إصدارات أنصار الإمام المهدي (ع) / العدد (204)
عقائد الإسلام
يليه
يسألونك عن الروح
السيد أحمد الحسن
الطبعة الأولى
1437هـ - 2016 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن (عليه السلام)
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي:
الإهداء
إلى أنصار الإمام المهدي
شكراً لكم ..
كنتم لي نعم الأخوة والأخوات .. ونعم الأهل
حفظكم الله جميعاً
والحمدُ للهِ ربِ العالمين
وصَلَى اللهُ على محمدٍ وآلِ محمدٍ الأئمةِ والمهديينَ وسَلَمَ تَسْليماً
أصلُ الدينِ:
أصلُ الدينِ أو العقيدةِ الإلهيةِ في هذهِ الأرضِ هو الاستخلافُ، فمنذُ أنْ خلقَ اللهُ أولَ إنسانٍ أرضي، وهو آدم (عليه السلام) جعلهُ خليفتَهُ في أرضِهِ.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة: 31].
﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 32].
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[البقرة: 33].
هذا ما كانَ بينَ آدمَ (عليه السلام) والملائكةِ والجن،ِ لأنَّ الملائكةَ والجنَ غيرُ قادرين على تحصيلِ المعرفةِ التي يُحصلها آدمُ (عليه السلام) ذاتياً، فكانَ حتمياً أنْ يكونَ آدمُ هو الخليفةَ، لأنهُ القادرُ على تعريفِهِم ما يجهلون. فقد عملَ ببعضِ ما أودعَ فيهِ منْ قابليةٍ وإمكانٍ حيثُ إنَّهُ إنسانٌ، والإنسانُ هو القابلُ الأوسعُ والأعظمُ، فهو مخلوقٌ على صورةِ اللهِ، أي انهُ مفطورٌ على معرفةِ أسماءِ اللهِ، ومودعةٌ فيهِ قابليةَ إظهارِ أسماءِ اللهِ للخلقِ «اللهُ خلقَ آدمَ على صورتِهِ»([1]).
أما بينَ الناسِ أو بني آدمَ أنفسِهِم، فحتماً أنهم غيرُ متساوين في العملِ والإخلاص، فضلاً عن غفلةِ أكثرِهِم عنِ العملِ. فأصبحَ أيضاً مِن الحتمي أنْ يُستَخلَفَ العالمُ العارفُ باللهِ على الجاهلِ نسبةً إليه، فكانَ الخليفةُ الأولُ الحقيقي - وفي العوالمِ العلويةِ - هو محمداً (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ آلَ محمدٍ (عليهم السلام) ثُمَّ الأمثلَ فالأمثلَ من الناسِ، وأما في هذا العالمِ الجسماني فهو أعلمُ الخلقِ وأعرفُهُم باللهِ سبحانه في كلِ زمانٍ.
فهنا مُستَخلِفٌ ومُسَتخلَفٌ وعلمٌ يودعُ عندَ المُستَخلَفِ، وباعتبارِ صفاتِ الخليفةِ وحيثياتِ عَمَلِهِ أو تكليفِهِ من المستخلِفِ يمكنُ أنْ نصفَهُ وما يحمِلَهُ ونصفَ مُستخلِفَهُ، فنقولُ باعتبارِ أنهُ يتلقى أنباءَ الغيبِ فهو نبيٌ يحملُ أنباءً ويُنبِئُهُ من يوحي إليهِ بالأصلِ، وباعتبارِ أنهُ حاملُ رسالةٍ فهو رسولٌ يحملُ رسالةً من مُرسلٍ، فأصلُ الدينِ وهو الاستخلافُ يتضمّنُ أصولاً ثلاثة هيَ: المُستخلِفُ والخليفةُ والعلمُ، أو مُنْبِئٌ ونبيٌ وأنباءٌ، أو مُرسِلٌ ورسولٌ ورسالةٌ. ويمكنُ أنْ نصفَ الخليفةَ بأنهُ إمامٌ إذا كانَ لهُ مقامُ الإمامةِ.
وهذا الأصلُ (الاستخلافُ) : هو أصلُ الدينِ وعمودُهُ وركيزتُهُ. فمَنْ يَنْقُضْهُ فقد نقضَ الدينَ الإلهي ولم يُبقِ منهُ شيئاً. ولهذا أكدَ الأئمةُ (عليهم السلام) والإمامُ الصادقُ (عليه السلام) على أنَّ مَنِ اغتصبوا حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) كانوا أصحابَ الحظِ الأوفرِ في نقضِ الإسلامِ، ليس لاغتصابِهِم حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) فقط، بل لأنَّ هذا الاغتصابَ هو عبارةٌ عن نقضِ الأصلِ الذي يَرتكزُ عليهِ الدينُ الإلهي وهو الاستخلافُ، ومِنْ ثَمَّ جعلوا الناسَ ينحرفونَ عنْ هذا الأصلِ الذي هو الدينُ الإلهي من ألفِهِ إلى يائِهِ.
قالَ الإمامُ جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) :
«إنَّ الدينَ وأصلَ الدينِ هو رجلٌ وذلكَ الرجلُ هو اليقينُ وهو الإيمانُ وهو إمامُ أمتِهِ وأهلِ زمانِهِ فمَنْ عرفهُ عرفَ اللهَ ومَنْ أنكرهُ أنكرَ اللهَ ودينَهُ ومَنْ جَهِلَهُ جَهِلَ اللهَ ودينَهُ ولا يعرف الله ودينه وشرايعَهُ بغيرِ ذلكَ الإمام كذلك جرى بأنَّ معرفةَ الرجالِ دينُ اللهِ، والمعرفةُ على وجهه ([2])معرفةٌ ثابتةٌ على بصيرةٍ يعرف بها دين اللهِ ويوصل بها إلى معرفةِ اللهِ»([3]).
وأكدَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمرِ في حديثِ الفرقةِ الناجيةِ المشهور في كتبِ السُّنةِ:
«تفترقُ هذهِ الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُها في النارِ إلا فرقةً واحدةً. قيلَ يا رسولَ اللهِ! ما هذهِ الفرقة؟ قال: من كانَ على ما أنا عليهِ اليومَ وأصحابي».
«تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»([4]).
إذن، الرسولُ (صلى الله عليه وآله) قد حدّدَ صفةَ الفرقةِ الناجيةِ بأنها الفرقةُ التي يكونُ فيها قائدٌ منصبٌ مِنَ اللهِ، كما كانَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومؤمنون بهذهِ القيادةِ الإلهيةِ المُعرِّفةِ باللهِ وبأمرِ اللهِ، كما كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).
فالحقُ إذن كما حددَهُ ووصفَهُ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بدقةٍ، هو الفرقةُ التي فيها العلاقةُ الموافقةُ للعلاقةِ التي بينَهُ وبينَ أصحابِهِ، أي الإيمان بالاستخلافِ، فهناكَ خليفةٌ إلهي منصب من الله، وهناكَ مؤمنون بهذا الخليفةِ و بهذا الأصلِ الذي هو أصلُ الدينِ الإلهي.
