لنقف ابتداءً عند قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾( ).
من المعلوم أنّ لله سبحانه وتعالى حق الطاعة في عهدة كل إنسان، فهو الرب العظيم الذي يفيض على خلقه الوجود والنعم الظاهرة والباطنة، وشاءت حكمة الله سبحانه أن يعطي لثلة من خلقة الطاعة المطلقة لكونهم ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾( ). وهؤلاء هم خلفاء الله سبحانه الذين أمر بطاعتهم في العديد من آياته، سواء كانوا أنبياء أم رسلاً أم أئمة أم ملوكاً كطالوت . وهذه الآية واحدة من تلك الآيات التي تبيّن ما تقدم حيث أمر الله سبحانه فيها بطاعته وإطاعة رسوله وأولي الأمر.
ولا خلاف في وجوب الطاعة المطلقة للرسول ، كما أنّ المفروض لا خلاف - بحسب دلالات الآية - على ثبوت الطاعة المطلقة لأولي الأمر، ولكن الذي أوجد الخلاف في ذلك هو التأول والهروب من الحقيقة التي لعب دوراً في تحريف الحقائق وتلبيس الباطل بلباس الحق بعبارات براقة ومصطلحات دخيلة.
وهكذا امتد الخلاف إلى تشخيص المراد بأولي الأمر، فأصبح التشخيص معركة للأقوال والآراء المتباينة، على الرغم من عنصر الوضوح الذي يقضي بكونهم ثلة مخصوصة بمقتضى الفهم السليم للآية المباركة كما سنعرف ذلك قريباً.
وسنقف عند الآية لاستكشاف المقصود في نقاط:
النقطة الأولى: في بيان بعض مفردات الآية ودلالاتها
1- ﴿أَطِيعُواْ﴾، وهو فعل أمر ظاهر في الوجوب بحسب ما قرّر في علم أصول الفقه، فقوله سبحانه: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾( ) يستفاد منه وجوب الوفاء بالعقد لأمره سبحانه بذلك بقوله: ﴿أوفوا﴾، فكذلك قوله: ﴿أطيعوا﴾ يستفاد منه وجوب الطاعة لله سبحانه وللرسول ولأولي الأمر .
والطاعة في اللغة تعني الانقياد.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: (طوع: طاع يطوع طوعاً فهو طائع. والطوع: نقيض الكره، تقول: لتفعلنه طوعاً أو كرهاً . طائعاً أو كارهاً، وطاع له إذا انقاد له. إذا مضى في أمرك فقد أطاعك، وإذا وافقك فقد طاوعك ... والطاعة اسم لما يكون مصدره الإطاعة، وهو الانقياد،..) ( ).
وقد اختلفوا في تعريفها بحسب الاصطلاح، وأذكر تعريفاً واحداً من التعاريف التي ذكرت لأنّ معناها واضح ولا داعي للخوض في جميع التعاريف ونقدها، فقد عرفها السيد المرتضى بأنها: (إيقاع الفعل، أو ما يجري مجراه، موافقاً لإرادة الغير إذا كان أعلى رتبة منه، لا على وجه الإلجاء) ( ).
فالطاعة تتحقق بعدّة أمور:
الأول: أن تكون من آمر يكون أعلى رتبة من المأمور.
الثاني: أن يكون شيء مأمور به.
الثالث: أن يكون المأمور ممتثلاً لأمر الآمر الأعلى منه رتبةً.
وبعبارة أوضح توجد ثلاثة أمور: آمر، ومأمور، ومأمور به. فالآمر يصدر منه المأمور به، والمأمور يجب عليه امتثال وتطبيق المأمور به، فعندها تحصل الطاعة.
وامتثال أمر الآمر يكون باختيار المأمور وإرادته، لا أن يكون المأمور مجبوراً على الطاعة، وإلاّ فيخرج عن كونه مطيعاً.
وتنقسم الطاعة إلى قسمين:
الأولى: طاعة مقيدة؛ كإطاعة العبد لمولاه، طاعة الزوجة لزوجها، طاعة الولد لوالده.
