أسرار الإمام المهدي - قسم التفسير / الاصدار الثالث
كتاب التوحيد
تفسير سورة التوحيد
وصي ورسول الامـام المهـدي
السيد أحمد الحسن
إصدارات أنصار الإمام المهدي
العدد (88)
الطبعة الأولى
1431هـ - 2010 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
الإهــداء
إلى الحسين بن علي ..
وإلى كل من شهدوا ويشهدون بآلامهم وبدمائهم لحاكمية الله ..
إلى زينب بنت علي ..
وإلى كل من شهدن للحق ..
وإلى من تعالت وتتعالى أصواتهن وهن يطالبن بحاكمية الله ..
أشهد أن شهادتكم كتبت وتكتب ..
وسيسأل أعداؤكم ومخالفوكم ..
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾
( الأعراف : 6 - 9 )
خادمكم
أحمد الحسن
لماذا هذا الكتاب
سبحانه وتعالى أن تكون الألوهية أو الربوبية كنهه وحقيقته، بل هما صفاته سبحانه وتعالى فهو الله الذي يأله له الخلق ليكملوا ويدفعوا النقص عن صفحات وجودهم، وهو الرب الذي يفيض على خلقه الكمال ويسد نقصهم.
ولكن أبداً ليست الألوهية أو الربوبية هي كنهه وحقيقته، بل هو سبحانه وتعالى تجلى لخلقه الفقراء بالكمال المطلق ، فكان هو الإله المطلق - الله سبحانه وتعالى - الذي يألهون إليه لسد نقصهم، وتجلى لخلقه الفقراء بالربوبية، فأفاض على نقصهم الكمال ليعرفوه ويعبدوه، فالعبادة دون معرفة فارغة عن المعنى فضلا عن الحقيقة.
وبما أنّ غاية معرفة الحقيقة هو: معرفة العجز عن معرفة الحقيقة، فقد تجلى سبحانه وتعالى لخلقه بالألوهية التي هي الكمال المطلق المواجه لنقصهم، والذي يحثهم على التألّه إليه، وبالتالي تحصيل المعرفة في هذه المرتبة التي تؤهلهم إلى معرفة العجز عن المعرفة في مرتبة الحقيقة.
فالألوهية غنى وكمال مقابل للفقر يدفع الفقراء أن يألهون إليه ليفيض عليهم الكمال، فيعرفونه بالألوهية وهم يألهون إليه ويعرفونه بالربوبية وهو يفيض عليهم الكمال، إنّ عدم التمييز بين الألوهية وبين الحقيقة جعل الأمور تختلط على كثير ممن يدعون العلم والمعرفة، هذا فضلاً عن أنّ كثيراً من هؤلاء لا يكادون يميزون بين الألوهية والربوبية، حتى نجد اليوم وبوضوح تام عجز من يدعون أنهم علماء الإسلام طوال أكثر من ألف عام عن بيان معنى لقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ﴾( ).
فهم بين من يضيف كلمة للآية ويحرفها بهواه وكأنّه سبحانه كان عاجزاً تعالى علواً كبيراً عن إضافة هذه الكلمة ( )، وبين من يقول بجواز الإتيان على الله سبحانه وتعالى ( )، وهكذا هم كحاطب ليل لا يعلم أين يقع فأسه، فهم بين نارين نار: أن يقولوا بأن الله يأتي ويذهب، فينزلوه منزلة المخلوق المحتاج للمكان والحيز أو وسط الانتقال، وبين أن ينفوا عنه الإتيان والذهاب بتحريف الآية وإدعاء أن هناك محذوفاً فيها، وبهذا فهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه وعن مواضعه دون خوف منه سبحانه ويا لها من جرأة.
أما المسيحيون، فقد جعلوا الآتي على السحاب المذكور في التوراة والإنجـيل ( ) هو عيسـى ، واعتبروا أن عيسى هو الله سبحانه وتعالى.
وجعلوا اللاهوت المطلق تجسد بجسد في هذا العالم، وبهذا أعلنوا فقره وحاجته ونقضوا ألوهيته المطلقة تعالى الله علواً كبيراً.
من هنا كانت ضرورة كتابة هذا الكتاب لأنّه يبين العقيدة الحقة في اللاهوت التي يرضاها الله سبحانه وتعالى، كما وأرجو من الله أن يكون هذا الكتاب سبباً لهداية كثير من خلقه بعد أن أضاعهم من يجهلون الحقيقة ويدعون أنهم علماء.
وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون في هذا الكتاب خير وبركة وزيادة في هدى ونقص من ضلال لكل من يقرأه، وأن يعم نفعه، وقد حاولت ما مكنني ربي أن أجعله مختصراً وفي متناول الجميع ولا يصعب على أحد من الناس فهمه.
أحمد الحسن
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديّان الدين، رب العالمين.
الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعمّارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وعرفنا علم الكتاب بفضله ومنه وجعل لنا نوراً نستغني به و نسير به في الناس ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾( )، لقد جاءت رسل ربنا بالحق وصدقنا الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد.
والصلاة والسلام على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق.
وصلوات الله على النار وعلى من في النار ومن حولها وتبارك الله رب العالمين ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( ).
وصلوات الله على الماء وعلى الجنات وعلى الأشجار المباركة فيها وتبارك الله رب العالمين ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾( ).
وصلوات الله على البركة النازلة وعلى القرى المباركة وعلى القرى الظاهرة ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً﴾ ( ).
كأني أرى بعض الجهلة ممن يدعون العلم يقرأون ما سطر في هذا الكتاب وهم يقولون هذا شرك وهذا كفر، وهم لا يفرقون بين القشر واللب وبين الحجر والجوهر، وأنا وأعوذ بالله من الأنا العبد الفقير لرحمة ربه المسكين المستكين بين يدي ربه أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، له الألوهية المطلقة وله الربوبية المطلقة وله الخلق وله الأمر وسبحان الله عما يشركون، وأن محمداً خير خلق الله وأول الخلق والعقل الأول هو عبد الله ورسوله إلى جميع خلقه من الإنس والملائكة والجن وما تعلمون وما لا تعلمون.
لقد أُجهد الأنبياء والأوصياء عليهم صلوات ربي في بيان حرفين من المعرفة والتوحيد ولم يقبلها منهم إلا بعض بني آدم بعد اللتيا والتي، والمطلوب اليوم والذي سيصار إليه غداً هو بيان سبعة وعشرين حرفاً من المعرفة والتوحيد.
عن أبي عبد الله ، قال: (العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً) ( ).
والمعرفة والتوحيد التي يمكن لبني آدم تحصيلها هي ثمانية وعشرون حرفاً، حرف منها اختص به آل محمد وهو سرهم, ما أمروا بإبلاغه للناس ولا يحتمله الناس.
عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن منصور بن العباس، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير، قال: قال أبو عبد الله : (يا أبا محمد إن عندنا والله سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، والله ما كلف الله ذلك أحداً غيرنا ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا.
وإن عندنا سراً من سر الله وعلماً من علم الله، أمرنا الله بتبليغه، فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حملة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته ، ومن نور خلق الله منه محمداً وذريتـه، وصنعهم بفضل رحمته التي صنع منها محمداً وذريته، فبلغنا عن الله ما امرنا بتبليغه ، فقبلوه و احتملوا ذلك [فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه] وبلغهم ذكرنا، فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا، فلولا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه.
ثم قال: إن الله خلق أقواماً لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به وقالوا: ساحر كذاب، فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك، ثم أطلق الله لسانهم ببعض الحق، فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة، ليكون ذلك دفعاً عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عبد الله في أرضه، فأمرنا بالكف عنهم والستر والكتمان، فاكتموا عمن أمر الله بالكف عنه واستروا عمن أمر الله بالستر والكتمان عنه.
قال : ثم رفع يده وبكى، وقال : اللهم إن هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدوا لك فتفجعنا بهم، فانك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبداً في أرضك وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً) ( ).
وعن أبي عبد الله ، قال: (إنّ أمرنا سر في سر، وسر مستسر، وسر لا يفيد الا سر، وسر على سر، وسر مقنع بسر) ( ).
وقال أبو جعفر : (إنّ أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق ( )، من هتكه أذله الله) ( ).
وقال أبو عبد الله : (إنّ أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق ومن هتكه أذله الله) ( ).
وقال أبو عبد الله : (إنّ أمرنا هو الحق، وحق الحق، وهو الظاهر وباطن الباطن، وهو السر، وسر السر، وسر المستسر، وسر مقنع بالسر) ( ).
وهذه الثمانية والعشرون حرفاً من العلم والمعرفة هي على عدد منازل القمر، أربعة عشر قمراً وأربعة عشر هلالاً كما هي في الشهر، وهم حجج الله وكلماته التي تفضل بها على العالمين والحج الأكبر.
الأقمار الأربعة عشر هم: (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن ومحمد صلوات الله عليهم).
أما الأهلة فهم: (إثنا عشر مهدياً ولأولهم مقامان: مقام الرسالة ومقام الولاية، فيكونون ثلاثة عشر، ومعهم ابنة فاطمة الزهراء فيكونون أربعة عشر).
والأهلة منهم هم علامات الساعة والقيامة ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ).
واليوم الباقي من الشهر هو يوم غيبة الهلال والقمر، وهو عند الله ألف سنة وبعض الألف سنة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾( ).
وهي موافقة لغيبة الإمام المهدي كما هو معلوم، فلابد له أن يغيب اليوم وبعض اليوم لتتم كلمة الله ( )،
﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً﴾ ( )، وتتم أيام الله بالوصول إلى اليوم الأخير .
وهذا اليوم وبعض اليوم (يوم الغيبة) يمثل الحرف المخزون المكنون عند الله الذي لم يخرج منه إلى غيره، ولا يعلمه أحد من خلقه، وهو سر غيبة الحقيقة والكنه، وهو واو (هو). أما هاء (هو) فهي الثمانية والعشرون حرفاً التي لا يعلمها بتمامها إلا آل محمد ، وهي سرهم كما قدمت. فالمطلوب - وهو التوحيد الحقيقي - معرفة الاسم الأعظم الاثنين وسبعين حرفاً ( )،
وهي باطن الثمانية وعشرين حرفاً ( )، ليعرف بها العبد إنه عاجز عن المعرفة من دون الحرف الباقي ، فلا يبقى إلا العجز عن المعرفة، فلو عرفت م ح م من اسم محمد هل يقال إنك تعرف محمداً ؟ أم يقال إنك لا تعرف محمداً ؟ بل غاية ما تعرفه حروفاً من الاسم ولا يعرف الاسم إلا بكل حروفه.
والحمد لله الذي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن فيها هدىً للناس وبينات من الهدى، ليحيى من يحيى عن بينة ويهلك من يهلك عن بينة ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ ( ).
والحمد لله وحده.
المذنب المقصر
أحمـد الحسـن
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾
بسملة التوحيد:
البسملة باب الكتاب، فلها ظاهر وباطن، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ ( )، وهذا السور أو الباب هو سور التوحيد فمن دخل من البسملة إلى الكتاب شمله باطن البسملة وهو الرحمة (الرحمن الرحيم)، ومن بقي في الخارج حيث الظلام واجهه ظاهر البسملة وهو النقمة (الواحد القهار).
فالبسملة سور باطنه (بسم الله الرحمن الرحيم) وظاهره (بسم الله الواحد القهار). وذُكر بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السَور ولم يذكر بسم الله الواحد القهار في أول سورة التوبة - التي هي خطاب موجه الى من اختاروا معاداة ومحاربة الرسول - ذلك أن من بين شيئاً فقد بين ضده؛ ولأنه سبحانه يواجه خلقه بالرحمة إلا من إختار الظلم والفساد والجور؛ فإنه سبحانه يواجهه بالقهر والنقمة، فالرحمة هي الأصل بالمواجهة والمواجهة بالقهر استثناء.
وبسملة كل سورة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسورة من جهة، ومرتبطة ببسملة سورة الفاتحة من جهة أخرى ( ).
وبما أن كل بسملة تحكي جهة من جهات بسملة الفاتحة، فهذه البسملة في هذه السورة تحكي التوحيد. فالبحث في بسملة هذه السورة يدور حول التوحيد، وهنا ثلاثة أسماء: الله الرحمن الرحيم.
الله إسم الذات أو الكمالات الإلهية، والرحمن الرحيم باب الذات، وتترشح من هذا الباب أبواب هي بعدد أسمائه سبحانه وتعالى، وإنما جعل الرحمن الباب الذي تترشح منه أسماء الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يتعامل بالرحمة ولئلا تشتد المثلات بالخلق الذاكر لنفسه والغافل عن ربه.
فالتوحيد بالمرتبة الأولى: معرفة انطواء جميع هذه الأسماء في الذات الإلهية، أي أن الله رحمن رحيم والرحمة ذاته، وقادر والقدرة ذاته.
ومعرفة أن جميع هذه الأسماء مترشحة من باب الرحمة باطنه الرحيم وظاهره الرحمن.
ومعرفة إن جميع هذه الأسماء غير منفكة عن الذات بل هي الذات عينها.
ومعرفة أن جميع هذه الأسماء والصفات هي لجهة حاجة الخلق إليها، فوجودها من جهة افتقار الخلق لا من جهة متعلقة به سبحانه وتعالى، بل إنه سبحانه وتعـالى تجلى بالذات للخلق ليعرف - كان سبحانه كنـزاً فخلق الخلق ليعرف - ومعرفته سبحانه وتعالى بمعرفة الذات أو الله، وتمام معرفته تكون بمعرفة العجز عن معرفته سبحانه وتعالى عما يشركون، أي العجز عن معرفته في مرتبة الكنه أو الحقيقة ( )، ومعرفة الذات أو الله إنما تحصل من الباب أو الرحمن الرحيم، ولتحصيل هذه المعرفة افتتحت جميع العوالم بهذه الأسماء الثلاثة: الله الرحمن الرحيم، فنجد كتاب الله سبحانه وتعالى بنسختيه المقروءة (القرآن) والكونية (الخلق) قد افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، فالقرآن افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، والخلق - الكون - افتتح بخلق محمد وعلي وفاطمة.
وهم تجلي الله الرحمن الرحيم، (وقد بينت في المقدمة أن منازل القمر هم آل محمد الأئمة والمهديون، وهم أبواب المعرفة)، قال تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ) ، وهذا يبين لك بوضوح علة ورود الحروف المقطعة -كما يسمونها- في الكتاب المقروء - القرآن - بعد البسملة مباشرة وفي أوائل السور، فعلة تقدمها في الكتاب المقروء - القرآن - هو لعلة تقدمها في الكتاب الكوني.
والبسملة تشير إلى الوحدة، فالرحمن الرحيم متحدان في المعنى العام، وهما باب الذات الإلهية أو الله، الرحمن ظاهره والرحيم باطنه، والباب في الذات ومنه يترشح ما في الذات.
فالباب هو الذات ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّـاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَـاءُ الْحُسْنَى﴾( )، فالبسملة تشير إلى أحدية الذات الإلهية (الله) بحسب باطن سور الكتاب، أي بسم الله الرحمن الرحيم، أما بحسب ظاهر سور الكتاب أي بسم الله الواحد القهار، فهي أيضاً تشير إلى الوحدة، فالواحد القهار باب الذات مترشح من الرحمن الرحيم ( )، فالواحد هو باطن الباب، والقهار هو ظاهر الباب ونتيجتهما واحدة، فهما متحدان في الواقع الخارجي - كما إنّ الرحمن الرحيم متحدان بالمعنى - لامتناع تعددهما او تفرقهما في الخارج؛ لأن الواحد الحقيقي يكون قاهراً لكل ماسواه ، وأيضاً القهار الحقيقي لكل ما سواه واحد حقيقي، قال أمير المؤمنين علي : (فَيا مَنْ تَوَحَّدَ بِالْعِزِّ وَالْبَقـاءِ، وَقَهَرَ عِبادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْفَنـاءِ) دعاء الصباح للأمير ( )، وأيضاً هذا الباب منطوي في الذات أو الله انطواء فناء.
ولعل الفائدة تتم ببيان أن محمداً أرسل ببسم الله الرحمن الرحيم، وإرسال القائم ببسم الله الواحد القهار، فمحمد ووصيه علي سارا بالجفر الأبيض، والقائم ووصيه يسيران بالجفر الأحمر، أي القتل وعدم قبول التوبة في بعض الموارد، كما ورد في الحديث عن رفيد مولى أبي هبيرة، قال: قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك يابن رسول الله يسير القائم بسيرة علي بن أبي طالب في أهل السواد ؟ فقال: (لا يا رفيد، إن علي بن أبي طالب سار في أهل السواد بما في الجفر الأبيض، وإن القائم يسير في العرب بما في الجفر الأحمر. قال: فقلت له: جعلت فداك، وما الجفر الأحمر ؟ قال: فأمرَّ إصبعه إلى حلقه، فقال: هكذا، يعنى الذبح. ثم قال: يا رفيد إن لكل أهل بيت مجيباً شاهداً عليهم شافعاً لأمثالهم) ( ).