وروى قريباً منهُ الشيخُ الصدوقُ رحمهُ اللهُ قالَ:
«حدثنا أبو نصر محمد بن أحمد بن تميم السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد محمد بن إدريس الشامي قال: حدثنا إسحاق بن إسرائيل قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال: حدثنا الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمر قال: قالَ رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ والهِ) : سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلٌ بمثلٍ وإنهم تفرقوا على اثنين وسبعين ملةً وستفرق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملةً تزيدُ عليهم واحدةً كلها في النارِ غير واحدةٍ. قال: قيل: يا رسولَ اللهِ وما تلك الواحدةُ ؟ قالَ هوَ: ما نحنُ عليهِ اليومَ أنا وأصحابي»([5]).
الأصول الثلاثة:
الأصل الأول: المُستَخلِف
وهو الله سبحانه وتعالى أو الحقيقة.
هناك طريقان للتصديق بوجود الحقيقة الغائبة الشاهدة الموجدة لهذا العالم:
الأول: طريق الوحي
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].
يجب أن يعي أي إنسان أنه من غير المنطقي أن يقوم هو بغلق أذنيه عن سماع ما وراء الجدار، ثم يقول - عناداً وتعنتاً - لمن سمعوا: لا يوجد شيء خلف الجدار. فالمفروض أولاً أن أفتح أذني وأحاول السماع، وعندها إذا لم أسمع كما سمعوا، يمكنني أن أحكم أنه لا يوجد شيء خلف الجدار.
الحق، إنّ طريق الوحي هو الطريق الأصل والأشرف، وأوله التصديق بوجود الحقيقة (أو الله سبحانه)، ولكنه يمتد إلى ما بعد التصديق وهو المعرفة وهي علة الخلق([6])، ويكون ابتداءً بالاستعداد للسماع من الحقيقة، ومن ثم بالتجرد والإخلاص للحقيقة الموجدة لهذا الكون، حتى تسمع روح الإنسان من الحقيقة الحكيمة، ويثبت له الوجود والحكمة، ومن ثم تبدأ رحلته إلى المعرفة، فيسمع من الله ومن رسله بالوحي في الرؤيا والكشف، بل حتى يصل الأمر إلى أن يسمع الإنسان حتى الجمادات ([7])، وهو طريق الأنبياء والأولياء، والمفروض أنه طريق كل ولد آدم، ولكنهم يعرضون عن ربهم وهو يناديهم، وينشغلون في الدنيا فيغفلون. وربما كانت أفعالهم خبيثة كمعاداة أولياء الله حتى يغشى قلوبهم الرين فلا يسمعون ولا يعون، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين: 14].
وبما أن هذا الطريق كما بيّنت يمتد إلى ما بعد التصديق، فلا بأس أن نتوسع قليلاً في مسألة المعرفة التي هي علة خلق الإنسان.
المعرفة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56].
الإنسان بالأساس مفطور على معرفة الله، لأنه خلق على صورته، أي أن الإنسان هو تجلي الله في عوالم الخلق. فالصورة كما نعرف تحكي الحقيقة بقدر ما، ولكن لمـَّا أعرض عامة الناس عن سبيل الله وانشغلوا بالدنيا وغفلوا عن ربهم وكان المتذكرون منهم خاصة وقليل فقط، كالنجوم المضيئة في ظلمة السماء؛ كانت مشيئة الله - ولرحمته - أن اختار رسلاً من هؤلاء الخاصة الذين تذكروا وسمعوا، وأرسلهم ليذكروا الغافلين المشغولين بالدنيا ويعرفونهم الطريق ويسيرون بهم إلى الله، لينجوا بعض هؤلاء الغافلين ويتذكروا ويعرفوا بفضل الله وبفضل هؤلاء الناجين الأوائل. إذن، الأصل أن الناس كلهم يتذكرون ولا يحتاجون من يذكرهم. فلو كان هناك رسول فالمفروض أن يعرفوه حتى دون إعلانه عن نفسه.
﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].
ولو أنهم غفلوا، فالمفروض أن المتذكر (الرسول) - الذي أرسله الله لهم ليسلك بهم الطريق الذي أضاعوه بغفلتهم - لا يحتاج إلى الكثير ليذكرهم.
بل المفروض أن خليفة الله لا يحتاج أكثر من الإعلان عن نفسه. والمفروض أن الناس قادرون على التعرف على خليفة ربهم وإلههم الذي يمكنهم الاتصال به ومعه دائماً وسؤاله عن رسوله، هذا هو الأصل إن كانوا أناساً محافظين على فطرتهم وإنسانيتهم وإن كانوا غافلين، ولهذا بيّن القرآن أن الأنبياء وإبراهيم لم يكونوا يحتاجون أكثر من إعلان دعواتهم، أي الأذان: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[الحج: 27]. فالآية واضحة؛ أذن يا إبراهيم، والناس يأتوك على عجلة بمجرد أن يعلموا بإعلانك عن دعوة الله التي تحملها ([8])، لأنهم سيتذكرون ويتصلون بربهم ويعلمون منه أمر رسوله وأحقيته، بل المفروض أنهم متذكرون مثلك، ويعرفونك قبل أن تؤذن، ولكنهم للأسف انشغلوا بالدنيا حتى ذكرتهم أنت فانتبهوا.
إذن، فالناس يأتوك بمجرد أن تعلن، أما غير الناس أو الذين نكسوا فطرتهم حتى لم يعد من اللائق أن يسموا ناس، فهؤلاء أكيد لا ينفعهم لا أذان ولا أي شيء آخر. وبين الناس وبين من نكسوا فطرتهم هناك كثير ممن لوثوا فطرتهم وأنفسهم بقدر ما، فهم يحتاجون لأشياء أخرى غير الإعلان والأذان، وهي ما نسميها بالأدلة لمعرفة خليفة الله أو قانون معرفة الحجة.
ولرحمته سبحانه وتعالى لم يكتف بإرسال الرسل مع أنه فضْل منه سبحانه، بل أمر رسله بالإعلان عن دعواتهم، رغم ما سيتحمله رسله وأحباؤه سبحانه من أعدائه بسبب هذا الإعلان. بل ولسعة رحمته سبحانه وتعالى لم يكتفِ بكل هذا حتى أرسل مع رسله الآيات والبينات (الأدلة الواضحة الجلية لكل طالب حق)، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ولا حجة لمحتج مهما كان هذا العذر واهناً وهذه الحجة داحضة، ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: 165]. فمع أنه - كما بيَّنا - لا حجة حقيقية لهم، ولكنه الكريم الرحيم اعتبرها حجة لهم لعظم كرمه. فأرسل الرسل بالآيات وبالبينات ليقطع دابر هذه الحجة الموهومة. ومع هذا - وللأسف - فهؤلاء المتمردون عديمو الحياء الذين أعطاهم الله الفرصة بعد الأخرى من غير استحقاق، سيطلبون فرصة أخرى، ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[غافر: 11].
ولكي نتصور المسألة أكثر أضرب هذا المثال: لو كان لديك عمل ما وكلفتَ به شخصاً معيناً، وهو لا يؤديه بسبب إهماله وكسله، وعندما تسأله لِمَ لمْ تؤدي العمل ؟ سيأتيك بأعذار واهية غير حقيقية. فيقول لك مثلاً: أحتاج كذا وكذا لأداء العمل. فأنت لتقطع عليه أعذاره وحججه الواهية - مع علمك بأنها أعذار واهية كاذبة - تحقق له مطالبه، وهكذا كأنك اعتبرتها أعذار وحجج حقيقية، وكما يقول المثل المعروف: اتبع الكذاب إلى عتبة الباب، ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]. فالمسألة من هذا الباب ولا يتصور أحد أن للناس حجة حقيقية على الله، سواء أرسل رسل أم لم يرسل، سواء كان مع الرسل آيات وبينات وأدلة، أو كانت أيديهم خالية إلا من ذكر الله.