فالطاعة في جميع هذه الموارد ليست طاعة مطلقة بل مقيدة بعدم عصيان الله سبحانه، فالمولى والزوج والوالد له حق الطاعة فيما إذا لم يأمر بمعصية وينهى عن واجب؛ لما دل من أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
روى أحمد في مسنده: حدثنا عبد الله ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن زبيد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله ) ( ).
الثانية: طاعة مطلقة؛ وهي إطاعة الله سبحانه ورسوله وأولي الأمر، فهي غير محدودة بحد ومقيدة بقيد، بل تجب الإطاعة والتسليم لهم بقول مطلق، كما هو مقتضى التشريك والعطف الذي جاء في الآية وغيرها، وسيأتي بيان ذلك بعون الله.
والطاعة لا تحصل إلاّ بالامتثال، فهو جوهر الطاعة المأمور بها في القرآن، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾( )، أي: لابد من امتثال وطاعة أمر الرسول المرسل منه سبحانه، فالامتثال هو المؤدي للطاعة المأمور بها. بل الامتثال لأمر الله ولمن نصّبه وعدم عصيانهما يمثل جوهر الدين، وهذا ما نجده واضحاً في آيات عديدة.
قال سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾( ).
ولنشاهد النتيجة المزرية التي يصل إليها الإنسان نتيجة تمرّده وعدم امتثاله لأمر من نصّبه الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾( ).
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾( ).
والسر في ذلك أنّ الخليفة والحجة إنما هو الله في الخلق، فبطاعته يطاع الله سبحانه وبمعصيته يُعصى الله سبحانه، قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾( )، ولذا نشاهد القرآن يقص علينا العاقبة السيئة التي سقط فيها من لم يمتثل ويطع أمر الملك طالوت الذي اختاره الله ليقود بني إسرائيل، ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾( ).
فمن خالف ولم يمتثل أمر طالوت سقط في الهاوية؛ لكون طاعة المنصّب من الله إنما هي طاعة الله سبحانه، ومن هنا نعرف البعد الخطير لعصيان خلفاء الله سبحانه من أنبياء ورسل وأوصياء وغيرهم.
وسيجد القارئ المزيد حول خصائص خلفاء الله وكونهم القائمين بمقام الله في الأرض في كتب السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي وإصدارات أنصار الإمام المهدي إن شاء الله تعالى.
2- ﴿الأَمْرِ﴾، يُفهم من هذه الكلمة أنها تعني الخلافة والسلطة والحكم كما يدل على ذلك شواهد كثيرة في لغة العرب.
فقد روى الطبري: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: (قال محمد بن إسحاق وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه أتى بني عامر ابن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة ابن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)، قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه،....) ( ). فنلاحظ أنّ هذا العربي يفهم من أمر رسول الله على أنّه سيادة وحكم على العرب، فأراد أن يعقد مع الرسول صفقة ويعمل معه معاهدة على أن يكون له ولقومه مركز في السيادة والحكم، ولكن النبي رفض ذلك لكونه الأمين على رسالة الله سبحانه، والتنصيب بيده سبحانه وحده.
ونفس هذا الموقف نجده في قصة هوذة بن علي الحنفي حينما بعث له النبي كتاباً يدعوه إلى الإسلام فأجابه هوذة قائلاً: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك، فقال النبي : لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت) ( ). فنرى أنهم يقصدون بالأمر هو السلطان والخلافة.
وكذلك لو جئنا إلى المسلمين من يوم السقيفة وما بعدها لوجدناهم يطلقون على خلافة النبي كلمة الأمر.
قال سعد بن عبادة للأنصار يوم السقيفة: (استبدوا بهذا الأمر دون الناس...). وأجابته الأنصار بقولهم: (نوليك هذا الأمر...). ثم ترادوا الكلام وقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: ... نحن عشيرته وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده ؟ وقال أبو بكر في احتجاجه عليهم يومذاك: (ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش...). وقال – أيضاً - في قريش: (هم أحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالم). وقال عمر - أيضاً - يوم السقيفة: (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أهله وعشيرته). وقال الحباب بن المنذر في جوابه: (لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ... فأنتم والله أحق بهذا الأمر...). وقال بشير بن سعد عندئذٍ في حق قريش: (لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً) ( ).