أما الذات أو الله فهي تشير إلى الوحدة بعد ملاحظة فناء جميع الأسماء فيها، وهذا الفناء إشارة إلى الخلق، لترك ملاحظة أي كمال أو اسم من أسماء الذات والتوجه إلى التوحـيد الحقيقي، وهو التوجه إلى الحقيقة والكنه والتخلي عن أي معرفة، والإعتراف بالعجز المطلق عن أي معرفة سوى إثبات الثابت الذي تشير له الهاء في (هو)، ومعرفة العجز عن معرفته التي تشير له الواو في (هو)، وهذا التوجه هو توجه إلى الاسم الأعظم الأعظم الأعظم، وهذه هي العبادة الحقيقية وهذا هو التوحيد الحقيقي وما دونه شرك في مرتبة ما.
فالذين يعبدون الذات أو (الله) نسبة إلى هذه المرتبة مشركون من حيث لا يشعرون فضلاً عمن سواهم، قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ ( )، فيجب أن تكون الذات أو الله قبلة للكنه والحقيقة فهي المقصود بالعبادة دون من سواها.
وللتوضيح أكثر أقول: البسملة ثلاثة أسماء هي: الله، الرحمن، الرحيم. فإذا قلنا أن البسملة هي باب التوحيد فهذه الأسماء هي الباب وبها يعرف التوحيد، فنحتاج على الاقل إلى تمييز إجمالي لحدود هذه الأسماء ومعانيها.
الله: وهو إسم للذات الإلهية الجامعة للصفات الكمالية، وفي الحقيقة هو صفة جامعة للصفات فمعنى الله أي الذي يؤله إليه في الحوائج، أي الذي يقصد لسد النقص من كل جهة.
الرحمن: وهو اسم للذات الإلهية وصفة من صفات الكمال، وهو منطوٍ وفانٍ في الله، والرحمن في الدنيا والآخرة ولكنه أولى بأمور الدنيا لجهة سعة الرحمة فيه.
الرحيم: وهو اسم للذات الإلهية وصفة من صفات الكمال، وهو أيضاً فانٍ في الذات الإلهية أي الله، والرحيم في الدنيا والآخرة ولكنه أولى بأمور الآخرة، لجهة شدة الرحمة فيه كما بينته في تفسير الفاتحة، فراجع.
وهذان الاسمان أو الصفتان الرحمن الرحيم: هما في الحقيقة إسم واحد وصفة واحدة، فلا افتراق حقيقي بينهما ولا تمايز حقيقي، بل هما وجهان لحقيقة واحدة هي الرحمة، فهما باب الذات: الرحمن ظاهر الباب، والرحيم باطن الباب.
هنا توحد هذان الاسمان ولم يبقَ لنا إلا توحد الرحمة مع الله أو الذات الإلهية، وهذا لا يحتاج فيه صاحب فطرة سليمة إلى العناء والبحث والتدقيق لمعرفته فالله سبحانه وتعالى، إذا كان هو الذي يؤله إليه في الحوائج، وهؤلاء الذين يتألهون إليه أو يقصدونه عصاة مقصرون، خيّرهم وأفضلهم ناظر إلى نفسه ولو من طرف خفي، فبماذا يعطيهم أ بالعدل وهو وضع الشيء في موضعه ؟ وهل من وضع الشيء في موضعه أن تعطي السلاح من يقاتلك به وهو ظالم ؟! وكيف ببقية الخلق إذا كان محمد خير خلق الله سبحانه وتعالى إحتاج في مواجهة الله سبحانه وتعالى الرحمة، فقدم له سبحانه وتعالى بقوله: (سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي) فقال الرسول : (اللهم عفوك عفوك).
فقد سأل أبو بصير أبا عبد الله ، فقال: (جعلت فداك كم عرج برسول الله ؟ فقال : مرتين، فأوقفه جبرئيل موقفاً فقال له: مكانك يا محمد، فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملك قط ولا نبي، إن ربك يصلي، فقال: يا جبرئيل وكيف يصلي ؟ قال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة و الروح ، سبقت رحمتي غضبي ، فقال: اللهم عفوك عفوك، قال: وكان كما قال الله " قاب قوسين أو أدنى "، فقال له أبو بصير: جعلت فداك ما قاب قوسين أو أدنى ؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها، فقال: كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق، ولا أعلمه إلا وقد قال: زبرجد، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد، قال: لبيك ربي، قال: من لأمتك من بعدك ؟ قال: الله أعلم قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، قال: ثم قال أبو عبد الله لأبي بصير: يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية علي من الأرض ولكن جاءت من السماء مشافهة) ( ).
ومما طلب العفو صلوات الله عليه، أمن تقصير ؟ أم أن كلامه صلوات الله عليه لغو لا طائل من ورائه ؟ حاشاه وهو النبي الكريم الحكيم خير ولد آدم صلوات الله عليه، ولما قدم الله سبحانه وتعالى الرحمة وبين أنها سبقت غضبه، ولما واجه نبيه الكريم بهذا الكلام الذي يستشعر منه أنه موجه إلى مستحق لمواجهة الغضب ولكن الله يريد أن يواجهه بالرحمة، ثم إنه سبحانه وتعالى فتح له الفتح المبين، وغفر له ذنبه الذي استحق به الغضب وهو الأنا، والذي بدونه لا يبقى إلا الله الواحد القهار، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾ ( ).
فشائبة الظلمة والعدم بدونها لا يبقى للإنسان إنسانيته، ولا يبقى ألا الله الواحد القهار، ومحمد بعد الفتح أخذ يخفق بين فناء فلا يبقى إلا الله الواحد القهار، وبين عوده إلى الأنا والشخصية فهو صلوات الله عليه حجاب بين الخلق والحق ، وهو البرزخ بين الله وخلقه، فإذا كان صاحب هذه المرتبة العظيمة محتاجاً أن يواجه بالرحمة فما بالك بمن سواه، فبالنسبة للخلق الله الذي يتألهون إليه هو الرحمن الرحيم بل لابد أن يكون كذلك وإلا فسيعودون خائبين خاسرين بسبب تقصيرهم. إذن، فالله والرحمن بالنسبة لنا واحد بل هو كذلك في الحقيقة، فالباب أو الرحمن هو مدينة الكمالات الإلهية أو الله فمنه يعرف ما فيها، ويتجلى ويظهر منه الفيض الإلهي إلى الخلق، قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾( )، فإذا تبين وحدة هذه الأسماء في الذات الإلهية أو الله وفناؤها فيها عرفنا أن الوحدة الأحدية متحققة في الذات الإلهية أو الله سبحانه وتعالى، وهذه هي المرتبة الأولى المقصودة في التوحيد، وهي كما قدمت وحدة جميع الأسماء والصفات في الذات الإلهية أو الله وحدة حقيقية أي أن الله واحد أحد وجميع الأسماء والصفات عين ذاته وليست أعراضاً تتصف بها الذات، ولا جواهر تتركب منها فهو الله الرحمن القادر ........ كما قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾( ).
والحقيقة أن هذه المرتبة من التوحيد لا تخلو من الشرك في مرتبة ما لجهتين:
الجهة الأولى: هي أننا لا يمكن أن نرفع كثرة الأسماء الملازمة للذات الإلهية عن أوهامنا، وإن كانت كثرة إعتبارية، فالله هو: الرحمن الرحيم القادر القاهر الجبار المتكبر العليم الحكيم ... وهذه الكثرة وإن كانت لا تخل بوحدة الذات الإلهية أو الله ولكنها كثرة، وتحمل معنى الكثرة فهي مخلة بالتوحيد في مرتبة أعلى من هذه، قال أمير المؤمنين : (..... أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف) ( ).
والجهة الثانية: هي جهة الألوهية، فكوننا نتأله في حوائجنا إلى الذات الإلهية فإن علاقتنا معه سبحانه وتعالى غير خالية - والحال هذه - من الطمع والحاجة لسد النقص من جهة معينة، إذن فالعبادة غير خالصة بل هي طلب للكمال وسد النقص في أحسن صورها على هذا الحال، وهذه المرتبة شرك، فالإخلاص الحقيقي هو قطع النظر عمن سواه سبحانه وتعالى حتى عن الأنا والشخصية، وهذا هو الأولى والأحجى بل هو أصل المطلوب، إذن فالتوحيد الحقيقي يتحقق بعد معرفة فناء جميع الأسماء والصفات في الذات الإلهية، ثم فناء الذات الإلهية في الحقيقة أي فناء الألوهية في حقيقته سبحانه، ولايتحقق هذا الامر الا بفناء الأنا وشخصية الانسان فلا يبقى إلا الشاهد الغائب سبحانه وتعالى عما يشركون ( )، وإذا كان هناك لفظ دال عليه فيكون (هو) ضمير الغائب، والهاء لإثبات الثابت والواو لغيبة الغائب ( )، وهذا التوجه - المتحصل من هذه المعرفة - هو التوجه الصحيح لأنه توجه إلى الحقيقة والكنه، وهذا هو التوحيد الحقيقي، توحيد الحقيقة والكنه أو الإسم الأعظم الأعظم الأعظم، أو الإسم المكنون المخزون والذي ينبع من داخل الإنسان بعد فناء الأنا وبقاء الله، وهذه هي المرتبة الأخيرة المقصودة في التوحيد واليها تشير بسملة التوحيد وسورة التوحيد أيضاً كما سيتضح.
ولأن بسملة سورة التوحيد هي مفتاح التوحيد الحقيقي وهي باب وحجاب الكنه والحقيقة، ولأن التوحيد غاية ابن آدم، فقد جرى الاهتمام العظيم بقراءة سورة التوحيد في الصلاة الواجبة والمستحبة وقبل النوم وبعد الاستيقاظ من النوم وبعد الصلاة الواجبة وفي صلاة الوصية وفي صلاة الناشئة ....... وصلاة سيد الموحدين بعد رسول الله علي تقرأ التوحيد فيها 200 مرة، فلا يمر يوم على المؤمن دون قراءة التوحيد وكأنها قرينة الفاتحة، ونعم القرين.
واعلم أن الغرض من هذه الغاية العظيمة (التوحيد) هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا الغرض خلق الله الإنسان لأجله فمن ضيع هذا الغرض فقد ضيع كل شيء ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾( )، أي ليعرفون، وهذا الغرض وهذه المعرفة لابد لها من التوحيد لتتحقق، والتوحيد الحقيقي لايتحقق بتحصيل الألفاظ والمعاني، بل يتحقق بالعمل والإخلاص لله سبحانه حتى يصبح العبد وجه الله سبحانه في أرضه أو الله في الخلق.
لهذا قلت فيما تقدم: (التوحيد الحقيقي توحيد الحقيقة والكنه، أو الاسم الأعظم الأعظم الأعظم، أو الاسم المكنون المخزون والذي ينبع من داخل الانسان بعد فناء الأنا وبقاء الله).
* * *
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾:
هو ضمير الغائب يشير إلى الاسم الأعظم الأعظم الأعظم أو الكنه والحقيقة, فالمراد هنا قل لهم إذا كانوا يريدون معرفة حقيقته وكنهه سبحانه وتعالى فهو يعرف بمعرفة الذات الأحدية، فالذات هي حجاب الكنه والحقيقة ولا يعرف ما بعد الحجاب إلا باختراق الحجاب، ولا يخترق الحجاب إلا بالمعرفة، فإذا عرفتم فناء الأسماء الإلهية في الذات أو الله وأحدية الذات ونظرتم فيها ومن خلالها باعتبارها حجاب الكنه والحقيقة عرفتم أن تمام معرفة الحقيقة هي العجز عن المعرفة.
و ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تشير إلى معنيين:
الأول: هو فناء الأسماء الإلهية في الذات وأحدية الذات في التوحيد الأحدي.
والثاني: هو فناء الألوهية في الحقيقة في المرتبة الأخيرة، لأن الألوهية فيها الكثرة الاعتبارية لأنها تعني الكمال، وبالتالي التأله إليه لسد النقص والحصول على الكمال وللكمال جهات كثيرة.
وفي المعنى الأول مرتبتان:
ففي المرتبة الأولى: الله أحد أي أنه قادر والقدرة ذاته، وراحم والرحمة ذاته، وفي هذه المرتبة الأسماء الإلهية فانية في الذات ولكنها تلاحظ تفصيلاً أي الله القادر العليم الحكيم.
وفي المرتبة الثانية: الله أحد أي أنه كامل يؤله إليه لسد النقص وتحصيل الكمال، والأسماء الإلهية فانية فيه دون ملاحظتها تفصيلاً بل إجمالاً باعتبارها جهات الكمال، أي النظر إلى الله سبحانه وتعالى الكامل دون النظر أو الالتفات إلى الأسماء الكمالية، ولا يخفى أن في هذا الإجمال تبقى الكثرة كالنار تحت الرماد، فالمقصود هو سد النقص وتحصيل الكمال سواء كان هذا القصد تفصيلياً أم إجمالياً.
أما المعنى الثاني: الذي تشير له ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فهو فناء الألوهية والكمال في الكنه والحقيقة، فلا ينظر إلا للمعبود سبحانه وتعالى باعتباره معبوداً، فلا يبقى للألوهية في هذه المرتبة من التوحيد وجود، بل لا يبقى إلا النظر إلى الحقيقة والكنه أو الاسم الأعظم الأعظم الأعظم (هو) وهذه هي أعلى مراتب التوحيد، وغاية الإنسان وكماله الحقيقي هو عبادة الحقيقة والكنه، ولذلك وصف الرسول الأكرم في أعلى مراتب الارتقاء بالعبد ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾( ).
* * *
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾:
الصمد: أي الكامل الذي ليس فيه نقص أو ثغرة أو عيب، أي إننا في مقام تنزيه وتسبيح ألوهيته المطلقة وبيان كمالها المطلق، وبالتالي فهو سبحانه المقصود من الخلق لسد النقص في صفحات وجودهم الجسمانية والملكوتية والنورية الكلية في السماء السابعة أو العقلية لمن كان له حظ فيها وكان من المقربين.
فهذا الوصف للذات الإلهية أي الصمد بيان للكمال الإلهي المطلق من خلال تنزيهه سبحانه عن النقص، وأيضاً بيان للنقص الموجود في الخلق الذي يجعلهم يقصدونه سبحانه وتعالى ليفيض عليهم من فضله.
وهذا الوصف أي الصمد جاء بعد الأحد أي بعد أن بين طريق معرفة الحقيقة والكنه من خلال أحدية الذات وفناء الأسماء فيها ثم فنائها، والذي أشارت إليه ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فالآن بيان وتفصيل وتوضيح أن جميع الأسماء الإلهية والصفات الكمالية مطلقة منزهة عن النقص ومنطوية في الذات ويدل عليها اسم الله، فوصفه بأنه صمد أي لا جوف فيه أي لا نقص ولا ثغرة في ساحته، بل هو كامل من كل الجهات وحاوي لكل صفات الكمال، ثم شمول هذا الوصف أي الصمد لمعنى السيد الكريم الذي يقصد لقضاء الحوائج للدلالة على أنه سبحانه وتعالى بكماله المطلق المنزه المسبح يقصده الخلق لسد نقائصهم، ولقضاء حاجاتهم للدنيا والآخرة.
وهذه الآية أي الله الصمد جاءت في مرتبة تنَّـزليّة مع المتلقي، فسورة التوحيد تبدأ من القمة ثم تتنـزل مع المتلقي في التوضيح حتى تنتهي إلى المقارنة مع الخلق ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾، فمن الحقيقة والكنه وفناء الذات الإلهية ﴿قُلْ هُوَ﴾ إلى أحدية الذات وفناء الأسماء فيها ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ إلى وصف الذات الإلهية بأنها الكامل المطلق الذي لا نقص فيه المقصود لقضاء الحوائج ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾.
(الله الصمد): الصمد وكما بينت الكامل المقصود لقضاء الحوائج وسد النقص، فالصمد بيان للكمال المطلق بتسبيحه وتنزيهه سبحانه، فإذا كانت الأسماء والصفات الإلهية تمثل جهات الكمال الإلهية المقصودة، وكل صفة أو إسم بحسبه تمثل جهة من جهات الكمال تقصد من الخلق ومنها يفاض على الخلق، تبين أن جميع الأسماء والصفات منطوية تحت هذه الصفة أو الاسم أي الصمد، فلو توسعنا في الحديث في الصمد فالأمر سيطول لأننا نحتاج للمرور على جميع الأسماء والصفات الموجودة في دعاء الجوشن الكبير على الأقل، وهذا أتركه لمن فهم وأدرك ما قدمت فالإمام الصادق يقول: (إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا)، والإمام الرضا يقول: (علينا القاء الأصول وعليكم التفريع) ( ). وأرجو من الله أن يوفق الأخوة من طلبة الحوزة العلمية من أنصار الإمام المهدي للتوسع والتفصيل وتوضيح المعنى بشكل مبسط للناس.
وأظن أني قد مررت على الصمد في المتشابهات وربما كان به بعض الفائدة لمن قرأه، وأذكر نفسي وأذكركم بحديث الإمام الباقر حيث قال : (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عز وجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع من الصمد، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين حملة لعلمه، حتى كان يتنفس الصعداء ويقـول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين الجوانح مني علماً جماً، هاه هاه ألا لا أجد من يحمله، ألا وإني عليكم من الله الحجة البالغة) ( ).