إذن، فالمطلوب من كل إنسان أن يتذكر ويخلص ليكون نبياً يوحى إليه ويعرف الحقيقة وما يريده منه بارئه سبحانه، فقد فطره الله على هذا وخلقه لهذا وهو ممتحن ليكون هكذا، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]. ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].
ولكن للأسف أكثر الناس يركنون إلى ظلمة هذا العالم الجسماني ويغفلون عن ربهم. فلا يسلك هذا الطريق وهو طريق الوحي إلا قليل، كأنبياء الله ورسله وأوليائه سبحانه. ففتح الله لبقية بني آدم طريق الواسطة أو الخليفة الذي يوصلهم ويعرفهم، وهكذا ظهر مع فتح طريق الواسطة أصلان آخران مرتبطان بالمستخلف الواجب معرفته سبحانه، وهما الخليفة والرسالة التي يحملها للتعريف.
الثاني: الطريق العقلي
وهو طريق يتحرّى إثبات وجود الله أو الحقيقة وإثبات الصفات، ولكنه لا يحقق المعرفة الحقيقية التي هي علة الخلق.
تعرّض القرآن لبعض الأدلة العقلية، كدليل النظام والحكمة التي يراها الإنسان في الكون، ودليل أن العدم غير منتج. وسنتعرض لبعض الأدلة العقلية لعلها تكون حجة على من يلتزمون العقل ([9]) في الاستدلال كما يدّعون.
وهنا لابد من تشخيص وتحديد أمر مهم لابد أن يرافقنا في أي موضع نريد إقحام العقل فيه، وهو أن العقل ميزان وليس أوزان. فالعقل يقايس المعلومات التي تعطى له ويبين ما فيها، وثقله وخفته أو حتى عدمه وعدم قيمته. ولهذا ولكي تتحقق مهمة العقل بصورة صحيحة، لابد من وجود أوزان قياسية حقيقية ثابتة يقينية، لكي تكون المرجع في الموازنة. وإلا فسيكون ما يوضع في إحدى كفتي الميزان أو العقل مجرد وهم لا يمت للحقيقة بصلة، فتكون النتيجة الخلوص إلى نتائج خاطئة. وللأسف هذا أمر واقع ومنتشر بشكل واسع سواء على مستوى العقيدة أم التشريع.
وبما أن الكلام هنا في إثبات وجود الحقيقة الموجدة للعالم أو المُستَخلِف (الله)، فلا يمكن أن تكون أوزاننا في ميزان العقل شرعية دينية، لأننا هنا في صدد إثبات الأصل الذي يرجع إليه الدين. إذن، لابد أن تكون أوزاننا من الثوابت والبديهيات التي لا تحتاج إلى نظر، مثل: استحالة أن يكون الشيء معدوماً وموجوداً معاً، واستحالة أن تتسلسل الموجودات المتناهية العدد في سلسة لا متناهية من كل حيثية وجهة، واستحالة أن يكون العدم منتجاً، وأمثال هذه الثوابت.
ومن الأدلة العقلية التي احتج بها الله سبحانه وتعالى على الملحدين في القرآن ([10]) :
أ/ العدم لا ينتج شيئاً، والأثر دال على المؤثر.
قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور: 35].
إنّ العالم (أو العوالم) ليس أزلياً، بل حادث لأنه متغير، وكل حادث مسبوق بالعدم، فلابد له من محدث، لأن العدم المطلق لا شيئية فيه فهو غير منتج، فيستحيل أن يأتي شيء من لا شيء مطلقاً، أي بمعنى أن يأتي شيء من عدم مطلق. والكون أو الأكوان أو الوجود الحادث شيء، فلا يمكن أن يكون قد أتى من عدم مطلق. إذن، فالوجود الحادث (الكون أو الأكوان ) يثبت أنه أتى من وجود أزلي غني عنه وعن غيره.
فنحن إنْ قلنا: إنّ محدثه قديم أزلي غير مسبوق بالعدم أثبتنا وجوده سبحانه ([11]).
وإنْ قلنا: إنه حادث، أيضاً لزمه محدث. ولا يمكن أن يكون هو الأول، لأن معناه أن الشيء موجود ومعدوم معاً. فإن كان غيره تسلسل ولا يمكن أن تكون هذه السلسلة غير متناهية من كل حيثية وجهة؛ لأن العالم حادث متناهي وله بداية. ولما كانت السلسلة متناهية على الأقل من جهة كونها لها بداية، فلابد أن تنتهي إلى مُحدِث أزلي قديم، وبهذا ثبت وجوده سبحانه.
ومرادنا بالأزل، ليس الأزل الزماني، بل هو بمعنى غير المسبوق بالعدم بغض النظر عن بعد الزمان ووجوده من عدمه.
وباللامتناهي المطلق: هو غير المحدود من أي حيثية وجهة، فلا بداية له ولا نهاية، وبغض النظر عن بعد الزمان والمكان ووجودهما من عدمه. وليس مرادنا هو الـ (ما لا نهاية) في بعض المعادلات مثل:
1+1/2+1/4+1/16………..=2
فالطرف الأيسر للمعادلة صحيح أنه يمتد إلى ما لا نهاية ولكن له بداية، ومثله الكون المسطح فصحيح أن المفروض اتساعه إلى ما لا نهاية ولكن له بداية بدأ منها.
وكون العالم الجسماني أو الكون الجسماني الذي نعيش فيه حادث، قد ثبت حتى بحسب البحوث الفيزيائية الحديثة. فلو كان العالم الجسماني أزلياً لكان مستقراً متوازناً، لا كما هو حاله الآن من الاضطراب والتغير المستمر. والمفروض أن الملحدين يلتزمون الآن بحدوث العالم وعدم أزليته؛ لأنهم بحسب ادعائهم تطبيقيون ويقرّون ما يقرّه العلم المادي وقوانينه.
أقول هذا لإقامة الحجة على الملحدين؛ لأنهم يلتزمون بالعالم الجسماني فقط، مع أن الكلام في إثبات حدوث العالم لا يُقصد به العالم الجسماني فقط.
ب/ صفة الأثر دالة على صفة المؤثر.
ولبيان هذا الدليل سأنقل هنا بعض النصوص من كتاب وهم الإلحاد، ومن يريد التفصيل عليه الرجوع لكتاب وهم الإلحاد
[فصل الخطاب "التطور هادف":
لدينا جينات وطفر جيني وقانون البقاء للجينة الأفضل أو يمكن أن نقول: للكائن الأفضل، فالفرق بين الجينة والكائن كالفرق بين خريطة بناء البيت والبيت نفسه وقانون البقاء للجينة المفضلة يصقل هذه الجينات، ونحن نعلم الآن بشكل قطعي أن آلة البقاء الأفضل بالنسبة للحياة الأرضية على الإطلاق هي آلة الذكاء (الدماغ)، ورغم أن كلفة آلة الذكاء أو الدماغ الاقتصادية عالية جداً على الكائن الحي حيث إنه يحتاج كمية غذاء كبيرة ولكن التطور بالنتيجة مُجبَر على أن يسير بهذا الاتجاه أي أن يطور آلة الذكاء.