وكذلك لو جئنا للنصوص الإسلامية لوجدنا أنّ كلمة الأمر تطلق ويراد منها الحكم والخلافة، فروي عن النبي أنه قال لبني عامر بن صعصعة: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) ( ).
وروى مسلم، فقال: وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد، عن أبيه، قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) ( ).
وبهذا نعرف أنّ لفظ الأمر استعمل في الروايات الإسلامية بنفس المعنى الذي استخدمه العرب، فيكون المراد بأولي الأمر هم ذويه وأصحابه وهم الخلفاء والحكّام بأمر الله سبحانه.
وبعد هذا نعرف كم هو الارتباط وثيقاً بين هذه الآية التي تذكر أولي الأمر وبين الروايات التي رويت عن النبي وهو يقول: (رحم الله خلفائي)، فخلفائه هم ولاة الأمر من بعده، وسيأتي بيان تلك الروايات إن شاء الله فانتظر.
3- ﴿تَنَازَعْتُمْ﴾، قال سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾. النزع يعني الجذب، والمنازعة شدّة الاختلاف والمجاذبة. ويشير لفظ التنازع إلى شدّة الاختلاف. والضمير في تنازعتم يعود للذين آمنوا الذين أُمروا بطاعة الله سبحانه والرسول وأولي الأمر.
والأمر المتنازع فيه مبهم عُبر عنه بلفظ ﴿شَيْءٍ﴾ نكرة متوغلة في الإبهام، فيفيد الشمول، بمعنى أنّ التنازع في كل الأمور الدينية والدنيوية لابد أن يرجع المؤمنون فيها لله والرسول وأولي الأمر.
الشيخ عبد العالي المنصوري / كتاب ( اولي الامر في الكتاب والسنة )
من المعلوم أنّ لله سبحانه وتعالى حق الطاعة في عهدة كل إنسان، فهو الرب العظيم الذي يفيض على خلقه الوجود والنعم الظاهرة والباطنة، وشاءت حكمة الله سبحانه أن يعطي لثلة من خلقة الطاعة المطلقة لكونهم ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾( ). وهؤلاء هم خلفاء الله سبحانه الذين أمر بطاعتهم في العديد من آياته، سواء كانوا أنبياء أم رسلاً أم أئمة أم ملوكاً كطالوت . وهذه الآية واحدة من تلك الآيات التي تبيّن ما تقدم حيث أمر الله سبحانه فيها بطاعته وإطاعة رسوله وأولي الأمر.
ولا خلاف في وجوب الطاعة المطلقة للرسول ، كما أنّ المفروض لا خلاف - بحسب دلالات الآية - على ثبوت الطاعة المطلقة لأولي الأمر، ولكن الذي أوجد الخلاف في ذلك هو التأول والهروب من الحقيقة التي لعب دوراً في تحريف الحقائق وتلبيس الباطل بلباس الحق بعبارات براقة ومصطلحات دخيلة.
وهكذا امتد الخلاف إلى تشخيص المراد بأولي الأمر، فأصبح التشخيص معركة للأقوال والآراء المتباينة، على الرغم من عنصر الوضوح الذي يقضي بكونهم ثلة مخصوصة بمقتضى الفهم السليم للآية المباركة كما سنعرف ذلك قريباً.
وسنقف عند الآية لاستكشاف المقصود في نقاط:
النقطة الأولى: في بيان بعض مفردات الآية ودلالاتها
1- ﴿أَطِيعُواْ﴾، وهو فعل أمر ظاهر في الوجوب بحسب ما قرّر في علم أصول الفقه، فقوله سبحانه: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾( ) يستفاد منه وجوب الوفاء بالعقد لأمره سبحانه بذلك بقوله: ﴿أوفوا﴾، فكذلك قوله: ﴿أطيعوا﴾ يستفاد منه وجوب الطاعة لله سبحانه وللرسول ولأولي الأمر .