الصَّمَدُ:
لما كان الله هو الكامل الذي يؤله إليه في سد النقص وكسب الكمال، أصبح الاتصاف بصفة الألوهية عموماً غير منحصر به سبحانه وتعالى عما يشركون، بلى الألوهية المطلقة منحصرة به سبحانه وتعالى، فكلمة لا اله إلا الله كلمة التوحيد لأننا أردنا بها الألوهية المطلقة، فصفة الألوهية عموماً تشمل الكامل من خلقه الذي يأله اليه غيره ليفيض عليه الكمال ويسد نقصه، فأصبح محمد وهو صورة الله سبحانه وتعالى ووجه الله سبحانه تعالى هو الله في الخلق، ولكن الفرق بين اتصاف محمد بصفة الألوهية وبين ألوهيته سبحانه وتعالى أن اتصاف محمد بصفة الألوهية مقيد بالنقص والاحتياج إليه سبحانه وتعالى، وألوهيته سبحانه وتعالى ألوهية مطلقة ولهذا جاء هذا الوصف الصمد أي الذي لا ثغرة فيه ولا نقص فيه لتسبيحه وتنزيهه، ولبيان أن ألوهيته سبحانه وتعالى منزهة مسبحة لا ثغرة فيها ولا نقص فيها.
ومن هنا فإن وصف الصمد المضاف إلى الألوهية لا يمكن أن يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وفيه تمييز لألوهيته سبحانه وتعالى وبيان أنها ألوهية تامة مطلقة، ولهذا جاءت هذه الآية في سورة التوحيد ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ والله الصمد نظير أن تقول أن الله نور لا ظلمة فيه، وهي صفة لا يشاركه فيها المخلوقون وليست كالسميع والبصير والخالق، فهذه الصفات يشاركه بها المخلوقون، فأنت تستطيع أن تقول أن محمداً نور ولكن فيه ظلمة وهي الأنا والشخصية ولولاها لما بقي لمحمد اسم ولا رسم ولم يبقَ إلا الله الواحد القهار سبحانه وتعالى.
فمحمد وإن كان في أعلى درجات الكمال الممكنة للخلق، ومحمد وإن كان صورة الله ويحمل صفة اللاهوت للخلق ليُعرِّف الخلق بالله سبحانه، وبالتالي فالخلق يألهون إليه ليكملهم ويسد نقصهم، ولكن محمداً من جهة أخرى مفتقر إليه سبحانه وتعالى فهو عبد من عباد الله ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾( ). يكاد يضيء من نفسه لا أنه يضيء من نفسه، حتى أن إبراهيم وهو من أولي العزم من الرسل لما رأى ملكوت السماوات ظن أن اتصاف محمد بصفة الألوهية هي ألوهية مطلقة، وظن أن ربوبية محمد هي ربوبية مطلقة ثم منَّ الله سبحانه وتعالى على إبراهيم وكشف له أفول محمد وعودته إلى الأنا والشخصية، فعلم إبراهيم أن الله سبحانه وتعالى لا يرى في ملكوت كما كان يعلم أنه لا يبصر في ملك وإنما رؤية محمد هي رؤية الله، ومواجهة محمد هي مواجهة الله سبحانه وتعالى عما يشركون، وقد بين أهل البيت شيئاً من هذا المعنى في طيات كلامهم.
قال الصادق في قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾( )، قال : (رب الأرض إمام الأرض، قيل: فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال: يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر بنوره ويجتزؤون بنور الإمام ) ( ). مع أن رب الأرض هو الله سبحانه وتعالى ولكن ربوبيته سبحانه وتعالى ربوبية مطلقة وربوبية الإمام المهدي مقيدة بالفقر والاحتياج إليه سبحانه وتعالى.
* * *
﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾:
لا شك أن المقصود بالولادة في الآية ليست الولادة الجسمانية فلا أحد يقول بهذه الولادة لتُنفى، وإن كان هناك مجسمة انحرفت بهم الأوهام والجهالات إلى وادي التجسيم الذي لا يقره العقل السليم أو الفطرة النقية للإنسان فجسموا الذات الإلهية، فالمراد هنا نفي الولادة بمعنى الانفصال عن أم أو أصل انفصلت عنه الذات الإلهية أو فرع انفصل عن الذات الإلهية. وهذا النفي وإن كان فيه رد على من قال أن عيسى ابن الله ومن قال إن عزيراً ابن الله أو من قال بالأقانيم الثلاثة أو من قال بالأثنينية، ولكنه في الحقيقة متعلق بالآيات السابقة، فإذا كانت الذات الإلهية أو الله جامعة لكل الأسماء والصفات الإلهية ، فهنا يرد سؤالان:
الأول: فهل إن هذه الأسماء والصفات القديمة هي آلهة منفصلة عن الله باعتبار أن ألوهيتها مطلقة في الجهات التي تمثلها ؟! والجواب واضح كما قدمت سابقاً: فهذه الصفات والأسماء أي العليم، القدير، الحكيم غير منفكة عن الذات الإلهية بل هي عين الذات، فهو كما قدمت قادر والقدرة ذاته وعالم والعلم ذاته و …… .
والسؤال الثاني: هل إن الذات الإلهية أو الله منفصلة عن الحقيقة والكنه هو أو الاسم الأعظم الأعظم الأعظم ؟!
والجواب هو: إن الذات الإلهية أو الله هي تجلٍ وظهور للحقيقة والكنه واجه بها سبحانه وتعالى خلقه، فبما أن هوية الخلق هي الفقر فلابد أن تكون المواجهة بالغنى، فواجه سبحانه وتعالى الظلمة والعدم والنقص بالنور والوجود والكمال، فالذات الإلهية أو الله هي عين الكنه أو الحقيقة وكما ورد في الحديث عن علي بن موسى الرضا أنه قال: (إن بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها) ( ).
فالحقيقة ظهرت بالذات الإلهية أو (الله) لجهة حاجة الخلق لسد نقصهم، وللمعرفة (كان سبحانه وتعالى كنـزاً فخلق الخلق ليعرف)، والمعرفة لا تكون إلا معرفة الذات الإلهية بمعرفـة (الأسماء والصفات)، أما معرفة الكنه والحقيقة فلا تكون إلا العجز عن المعرفة، والنتيجة فكما أن الأسماء والصفات فانية في الذات الإلهية (الله) وهي عين الذات كذلك فإن الذات الإلهية فانية في الكنه والحقيقة التي هي المطلب والمقصود الحقيقي في العبادة، ومن هنا فلا يوجد انفصال عن الذات الإلهية كما أن الذات الإلهية أو الله ليست منفصلة عن الحقيقة بل هي تجلٍ وظهور للكنه والحقيقة.
* * *
﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾:
الكفؤ: هو المساوي أو المقارب للشيء في المرتبة ولو من جهة معينة. وهذه الآية تنفي أن يكون له كفؤ من الموجودات, كما أن هذه الآية والتي قبلها جاءتا بعد آية ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، وهي كما قدمت وصفه سبحانه وتعالى بالكامل المقصود في قضاء الحاجات وتحصيل الكمالات، فلم يلد ولم يولد جاءت لبيان أن جهات كماله سبحانه وتعالى والمعبر عنها بالأسماء والصفات ليست منفصلة عنه سبحانه وتعالى بل هي هو سبحانه وتعالى، ثم جاءت هذه الآية: ﴿لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ لتبين أن جميع خلقه دونه سبحانه وتعالى وحتى الكيانات القدسية العالية الكمال - أي محمداً وآل محمد - التي توهم بعض خلقه بأنها هو سبحانه وتعالى لما رأوها، كما هو حال الملائكة في المعراج، وحال إبراهيم لما رأى ملكوت السماوات ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾( ).
وسئل أبو عبد الله عن قول إبراهيم: (هذا رَبِّي) لغير الله، هل أشرك في قوله هذا رَبِّي؟ فقال : (من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك و إنما كان في طلب ربه و هو من غيره شرك) ( )، نقله عن القمي، وفي العياشي مثله ولو كان طلب إبراهيم ربه في هذا العالم المادي لكان شركاً من إبراهيم وغيره ولكنه طلب ربه في (مَلَكُوتَ السَّمَاوَات).
وعن محمـد بن حمـران، قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله فيما أخـبر عن إبراهيم : ﴿هذا رَبِّي﴾، قال: (لم يبلغ به شيئاً أراد غير الذي قال) ( ).
وقال الشيخ الفقيه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي في كتاب (علل الشرائع): حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رض) قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن أبي عمير ومحمد بن سنان، عن الصباح السدي، وسدير الصيرفي ومحمد بن النعمان مؤمن الطاق، وعمر بن اذينة عن أبي عبد الله ، وحدثنا محمد بن الحسن ابن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار وسعد ابن عبد الله قالا: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي الخطاب، ويعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى، عن عبد الله بن جبلة، عن الصباح المزني، وسدير الصيرفي ومحمد بن النعمان الاحول، وعمر بن اذينة عن أبي عبد الله ، أنهم حضروه …… . فقال أبو عبد الله : (إن الله العزيز الجبار عرج بنبيه إلى سمائه سبعاً، أما أولهن فبارك عليه والثانية علمه فيها فرضه فانزل الله العزيز الجبار عليه محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور كانت محدقـة حول العرش عرشه تبارك وتعالى تغشى أبصار الناظرين … .
ثم عرج إلى السماء الدنيا فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء ثم خرت سجداً، فقالت: سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل : الله أكبر الله أكبر، فسكتت الملائكة وفتحت أبواب السماء واجتمعت الملائكة، ثم جاءت فسلمت على النبي أفواجاً، ثم قالت: يا محمد كيف أخوك ؟ قال: بخير، قالت: فإن أدركته فاقرأه منا السلام، فقال النبي : أتعرفونه ؟ فقالوا: كيف لم نعرفه وقد أخذ الله عز وجل ميثاقك وميثاقه منا، وإنا لنصلي عليك وعليه، ثم زاده أربعين نوعاً من أنواع النور لا يشبه شيء منه ذلك النور الأول، وزاده في محمله حلقاً وسلاسل ثم عرج به إلى السماء الثانية فلما قرب من باب السماء تنافرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس رب الملائكـة والروح ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل : أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فاجتمعت الملائكة وفتحت أبواب السماء وقالت: يا جبرئيل من هذا الذي معك ؟ فقال: هذا محمد ، قالوا: وقد بعث ؟ قال: نعم. قال رسول الله : فخرجوا إلى شبه المعانيق فسلموا علي وقالوا: إقرأ أخاك السلام، فقلت: هل تعرفونه ؟ قالوا: نعم، وكيف لا نعرفه وقد أخذ الله ميثاقك وميثاقه وميثاق شيعته إلى يوم القيامة علينا، وإنا لنتصفح وجوه شيعته في كل يوم خمساً يعنون في كل وقت صلاة قال رسول الله : ثم زادني ربي تعالى أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه الأنوار الأول وزادني حلقاً وسلاسل، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس رب الملائكة والروح ما هذا النور الذي يشبه نور ربنا، فقال جبرئيل : أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فاجتمعت الملائكة وفتحت أبواب السماء وقالت: مرحباً بالأول ومرحباً بالآخر، ومرحباً بالحاشر ومرحباً بالناشر ، محمد خاتم النبيين وعلى خير الوصيين ، فقال رسول الله : سلموا عليّ وسألوني عن علي أخي فقلت: هو في الأرض خليفتي أو تعرفونه ؟ قالوا: نعم وكيف لا نعرفه وقد نحج البيت المعمور في كل سنة مرة وعليه رق أبيض فيه اسم محمد وعلي والحسن والحسين والأئمة وشيعتهم إلى يوم القيامة، وإنا لنبارك على رؤوسهم بأيدينا، ثم زادني ربى تعالى أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه شيئاً من تلك الأنوار الأول، وزادني حلقاً وسلاسل، ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فلم تقل الملائكة شيئاً، وسمعت دوياً كأنه في الصدور واجتمعت الملائكة، ففتحت أبواب السماء وخرجت إلى معانيق فقال جبرئيل : حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، فقالت الملائكة صوتين مقرونين: بمحمد تقوم الصلاة وبعلي الفلاح ، فقال جبرئيل: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فقالت الملائكة: هي لشيعته أقاموها إلى يوم القيامة، ثم اجتمعت الملائكة فقالوا للنبي: أين تركت أخاك وكيف هو ؟ فقال لهم: أتعرفونه ؟ فقالوا: نعم نعرفه وشيعته وهو نور .....) ( ).
أقول: وحتى هذه الكيانات القدسية (محمد وآل محمد ) ليست كفواً له سبحانه وتعالى وإنما هي دونه بالكثير، فهي لا تقاربه فضلاً عن أن تكون مساوية له وإن كانت حاكية لجهات كماله سبحانه وتعالى، في الزيارة الجامعة: (... السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام على الدعاة الى الله، والأدلاء على مرضاة الله، والمستقرين في أمر الله، والتامين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين الامر لله ...) ( ).
وفي دعاء أيام رجب المروي عن الإمام المهدي : (... أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركاناً لتوحيدك وآياتك ومقاماتك، التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك ...) ( ).
ولكن أيضاً كماله وأوصافه سبحانه وتعالى لا يشبهها شيء (... يا من هو أحد بلا ضد يا من هو فرد بلا ند يا من هو صمد بلا عيب ... يا من هو موصوف بلا شبيه) ( ).
* * *
الألوهـية
الألوهية بالمعنى الأعم تشمل الكامل الذي يأله إليه الخلق في تحصيل كمالهم وسد نقائصهم، وهي كالربوبية فكما تشمل الأب باعتباره رب الأسرة، وتشمل خليفة الله في أرضه باعتباره رب الأرض ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾( ).
عن الصادق في هذه الآية، قال: (رب الأرض إمام الأرض، قيل: فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال: يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر بنوره ويجتزؤون بنور الإمام )( ).
الربوبية تشمل في هذا العالم الجسماني: من يتكفل احتياجات شخص ثانٍ فهو بالنسبة له مربٍ لأنه يكمل نقصه - ويوفر احتياجاته - في هذا العالم الجسماني، ولهذا نجد يوسف وهو نبي وفي القرآن الكريم يعبر عن فرعون نسبة إلى ساقي الخمر بأنه ربه ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾( ).
وأيضاً يعبر يوسف عن عزيز مصر الذي تكفّـل معيشة يوسف والعناية به بأنه ربي ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾( ).
والذي أحسن مثواه بحسب الظاهر وفي هذا العالم الجسماني هو عزيز مصر ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
والألوهية كذلك تشمل من يأله له غيره ليسد النقص والاحتياج الموجود في ساحته فاسم الله مشتق ( ) من إله، (عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَاشْتِقَاقِهَا اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ، فَقَالَ : يَا هِشَامُ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً، وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ، وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلَهاً وَلَكِنَّ اللَّهَ مَعْنًى يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُهُ، يَا هِشَامُ الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ، أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ فَهْماً تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا الْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: نَفَعَكَ اللَّهُ بِهِ وَثَبَّتَكَ يَا هِشَامُ، قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى قُمْتُ مَقَامِي هَذَا) ( ).
(فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً): اي الذي يعبد الاسم - أي اسم الله - ولايجعله فقط دالاً على المعنى الحقيقي، والصحيح أي اللاهوت المطلق الغني بنفسه يكون كافراً لأنه في الحقيقة يعبد اسماً أو لفظاً مشتقاً من إله المقتضي مألوهاً، أي أنه يعبد اسماً يمكن أن ينطبق على غيره سبحانه؛ لأن هناك من خلقه سبحانه من يؤله لهم لسد النقص فيكونون مصداقاً للاسم العام دون قيد، وكما تبين في مسألة الربوبية وبوضوح تام فمن يعبد اسم الرب فهو أيضاً كافر؛ لأن هناك من خلقه من يفيضون على غيرهم ويربونهم سواء في هذا العالم الجسماني أم في العوالم الأخرى، وغير بعيد ما تقدم من أن الملك وعزيز مصر بل والأب يسمون أرباباً ولا إشكال في تسميتهم بهذا كما تبين من القرآن ، فالأمر كما قال الإمام الصادق في الجوهرة النفيسة التي تقدمت (وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً).
أما (مَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ): أي من اعتبر أن الاسم مُظهر للمعنى والحقيقة في حين أن الاسم مشتق وعام ولا يتعدى كونه إشارة إلى المعنى الموصل إلى الحقيقة المطلوب الوصول إليها لتتحقق العبادة الحقيقية للإنسان، باعتباره إنساناً قد اودعت فيه قابلية عبادة الحقيقة ومعرفتها.
(وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ): لأن المعنى أو اللاهوت المطلق أو الله سبحانه وتعالى هو الموصل لمعرفة الحقيقة (هو)، فالاسم مجرد مشير إلى المعنى الموصل إلى الحقيقة فلا ينبغي التوجه إلى الاسم على كل حال، بل من أراد التوحيد لابد أن يترك التوجه إلى الاسم تماماً ويتوجه إلى المعنى الموصل إلى الحقيقة (وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ) ... وهذا كله لأن الاسم كما بينت يشير إلى معنى عام وهو من يأله له غيره ليسد نقصه فيكون التوجه إليه كفراً وشركاً؛ لأنه يشير إلى أكثر من ظهور لهذا المعنى وبمراتب مختلفـة، فاللاهوت المطلق يأله له غيره وبعض خلقه يأله لهم غيرهم، أو لنقل بعبارة أخرى إن من يأله لهم غيرهم من خلقه سبحانه هم أيضاً لاهوت ولكن غير مطلق بل فقير ومحتاج لغيره، ولهذا يكون التوجه إلى الاسم بالعبـادة - بأي صورة كانت - شركاً وكفراً، فلابد من تحديد المعنى المراد التوجه إليه من إشارة الاسم ومن ثم التوجـه إلى المعنى دون الاسم (دون الاسم)، (وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ).