فطالما أن الطفر الجيني موجود منذ البداية فلابد أن تتوفر جينات بناء آلة الذكاء (الدماغ مثلاً) عاجلاً أم آجلاً حتى وإن كان الطفر الجيني عشوائياً تماماً.
وبما أن قانون البقاء للجينات الأفضل أو للكائن الأفضل ([12]) هو الحاكم في عملية التطور، إذن فالنتيجة أننا الآن يمكننا الجزم بأن التطور منذ البداية متجه وهادف لإنتاج جينات آلة ذكاء أو كائن ذكي، فالتطور إذن هادف.
وأعتقد أن هذا الاستدلال التام كافٍ لنقض نظرية د. دوكنز الإلحادية ضمن نطاق الحياة الأرضية القائمة على إن التطور غير هادف على المدى البعيد.
والحقيقة، إننا لو أردنا التوسع في حكمنا المتقدم أكثر ونعمم الحكم على أي نوع حياة يمكن أن نتخيله فيمكننا أن نجزم - بناءً على قانون التطور المعتمد على طفر المتضاعفات أو آلات النسخ وانتخاب الأفضل منها - أن أي حياة سواء كانت كحياتنا الأرضية - مبنية على الماء والكربون والنتروجين والمواد الكيميائية الأخرى - أم كانت في كوكب آخر أو كون آخر ومبنية على الأمونيا بدل الماء، أم على السليكون بدل الكربون - لأنه قادر على تكوين سلاسل طويلة كالكربون - فستكون نتيجتها الحتمية هو إنتاج آلة الذكاء، هذا هو الهدف الحتمي للتطور بحسب القانون الذي نعرفه الآن، ولا يمكن أن تحيد أي حياة أو متضاعفات أو آلات نسخ وتطور عن الوصول إليه عاجلاً أم آجلاً.
مع العلم أن المتوقع من أي حياة أخرى في كوننا الاعتماد على الماء والكربون؛ لأن الماء يعتبر حالة سائلة مثالية لاستضافة الحياة حيث تقل كثافته عند الانجماد ويطفو وبهذا يسمح الجليد للحياة أن تستمر في الماء السائل تحته وهذه العناصر الأربعة الهيدروجين والأوكسجين والنتروجين والكربون هي الأكثر وفرة في الكون والكربون دون غيره قادر على تشكيل سلاسل ضعيفة يمكن أن تكسر بسهولة وهذا مناسب للأيض والحياة بعكس سلاسل السليكون.
هكذا نكون قد وصلنا إلى فصل الخطاب وحسم الخلاف حول إمكان إثبات وجود رب أو إله بحسب نظرية التطور، فقد أثبتنا للحياة صفة الهدف وأنها هادفة والتطور هادف، وحيث إن صفة الأثر دالة على صفة المؤثر فيثبت للمؤثر صفة أنه هادف ومدرك وعالم، وبهذا أثبتنا وجود مؤثر هادف ومدرك وعالم، وبالنتيجة يثبت وجود رب أو إله سواء كان هو المؤثر المباشر أم كان المؤثر المباشر أثر من آثاره دال عليه بصفته أيضاً، أي صفة الهادف التي أثبتناها، وهذا بحد ذاته كافٍ لنقض النظرية الإلحادية الحديثة المبنية على أساس أن التطور غير هادف على المدى البعيد.
آلة الذكاء:
قلت: إن التطور يهدف الوصول إلى آلة ذكاء؛ لأن آلة الذكاء هي آلة البقاء الأفضل على الإطلاق في منافسة البقاء المحتدمة بين الجينات، ومع أن وجود سبعة مليارات إنسان على الأرض اليوم كافٍ لإثبات هذه الحقيقة، ولكن لا بأس في مناقشة هذه الحقيقة باختصار للتوضيح، فنحن حتى لو فرضنا أن الطفر الجيني عشوائي منذ البداية سنقول إنه حتماً لابد أن يوفر جينة مؤهلة لبناء آلة ذكاء، وليس المقصود بآلة الذكاء هنا الدماغ الحالي للإنسان والحيوانات بل مقصدنا أي شيء يمكن أن نتصوره كبداية للدماغ مثل خلية عصبية واحدة، وأكيد أن من يمتلكون آلات الذكاء هم المفضلون في المنافسة وسيكون نصيبهم من البقاء أكبر ومن ثم لو انتقلت المنافسة بين من يمتلكون آلات الذكاء فستكون الكائنات التي تمتلك آلة ذكاء توفر ذكاءً أكبر هي الفائزة في سباق البقاء للأفضل وهكذا، ففي التطور بداية آلة الذكاء حتمية وتحسين آلة الذكاء مع الزمن أيضاً أمر حتمي، وبهذا يمكننا أن نقول: إن آلة الذكاء هدف حتمي للتطور أي يمكن أن نختصر ونقول التطور يهدف الوصول للذكاء.
وأود التنبيه إلى أني لا أقول: إن أي منافسة تجري بين الأفراد ستكون نتيجتها لصالح الفرد الذكي بل حتى بين الأنواع، ولكني أقول: إن جينة بناء آلة الذكاء هي المفضلة في المنافسة وهي الفائزة في السباق حتماً.
فالفرد الأذكى أو الذي يمتلك آلة ذكاء أفضل ربما يخسر أمام فرد أقل ذكاءً أو يمتلك آلة ذكاء أدنى أو حتى لا يمتلك آلة ذكاء نتيجة حيثيات المواجهة وظروفها.
والنوع الذي يمتلك آلة ذكاء أفضل ربما يخسر في المنافسة على البقاء أمام نوع يمتلك آلة ذكاء أدنى نتيجة حيثيات المواجهة وظروفها.
ولكن جينة بناء آلة الذكاء متى ما وجدت ودخلت إلى مجموع الجينات التي تبني الكائنات الحية، فلا يمكن أن تخسر في المنافسة أمام الجينات الأخرى، ولا يمكن أن تخرج من مجموع الجينات العاملة على بناء الكائنات الحية بل ستتقدم وبتسارع ملحوظ يزداد مع الزمن؛ لأن الفرق بينها وبين الجينات الأخرى في المنافسة على البقاء أو التقدم وإحراز موقع الصدارة كبير.
والمنافسة بين الجينات لا تتوقف عند المنافسة على البقاء، بل هناك منافسة بين الجينات على موقع الصدارة في المجموعة الجينية التي تبني أجسام الكائنات الحية، فهي تسعى لتكون الأكثر عدداً حتى وإن كان تنافسها بصورة غير واعية ولا مدركة، بل هو تنافس يمر من خلال قانون التطور العام وخاضع له.
الأدلة العقلية التي يسوقها القرآن لإثبات وجود الله:
ما تقدم في هذا الفصل كافٍ لإثبات أن التطور هادف وبالتالي إثبات أن من ورائه من يريد الوصول إلى هذا الهدف، وبالنتيجة أثبتنا وجود إله ضمن قانون صفة الأثر دال على صفة المؤثر، فالأثر الذي هو الحياة الأرضية أثبتنا أنها تتصف بأنها هادفة، وبهذا أثبتنا صفة طلب الهدف والإدراك لمؤثرها، وبهذا أثبتنا وجود إله مدرك عالم. ولكن مع هذا سأناقش في بقية هذا الفصل مسألة أن التطور هادف حتى من منظور التجزئة بل سأركز عليه؛ لأن علماء الأحياء يعتمدون مسألة تجزئة التطور والملحدون منهم يصرون على النظر من زاوية التجزئة فقط رغم أني أراها زاوية تساوي العور والنظر بعين واحدة.