والطاعة في اللغة تعني الانقياد.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: (طوع: طاع يطوع طوعاً فهو طائع. والطوع: نقيض الكره، تقول: لتفعلنه طوعاً أو كرهاً . طائعاً أو كارهاً، وطاع له إذا انقاد له. إذا مضى في أمرك فقد أطاعك، وإذا وافقك فقد طاوعك ... والطاعة اسم لما يكون مصدره الإطاعة، وهو الانقياد،..) ( ).
وقد اختلفوا في تعريفها بحسب الاصطلاح، وأذكر تعريفاً واحداً من التعاريف التي ذكرت لأنّ معناها واضح ولا داعي للخوض في جميع التعاريف ونقدها، فقد عرفها السيد المرتضى بأنها: (إيقاع الفعل، أو ما يجري مجراه، موافقاً لإرادة الغير إذا كان أعلى رتبة منه، لا على وجه الإلجاء) ( ).
فالطاعة تتحقق بعدّة أمور:
الأول: أن تكون من آمر يكون أعلى رتبة من المأمور.
الثاني: أن يكون شيء مأمور به.
الثالث: أن يكون المأمور ممتثلاً لأمر الآمر الأعلى منه رتبةً.
وبعبارة أوضح توجد ثلاثة أمور: آمر، ومأمور، ومأمور به. فالآمر يصدر منه المأمور به، والمأمور يجب عليه امتثال وتطبيق المأمور به، فعندها تحصل الطاعة.
وامتثال أمر الآمر يكون باختيار المأمور وإرادته، لا أن يكون المأمور مجبوراً على الطاعة، وإلاّ فيخرج عن كونه مطيعاً.
وتنقسم الطاعة إلى قسمين:
الأولى: طاعة مقيدة؛ كإطاعة العبد لمولاه، طاعة الزوجة لزوجها، طاعة الولد لوالده.
فالطاعة في جميع هذه الموارد ليست طاعة مطلقة بل مقيدة بعدم عصيان الله سبحانه، فالمولى والزوج والوالد له حق الطاعة فيما إذا لم يأمر بمعصية وينهى عن واجب؛ لما دل من أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
روى أحمد في مسنده: حدثنا عبد الله ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن زبيد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله ) ( ).
الثانية: طاعة مطلقة؛ وهي إطاعة الله سبحانه ورسوله وأولي الأمر، فهي غير محدودة بحد ومقيدة بقيد، بل تجب الإطاعة والتسليم لهم بقول مطلق، كما هو مقتضى التشريك والعطف الذي جاء في الآية وغيرها، وسيأتي بيان ذلك بعون الله.
والطاعة لا تحصل إلاّ بالامتثال، فهو جوهر الطاعة المأمور بها في القرآن، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾( )، أي: لابد من امتثال وطاعة أمر الرسول المرسل منه سبحانه، فالامتثال هو المؤدي للطاعة المأمور بها. بل الامتثال لأمر الله ولمن نصّبه وعدم عصيانهما يمثل جوهر الدين، وهذا ما نجده واضحاً في آيات عديدة.
قال سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾( ).
ولنشاهد النتيجة المزرية التي يصل إليها الإنسان نتيجة تمرّده وعدم امتثاله لأمر من نصّبه الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾( ).
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾( ).
والسر في ذلك أنّ الخليفة والحجة إنما هو الله في الخلق، فبطاعته يطاع الله سبحانه وبمعصيته يُعصى الله سبحانه، قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾( )، ولذا نشاهد القرآن يقص علينا العاقبة السيئة التي سقط فيها من لم يمتثل ويطع أمر الملك طالوت الذي اختاره الله ليقود بني إسرائيل، ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾( ).
فمن خالف ولم يمتثل أمر طالوت سقط في الهاوية؛ لكون طاعة المنصّب من الله إنما هي طاعة الله سبحانه، ومن هنا نعرف البعد الخطير لعصيان خلفاء الله سبحانه من أنبياء ورسل وأوصياء وغيرهم.