والحقيقة إن هذه الجوهرة تشير إلى أمر سيأتي بيانه وهو إنه سبحانه قد ظهر وتجلى لنا باللاهوت ؛ لأنه المناسب لحالنا لنعرف الحقيقة فنحن أهم ما يميز هويتنا أو حقيقتنا هو الفقر واللاهوت باعتباره الغنى المطلق هو أنسب ما يكون لنعرف الحقيقة عندما نتوجه إليه ليفيض من غناه وكماله على فقرنا (قَالَ : يَا هِشَامُ اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَ إِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً).
إذن، فالألوهية بالمعنى العام - أي كونها تعني الكامل الذي يأله له غيره ليكمله، ويسد نقصه - تشمل خاصة من خلقه سبحانه وتعالى حصل لهم الكمال في أعلى الدرجات الممكنة للخلق، وأمر الخلق مفوض إليهم بدرجة معينة (السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ..... وبقية الله ..... ونوره ..... وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم ..... وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) ( ).
وهم محمد وآل محمد ، فكما ورد رب الأرباب ورد إله الآلهة، وورد الإله الأكبر في الدعاء المروي عنهم ، قال : (قل وأنت ساجد: يا الله يا رحمن [يا رحيم] يا رب الأرباب وإله الآلهة .....) ( ).
وعن أبي عبد الله ، قال: (..... قل يا رب الأرباب، ويا ملك الملوك، وياسيد السادات، ويا جبار الجبابرة، ويا إله الآلهـة، صل على محمد وآل محمد وافعـل بي كذا وكذا .....) ( ).
وفي الدعاء القدسي: (..... بسم الله مخرجى ..... توكلت على الإله الأكبر، توكل مفوض إليه .....) ( ).
في الحديث القدسي: (..... يا محمد من أراد الخروج من أهله لحاجة في سفر فأحب أن أوديه سالماً مع قضائي له الحاجة فليقل حين يخرج: بسم الله مخرجي وبإذنه خرجت وقد علم قبل أن أخرج خروجي وقد أحصى بعلمه … توكلت على الإله الأكبر الله .....) ( ).
وقطعاً ليس المقصود الآلهة الباطلة التي لاحظ لها من الكمال أو من ألّه نفسه من الخلق بالباطل ، بل المقصود هنا من اتصفوا بصفة اللاهوت أي إنهم على درجة عالية من الكمال فيأله لهم بقية الخلق ليسدوا نقصهم فهم صورة الله سبحانه، فإله الآلهة، والإله الأكبر تعني: أن هناك من اتصفوا بصفة اللاهوت من حيث إنهم على درجة من الكمال تؤهلهم أن يأله لهم بقية الخلق لطلب الكمال، ولكنه سبحانه لايقرن بهم لأنه غني وهم فقراء محتاجون إليه سبحانه وتعالى.
قال : (لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل) ( ).
وقالوا أيضاً: (لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن هو ، وهو هو ونحن نحن) ( ).
وهذا المعنى موجود في القرآن ورد في تفسير القمي حول خروج القائم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾( )، قال : (من زعم أنه إمام وليس هو بإمام) ( ).
وعن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عما يروون أن الله خلق آدم على صورته، فقال: (هي: صورة، محدثة، مخلوقة واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة، فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾) ( )، وصورة الله التي خلق عليها آدم هو محمد ؛ لأنه المخلوق الأول والتجلي الأول والظهور الأول في الخلق وخليفة الله الحقيقي ( )، ومعنى أنه صورة الله أي إنه ظهور وتجلي اللاهوت في الخلق، فمحمد هو صورة اللاهوت المطلق في الخلق فمن أراد معرفة اللاهوت المطلق يعرفه بصورته في الخلق أو الله في الخلق محمد .
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾( )، وقال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾( ).
والذي يأتي في ظل من الغمام هو محمد (الله في الخلق) في الرجعة وبيده حربة من نور فيقتل إبليس (لعنه الله)، فتعالى سبحانه عن الإتيان والمجيء والذهاب أو الحركة وهي من صفات الخلق.
عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (إن إبليس قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فأبى الله ذلك عليه، قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، فإذا كان يوم الوقت المعلوم ظهر إبليس لعنه الله في جميع أشياعه منذ خلق الله آدم إلى يوم الوقت المعلوم، وهي آخر كرة يكرها أمير المؤمنين .
فقلت: وإنها لكرات ؟ قال: نعم إنها لكرات وكرات، ما من إمام في قرن إلا ويكر معه البر والفاجر في دهره حتى يديل الله المؤمن من الكافر، فإذا كان يوم الوقت المعلوم كر أمير المؤمنين في أصحابه و جاء إبليس في أصحابه، ويكون ميقاتهم في أرض من أراضي الفرات يقال له الروحا قريب من كوفتكم، فيقتتلون قتالاً لم يقتتل مثله منذ خلق الله عز وجل العالمين، فكأني أنظر إلى أصحاب علي أمير المؤمنين قد رجعوا إلى خلفهم القهقرى مائة قدم، وكأني أنظر إليهم وقد وقعت بعض أرجلهم في الفرات، فعند ذلك يهبط الجبار عز وجل ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ رسول الله بيده حربة من نور، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقرى ناكصاً على عقبيه، فيقولون له أصحابه: أين تريد وقد ظفرت؟ فيقول: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فيلحقه النبي فيطعنه طعنة بين كتفيه فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه، فعند ذلك يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً، ويملك أمير المؤمنين أربعاً وأربعين ألف سنة حتى يلد الرجل من شيعة علي ألف ولد من صلبه ذكراً، وعند ذلك تظهر الجنتان المدهامتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء الله) ( ).
أي إن الرواية تبين بوضوح أن هبوط ونزول وإتيان محمد هو هبوط الله سبحانه وتعالى عن الإتيان والهبوط فالمراد من قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾( )، أي هل ينظرون إلا أن يأتيهم محمد المظلل بالغمام، فالآية في محمد وآل محمد ، ومنهم أمير المؤمنين علي والقائم .
عن عبد الواحد بن علي، قال: قال أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) : (أنا أؤدي من النبيين إلى الوصيين، ومن الوصيين إلى النبيين، وما بعث الله نبياً إلا وأنا أقضي دينه وأنجز عداته، ولقد اصطفاني ربي بالعلم والظفر، ولقد وفدت إلى ربي اثنتي عشرة وفادة فعرّفني نفسه، وأعطاني مفاتيح الغيب - ثم قال: يا قنبر من على الباب (بالباب) ؟ قال: ميثم التمار - ما تقول أن أحدثك فإن أخذته كنت مؤمناً وإن تركته كنت كافراً، (ثم) قال: أنا الفاروق الذي أفرق بين الحق والباطل، أنا أدخل أوليائي الجنة و أعدائي النار، أنا قال الله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ ) ( ).
وأيضاً قائم آل محمد يأتي في ظل من الغمام أي العذاب الذي يرافق المهدي الأول ويغطي الأرض بالغمام وبسحب الدخان ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾( ).
وعن جابر، قال: قال أبو جعفر في قول الله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾، قال: (ينزل في سبع قباب من نور لا يعلم في أيها، هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل) ( ).
وقال أبو جعفر : (إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق فهذا حين ينزل وأما ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر) ( ).
والوسم على الخرطوم المقصود به ما يفعله القائم أو دابة الأرض ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾( ).
والغمام أو السحاب والدخان باعتباره آية لرسول الله محمد ، وباعتباره آية ترافق المهدي الأول وقائم آل محمد أو المنقذ العالمي، ليس في القرآن فقط بل هو موجود في الأديان السابقة وبشر به الأنبياء السابقون، وهناك شواهد كثيرة في التوراة والإنجيل عليه ( ).
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِـهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِـينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾( ).
فالآية تقول: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾، وهم في الواقع الخارجي كانوا يظنون أن حصونهم تمنعهم من محمد ؛ لأنهم في الظاهر يؤمنون بالله فهم أهل كتاب سماوي وأتباع نبي من أنبياء الله وهو موسى ، والذي انتصر عليهم وحطم حصونهم وأتاهم من حيث لم يحتسبوا هو محمد ، بل وهو بحسب الظاهر من قذف في قلوبهم الرعب عندما قلع أبواب حصونهم وقتل أبطالهم، بل إن المنفذ والمباشر كان علي أمير المؤمنين كما يعلم الجميع، وغير بعيد على كل مسلم أن علياً هو قالع باب خيبر وقاتل مرحب بطل اليهود.
وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾( )، هؤلاء في هذه الآية هم أهل كتاب ويدعون أنهم مؤمنون بالله، فكيف يتصور أحد أن يقولوا عن الله الذي يعتقدون به إنه فقير هكذا بألسنتهم.
والله، إنهم ما قالوا إن الله فقير، بل قالوا عن الأنبياء والرسل إنهم فقراء وعيروهم بهذا، فقال العلماء غير العاملين ومقلدوهم بألسنتهم أو بأفعالهم في كل زمان عن الأنبياء والأوصياء لو كانوا مع الله لأغناهم الله، ولما كانوا يحتاجون لأنصار ولأموال ولأسلحة للدفاع عن عقيدتهم، واعتبروا أن كثرة أموال وأنصار العلماء غير العاملين تأييداً ودليلاً أنهم على الحق، فحكى الله سبحانه وتعالى قولهم هكذا: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ فجعل قولهم عن أنبيائه إنهم فقراء أنهم قالوا إن الله فقير ، وفي زمن الرسول محمد قالـوا إن محمداً فقير ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا .....﴾( )، في حين أن الله نقل قولهم إنهم قالوا إن الله فقير، أي إن قولهم إن محمداً فقير هو نفسه قول إن الله فقير؛ لأن محمداً هو وجه الله سبحانه وهو الله في الخلق.
عن الباقر في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ﴾، قال : (هم يزعمون أن الإمام يحتاج منهم إلى ما يحملون إليه) ( ).
وعن الصادق في قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ﴾ قال: والله ما رأوا الله تعالى فيعلموا أنه فقير ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء) ( ).
وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ﴾ ( )، وهذا السجود كما هو لآدم فهو أيضاً لمحمد وعلي والزهراء والأئمة ، وكونهم مقصودين بالسجود باعتبارهم قبلة الله سبحانه وتعالى فبهم يعرف الله وهم وجه الله وهم أسماؤه الحسنى، فهم الله في الخلق كما ورد في الحديث عن أسود بن سعيد، قال: كنت عند أبي جعفر فأنشأ يقول ابتداء من غير أن يُسئل: (نحن حجة الله ونحن باب الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده) ( ).
وعن الحارث بن المغيرة النصري، قال: سُئل أبو عبد الله عن قول الله تبارك وتعـالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾( )، فقال : (ما يقولون فيه ؟ قلت: يقولون يهلك كل شئ إلا وجه الله، فقال: سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عني بذلك وجه الله الذي يؤتى منه) ( ).
وعن أبي جعفر ، قال: (نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمداً ، ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا .....) ( ).
عن أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا ، قال: (قال النبي : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله تعالى، ودرجة النبي في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه: إن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله تعالى ؟ فقال : يا أبا الصلت، من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته، وقال الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾( )، وقال عز وجل: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ ) ( ).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾( )، قَالَ : (نَحْنُ وَاللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادِ عَمَلًا إِلَّا بِمَعْرِفَتِنَا) ( ).
وَعَنِ الرِّضَا أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا نَزَلَتْ بِكُمْ شَدِيدَةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾ ) ( ).
وعَنِ الرِّضَا ، قَالَ: (إِذَا نَزَلَتْ بِكُمْ شِدَّةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نَحْنُ وَاللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَتِنَا قَالَ فَادْعُوهُ بِها) ( ).
وهذا هو الاتصاف بصفة الألوهية في الخلق أي أنهم عباد الله سبحانه وتعالى وبأمره يعملون ﴿تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾( )، ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾( ).
وهؤلاء العباد على درجة عالية من الكمال بحيث أنهم يقومون بخلافة الله سبحانه وتعالى حق خلافته، فإذا تم بعثهم واستخلافهم في هذا العالم فهم يقومون مقام الله سبحانه وتعالى بحوله وقوته وبإذنه، فهم يدبرون هذا العالم بقوة الله ووفق ما علمهم الله فهم لا يشاؤون إلا ما يشاء الله، وقلوبهم أوعية لمشيئته سبحانه وتعالى، فالإرسال بعد بعثهم منهم (صلوات الله عليهم)، فمحمد خاتم الأنبياء والمرسلين من الله سبحانه وتعالى أما بعد بعثه فالإرسال منه صلوات الله عليه باعتباره الله في الخلق، فهو صورة الله التامة وأسماء الله الحسنى ووجه الله وكلمته التامة (..... وبكلمتك التي خلقت بها السماوات والارض ..... وبشأن الكلمة التامة ..... وأسألك بكلمتك التي غلبت كل شيء .....) ( )، وهو صلوات الله عليه ظهور الله في فاران (مكة) (..... وبطلعتك في ساعير وظهورك في جبل فاران .....) ( )، كما كان عيسى طلعة الله في ساعير ، والطلعة هي الإطلالة والظهور الجزئي، فكان عيسى ممهداً لمحمد .
فإرسال محمد للأئمة هو نفس إرسال الله سبحانه وتعالى لموسى ولهذا كان محمد خاتم الأنبياء والمرسلين أي من الله، فهو صلوات الله عليه الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل، وهذا هو سر ختم النبوة التي تخبط في سر ختمها علماء المسلمين وإلا فلا معنى لختم الإرسال والنبوة مع أن الحاجة هي هي لم تتبدل بعد بعث الرسول محمد ، بل ربما كانت الحاجة في بعض المواطن بعد بعث الرسول محمد أعظم، فالحالة أسوء وأكثر فساداً وظلماً وظلاماً وجاهلية، ولا تقوم الساعة - أي قيام القائم- إلا على شرار خلق الله، وقد نبأ الرسـول أن الحالة ستسوء من بعده ، إذن فالأئمة الإثنا عشر كانوا يقومون مقام أنبياء الله ورسله الماضين في هذه الأمة ولكن مرسلهم هو محمد ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ ( ).
عن جابر عن أبي جعفر ، قال: سألته عن تفسير هذه الآية: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾، قال : (تفسيرها بالباطن، أن لكل قرن من هذه الأمة رسولاً من آل محمد يخرج إلى القرن الذي هو إليهم رسول، وهم الأولياء وهم الرسل، وأما قوله: ﴿فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾، قال: معناه إن الرسل يقضون بالقسط وهم لا يظلمون كما قال الله) ( ).
فالرسول محمد والأئمة أيضاً قاموا مقام الله في الخلق فهم رسل وهم مُرسِلين، فمحمد رسول الله سبحانه وتعالى، ومحمد مُرسِل للأئمـة أيضاً، والإمـام المهدي رسول من محمد الله في الخلق أو وجه الله، والإمام المهدي مُرسِل للمهديين الإثنى عشر من ولده، وهو بهذا يكون أيضاً في مقام محمد أي الله في الخلق أو وجه الله سبحانه وتعالى، ولا تتوهم أن اتصاف محمد وأهل بيته بصفة ألوهية هي بعينها ألوهية الله سبحانه وتعالى، بل إن هذا الامر لا يخرجهم عن كونهم خلقاً فقراء لهم حدود مقيدون بها، وألوهيته سبحانه وتعالى ألوهية مطلقة، فاتصاف محمد وآل محمد بصفة الألوهية وإن كان الفقر لا يكاد يميز فيها ولكنها محتاجة وفقيرة له سبحانه وتعالى، فهم صلوات الله عليهم يكادون أن يكونوا أغنياء ولكنهم فقراء ومساكين الله سبحانه وتعالى ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾( ).
الله في الخلق
لما خلق الخلق سبحانه وتعالى واجههم بالأسماء والصفات، وهذه هي مدينة الكمالات الإلهية أو الذات أو الله، وهذا الاسم أطلق على تجلي وظهور الحقيقة للخلق فهو ليس الحقيقة بل حجاب الحقيقة، فالحقيقة: هي الاسم الأعظم الأعظم الأعظم، وهذا الاسم قريب من الاسم الأعظم كقرب سواد العين من بياضها كما ورد عن الإمام في الحديث.
وهذا الاسم (الله)، هو الاسم الجامع لكل صفات الكمال، فالتوجه إليه هو توجه إلى كل صفات وأسماء الكمال وهذا التوجه لا يخلو من الشرك في مرتبة ما؛ لأن تمام الإخلاص في التوحيد هو نفي الأسماء والصفات كما قال أمير المؤمنين : (..... أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف) ( ).
وقال الكاظم : (أول الديانة به معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة) ( ).
وقال الرضا : (أول الديانة معرفته، وكمال المعرفة توحيده، وكمال التوحيد نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة) ( ).