عقائد الإسلام
يليه
يسألونك عن الروح
السيد أحمد الحسن
الطبعة الأولى
1437هـ - 2016 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن (عليه السلام)
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي:
الإهداء
إلى أنصار الإمام المهدي
شكراً لكم ..
كنتم لي نعم الأخوة والأخوات .. ونعم الأهل
حفظكم الله جميعاً
والحمدُ للهِ ربِ العالمين
وصَلَى اللهُ على محمدٍ وآلِ محمدٍ الأئمةِ والمهديينَ وسَلَمَ تَسْليماً
أصلُ الدينِ:
أصلُ الدينِ أو العقيدةِ الإلهيةِ في هذهِ الأرضِ هو الاستخلافُ، فمنذُ أنْ خلقَ اللهُ أولَ إنسانٍ أرضي، وهو آدم (عليه السلام) جعلهُ خليفتَهُ في أرضِهِ.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة: 31].
﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 32].
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[البقرة: 33].
هذا ما كانَ بينَ آدمَ (عليه السلام) والملائكةِ والجن،ِ لأنَّ الملائكةَ والجنَ غيرُ قادرين على تحصيلِ المعرفةِ التي يُحصلها آدمُ (عليه السلام) ذاتياً، فكانَ حتمياً أنْ يكونَ آدمُ هو الخليفةَ، لأنهُ القادرُ على تعريفِهِم ما يجهلون. فقد عملَ ببعضِ ما أودعَ فيهِ منْ قابليةٍ وإمكانٍ حيثُ إنَّهُ إنسانٌ، والإنسانُ هو القابلُ الأوسعُ والأعظمُ، فهو مخلوقٌ على صورةِ اللهِ، أي انهُ مفطورٌ على معرفةِ أسماءِ اللهِ، ومودعةٌ فيهِ قابليةَ إظهارِ أسماءِ اللهِ للخلقِ «اللهُ خلقَ آدمَ على صورتِهِ»([1]).
أما بينَ الناسِ أو بني آدمَ أنفسِهِم، فحتماً أنهم غيرُ متساوين في العملِ والإخلاص، فضلاً عن غفلةِ أكثرِهِم عنِ العملِ. فأصبحَ أيضاً مِن الحتمي أنْ يُستَخلَفَ العالمُ العارفُ باللهِ على الجاهلِ نسبةً إليه، فكانَ الخليفةُ الأولُ الحقيقي - وفي العوالمِ العلويةِ - هو محمداً (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ آلَ محمدٍ (عليهم السلام) ثُمَّ الأمثلَ فالأمثلَ من الناسِ، وأما في هذا العالمِ الجسماني فهو أعلمُ الخلقِ وأعرفُهُم باللهِ سبحانه في كلِ زمانٍ.
فهنا مُستَخلِفٌ ومُسَتخلَفٌ وعلمٌ يودعُ عندَ المُستَخلَفِ، وباعتبارِ صفاتِ الخليفةِ وحيثياتِ عَمَلِهِ أو تكليفِهِ من المستخلِفِ يمكنُ أنْ نصفَهُ وما يحمِلَهُ ونصفَ مُستخلِفَهُ، فنقولُ باعتبارِ أنهُ يتلقى أنباءَ الغيبِ فهو نبيٌ يحملُ أنباءً ويُنبِئُهُ من يوحي إليهِ بالأصلِ، وباعتبارِ أنهُ حاملُ رسالةٍ فهو رسولٌ يحملُ رسالةً من مُرسلٍ، فأصلُ الدينِ وهو الاستخلافُ يتضمّنُ أصولاً ثلاثة هيَ: المُستخلِفُ والخليفةُ والعلمُ، أو مُنْبِئٌ ونبيٌ وأنباءٌ، أو مُرسِلٌ ورسولٌ ورسالةٌ. ويمكنُ أنْ نصفَ الخليفةَ بأنهُ إمامٌ إذا كانَ لهُ مقامُ الإمامةِ.
وهذا الأصلُ (الاستخلافُ) : هو أصلُ الدينِ وعمودُهُ وركيزتُهُ. فمَنْ يَنْقُضْهُ فقد نقضَ الدينَ الإلهي ولم يُبقِ منهُ شيئاً. ولهذا أكدَ الأئمةُ (عليهم السلام) والإمامُ الصادقُ (عليه السلام) على أنَّ مَنِ اغتصبوا حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) كانوا أصحابَ الحظِ الأوفرِ في نقضِ الإسلامِ، ليس لاغتصابِهِم حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) فقط، بل لأنَّ هذا الاغتصابَ هو عبارةٌ عن نقضِ الأصلِ الذي يَرتكزُ عليهِ الدينُ الإلهي وهو الاستخلافُ، ومِنْ ثَمَّ جعلوا الناسَ ينحرفونَ عنْ هذا الأصلِ الذي هو الدينُ الإلهي من ألفِهِ إلى يائِهِ.
قالَ الإمامُ جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) :
«إنَّ الدينَ وأصلَ الدينِ هو رجلٌ وذلكَ الرجلُ هو اليقينُ وهو الإيمانُ وهو إمامُ أمتِهِ وأهلِ زمانِهِ فمَنْ عرفهُ عرفَ اللهَ ومَنْ أنكرهُ أنكرَ اللهَ ودينَهُ ومَنْ جَهِلَهُ جَهِلَ اللهَ ودينَهُ ولا يعرف الله ودينه وشرايعَهُ بغيرِ ذلكَ الإمام كذلك جرى بأنَّ معرفةَ الرجالِ دينُ اللهِ، والمعرفةُ على وجهه ([2])معرفةٌ ثابتةٌ على بصيرةٍ يعرف بها دين اللهِ ويوصل بها إلى معرفةِ اللهِ»([3]).
وأكدَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمرِ في حديثِ الفرقةِ الناجيةِ المشهور في كتبِ السُّنةِ:
«تفترقُ هذهِ الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُها في النارِ إلا فرقةً واحدةً. قيلَ يا رسولَ اللهِ! ما هذهِ الفرقة؟ قال: من كانَ على ما أنا عليهِ اليومَ وأصحابي».
«تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»([4]).
إذن، الرسولُ (صلى الله عليه وآله) قد حدّدَ صفةَ الفرقةِ الناجيةِ بأنها الفرقةُ التي يكونُ فيها قائدٌ منصبٌ مِنَ اللهِ، كما كانَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومؤمنون بهذهِ القيادةِ الإلهيةِ المُعرِّفةِ باللهِ وبأمرِ اللهِ، كما كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).
فالحقُ إذن كما حددَهُ ووصفَهُ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بدقةٍ، هو الفرقةُ التي فيها العلاقةُ الموافقةُ للعلاقةِ التي بينَهُ وبينَ أصحابِهِ، أي الإيمان بالاستخلافِ، فهناكَ خليفةٌ إلهي منصب من الله، وهناكَ مؤمنون بهذا الخليفةِ و بهذا الأصلِ الذي هو أصلُ الدينِ الإلهي.
وروى قريباً منهُ الشيخُ الصدوقُ رحمهُ اللهُ قالَ:
«حدثنا أبو نصر محمد بن أحمد بن تميم السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد محمد بن إدريس الشامي قال: حدثنا إسحاق بن إسرائيل قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال: حدثنا الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمر قال: قالَ رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ والهِ) : سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلٌ بمثلٍ وإنهم تفرقوا على اثنين وسبعين ملةً وستفرق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملةً تزيدُ عليهم واحدةً كلها في النارِ غير واحدةٍ. قال: قيل: يا رسولَ اللهِ وما تلك الواحدةُ ؟ قالَ هوَ: ما نحنُ عليهِ اليومَ أنا وأصحابي»([5]).
