معلوم لكل مسلم و ليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سبباً للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين .اهــــ