فهذا الاسم (الله) الجامع لصفات الكمال والمشير إلى الذات هو حجاب يجب أن يسعى العبد إلى رفعه بالتحلي بصفات الكمال الإلهية، وعندها يكشف الغطاء للعبد ليعرف الحقيقة، وتمام معرفة الحقيقة هو العجز عن المعرفة، فضمير الغائب المعبر عن الحقيقة أو الإسم الأعظم الأعظم الأعظم (هو) فالهاء لإثبات الوجود والواو لبيان غيبته فهو الشاهد الغائب سبحانه وتعالى.
أما في مرتبة ما دون الذات الإلهية أو الله أي في مراتب الخلق والتنـزل فإن مراتب التجلي أو المقامات عشرة هي: سرادق العرش الأعظم، والعرش الأعظم، والكرسي، ثم العرش العظيم، وفيه سبع مراتب أو مقامات هي السماوات السبعة تنـزلاً من السابعة إلى السماء الأولى أو الدنيا.
وخير خلق الله محمد يمتد بصفحة وجوده من سرادق العرش الأعظم إلى السماء الدنيا، فأول مراحل التجلي هي: النقطة الأولى (البرزخ) أو سرادق العرش الأعظم، ثم مرحلة التجلي الثانية هي وعاء النون أو العرش الأعظم، ثم مرحلة التجلي الثالثة وهي وعاء الباء أو الكرسي، ثم مرحلة التجلي الرابعة وهي النقطة الثانية في الخلق، وجميع هذه المراحل الأربعة هي محمد فهو نقطة النون والنون، وهو الباء ونقطة الباء، أو قل هو الفيض النازل من الحق إلى الخلق، وهو أي محمداً في المراحل الثلاث الأولى (سرادق, العرش, الكرسي) برزخ بين الحق والخلق فهو يخفق فساعة لا يبقى إلا الله الواحد القهار وساعة يعود إلى الأنا والشخصية، أما في مرتبة العرش العظيم فهو مستقر في الخلق وهو عبد الله.
ويجب الالتفات إلى أن النقطة الأولى هي القرآن وهي الحجاب الذي بين محمد وبين الله (كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق) وعند الفتح (فنظر في مثل سم الإبرة) ( )، قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾( )، رفع هذا الحجاب بأن احتواه محمد فأصبح القرآن ومحمد واحداً، وهو يخفق بين فناء فلا يبقى إلا الله الواحد القهار وبين عودة الأنا والشخصية الإنسية.
فإن عرفنا ما تقدم تبين لنا أن محمداً هو مرتبة البرزخ بين الحق والخلق، ولذلك توهم به لما رآه ابراهيم والملائكة وظنوا أنه الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنه صورة تحاكي الذات الإلهية وتظهر اللاهوت المطلق للخلق ليعرفوا (..... وبطلعتك في ساعير وظهورك في جبل فاران .....) ( )، وقال : (الله خلق آدم على صورته) ( ).
فهو الله في الخلق وكذلك أهل بيته في مرتبة دون مرتبة الرسول الأعظم صلوات الله عليه، فهم أيضاً وجه الله وأسماء الله الحسنى، فهم يمثلون الله في الخلق وكل منهم يؤله إليه ويقصد في قضاء الحاجات وسد النقص وبلوغ الكمال، فهم على درجة عالية من الكمالات الإلهية ولكنها مقيدة بالحاجة والفقر لله سبحانه وتعالى، أما ألوهيته سبحانه وتعالى فهي ألوهية مطلقة وهي كمال وغنى مطلق وعطاء وفيض غير مقيد إلا بمشيئته سبحانه وتعالى.
وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا المعنى، قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾( )، أي أن هناك خالقين وهو سبحانه وتعالى أحسنهم وأفضلهم، وهؤلاء هم محمد وآل محمد ، وفي الدعاء: (..... يارب الأرباب وإله الآلهة .....) ( ).
وكذلك ورد: (..... الإله الأكبر .....) ( )، وهذا من أدعية السر وهي واحد وثلاثون دعاء لحوائج الدنيا والآخرة مسندة متصلة وصحيحة السند، مذكورة في مصباح المتهجد، ومصباح الكفعمي، والبحار، وذكرها الحر العاملي في الجواهر السنية.
وفي الحديث القدسي في فضلها: (يا محمد، قل للذين يريدون التقرب إلي إعلموا علم اليقين أن هذا الكلام أفضل ما أنتم متقربون به إلي بعد الفرائض) ( ).
ولا شك أن ورود الإله الأكبر في الدعاء القدسي وهو من الله سبحانه وتعالى ونظير القرآن الكريم يدل بشكل يقيني قاطع لمن أراد النص على ما قدمت، حيث أن مخاطبة الله سبحانه وتعالى بالإله الأكبر دال على أن خلقه سبحانه يتصفون بصفة اللاهوت؛ وذلك لأن الأكبر صفة تفضيل دالة على وجود الأقل عند ذكرها وإلا فلا معنى لورودها في الكلام، فأفعل التفضيل أو صفات التفضيل دالة على المشاركة وزيادة كما هو بين وواضح، وقد ذكره علماء اللغة العربية بل هو بين لكل من قرأ الدعاء وتمعن فيه.
بين الله سبحانه وتعالى ووجه الله أو الله في الخلق
محمد عبد الله ورسوله، ليس في هذا العالم السفلي الجسماني فقط بل هو رسول الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق بقية الخلق، والرسول إذا كان وجه المُرسِل وصورة المُرسِل، قال الإمام الباقر : (نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمداً ، ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا ...) ( ). وفي الحديث: (الله خلق آدم على صورته) ( ).
والرسول إذا كان أمره أمر المُرسِل - قال الإمام المهدي : (قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء الله شئنا، والله عز وجل يقول: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾( ) ) ( ) - كان إرسال الرسول هو إرسال المُرسِل ومواجهة الرسول هي مواجهة المُرسِل، ومن هنا يتبين أن جميع الأنبياء والمرسلين من الله سبحانه وتعالى هم مُرسَلين من محمد إسرائيل أو عبد الله ووجه الله أو الله في الخلق، فالأنبياء والمُرسَلون واجهوا الله في الخلق وهو محمد ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾( )، ومعلمهم هو الله في الخلق وهو محمد ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( )، بل إن مواجهتهم لم تكن إلا مع باب محمد وهو علي ، فعن أبي جعفر عن آبائه قال: (قال رسول الله : أنا مدينة العلم وهي الجنة، وأنت يا علي بابها، فكيف يهتدي المهتدي إلى الجنة ولا يهتدي إليها إلا من بابها) ( ).
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله : (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب) ( ).
وفي الكافي عن أبي عبد الله الصادق ، قال: قال رسول الله : (أنا المدينة وعلي الباب، وكذب من زعم أنه يدخل المدينة إلا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً ) ( ).
وعنه : (أنا مدينة العلم (الحكمة) وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها) ( ).
فمحمد هو مَن عرَف الله وعرَّف الخلق بالله ولم تتم المعرفة إلا من باب محمد وهو علي، ومحمد هو البرزخ بين الحق والخلق (يخفق بين الإنسانية والفناء في الذات الإلهية)، وعلي هو الإنسان الأول في الخلق، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾( )، فالبشر هو علي والحجاب هو محمد، وأيضاً البشر هم الأئمة والحجاب علي والمتكلم محمد أو الله في الخلق، وأيضاً البشر هم الأنبياء والمرسلون والحجاب هم الأئمة والمتكلم علي أو الرحمن في الخلق، قال علي الإمام الذي ظلمه حتى من يدَّعون موالاته: (أنا أؤدي من النبيين إلى الوصيين، ومن الوصيين إلى النبيين، وما بعث الله نبياً إلا وأنا أقضي دينه وأنجز عداته، ولقد اصطفاني ربي بالعلم والظفر، ولقد وفدت إلى ربي اثنتي عشرة وفادة فعرفني نفسه وأعطاني مفاتيح الغيب)( ).
فيمكن أن نقول: إن علياً هو من كلم موسى ، بل إن من كلم موسى من آل محمد يأتمر بأمر علي ، وعلي يأتمر بأمر محمد ، ومحمد يأتمر بأمر الله سبحانه وتعالى.
عن علي أمير المؤمنين : (.... وعقدت الراية لعماليق كردان، ....، فتوقعوا ظهور مكلم موسى من الشجرة على الطور، فيظهر هذا ظاهر مكشوف، ومعاين موصوف ....)( ).
قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾( )، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾( ).
فكما أن المتوفي هو الله في كل تلك الأحوال كذلك فإن المتكلم هو الله في كل تلك الأحوال، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( ).
فتنـزه سبحانه وتعالى أن يكلّم بشراً إلا من وراء حجاب، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾( )، فلم يكتب كلام الله سبحانه وتعالى مباشرة ومن غير حجاب إلا في صفحة وجود محمد ولذلك كان علي هو الإنسان الأول والبشر الأول، ومحمد هو الحجاب بين الحق والخلق لفنائه في القرآن، ثم خفقه بين الإنسانية وبين الذات الإلهية فلا يبقى إلا الله الواحد القهار، ولم أقل: فلا يبقى إلا الله الرحمن الرحيم؛ لأن محمداً هو الرحمة في الخلق فإذا فني في الذات الإلهية لم تبق إلا النقمة والقهر، حيث إن نظر الله سبحانه وتعالى إلى محمد ، قال تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.
* * *
كتاب التوحيد
تفسير سورة التوحيد
وصي ورسول الامـام المهـدي
السيد أحمد الحسن
إصدارات أنصار الإمام المهدي
العدد (88)
الطبعة الأولى
1431هـ - 2010 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
الإهــداء
إلى الحسين بن علي ..
وإلى كل من شهدوا ويشهدون بآلامهم وبدمائهم لحاكمية الله ..
إلى زينب بنت علي ..
وإلى كل من شهدن للحق ..
وإلى من تعالت وتتعالى أصواتهن وهن يطالبن بحاكمية الله ..
أشهد أن شهادتكم كتبت وتكتب ..
وسيسأل أعداؤكم ومخالفوكم ..
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾
( الأعراف : 6 - 9 )
خادمكم
أحمد الحسن
لماذا هذا الكتاب
سبحانه وتعالى أن تكون الألوهية أو الربوبية كنهه وحقيقته، بل هما صفاته سبحانه وتعالى فهو الله الذي يأله له الخلق ليكملوا ويدفعوا النقص عن صفحات وجودهم، وهو الرب الذي يفيض على خلقه الكمال ويسد نقصهم.
ولكن أبداً ليست الألوهية أو الربوبية هي كنهه وحقيقته، بل هو سبحانه وتعالى تجلى لخلقه الفقراء بالكمال المطلق ، فكان هو الإله المطلق - الله سبحانه وتعالى - الذي يألهون إليه لسد نقصهم، وتجلى لخلقه الفقراء بالربوبية، فأفاض على نقصهم الكمال ليعرفوه ويعبدوه، فالعبادة دون معرفة فارغة عن المعنى فضلا عن الحقيقة.
وبما أنّ غاية معرفة الحقيقة هو: معرفة العجز عن معرفة الحقيقة، فقد تجلى سبحانه وتعالى لخلقه بالألوهية التي هي الكمال المطلق المواجه لنقصهم، والذي يحثهم على التألّه إليه، وبالتالي تحصيل المعرفة في هذه المرتبة التي تؤهلهم إلى معرفة العجز عن المعرفة في مرتبة الحقيقة.
فالألوهية غنى وكمال مقابل للفقر يدفع الفقراء أن يألهون إليه ليفيض عليهم الكمال، فيعرفونه بالألوهية وهم يألهون إليه ويعرفونه بالربوبية وهو يفيض عليهم الكمال، إنّ عدم التمييز بين الألوهية وبين الحقيقة جعل الأمور تختلط على كثير ممن يدعون العلم والمعرفة، هذا فضلاً عن أنّ كثيراً من هؤلاء لا يكادون يميزون بين الألوهية والربوبية، حتى نجد اليوم وبوضوح تام عجز من يدعون أنهم علماء الإسلام طوال أكثر من ألف عام عن بيان معنى لقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ﴾( ).
فهم بين من يضيف كلمة للآية ويحرفها بهواه وكأنّه سبحانه كان عاجزاً تعالى علواً كبيراً عن إضافة هذه الكلمة ( )، وبين من يقول بجواز الإتيان على الله سبحانه وتعالى ( )، وهكذا هم كحاطب ليل لا يعلم أين يقع فأسه، فهم بين نارين نار: أن يقولوا بأن الله يأتي ويذهب، فينزلوه منزلة المخلوق المحتاج للمكان والحيز أو وسط الانتقال، وبين أن ينفوا عنه الإتيان والذهاب بتحريف الآية وإدعاء أن هناك محذوفاً فيها، وبهذا فهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه وعن مواضعه دون خوف منه سبحانه ويا لها من جرأة.
أما المسيحيون، فقد جعلوا الآتي على السحاب المذكور في التوراة والإنجـيل ( ) هو عيسـى ، واعتبروا أن عيسى هو الله سبحانه وتعالى.
وجعلوا اللاهوت المطلق تجسد بجسد في هذا العالم، وبهذا أعلنوا فقره وحاجته ونقضوا ألوهيته المطلقة تعالى الله علواً كبيراً.
من هنا كانت ضرورة كتابة هذا الكتاب لأنّه يبين العقيدة الحقة في اللاهوت التي يرضاها الله سبحانه وتعالى، كما وأرجو من الله أن يكون هذا الكتاب سبباً لهداية كثير من خلقه بعد أن أضاعهم من يجهلون الحقيقة ويدعون أنهم علماء.
وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون في هذا الكتاب خير وبركة وزيادة في هدى ونقص من ضلال لكل من يقرأه، وأن يعم نفعه، وقد حاولت ما مكنني ربي أن أجعله مختصراً وفي متناول الجميع ولا يصعب على أحد من الناس فهمه.
أحمد الحسن
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديّان الدين، رب العالمين.
الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعمّارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وعرفنا علم الكتاب بفضله ومنه وجعل لنا نوراً نستغني به و نسير به في الناس ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾( )، لقد جاءت رسل ربنا بالحق وصدقنا الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد.
والصلاة والسلام على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق.
وصلوات الله على النار وعلى من في النار ومن حولها وتبارك الله رب العالمين ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( ).
وصلوات الله على الماء وعلى الجنات وعلى الأشجار المباركة فيها وتبارك الله رب العالمين ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾( ).
وصلوات الله على البركة النازلة وعلى القرى المباركة وعلى القرى الظاهرة ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً﴾ ( ).
كأني أرى بعض الجهلة ممن يدعون العلم يقرأون ما سطر في هذا الكتاب وهم يقولون هذا شرك وهذا كفر، وهم لا يفرقون بين القشر واللب وبين الحجر والجوهر، وأنا وأعوذ بالله من الأنا العبد الفقير لرحمة ربه المسكين المستكين بين يدي ربه أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، له الألوهية المطلقة وله الربوبية المطلقة وله الخلق وله الأمر وسبحان الله عما يشركون، وأن محمداً خير خلق الله وأول الخلق والعقل الأول هو عبد الله ورسوله إلى جميع خلقه من الإنس والملائكة والجن وما تعلمون وما لا تعلمون.
لقد أُجهد الأنبياء والأوصياء عليهم صلوات ربي في بيان حرفين من المعرفة والتوحيد ولم يقبلها منهم إلا بعض بني آدم بعد اللتيا والتي، والمطلوب اليوم والذي سيصار إليه غداً هو بيان سبعة وعشرين حرفاً من المعرفة والتوحيد.
عن أبي عبد الله ، قال: (العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً) ( ).
والمعرفة والتوحيد التي يمكن لبني آدم تحصيلها هي ثمانية وعشرون حرفاً، حرف منها اختص به آل محمد وهو سرهم, ما أمروا بإبلاغه للناس ولا يحتمله الناس.
عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن منصور بن العباس، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير، قال: قال أبو عبد الله : (يا أبا محمد إن عندنا والله سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، والله ما كلف الله ذلك أحداً غيرنا ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا.
وإن عندنا سراً من سر الله وعلماً من علم الله، أمرنا الله بتبليغه، فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حملة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته ، ومن نور خلق الله منه محمداً وذريتـه، وصنعهم بفضل رحمته التي صنع منها محمداً وذريته، فبلغنا عن الله ما امرنا بتبليغه ، فقبلوه و احتملوا ذلك [فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه] وبلغهم ذكرنا، فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا، فلولا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه.
ثم قال: إن الله خلق أقواماً لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به وقالوا: ساحر كذاب، فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك، ثم أطلق الله لسانهم ببعض الحق، فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة، ليكون ذلك دفعاً عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عبد الله في أرضه، فأمرنا بالكف عنهم والستر والكتمان، فاكتموا عمن أمر الله بالكف عنه واستروا عمن أمر الله بالستر والكتمان عنه.
قال : ثم رفع يده وبكى، وقال : اللهم إن هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدوا لك فتفجعنا بهم، فانك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبداً في أرضك وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً) ( ).
وعن أبي عبد الله ، قال: (إنّ أمرنا سر في سر، وسر مستسر، وسر لا يفيد الا سر، وسر على سر، وسر مقنع بسر) ( ).
وقال أبو جعفر : (إنّ أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق ( )، من هتكه أذله الله) ( ).
وقال أبو عبد الله : (إنّ أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق ومن هتكه أذله الله) ( ).