الأصول الثلاثة:
الأصل الأول: المُستَخلِف
وهو الله سبحانه وتعالى أو الحقيقة.
هناك طريقان للتصديق بوجود الحقيقة الغائبة الشاهدة الموجدة لهذا العالم:
الأول: طريق الوحي
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].
يجب أن يعي أي إنسان أنه من غير المنطقي أن يقوم هو بغلق أذنيه عن سماع ما وراء الجدار، ثم يقول - عناداً وتعنتاً - لمن سمعوا: لا يوجد شيء خلف الجدار. فالمفروض أولاً أن أفتح أذني وأحاول السماع، وعندها إذا لم أسمع كما سمعوا، يمكنني أن أحكم أنه لا يوجد شيء خلف الجدار.
الحق، إنّ طريق الوحي هو الطريق الأصل والأشرف، وأوله التصديق بوجود الحقيقة (أو الله سبحانه)، ولكنه يمتد إلى ما بعد التصديق وهو المعرفة وهي علة الخلق([6])، ويكون ابتداءً بالاستعداد للسماع من الحقيقة، ومن ثم بالتجرد والإخلاص للحقيقة الموجدة لهذا الكون، حتى تسمع روح الإنسان من الحقيقة الحكيمة، ويثبت له الوجود والحكمة، ومن ثم تبدأ رحلته إلى المعرفة، فيسمع من الله ومن رسله بالوحي في الرؤيا والكشف، بل حتى يصل الأمر إلى أن يسمع الإنسان حتى الجمادات ([7])، وهو طريق الأنبياء والأولياء، والمفروض أنه طريق كل ولد آدم، ولكنهم يعرضون عن ربهم وهو يناديهم، وينشغلون في الدنيا فيغفلون. وربما كانت أفعالهم خبيثة كمعاداة أولياء الله حتى يغشى قلوبهم الرين فلا يسمعون ولا يعون، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين: 14].
وبما أن هذا الطريق كما بيّنت يمتد إلى ما بعد التصديق، فلا بأس أن نتوسع قليلاً في مسألة المعرفة التي هي علة خلق الإنسان.
المعرفة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56].
الإنسان بالأساس مفطور على معرفة الله، لأنه خلق على صورته، أي أن الإنسان هو تجلي الله في عوالم الخلق. فالصورة كما نعرف تحكي الحقيقة بقدر ما، ولكن لمـَّا أعرض عامة الناس عن سبيل الله وانشغلوا بالدنيا وغفلوا عن ربهم وكان المتذكرون منهم خاصة وقليل فقط، كالنجوم المضيئة في ظلمة السماء؛ كانت مشيئة الله - ولرحمته - أن اختار رسلاً من هؤلاء الخاصة الذين تذكروا وسمعوا، وأرسلهم ليذكروا الغافلين المشغولين بالدنيا ويعرفونهم الطريق ويسيرون بهم إلى الله، لينجوا بعض هؤلاء الغافلين ويتذكروا ويعرفوا بفضل الله وبفضل هؤلاء الناجين الأوائل. إذن، الأصل أن الناس كلهم يتذكرون ولا يحتاجون من يذكرهم. فلو كان هناك رسول فالمفروض أن يعرفوه حتى دون إعلانه عن نفسه.
﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].
ولو أنهم غفلوا، فالمفروض أن المتذكر (الرسول) - الذي أرسله الله لهم ليسلك بهم الطريق الذي أضاعوه بغفلتهم - لا يحتاج إلى الكثير ليذكرهم.
بل المفروض أن خليفة الله لا يحتاج أكثر من الإعلان عن نفسه. والمفروض أن الناس قادرون على التعرف على خليفة ربهم وإلههم الذي يمكنهم الاتصال به ومعه دائماً وسؤاله عن رسوله، هذا هو الأصل إن كانوا أناساً محافظين على فطرتهم وإنسانيتهم وإن كانوا غافلين، ولهذا بيّن القرآن أن الأنبياء وإبراهيم لم يكونوا يحتاجون أكثر من إعلان دعواتهم، أي الأذان: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[الحج: 27]. فالآية واضحة؛ أذن يا إبراهيم، والناس يأتوك على عجلة بمجرد أن يعلموا بإعلانك عن دعوة الله التي تحملها ([8])، لأنهم سيتذكرون ويتصلون بربهم ويعلمون منه أمر رسوله وأحقيته، بل المفروض أنهم متذكرون مثلك، ويعرفونك قبل أن تؤذن، ولكنهم للأسف انشغلوا بالدنيا حتى ذكرتهم أنت فانتبهوا.
إذن، فالناس يأتوك بمجرد أن تعلن، أما غير الناس أو الذين نكسوا فطرتهم حتى لم يعد من اللائق أن يسموا ناس، فهؤلاء أكيد لا ينفعهم لا أذان ولا أي شيء آخر. وبين الناس وبين من نكسوا فطرتهم هناك كثير ممن لوثوا فطرتهم وأنفسهم بقدر ما، فهم يحتاجون لأشياء أخرى غير الإعلان والأذان، وهي ما نسميها بالأدلة لمعرفة خليفة الله أو قانون معرفة الحجة.
ولرحمته سبحانه وتعالى لم يكتف بإرسال الرسل مع أنه فضْل منه سبحانه، بل أمر رسله بالإعلان عن دعواتهم، رغم ما سيتحمله رسله وأحباؤه سبحانه من أعدائه بسبب هذا الإعلان. بل ولسعة رحمته سبحانه وتعالى لم يكتفِ بكل هذا حتى أرسل مع رسله الآيات والبينات (الأدلة الواضحة الجلية لكل طالب حق)، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ولا حجة لمحتج مهما كان هذا العذر واهناً وهذه الحجة داحضة، ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: 165]. فمع أنه - كما بيَّنا - لا حجة حقيقية لهم، ولكنه الكريم الرحيم اعتبرها حجة لهم لعظم كرمه. فأرسل الرسل بالآيات وبالبينات ليقطع دابر هذه الحجة الموهومة. ومع هذا - وللأسف - فهؤلاء المتمردون عديمو الحياء الذين أعطاهم الله الفرصة بعد الأخرى من غير استحقاق، سيطلبون فرصة أخرى، ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[غافر: 11].
ولكي نتصور المسألة أكثر أضرب هذا المثال: لو كان لديك عمل ما وكلفتَ به شخصاً معيناً، وهو لا يؤديه بسبب إهماله وكسله، وعندما تسأله لِمَ لمْ تؤدي العمل ؟ سيأتيك بأعذار واهية غير حقيقية. فيقول لك مثلاً: أحتاج كذا وكذا لأداء العمل. فأنت لتقطع عليه أعذاره وحججه الواهية - مع علمك بأنها أعذار واهية كاذبة - تحقق له مطالبه، وهكذا كأنك اعتبرتها أعذار وحجج حقيقية، وكما يقول المثل المعروف: اتبع الكذاب إلى عتبة الباب، ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]. فالمسألة من هذا الباب ولا يتصور أحد أن للناس حجة حقيقية على الله، سواء أرسل رسل أم لم يرسل، سواء كان مع الرسل آيات وبينات وأدلة، أو كانت أيديهم خالية إلا من ذكر الله.