وسيجد القارئ المزيد حول خصائص خلفاء الله وكونهم القائمين بمقام الله في الأرض في كتب السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي وإصدارات أنصار الإمام المهدي إن شاء الله تعالى.
2- ﴿الأَمْرِ﴾، يُفهم من هذه الكلمة أنها تعني الخلافة والسلطة والحكم كما يدل على ذلك شواهد كثيرة في لغة العرب.
فقد روى الطبري: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: (قال محمد بن إسحاق وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه أتى بني عامر ابن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة ابن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)، قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه،....) ( ). فنلاحظ أنّ هذا العربي يفهم من أمر رسول الله على أنّه سيادة وحكم على العرب، فأراد أن يعقد مع الرسول صفقة ويعمل معه معاهدة على أن يكون له ولقومه مركز في السيادة والحكم، ولكن النبي رفض ذلك لكونه الأمين على رسالة الله سبحانه، والتنصيب بيده سبحانه وحده.
ونفس هذا الموقف نجده في قصة هوذة بن علي الحنفي حينما بعث له النبي كتاباً يدعوه إلى الإسلام فأجابه هوذة قائلاً: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك، فقال النبي : لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت) ( ). فنرى أنهم يقصدون بالأمر هو السلطان والخلافة.
وكذلك لو جئنا إلى المسلمين من يوم السقيفة وما بعدها لوجدناهم يطلقون على خلافة النبي كلمة الأمر.
قال سعد بن عبادة للأنصار يوم السقيفة: (استبدوا بهذا الأمر دون الناس...). وأجابته الأنصار بقولهم: (نوليك هذا الأمر...). ثم ترادوا الكلام وقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: ... نحن عشيرته وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده ؟ وقال أبو بكر في احتجاجه عليهم يومذاك: (ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش...). وقال – أيضاً - في قريش: (هم أحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالم). وقال عمر - أيضاً - يوم السقيفة: (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أهله وعشيرته). وقال الحباب بن المنذر في جوابه: (لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ... فأنتم والله أحق بهذا الأمر...). وقال بشير بن سعد عندئذٍ في حق قريش: (لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً) ( ).
وكذلك لو جئنا للنصوص الإسلامية لوجدنا أنّ كلمة الأمر تطلق ويراد منها الحكم والخلافة، فروي عن النبي أنه قال لبني عامر بن صعصعة: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) ( ).
وروى مسلم، فقال: وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد، عن أبيه، قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) ( ).
وبهذا نعرف أنّ لفظ الأمر استعمل في الروايات الإسلامية بنفس المعنى الذي استخدمه العرب، فيكون المراد بأولي الأمر هم ذويه وأصحابه وهم الخلفاء والحكّام بأمر الله سبحانه.
وبعد هذا نعرف كم هو الارتباط وثيقاً بين هذه الآية التي تذكر أولي الأمر وبين الروايات التي رويت عن النبي وهو يقول: (رحم الله خلفائي)، فخلفائه هم ولاة الأمر من بعده، وسيأتي بيان تلك الروايات إن شاء الله فانتظر.
3- ﴿تَنَازَعْتُمْ﴾، قال سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾. النزع يعني الجذب، والمنازعة شدّة الاختلاف والمجاذبة. ويشير لفظ التنازع إلى شدّة الاختلاف. والضمير في تنازعتم يعود للذين آمنوا الذين أُمروا بطاعة الله سبحانه والرسول وأولي الأمر.
والأمر المتنازع فيه مبهم عُبر عنه بلفظ ﴿شَيْءٍ﴾ نكرة متوغلة في الإبهام، فيفيد الشمول، بمعنى أنّ التنازع في كل الأمور الدينية والدنيوية لابد أن يرجع المؤمنون فيها لله والرسول وأولي الأمر.
الشيخ عبد العالي المنصوري / كتاب ( اولي الامر في الكتاب والسنة )