وقال أبو عبد الله : (إنّ أمرنا هو الحق، وحق الحق، وهو الظاهر وباطن الباطن، وهو السر، وسر السر، وسر المستسر، وسر مقنع بالسر) ( ).
وهذه الثمانية والعشرون حرفاً من العلم والمعرفة هي على عدد منازل القمر، أربعة عشر قمراً وأربعة عشر هلالاً كما هي في الشهر، وهم حجج الله وكلماته التي تفضل بها على العالمين والحج الأكبر.
الأقمار الأربعة عشر هم: (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن ومحمد صلوات الله عليهم).
أما الأهلة فهم: (إثنا عشر مهدياً ولأولهم مقامان: مقام الرسالة ومقام الولاية، فيكونون ثلاثة عشر، ومعهم ابنة فاطمة الزهراء فيكونون أربعة عشر).
والأهلة منهم هم علامات الساعة والقيامة ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ).
واليوم الباقي من الشهر هو يوم غيبة الهلال والقمر، وهو عند الله ألف سنة وبعض الألف سنة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾( ).
وهي موافقة لغيبة الإمام المهدي كما هو معلوم، فلابد له أن يغيب اليوم وبعض اليوم لتتم كلمة الله ( )،
﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً﴾ ( )، وتتم أيام الله بالوصول إلى اليوم الأخير .
وهذا اليوم وبعض اليوم (يوم الغيبة) يمثل الحرف المخزون المكنون عند الله الذي لم يخرج منه إلى غيره، ولا يعلمه أحد من خلقه، وهو سر غيبة الحقيقة والكنه، وهو واو (هو). أما هاء (هو) فهي الثمانية والعشرون حرفاً التي لا يعلمها بتمامها إلا آل محمد ، وهي سرهم كما قدمت. فالمطلوب - وهو التوحيد الحقيقي - معرفة الاسم الأعظم الاثنين وسبعين حرفاً ( )،
وهي باطن الثمانية وعشرين حرفاً ( )، ليعرف بها العبد إنه عاجز عن المعرفة من دون الحرف الباقي ، فلا يبقى إلا العجز عن المعرفة، فلو عرفت م ح م من اسم محمد هل يقال إنك تعرف محمداً ؟ أم يقال إنك لا تعرف محمداً ؟ بل غاية ما تعرفه حروفاً من الاسم ولا يعرف الاسم إلا بكل حروفه.
والحمد لله الذي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن فيها هدىً للناس وبينات من الهدى، ليحيى من يحيى عن بينة ويهلك من يهلك عن بينة ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ ( ).
والحمد لله وحده.
المذنب المقصر
أحمـد الحسـن
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾
بسملة التوحيد:
البسملة باب الكتاب، فلها ظاهر وباطن، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ ( )، وهذا السور أو الباب هو سور التوحيد فمن دخل من البسملة إلى الكتاب شمله باطن البسملة وهو الرحمة (الرحمن الرحيم)، ومن بقي في الخارج حيث الظلام واجهه ظاهر البسملة وهو النقمة (الواحد القهار).
فالبسملة سور باطنه (بسم الله الرحمن الرحيم) وظاهره (بسم الله الواحد القهار). وذُكر بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السَور ولم يذكر بسم الله الواحد القهار في أول سورة التوبة - التي هي خطاب موجه الى من اختاروا معاداة ومحاربة الرسول - ذلك أن من بين شيئاً فقد بين ضده؛ ولأنه سبحانه يواجه خلقه بالرحمة إلا من إختار الظلم والفساد والجور؛ فإنه سبحانه يواجهه بالقهر والنقمة، فالرحمة هي الأصل بالمواجهة والمواجهة بالقهر استثناء.
وبسملة كل سورة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسورة من جهة، ومرتبطة ببسملة سورة الفاتحة من جهة أخرى ( ).
وبما أن كل بسملة تحكي جهة من جهات بسملة الفاتحة، فهذه البسملة في هذه السورة تحكي التوحيد. فالبحث في بسملة هذه السورة يدور حول التوحيد، وهنا ثلاثة أسماء: الله الرحمن الرحيم.
الله إسم الذات أو الكمالات الإلهية، والرحمن الرحيم باب الذات، وتترشح من هذا الباب أبواب هي بعدد أسمائه سبحانه وتعالى، وإنما جعل الرحمن الباب الذي تترشح منه أسماء الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يتعامل بالرحمة ولئلا تشتد المثلات بالخلق الذاكر لنفسه والغافل عن ربه.
فالتوحيد بالمرتبة الأولى: معرفة انطواء جميع هذه الأسماء في الذات الإلهية، أي أن الله رحمن رحيم والرحمة ذاته، وقادر والقدرة ذاته.
ومعرفة أن جميع هذه الأسماء مترشحة من باب الرحمة باطنه الرحيم وظاهره الرحمن.
ومعرفة إن جميع هذه الأسماء غير منفكة عن الذات بل هي الذات عينها.
ومعرفة أن جميع هذه الأسماء والصفات هي لجهة حاجة الخلق إليها، فوجودها من جهة افتقار الخلق لا من جهة متعلقة به سبحانه وتعالى، بل إنه سبحانه وتعـالى تجلى بالذات للخلق ليعرف - كان سبحانه كنـزاً فخلق الخلق ليعرف - ومعرفته سبحانه وتعالى بمعرفة الذات أو الله، وتمام معرفته تكون بمعرفة العجز عن معرفته سبحانه وتعالى عما يشركون، أي العجز عن معرفته في مرتبة الكنه أو الحقيقة ( )، ومعرفة الذات أو الله إنما تحصل من الباب أو الرحمن الرحيم، ولتحصيل هذه المعرفة افتتحت جميع العوالم بهذه الأسماء الثلاثة: الله الرحمن الرحيم، فنجد كتاب الله سبحانه وتعالى بنسختيه المقروءة (القرآن) والكونية (الخلق) قد افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، فالقرآن افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، والخلق - الكون - افتتح بخلق محمد وعلي وفاطمة.
وهم تجلي الله الرحمن الرحيم، (وقد بينت في المقدمة أن منازل القمر هم آل محمد الأئمة والمهديون، وهم أبواب المعرفة)، قال تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾( ) ، وهذا يبين لك بوضوح علة ورود الحروف المقطعة -كما يسمونها- في الكتاب المقروء - القرآن - بعد البسملة مباشرة وفي أوائل السور، فعلة تقدمها في الكتاب المقروء - القرآن - هو لعلة تقدمها في الكتاب الكوني.
والبسملة تشير إلى الوحدة، فالرحمن الرحيم متحدان في المعنى العام، وهما باب الذات الإلهية أو الله، الرحمن ظاهره والرحيم باطنه، والباب في الذات ومنه يترشح ما في الذات.
فالباب هو الذات ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّـاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَـاءُ الْحُسْنَى﴾( )، فالبسملة تشير إلى أحدية الذات الإلهية (الله) بحسب باطن سور الكتاب، أي بسم الله الرحمن الرحيم، أما بحسب ظاهر سور الكتاب أي بسم الله الواحد القهار، فهي أيضاً تشير إلى الوحدة، فالواحد القهار باب الذات مترشح من الرحمن الرحيم ( )، فالواحد هو باطن الباب، والقهار هو ظاهر الباب ونتيجتهما واحدة، فهما متحدان في الواقع الخارجي - كما إنّ الرحمن الرحيم متحدان بالمعنى - لامتناع تعددهما او تفرقهما في الخارج؛ لأن الواحد الحقيقي يكون قاهراً لكل ماسواه ، وأيضاً القهار الحقيقي لكل ما سواه واحد حقيقي، قال أمير المؤمنين علي : (فَيا مَنْ تَوَحَّدَ بِالْعِزِّ وَالْبَقـاءِ، وَقَهَرَ عِبادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْفَنـاءِ) دعاء الصباح للأمير ( )، وأيضاً هذا الباب منطوي في الذات أو الله انطواء فناء.
ولعل الفائدة تتم ببيان أن محمداً أرسل ببسم الله الرحمن الرحيم، وإرسال القائم ببسم الله الواحد القهار، فمحمد ووصيه علي سارا بالجفر الأبيض، والقائم ووصيه يسيران بالجفر الأحمر، أي القتل وعدم قبول التوبة في بعض الموارد، كما ورد في الحديث عن رفيد مولى أبي هبيرة، قال: قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك يابن رسول الله يسير القائم بسيرة علي بن أبي طالب في أهل السواد ؟ فقال: (لا يا رفيد، إن علي بن أبي طالب سار في أهل السواد بما في الجفر الأبيض، وإن القائم يسير في العرب بما في الجفر الأحمر. قال: فقلت له: جعلت فداك، وما الجفر الأحمر ؟ قال: فأمرَّ إصبعه إلى حلقه، فقال: هكذا، يعنى الذبح. ثم قال: يا رفيد إن لكل أهل بيت مجيباً شاهداً عليهم شافعاً لأمثالهم) ( ).
أما الذات أو الله فهي تشير إلى الوحدة بعد ملاحظة فناء جميع الأسماء فيها، وهذا الفناء إشارة إلى الخلق، لترك ملاحظة أي كمال أو اسم من أسماء الذات والتوجه إلى التوحـيد الحقيقي، وهو التوجه إلى الحقيقة والكنه والتخلي عن أي معرفة، والإعتراف بالعجز المطلق عن أي معرفة سوى إثبات الثابت الذي تشير له الهاء في (هو)، ومعرفة العجز عن معرفته التي تشير له الواو في (هو)، وهذا التوجه هو توجه إلى الاسم الأعظم الأعظم الأعظم، وهذه هي العبادة الحقيقية وهذا هو التوحيد الحقيقي وما دونه شرك في مرتبة ما.
فالذين يعبدون الذات أو (الله) نسبة إلى هذه المرتبة مشركون من حيث لا يشعرون فضلاً عمن سواهم، قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ ( )، فيجب أن تكون الذات أو الله قبلة للكنه والحقيقة فهي المقصود بالعبادة دون من سواها.
وللتوضيح أكثر أقول: البسملة ثلاثة أسماء هي: الله، الرحمن، الرحيم. فإذا قلنا أن البسملة هي باب التوحيد فهذه الأسماء هي الباب وبها يعرف التوحيد، فنحتاج على الاقل إلى تمييز إجمالي لحدود هذه الأسماء ومعانيها.
الله: وهو إسم للذات الإلهية الجامعة للصفات الكمالية، وفي الحقيقة هو صفة جامعة للصفات فمعنى الله أي الذي يؤله إليه في الحوائج، أي الذي يقصد لسد النقص من كل جهة.
الرحمن: وهو اسم للذات الإلهية وصفة من صفات الكمال، وهو منطوٍ وفانٍ في الله، والرحمن في الدنيا والآخرة ولكنه أولى بأمور الدنيا لجهة سعة الرحمة فيه.
الرحيم: وهو اسم للذات الإلهية وصفة من صفات الكمال، وهو أيضاً فانٍ في الذات الإلهية أي الله، والرحيم في الدنيا والآخرة ولكنه أولى بأمور الآخرة، لجهة شدة الرحمة فيه كما بينته في تفسير الفاتحة، فراجع.
وهذان الاسمان أو الصفتان الرحمن الرحيم: هما في الحقيقة إسم واحد وصفة واحدة، فلا افتراق حقيقي بينهما ولا تمايز حقيقي، بل هما وجهان لحقيقة واحدة هي الرحمة، فهما باب الذات: الرحمن ظاهر الباب، والرحيم باطن الباب.
هنا توحد هذان الاسمان ولم يبقَ لنا إلا توحد الرحمة مع الله أو الذات الإلهية، وهذا لا يحتاج فيه صاحب فطرة سليمة إلى العناء والبحث والتدقيق لمعرفته فالله سبحانه وتعالى، إذا كان هو الذي يؤله إليه في الحوائج، وهؤلاء الذين يتألهون إليه أو يقصدونه عصاة مقصرون، خيّرهم وأفضلهم ناظر إلى نفسه ولو من طرف خفي، فبماذا يعطيهم أ بالعدل وهو وضع الشيء في موضعه ؟ وهل من وضع الشيء في موضعه أن تعطي السلاح من يقاتلك به وهو ظالم ؟! وكيف ببقية الخلق إذا كان محمد خير خلق الله سبحانه وتعالى إحتاج في مواجهة الله سبحانه وتعالى الرحمة، فقدم له سبحانه وتعالى بقوله: (سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي) فقال الرسول : (اللهم عفوك عفوك).
فقد سأل أبو بصير أبا عبد الله ، فقال: (جعلت فداك كم عرج برسول الله ؟ فقال : مرتين، فأوقفه جبرئيل موقفاً فقال له: مكانك يا محمد، فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملك قط ولا نبي، إن ربك يصلي، فقال: يا جبرئيل وكيف يصلي ؟ قال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة و الروح ، سبقت رحمتي غضبي ، فقال: اللهم عفوك عفوك، قال: وكان كما قال الله " قاب قوسين أو أدنى "، فقال له أبو بصير: جعلت فداك ما قاب قوسين أو أدنى ؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها، فقال: كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق، ولا أعلمه إلا وقد قال: زبرجد، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد، قال: لبيك ربي، قال: من لأمتك من بعدك ؟ قال: الله أعلم قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، قال: ثم قال أبو عبد الله لأبي بصير: يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية علي من الأرض ولكن جاءت من السماء مشافهة) ( ).
ومما طلب العفو صلوات الله عليه، أمن تقصير ؟ أم أن كلامه صلوات الله عليه لغو لا طائل من ورائه ؟ حاشاه وهو النبي الكريم الحكيم خير ولد آدم صلوات الله عليه، ولما قدم الله سبحانه وتعالى الرحمة وبين أنها سبقت غضبه، ولما واجه نبيه الكريم بهذا الكلام الذي يستشعر منه أنه موجه إلى مستحق لمواجهة الغضب ولكن الله يريد أن يواجهه بالرحمة، ثم إنه سبحانه وتعالى فتح له الفتح المبين، وغفر له ذنبه الذي استحق به الغضب وهو الأنا، والذي بدونه لا يبقى إلا الله الواحد القهار، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾ ( ).
فشائبة الظلمة والعدم بدونها لا يبقى للإنسان إنسانيته، ولا يبقى ألا الله الواحد القهار، ومحمد بعد الفتح أخذ يخفق بين فناء فلا يبقى إلا الله الواحد القهار، وبين عوده إلى الأنا والشخصية فهو صلوات الله عليه حجاب بين الخلق والحق ، وهو البرزخ بين الله وخلقه، فإذا كان صاحب هذه المرتبة العظيمة محتاجاً أن يواجه بالرحمة فما بالك بمن سواه، فبالنسبة للخلق الله الذي يتألهون إليه هو الرحمن الرحيم بل لابد أن يكون كذلك وإلا فسيعودون خائبين خاسرين بسبب تقصيرهم. إذن، فالله والرحمن بالنسبة لنا واحد بل هو كذلك في الحقيقة، فالباب أو الرحمن هو مدينة الكمالات الإلهية أو الله فمنه يعرف ما فيها، ويتجلى ويظهر منه الفيض الإلهي إلى الخلق، قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾( )، فإذا تبين وحدة هذه الأسماء في الذات الإلهية أو الله وفناؤها فيها عرفنا أن الوحدة الأحدية متحققة في الذات الإلهية أو الله سبحانه وتعالى، وهذه هي المرتبة الأولى المقصودة في التوحيد، وهي كما قدمت وحدة جميع الأسماء والصفات في الذات الإلهية أو الله وحدة حقيقية أي أن الله واحد أحد وجميع الأسماء والصفات عين ذاته وليست أعراضاً تتصف بها الذات، ولا جواهر تتركب منها فهو الله الرحمن القادر ........ كما قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾( ).
والحقيقة أن هذه المرتبة من التوحيد لا تخلو من الشرك في مرتبة ما لجهتين:
الجهة الأولى: هي أننا لا يمكن أن نرفع كثرة الأسماء الملازمة للذات الإلهية عن أوهامنا، وإن كانت كثرة إعتبارية، فالله هو: الرحمن الرحيم القادر القاهر الجبار المتكبر العليم الحكيم ... وهذه الكثرة وإن كانت لا تخل بوحدة الذات الإلهية أو الله ولكنها كثرة، وتحمل معنى الكثرة فهي مخلة بالتوحيد في مرتبة أعلى من هذه، قال أمير المؤمنين : (..... أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف) ( ).
والجهة الثانية: هي جهة الألوهية، فكوننا نتأله في حوائجنا إلى الذات الإلهية فإن علاقتنا معه سبحانه وتعالى غير خالية - والحال هذه - من الطمع والحاجة لسد النقص من جهة معينة، إذن فالعبادة غير خالصة بل هي طلب للكمال وسد النقص في أحسن صورها على هذا الحال، وهذه المرتبة شرك، فالإخلاص الحقيقي هو قطع النظر عمن سواه سبحانه وتعالى حتى عن الأنا والشخصية، وهذا هو الأولى والأحجى بل هو أصل المطلوب، إذن فالتوحيد الحقيقي يتحقق بعد معرفة فناء جميع الأسماء والصفات في الذات الإلهية، ثم فناء الذات الإلهية في الحقيقة أي فناء الألوهية في حقيقته سبحانه، ولايتحقق هذا الامر الا بفناء الأنا وشخصية الانسان فلا يبقى إلا الشاهد الغائب سبحانه وتعالى عما يشركون ( )، وإذا كان هناك لفظ دال عليه فيكون (هو) ضمير الغائب، والهاء لإثبات الثابت والواو لغيبة الغائب ( )، وهذا التوجه - المتحصل من هذه المعرفة - هو التوجه الصحيح لأنه توجه إلى الحقيقة والكنه، وهذا هو التوحيد الحقيقي، توحيد الحقيقة والكنه أو الإسم الأعظم الأعظم الأعظم، أو الإسم المكنون المخزون والذي ينبع من داخل الإنسان بعد فناء الأنا وبقاء الله، وهذه هي المرتبة الأخيرة المقصودة في التوحيد واليها تشير بسملة التوحيد وسورة التوحيد أيضاً كما سيتضح.