إذن، فالمطلوب من كل إنسان أن يتذكر ويخلص ليكون نبياً يوحى إليه ويعرف الحقيقة وما يريده منه بارئه سبحانه، فقد فطره الله على هذا وخلقه لهذا وهو ممتحن ليكون هكذا، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]. ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110].
ولكن للأسف أكثر الناس يركنون إلى ظلمة هذا العالم الجسماني ويغفلون عن ربهم. فلا يسلك هذا الطريق وهو طريق الوحي إلا قليل، كأنبياء الله ورسله وأوليائه سبحانه. ففتح الله لبقية بني آدم طريق الواسطة أو الخليفة الذي يوصلهم ويعرفهم، وهكذا ظهر مع فتح طريق الواسطة أصلان آخران مرتبطان بالمستخلف الواجب معرفته سبحانه، وهما الخليفة والرسالة التي يحملها للتعريف.
الثاني: الطريق العقلي
وهو طريق يتحرّى إثبات وجود الله أو الحقيقة وإثبات الصفات، ولكنه لا يحقق المعرفة الحقيقية التي هي علة الخلق.
تعرّض القرآن لبعض الأدلة العقلية، كدليل النظام والحكمة التي يراها الإنسان في الكون، ودليل أن العدم غير منتج. وسنتعرض لبعض الأدلة العقلية لعلها تكون حجة على من يلتزمون العقل ([9]) في الاستدلال كما يدّعون.
وهنا لابد من تشخيص وتحديد أمر مهم لابد أن يرافقنا في أي موضع نريد إقحام العقل فيه، وهو أن العقل ميزان وليس أوزان. فالعقل يقايس المعلومات التي تعطى له ويبين ما فيها، وثقله وخفته أو حتى عدمه وعدم قيمته. ولهذا ولكي تتحقق مهمة العقل بصورة صحيحة، لابد من وجود أوزان قياسية حقيقية ثابتة يقينية، لكي تكون المرجع في الموازنة. وإلا فسيكون ما يوضع في إحدى كفتي الميزان أو العقل مجرد وهم لا يمت للحقيقة بصلة، فتكون النتيجة الخلوص إلى نتائج خاطئة. وللأسف هذا أمر واقع ومنتشر بشكل واسع سواء على مستوى العقيدة أم التشريع.
وبما أن الكلام هنا في إثبات وجود الحقيقة الموجدة للعالم أو المُستَخلِف (الله)، فلا يمكن أن تكون أوزاننا في ميزان العقل شرعية دينية، لأننا هنا في صدد إثبات الأصل الذي يرجع إليه الدين. إذن، لابد أن تكون أوزاننا من الثوابت والبديهيات التي لا تحتاج إلى نظر، مثل: استحالة أن يكون الشيء معدوماً وموجوداً معاً، واستحالة أن تتسلسل الموجودات المتناهية العدد في سلسة لا متناهية من كل حيثية وجهة، واستحالة أن يكون العدم منتجاً، وأمثال هذه الثوابت.
ومن الأدلة العقلية التي احتج بها الله سبحانه وتعالى على الملحدين في القرآن ([10]) :
أ/ العدم لا ينتج شيئاً، والأثر دال على المؤثر.
قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور: 35].
إنّ العالم (أو العوالم) ليس أزلياً، بل حادث لأنه متغير، وكل حادث مسبوق بالعدم، فلابد له من محدث، لأن العدم المطلق لا شيئية فيه فهو غير منتج، فيستحيل أن يأتي شيء من لا شيء مطلقاً، أي بمعنى أن يأتي شيء من عدم مطلق. والكون أو الأكوان أو الوجود الحادث شيء، فلا يمكن أن يكون قد أتى من عدم مطلق. إذن، فالوجود الحادث (الكون أو الأكوان ) يثبت أنه أتى من وجود أزلي غني عنه وعن غيره.
فنحن إنْ قلنا: إنّ محدثه قديم أزلي غير مسبوق بالعدم أثبتنا وجوده سبحانه ([11]).
وإنْ قلنا: إنه حادث، أيضاً لزمه محدث. ولا يمكن أن يكون هو الأول، لأن معناه أن الشيء موجود ومعدوم معاً. فإن كان غيره تسلسل ولا يمكن أن تكون هذه السلسلة غير متناهية من كل حيثية وجهة؛ لأن العالم حادث متناهي وله بداية. ولما كانت السلسلة متناهية على الأقل من جهة كونها لها بداية، فلابد أن تنتهي إلى مُحدِث أزلي قديم، وبهذا ثبت وجوده سبحانه.
ومرادنا بالأزل، ليس الأزل الزماني، بل هو بمعنى غير المسبوق بالعدم بغض النظر عن بعد الزمان ووجوده من عدمه.
وباللامتناهي المطلق: هو غير المحدود من أي حيثية وجهة، فلا بداية له ولا نهاية، وبغض النظر عن بعد الزمان والمكان ووجودهما من عدمه. وليس مرادنا هو الـ (ما لا نهاية) في بعض المعادلات مثل:
1+1/2+1/4+1/16………..=2
فالطرف الأيسر للمعادلة صحيح أنه يمتد إلى ما لا نهاية ولكن له بداية، ومثله الكون المسطح فصحيح أن المفروض اتساعه إلى ما لا نهاية ولكن له بداية بدأ منها.
وكون العالم الجسماني أو الكون الجسماني الذي نعيش فيه حادث، قد ثبت حتى بحسب البحوث الفيزيائية الحديثة. فلو كان العالم الجسماني أزلياً لكان مستقراً متوازناً، لا كما هو حاله الآن من الاضطراب والتغير المستمر. والمفروض أن الملحدين يلتزمون الآن بحدوث العالم وعدم أزليته؛ لأنهم بحسب ادعائهم تطبيقيون ويقرّون ما يقرّه العلم المادي وقوانينه.
أقول هذا لإقامة الحجة على الملحدين؛ لأنهم يلتزمون بالعالم الجسماني فقط، مع أن الكلام في إثبات حدوث العالم لا يُقصد به العالم الجسماني فقط.
ب/ صفة الأثر دالة على صفة المؤثر.
ولبيان هذا الدليل سأنقل هنا بعض النصوص من كتاب وهم الإلحاد، ومن يريد التفصيل عليه الرجوع لكتاب وهم الإلحاد
[فصل الخطاب "التطور هادف":
لدينا جينات وطفر جيني وقانون البقاء للجينة الأفضل أو يمكن أن نقول: للكائن الأفضل، فالفرق بين الجينة والكائن كالفرق بين خريطة بناء البيت والبيت نفسه وقانون البقاء للجينة المفضلة يصقل هذه الجينات، ونحن نعلم الآن بشكل قطعي أن آلة البقاء الأفضل بالنسبة للحياة الأرضية على الإطلاق هي آلة الذكاء (الدماغ)، ورغم أن كلفة آلة الذكاء أو الدماغ الاقتصادية عالية جداً على الكائن الحي حيث إنه يحتاج كمية غذاء كبيرة ولكن التطور بالنتيجة مُجبَر على أن يسير بهذا الاتجاه أي أن يطور آلة الذكاء.
فطالما أن الطفر الجيني موجود منذ البداية فلابد أن تتوفر جينات بناء آلة الذكاء (الدماغ مثلاً) عاجلاً أم آجلاً حتى وإن كان الطفر الجيني عشوائياً تماماً.