ولأن بسملة سورة التوحيد هي مفتاح التوحيد الحقيقي وهي باب وحجاب الكنه والحقيقة، ولأن التوحيد غاية ابن آدم، فقد جرى الاهتمام العظيم بقراءة سورة التوحيد في الصلاة الواجبة والمستحبة وقبل النوم وبعد الاستيقاظ من النوم وبعد الصلاة الواجبة وفي صلاة الوصية وفي صلاة الناشئة ....... وصلاة سيد الموحدين بعد رسول الله علي تقرأ التوحيد فيها 200 مرة، فلا يمر يوم على المؤمن دون قراءة التوحيد وكأنها قرينة الفاتحة، ونعم القرين.
واعلم أن الغرض من هذه الغاية العظيمة (التوحيد) هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا الغرض خلق الله الإنسان لأجله فمن ضيع هذا الغرض فقد ضيع كل شيء ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾( )، أي ليعرفون، وهذا الغرض وهذه المعرفة لابد لها من التوحيد لتتحقق، والتوحيد الحقيقي لايتحقق بتحصيل الألفاظ والمعاني، بل يتحقق بالعمل والإخلاص لله سبحانه حتى يصبح العبد وجه الله سبحانه في أرضه أو الله في الخلق.
لهذا قلت فيما تقدم: (التوحيد الحقيقي توحيد الحقيقة والكنه، أو الاسم الأعظم الأعظم الأعظم، أو الاسم المكنون المخزون والذي ينبع من داخل الانسان بعد فناء الأنا وبقاء الله).
* * *
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾:
هو ضمير الغائب يشير إلى الاسم الأعظم الأعظم الأعظم أو الكنه والحقيقة, فالمراد هنا قل لهم إذا كانوا يريدون معرفة حقيقته وكنهه سبحانه وتعالى فهو يعرف بمعرفة الذات الأحدية، فالذات هي حجاب الكنه والحقيقة ولا يعرف ما بعد الحجاب إلا باختراق الحجاب، ولا يخترق الحجاب إلا بالمعرفة، فإذا عرفتم فناء الأسماء الإلهية في الذات أو الله وأحدية الذات ونظرتم فيها ومن خلالها باعتبارها حجاب الكنه والحقيقة عرفتم أن تمام معرفة الحقيقة هي العجز عن المعرفة.
و ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تشير إلى معنيين:
الأول: هو فناء الأسماء الإلهية في الذات وأحدية الذات في التوحيد الأحدي.
والثاني: هو فناء الألوهية في الحقيقة في المرتبة الأخيرة، لأن الألوهية فيها الكثرة الاعتبارية لأنها تعني الكمال، وبالتالي التأله إليه لسد النقص والحصول على الكمال وللكمال جهات كثيرة.
وفي المعنى الأول مرتبتان:
ففي المرتبة الأولى: الله أحد أي أنه قادر والقدرة ذاته، وراحم والرحمة ذاته، وفي هذه المرتبة الأسماء الإلهية فانية في الذات ولكنها تلاحظ تفصيلاً أي الله القادر العليم الحكيم.
وفي المرتبة الثانية: الله أحد أي أنه كامل يؤله إليه لسد النقص وتحصيل الكمال، والأسماء الإلهية فانية فيه دون ملاحظتها تفصيلاً بل إجمالاً باعتبارها جهات الكمال، أي النظر إلى الله سبحانه وتعالى الكامل دون النظر أو الالتفات إلى الأسماء الكمالية، ولا يخفى أن في هذا الإجمال تبقى الكثرة كالنار تحت الرماد، فالمقصود هو سد النقص وتحصيل الكمال سواء كان هذا القصد تفصيلياً أم إجمالياً.
أما المعنى الثاني: الذي تشير له ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فهو فناء الألوهية والكمال في الكنه والحقيقة، فلا ينظر إلا للمعبود سبحانه وتعالى باعتباره معبوداً، فلا يبقى للألوهية في هذه المرتبة من التوحيد وجود، بل لا يبقى إلا النظر إلى الحقيقة والكنه أو الاسم الأعظم الأعظم الأعظم (هو) وهذه هي أعلى مراتب التوحيد، وغاية الإنسان وكماله الحقيقي هو عبادة الحقيقة والكنه، ولذلك وصف الرسول الأكرم في أعلى مراتب الارتقاء بالعبد ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾( ).
* * *
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾:
الصمد: أي الكامل الذي ليس فيه نقص أو ثغرة أو عيب، أي إننا في مقام تنزيه وتسبيح ألوهيته المطلقة وبيان كمالها المطلق، وبالتالي فهو سبحانه المقصود من الخلق لسد النقص في صفحات وجودهم الجسمانية والملكوتية والنورية الكلية في السماء السابعة أو العقلية لمن كان له حظ فيها وكان من المقربين.
فهذا الوصف للذات الإلهية أي الصمد بيان للكمال الإلهي المطلق من خلال تنزيهه سبحانه عن النقص، وأيضاً بيان للنقص الموجود في الخلق الذي يجعلهم يقصدونه سبحانه وتعالى ليفيض عليهم من فضله.
وهذا الوصف أي الصمد جاء بعد الأحد أي بعد أن بين طريق معرفة الحقيقة والكنه من خلال أحدية الذات وفناء الأسماء فيها ثم فنائها، والذي أشارت إليه ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فالآن بيان وتفصيل وتوضيح أن جميع الأسماء الإلهية والصفات الكمالية مطلقة منزهة عن النقص ومنطوية في الذات ويدل عليها اسم الله، فوصفه بأنه صمد أي لا جوف فيه أي لا نقص ولا ثغرة في ساحته، بل هو كامل من كل الجهات وحاوي لكل صفات الكمال، ثم شمول هذا الوصف أي الصمد لمعنى السيد الكريم الذي يقصد لقضاء الحوائج للدلالة على أنه سبحانه وتعالى بكماله المطلق المنزه المسبح يقصده الخلق لسد نقائصهم، ولقضاء حاجاتهم للدنيا والآخرة.
وهذه الآية أي الله الصمد جاءت في مرتبة تنَّـزليّة مع المتلقي، فسورة التوحيد تبدأ من القمة ثم تتنـزل مع المتلقي في التوضيح حتى تنتهي إلى المقارنة مع الخلق ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾، فمن الحقيقة والكنه وفناء الذات الإلهية ﴿قُلْ هُوَ﴾ إلى أحدية الذات وفناء الأسماء فيها ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ إلى وصف الذات الإلهية بأنها الكامل المطلق الذي لا نقص فيه المقصود لقضاء الحوائج ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾.
(الله الصمد): الصمد وكما بينت الكامل المقصود لقضاء الحوائج وسد النقص، فالصمد بيان للكمال المطلق بتسبيحه وتنزيهه سبحانه، فإذا كانت الأسماء والصفات الإلهية تمثل جهات الكمال الإلهية المقصودة، وكل صفة أو إسم بحسبه تمثل جهة من جهات الكمال تقصد من الخلق ومنها يفاض على الخلق، تبين أن جميع الأسماء والصفات منطوية تحت هذه الصفة أو الاسم أي الصمد، فلو توسعنا في الحديث في الصمد فالأمر سيطول لأننا نحتاج للمرور على جميع الأسماء والصفات الموجودة في دعاء الجوشن الكبير على الأقل، وهذا أتركه لمن فهم وأدرك ما قدمت فالإمام الصادق يقول: (إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا)، والإمام الرضا يقول: (علينا القاء الأصول وعليكم التفريع) ( ). وأرجو من الله أن يوفق الأخوة من طلبة الحوزة العلمية من أنصار الإمام المهدي للتوسع والتفصيل وتوضيح المعنى بشكل مبسط للناس.
وأظن أني قد مررت على الصمد في المتشابهات وربما كان به بعض الفائدة لمن قرأه، وأذكر نفسي وأذكركم بحديث الإمام الباقر حيث قال : (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عز وجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع من الصمد، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين حملة لعلمه، حتى كان يتنفس الصعداء ويقـول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين الجوانح مني علماً جماً، هاه هاه ألا لا أجد من يحمله، ألا وإني عليكم من الله الحجة البالغة) ( ).
الصَّمَدُ:
لما كان الله هو الكامل الذي يؤله إليه في سد النقص وكسب الكمال، أصبح الاتصاف بصفة الألوهية عموماً غير منحصر به سبحانه وتعالى عما يشركون، بلى الألوهية المطلقة منحصرة به سبحانه وتعالى، فكلمة لا اله إلا الله كلمة التوحيد لأننا أردنا بها الألوهية المطلقة، فصفة الألوهية عموماً تشمل الكامل من خلقه الذي يأله اليه غيره ليفيض عليه الكمال ويسد نقصه، فأصبح محمد وهو صورة الله سبحانه وتعالى ووجه الله سبحانه تعالى هو الله في الخلق، ولكن الفرق بين اتصاف محمد بصفة الألوهية وبين ألوهيته سبحانه وتعالى أن اتصاف محمد بصفة الألوهية مقيد بالنقص والاحتياج إليه سبحانه وتعالى، وألوهيته سبحانه وتعالى ألوهية مطلقة ولهذا جاء هذا الوصف الصمد أي الذي لا ثغرة فيه ولا نقص فيه لتسبيحه وتنزيهه، ولبيان أن ألوهيته سبحانه وتعالى منزهة مسبحة لا ثغرة فيها ولا نقص فيها.
ومن هنا فإن وصف الصمد المضاف إلى الألوهية لا يمكن أن يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وفيه تمييز لألوهيته سبحانه وتعالى وبيان أنها ألوهية تامة مطلقة، ولهذا جاءت هذه الآية في سورة التوحيد ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ والله الصمد نظير أن تقول أن الله نور لا ظلمة فيه، وهي صفة لا يشاركه فيها المخلوقون وليست كالسميع والبصير والخالق، فهذه الصفات يشاركه بها المخلوقون، فأنت تستطيع أن تقول أن محمداً نور ولكن فيه ظلمة وهي الأنا والشخصية ولولاها لما بقي لمحمد اسم ولا رسم ولم يبقَ إلا الله الواحد القهار سبحانه وتعالى.
فمحمد وإن كان في أعلى درجات الكمال الممكنة للخلق، ومحمد وإن كان صورة الله ويحمل صفة اللاهوت للخلق ليُعرِّف الخلق بالله سبحانه، وبالتالي فالخلق يألهون إليه ليكملهم ويسد نقصهم، ولكن محمداً من جهة أخرى مفتقر إليه سبحانه وتعالى فهو عبد من عباد الله ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾( ). يكاد يضيء من نفسه لا أنه يضيء من نفسه، حتى أن إبراهيم وهو من أولي العزم من الرسل لما رأى ملكوت السماوات ظن أن اتصاف محمد بصفة الألوهية هي ألوهية مطلقة، وظن أن ربوبية محمد هي ربوبية مطلقة ثم منَّ الله سبحانه وتعالى على إبراهيم وكشف له أفول محمد وعودته إلى الأنا والشخصية، فعلم إبراهيم أن الله سبحانه وتعالى لا يرى في ملكوت كما كان يعلم أنه لا يبصر في ملك وإنما رؤية محمد هي رؤية الله، ومواجهة محمد هي مواجهة الله سبحانه وتعالى عما يشركون، وقد بين أهل البيت شيئاً من هذا المعنى في طيات كلامهم.
قال الصادق في قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾( )، قال : (رب الأرض إمام الأرض، قيل: فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال: يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر بنوره ويجتزؤون بنور الإمام ) ( ). مع أن رب الأرض هو الله سبحانه وتعالى ولكن ربوبيته سبحانه وتعالى ربوبية مطلقة وربوبية الإمام المهدي مقيدة بالفقر والاحتياج إليه سبحانه وتعالى.
* * *
﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾:
لا شك أن المقصود بالولادة في الآية ليست الولادة الجسمانية فلا أحد يقول بهذه الولادة لتُنفى، وإن كان هناك مجسمة انحرفت بهم الأوهام والجهالات إلى وادي التجسيم الذي لا يقره العقل السليم أو الفطرة النقية للإنسان فجسموا الذات الإلهية، فالمراد هنا نفي الولادة بمعنى الانفصال عن أم أو أصل انفصلت عنه الذات الإلهية أو فرع انفصل عن الذات الإلهية. وهذا النفي وإن كان فيه رد على من قال أن عيسى ابن الله ومن قال إن عزيراً ابن الله أو من قال بالأقانيم الثلاثة أو من قال بالأثنينية، ولكنه في الحقيقة متعلق بالآيات السابقة، فإذا كانت الذات الإلهية أو الله جامعة لكل الأسماء والصفات الإلهية ، فهنا يرد سؤالان:
الأول: فهل إن هذه الأسماء والصفات القديمة هي آلهة منفصلة عن الله باعتبار أن ألوهيتها مطلقة في الجهات التي تمثلها ؟! والجواب واضح كما قدمت سابقاً: فهذه الصفات والأسماء أي العليم، القدير، الحكيم غير منفكة عن الذات الإلهية بل هي عين الذات، فهو كما قدمت قادر والقدرة ذاته وعالم والعلم ذاته و …… .
والسؤال الثاني: هل إن الذات الإلهية أو الله منفصلة عن الحقيقة والكنه هو أو الاسم الأعظم الأعظم الأعظم ؟!
والجواب هو: إن الذات الإلهية أو الله هي تجلٍ وظهور للحقيقة والكنه واجه بها سبحانه وتعالى خلقه، فبما أن هوية الخلق هي الفقر فلابد أن تكون المواجهة بالغنى، فواجه سبحانه وتعالى الظلمة والعدم والنقص بالنور والوجود والكمال، فالذات الإلهية أو الله هي عين الكنه أو الحقيقة وكما ورد في الحديث عن علي بن موسى الرضا أنه قال: (إن بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها) ( ).
فالحقيقة ظهرت بالذات الإلهية أو (الله) لجهة حاجة الخلق لسد نقصهم، وللمعرفة (كان سبحانه وتعالى كنـزاً فخلق الخلق ليعرف)، والمعرفة لا تكون إلا معرفة الذات الإلهية بمعرفـة (الأسماء والصفات)، أما معرفة الكنه والحقيقة فلا تكون إلا العجز عن المعرفة، والنتيجة فكما أن الأسماء والصفات فانية في الذات الإلهية (الله) وهي عين الذات كذلك فإن الذات الإلهية فانية في الكنه والحقيقة التي هي المطلب والمقصود الحقيقي في العبادة، ومن هنا فلا يوجد انفصال عن الذات الإلهية كما أن الذات الإلهية أو الله ليست منفصلة عن الحقيقة بل هي تجلٍ وظهور للكنه والحقيقة.
* * *
﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾:
الكفؤ: هو المساوي أو المقارب للشيء في المرتبة ولو من جهة معينة. وهذه الآية تنفي أن يكون له كفؤ من الموجودات, كما أن هذه الآية والتي قبلها جاءتا بعد آية ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، وهي كما قدمت وصفه سبحانه وتعالى بالكامل المقصود في قضاء الحاجات وتحصيل الكمالات، فلم يلد ولم يولد جاءت لبيان أن جهات كماله سبحانه وتعالى والمعبر عنها بالأسماء والصفات ليست منفصلة عنه سبحانه وتعالى بل هي هو سبحانه وتعالى، ثم جاءت هذه الآية: ﴿لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ لتبين أن جميع خلقه دونه سبحانه وتعالى وحتى الكيانات القدسية العالية الكمال - أي محمداً وآل محمد - التي توهم بعض خلقه بأنها هو سبحانه وتعالى لما رأوها، كما هو حال الملائكة في المعراج، وحال إبراهيم لما رأى ملكوت السماوات ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾( ).
وسئل أبو عبد الله عن قول إبراهيم: (هذا رَبِّي) لغير الله، هل أشرك في قوله هذا رَبِّي؟ فقال : (من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك و إنما كان في طلب ربه و هو من غيره شرك) ( )، نقله عن القمي، وفي العياشي مثله ولو كان طلب إبراهيم ربه في هذا العالم المادي لكان شركاً من إبراهيم وغيره ولكنه طلب ربه في (مَلَكُوتَ السَّمَاوَات).
وعن محمـد بن حمـران، قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله فيما أخـبر عن إبراهيم : ﴿هذا رَبِّي﴾، قال: (لم يبلغ به شيئاً أراد غير الذي قال) ( ).