وبما أن قانون البقاء للجينات الأفضل أو للكائن الأفضل ([12]) هو الحاكم في عملية التطور، إذن فالنتيجة أننا الآن يمكننا الجزم بأن التطور منذ البداية متجه وهادف لإنتاج جينات آلة ذكاء أو كائن ذكي، فالتطور إذن هادف.
وأعتقد أن هذا الاستدلال التام كافٍ لنقض نظرية د. دوكنز الإلحادية ضمن نطاق الحياة الأرضية القائمة على إن التطور غير هادف على المدى البعيد.
والحقيقة، إننا لو أردنا التوسع في حكمنا المتقدم أكثر ونعمم الحكم على أي نوع حياة يمكن أن نتخيله فيمكننا أن نجزم - بناءً على قانون التطور المعتمد على طفر المتضاعفات أو آلات النسخ وانتخاب الأفضل منها - أن أي حياة سواء كانت كحياتنا الأرضية - مبنية على الماء والكربون والنتروجين والمواد الكيميائية الأخرى - أم كانت في كوكب آخر أو كون آخر ومبنية على الأمونيا بدل الماء، أم على السليكون بدل الكربون - لأنه قادر على تكوين سلاسل طويلة كالكربون - فستكون نتيجتها الحتمية هو إنتاج آلة الذكاء، هذا هو الهدف الحتمي للتطور بحسب القانون الذي نعرفه الآن، ولا يمكن أن تحيد أي حياة أو متضاعفات أو آلات نسخ وتطور عن الوصول إليه عاجلاً أم آجلاً.
مع العلم أن المتوقع من أي حياة أخرى في كوننا الاعتماد على الماء والكربون؛ لأن الماء يعتبر حالة سائلة مثالية لاستضافة الحياة حيث تقل كثافته عند الانجماد ويطفو وبهذا يسمح الجليد للحياة أن تستمر في الماء السائل تحته وهذه العناصر الأربعة الهيدروجين والأوكسجين والنتروجين والكربون هي الأكثر وفرة في الكون والكربون دون غيره قادر على تشكيل سلاسل ضعيفة يمكن أن تكسر بسهولة وهذا مناسب للأيض والحياة بعكس سلاسل السليكون.
هكذا نكون قد وصلنا إلى فصل الخطاب وحسم الخلاف حول إمكان إثبات وجود رب أو إله بحسب نظرية التطور، فقد أثبتنا للحياة صفة الهدف وأنها هادفة والتطور هادف، وحيث إن صفة الأثر دالة على صفة المؤثر فيثبت للمؤثر صفة أنه هادف ومدرك وعالم، وبهذا أثبتنا وجود مؤثر هادف ومدرك وعالم، وبالنتيجة يثبت وجود رب أو إله سواء كان هو المؤثر المباشر أم كان المؤثر المباشر أثر من آثاره دال عليه بصفته أيضاً، أي صفة الهادف التي أثبتناها، وهذا بحد ذاته كافٍ لنقض النظرية الإلحادية الحديثة المبنية على أساس أن التطور غير هادف على المدى البعيد.
آلة الذكاء:
قلت: إن التطور يهدف الوصول إلى آلة ذكاء؛ لأن آلة الذكاء هي آلة البقاء الأفضل على الإطلاق في منافسة البقاء المحتدمة بين الجينات، ومع أن وجود سبعة مليارات إنسان على الأرض اليوم كافٍ لإثبات هذه الحقيقة، ولكن لا بأس في مناقشة هذه الحقيقة باختصار للتوضيح، فنحن حتى لو فرضنا أن الطفر الجيني عشوائي منذ البداية سنقول إنه حتماً لابد أن يوفر جينة مؤهلة لبناء آلة ذكاء، وليس المقصود بآلة الذكاء هنا الدماغ الحالي للإنسان والحيوانات بل مقصدنا أي شيء يمكن أن نتصوره كبداية للدماغ مثل خلية عصبية واحدة، وأكيد أن من يمتلكون آلات الذكاء هم المفضلون في المنافسة وسيكون نصيبهم من البقاء أكبر ومن ثم لو انتقلت المنافسة بين من يمتلكون آلات الذكاء فستكون الكائنات التي تمتلك آلة ذكاء توفر ذكاءً أكبر هي الفائزة في سباق البقاء للأفضل وهكذا، ففي التطور بداية آلة الذكاء حتمية وتحسين آلة الذكاء مع الزمن أيضاً أمر حتمي، وبهذا يمكننا أن نقول: إن آلة الذكاء هدف حتمي للتطور أي يمكن أن نختصر ونقول التطور يهدف الوصول للذكاء.
وأود التنبيه إلى أني لا أقول: إن أي منافسة تجري بين الأفراد ستكون نتيجتها لصالح الفرد الذكي بل حتى بين الأنواع، ولكني أقول: إن جينة بناء آلة الذكاء هي المفضلة في المنافسة وهي الفائزة في السباق حتماً.
فالفرد الأذكى أو الذي يمتلك آلة ذكاء أفضل ربما يخسر أمام فرد أقل ذكاءً أو يمتلك آلة ذكاء أدنى أو حتى لا يمتلك آلة ذكاء نتيجة حيثيات المواجهة وظروفها.
والنوع الذي يمتلك آلة ذكاء أفضل ربما يخسر في المنافسة على البقاء أمام نوع يمتلك آلة ذكاء أدنى نتيجة حيثيات المواجهة وظروفها.
ولكن جينة بناء آلة الذكاء متى ما وجدت ودخلت إلى مجموع الجينات التي تبني الكائنات الحية، فلا يمكن أن تخسر في المنافسة أمام الجينات الأخرى، ولا يمكن أن تخرج من مجموع الجينات العاملة على بناء الكائنات الحية بل ستتقدم وبتسارع ملحوظ يزداد مع الزمن؛ لأن الفرق بينها وبين الجينات الأخرى في المنافسة على البقاء أو التقدم وإحراز موقع الصدارة كبير.
والمنافسة بين الجينات لا تتوقف عند المنافسة على البقاء، بل هناك منافسة بين الجينات على موقع الصدارة في المجموعة الجينية التي تبني أجسام الكائنات الحية، فهي تسعى لتكون الأكثر عدداً حتى وإن كان تنافسها بصورة غير واعية ولا مدركة، بل هو تنافس يمر من خلال قانون التطور العام وخاضع له.
الأدلة العقلية التي يسوقها القرآن لإثبات وجود الله:
ما تقدم في هذا الفصل كافٍ لإثبات أن التطور هادف وبالتالي إثبات أن من ورائه من يريد الوصول إلى هذا الهدف، وبالنتيجة أثبتنا وجود إله ضمن قانون صفة الأثر دال على صفة المؤثر، فالأثر الذي هو الحياة الأرضية أثبتنا أنها تتصف بأنها هادفة، وبهذا أثبتنا صفة طلب الهدف والإدراك لمؤثرها، وبهذا أثبتنا وجود إله مدرك عالم. ولكن مع هذا سأناقش في بقية هذا الفصل مسألة أن التطور هادف حتى من منظور التجزئة بل سأركز عليه؛ لأن علماء الأحياء يعتمدون مسألة تجزئة التطور والملحدون منهم يصرون على النظر من زاوية التجزئة فقط رغم أني أراها زاوية تساوي العور والنظر بعين واحدة.
Comment