وقال الشيخ الفقيه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي في كتاب (علل الشرائع): حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رض) قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن أبي عمير ومحمد بن سنان، عن الصباح السدي، وسدير الصيرفي ومحمد بن النعمان مؤمن الطاق، وعمر بن اذينة عن أبي عبد الله ، وحدثنا محمد بن الحسن ابن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار وسعد ابن عبد الله قالا: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي الخطاب، ويعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى، عن عبد الله بن جبلة، عن الصباح المزني، وسدير الصيرفي ومحمد بن النعمان الاحول، وعمر بن اذينة عن أبي عبد الله ، أنهم حضروه …… . فقال أبو عبد الله : (إن الله العزيز الجبار عرج بنبيه إلى سمائه سبعاً، أما أولهن فبارك عليه والثانية علمه فيها فرضه فانزل الله العزيز الجبار عليه محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور كانت محدقـة حول العرش عرشه تبارك وتعالى تغشى أبصار الناظرين … .
ثم عرج إلى السماء الدنيا فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء ثم خرت سجداً، فقالت: سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل : الله أكبر الله أكبر، فسكتت الملائكة وفتحت أبواب السماء واجتمعت الملائكة، ثم جاءت فسلمت على النبي أفواجاً، ثم قالت: يا محمد كيف أخوك ؟ قال: بخير، قالت: فإن أدركته فاقرأه منا السلام، فقال النبي : أتعرفونه ؟ فقالوا: كيف لم نعرفه وقد أخذ الله عز وجل ميثاقك وميثاقه منا، وإنا لنصلي عليك وعليه، ثم زاده أربعين نوعاً من أنواع النور لا يشبه شيء منه ذلك النور الأول، وزاده في محمله حلقاً وسلاسل ثم عرج به إلى السماء الثانية فلما قرب من باب السماء تنافرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس رب الملائكـة والروح ما أشبه هذا النور بنور ربنا، فقال جبرئيل : أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فاجتمعت الملائكة وفتحت أبواب السماء وقالت: يا جبرئيل من هذا الذي معك ؟ فقال: هذا محمد ، قالوا: وقد بعث ؟ قال: نعم. قال رسول الله : فخرجوا إلى شبه المعانيق فسلموا علي وقالوا: إقرأ أخاك السلام، فقلت: هل تعرفونه ؟ قالوا: نعم، وكيف لا نعرفه وقد أخذ الله ميثاقك وميثاقه وميثاق شيعته إلى يوم القيامة علينا، وإنا لنتصفح وجوه شيعته في كل يوم خمساً يعنون في كل وقت صلاة قال رسول الله : ثم زادني ربي تعالى أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه الأنوار الأول وزادني حلقاً وسلاسل، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرت سجداً وقالت: سبوح قدوس رب الملائكة والروح ما هذا النور الذي يشبه نور ربنا، فقال جبرئيل : أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فاجتمعت الملائكة وفتحت أبواب السماء وقالت: مرحباً بالأول ومرحباً بالآخر، ومرحباً بالحاشر ومرحباً بالناشر ، محمد خاتم النبيين وعلى خير الوصيين ، فقال رسول الله : سلموا عليّ وسألوني عن علي أخي فقلت: هو في الأرض خليفتي أو تعرفونه ؟ قالوا: نعم وكيف لا نعرفه وقد نحج البيت المعمور في كل سنة مرة وعليه رق أبيض فيه اسم محمد وعلي والحسن والحسين والأئمة وشيعتهم إلى يوم القيامة، وإنا لنبارك على رؤوسهم بأيدينا، ثم زادني ربى تعالى أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه شيئاً من تلك الأنوار الأول، وزادني حلقاً وسلاسل، ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فلم تقل الملائكة شيئاً، وسمعت دوياً كأنه في الصدور واجتمعت الملائكة، ففتحت أبواب السماء وخرجت إلى معانيق فقال جبرئيل : حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، فقالت الملائكة صوتين مقرونين: بمحمد تقوم الصلاة وبعلي الفلاح ، فقال جبرئيل: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فقالت الملائكة: هي لشيعته أقاموها إلى يوم القيامة، ثم اجتمعت الملائكة فقالوا للنبي: أين تركت أخاك وكيف هو ؟ فقال لهم: أتعرفونه ؟ فقالوا: نعم نعرفه وشيعته وهو نور .....) ( ).
أقول: وحتى هذه الكيانات القدسية (محمد وآل محمد ) ليست كفواً له سبحانه وتعالى وإنما هي دونه بالكثير، فهي لا تقاربه فضلاً عن أن تكون مساوية له وإن كانت حاكية لجهات كماله سبحانه وتعالى، في الزيارة الجامعة: (... السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام على الدعاة الى الله، والأدلاء على مرضاة الله، والمستقرين في أمر الله، والتامين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين الامر لله ...) ( ).
وفي دعاء أيام رجب المروي عن الإمام المهدي : (... أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركاناً لتوحيدك وآياتك ومقاماتك، التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك ...) ( ).
ولكن أيضاً كماله وأوصافه سبحانه وتعالى لا يشبهها شيء (... يا من هو أحد بلا ضد يا من هو فرد بلا ند يا من هو صمد بلا عيب ... يا من هو موصوف بلا شبيه) ( ).
* * *
الألوهـية
الألوهية بالمعنى الأعم تشمل الكامل الذي يأله إليه الخلق في تحصيل كمالهم وسد نقائصهم، وهي كالربوبية فكما تشمل الأب باعتباره رب الأسرة، وتشمل خليفة الله في أرضه باعتباره رب الأرض ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾( ).
عن الصادق في هذه الآية، قال: (رب الأرض إمام الأرض، قيل: فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال: يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر بنوره ويجتزؤون بنور الإمام )( ).
الربوبية تشمل في هذا العالم الجسماني: من يتكفل احتياجات شخص ثانٍ فهو بالنسبة له مربٍ لأنه يكمل نقصه - ويوفر احتياجاته - في هذا العالم الجسماني، ولهذا نجد يوسف وهو نبي وفي القرآن الكريم يعبر عن فرعون نسبة إلى ساقي الخمر بأنه ربه ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾( ).
وأيضاً يعبر يوسف عن عزيز مصر الذي تكفّـل معيشة يوسف والعناية به بأنه ربي ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾( ).
والذي أحسن مثواه بحسب الظاهر وفي هذا العالم الجسماني هو عزيز مصر ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
والألوهية كذلك تشمل من يأله له غيره ليسد النقص والاحتياج الموجود في ساحته فاسم الله مشتق ( ) من إله، (عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَاشْتِقَاقِهَا اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ، فَقَالَ : يَا هِشَامُ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً، وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ، وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلَهاً وَلَكِنَّ اللَّهَ مَعْنًى يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُهُ، يَا هِشَامُ الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ، أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ فَهْماً تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا الْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: نَفَعَكَ اللَّهُ بِهِ وَثَبَّتَكَ يَا هِشَامُ، قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى قُمْتُ مَقَامِي هَذَا) ( ).
(فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً): اي الذي يعبد الاسم - أي اسم الله - ولايجعله فقط دالاً على المعنى الحقيقي، والصحيح أي اللاهوت المطلق الغني بنفسه يكون كافراً لأنه في الحقيقة يعبد اسماً أو لفظاً مشتقاً من إله المقتضي مألوهاً، أي أنه يعبد اسماً يمكن أن ينطبق على غيره سبحانه؛ لأن هناك من خلقه سبحانه من يؤله لهم لسد النقص فيكونون مصداقاً للاسم العام دون قيد، وكما تبين في مسألة الربوبية وبوضوح تام فمن يعبد اسم الرب فهو أيضاً كافر؛ لأن هناك من خلقه من يفيضون على غيرهم ويربونهم سواء في هذا العالم الجسماني أم في العوالم الأخرى، وغير بعيد ما تقدم من أن الملك وعزيز مصر بل والأب يسمون أرباباً ولا إشكال في تسميتهم بهذا كما تبين من القرآن ، فالأمر كما قال الإمام الصادق في الجوهرة النفيسة التي تقدمت (وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً).
أما (مَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ): أي من اعتبر أن الاسم مُظهر للمعنى والحقيقة في حين أن الاسم مشتق وعام ولا يتعدى كونه إشارة إلى المعنى الموصل إلى الحقيقة المطلوب الوصول إليها لتتحقق العبادة الحقيقية للإنسان، باعتباره إنساناً قد اودعت فيه قابلية عبادة الحقيقة ومعرفتها.
(وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ): لأن المعنى أو اللاهوت المطلق أو الله سبحانه وتعالى هو الموصل لمعرفة الحقيقة (هو)، فالاسم مجرد مشير إلى المعنى الموصل إلى الحقيقة فلا ينبغي التوجه إلى الاسم على كل حال، بل من أراد التوحيد لابد أن يترك التوجه إلى الاسم تماماً ويتوجه إلى المعنى الموصل إلى الحقيقة (وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ) ... وهذا كله لأن الاسم كما بينت يشير إلى معنى عام وهو من يأله له غيره ليسد نقصه فيكون التوجه إليه كفراً وشركاً؛ لأنه يشير إلى أكثر من ظهور لهذا المعنى وبمراتب مختلفـة، فاللاهوت المطلق يأله له غيره وبعض خلقه يأله لهم غيرهم، أو لنقل بعبارة أخرى إن من يأله لهم غيرهم من خلقه سبحانه هم أيضاً لاهوت ولكن غير مطلق بل فقير ومحتاج لغيره، ولهذا يكون التوجه إلى الاسم بالعبـادة - بأي صورة كانت - شركاً وكفراً، فلابد من تحديد المعنى المراد التوجه إليه من إشارة الاسم ومن ثم التوجـه إلى المعنى دون الاسم (دون الاسم)، (وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ).
والحقيقة إن هذه الجوهرة تشير إلى أمر سيأتي بيانه وهو إنه سبحانه قد ظهر وتجلى لنا باللاهوت ؛ لأنه المناسب لحالنا لنعرف الحقيقة فنحن أهم ما يميز هويتنا أو حقيقتنا هو الفقر واللاهوت باعتباره الغنى المطلق هو أنسب ما يكون لنعرف الحقيقة عندما نتوجه إليه ليفيض من غناه وكماله على فقرنا (قَالَ : يَا هِشَامُ اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَ إِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً).
إذن، فالألوهية بالمعنى العام - أي كونها تعني الكامل الذي يأله له غيره ليكمله، ويسد نقصه - تشمل خاصة من خلقه سبحانه وتعالى حصل لهم الكمال في أعلى الدرجات الممكنة للخلق، وأمر الخلق مفوض إليهم بدرجة معينة (السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ..... وبقية الله ..... ونوره ..... وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم ..... وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) ( ).
وهم محمد وآل محمد ، فكما ورد رب الأرباب ورد إله الآلهة، وورد الإله الأكبر في الدعاء المروي عنهم ، قال : (قل وأنت ساجد: يا الله يا رحمن [يا رحيم] يا رب الأرباب وإله الآلهة .....) ( ).
وعن أبي عبد الله ، قال: (..... قل يا رب الأرباب، ويا ملك الملوك، وياسيد السادات، ويا جبار الجبابرة، ويا إله الآلهـة، صل على محمد وآل محمد وافعـل بي كذا وكذا .....) ( ).
وفي الدعاء القدسي: (..... بسم الله مخرجى ..... توكلت على الإله الأكبر، توكل مفوض إليه .....) ( ).
في الحديث القدسي: (..... يا محمد من أراد الخروج من أهله لحاجة في سفر فأحب أن أوديه سالماً مع قضائي له الحاجة فليقل حين يخرج: بسم الله مخرجي وبإذنه خرجت وقد علم قبل أن أخرج خروجي وقد أحصى بعلمه … توكلت على الإله الأكبر الله .....) ( ).
وقطعاً ليس المقصود الآلهة الباطلة التي لاحظ لها من الكمال أو من ألّه نفسه من الخلق بالباطل ، بل المقصود هنا من اتصفوا بصفة اللاهوت أي إنهم على درجة عالية من الكمال فيأله لهم بقية الخلق ليسدوا نقصهم فهم صورة الله سبحانه، فإله الآلهة، والإله الأكبر تعني: أن هناك من اتصفوا بصفة اللاهوت من حيث إنهم على درجة من الكمال تؤهلهم أن يأله لهم بقية الخلق لطلب الكمال، ولكنه سبحانه لايقرن بهم لأنه غني وهم فقراء محتاجون إليه سبحانه وتعالى.
قال : (لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل) ( ).
وقالوا أيضاً: (لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن هو ، وهو هو ونحن نحن) ( ).
وهذا المعنى موجود في القرآن ورد في تفسير القمي حول خروج القائم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾( )، قال : (من زعم أنه إمام وليس هو بإمام) ( ).
وعن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عما يروون أن الله خلق آدم على صورته، فقال: (هي: صورة، محدثة، مخلوقة واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة، فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾) ( )، وصورة الله التي خلق عليها آدم هو محمد ؛ لأنه المخلوق الأول والتجلي الأول والظهور الأول في الخلق وخليفة الله الحقيقي ( )، ومعنى أنه صورة الله أي إنه ظهور وتجلي اللاهوت في الخلق، فمحمد هو صورة اللاهوت المطلق في الخلق فمن أراد معرفة اللاهوت المطلق يعرفه بصورته في الخلق أو الله في الخلق محمد .
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾( )، وقال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾( ).
والذي يأتي في ظل من الغمام هو محمد (الله في الخلق) في الرجعة وبيده حربة من نور فيقتل إبليس (لعنه الله)، فتعالى سبحانه عن الإتيان والمجيء والذهاب أو الحركة وهي من صفات الخلق.
عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (إن إبليس قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فأبى الله ذلك عليه، قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، فإذا كان يوم الوقت المعلوم ظهر إبليس لعنه الله في جميع أشياعه منذ خلق الله آدم إلى يوم الوقت المعلوم، وهي آخر كرة يكرها أمير المؤمنين .
فقلت: وإنها لكرات ؟ قال: نعم إنها لكرات وكرات، ما من إمام في قرن إلا ويكر معه البر والفاجر في دهره حتى يديل الله المؤمن من الكافر، فإذا كان يوم الوقت المعلوم كر أمير المؤمنين في أصحابه و جاء إبليس في أصحابه، ويكون ميقاتهم في أرض من أراضي الفرات يقال له الروحا قريب من كوفتكم، فيقتتلون قتالاً لم يقتتل مثله منذ خلق الله عز وجل العالمين، فكأني أنظر إلى أصحاب علي أمير المؤمنين قد رجعوا إلى خلفهم القهقرى مائة قدم، وكأني أنظر إليهم وقد وقعت بعض أرجلهم في الفرات، فعند ذلك يهبط الجبار عز وجل ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ رسول الله بيده حربة من نور، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقرى ناكصاً على عقبيه، فيقولون له أصحابه: أين تريد وقد ظفرت؟ فيقول: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، فيلحقه النبي فيطعنه طعنة بين كتفيه فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه، فعند ذلك يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً، ويملك أمير المؤمنين أربعاً وأربعين ألف سنة حتى يلد الرجل من شيعة علي ألف ولد من صلبه ذكراً، وعند ذلك تظهر الجنتان المدهامتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء الله) ( ).
أي إن الرواية تبين بوضوح أن هبوط ونزول وإتيان محمد هو هبوط الله سبحانه وتعالى عن الإتيان والهبوط فالمراد من قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾( )، أي هل ينظرون إلا أن يأتيهم محمد المظلل بالغمام، فالآية في محمد وآل محمد ، ومنهم أمير المؤمنين علي والقائم .
عن عبد الواحد بن علي، قال: قال أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) : (أنا أؤدي من النبيين إلى الوصيين، ومن الوصيين إلى النبيين، وما بعث الله نبياً إلا وأنا أقضي دينه وأنجز عداته، ولقد اصطفاني ربي بالعلم والظفر، ولقد وفدت إلى ربي اثنتي عشرة وفادة فعرّفني نفسه، وأعطاني مفاتيح الغيب - ثم قال: يا قنبر من على الباب (بالباب) ؟ قال: ميثم التمار - ما تقول أن أحدثك فإن أخذته كنت مؤمناً وإن تركته كنت كافراً، (ثم) قال: أنا الفاروق الذي أفرق بين الحق والباطل، أنا أدخل أوليائي الجنة و أعدائي النار، أنا قال الله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ ) ( ).
وأيضاً قائم آل محمد يأتي في ظل من الغمام أي العذاب الذي يرافق المهدي الأول ويغطي الأرض بالغمام وبسحب الدخان ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾( ).
وعن جابر، قال: قال أبو جعفر في قول الله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾، قال: (ينزل في سبع قباب من نور لا يعلم في أيها، هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل) ( ).
وقال أبو جعفر : (إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق فهذا حين ينزل وأما ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر) ( ).
والوسم على الخرطوم المقصود به ما يفعله القائم أو دابة الأرض ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾( ).
والغمام أو السحاب والدخان باعتباره آية لرسول الله محمد ، وباعتباره آية ترافق المهدي الأول وقائم آل محمد أو المنقذ العالمي، ليس في القرآن فقط بل هو موجود في الأديان السابقة وبشر به الأنبياء السابقون، وهناك شواهد كثيرة في التوراة والإنجيل عليه ( ).
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِـهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِـينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾( ).
فالآية تقول: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾، وهم في الواقع الخارجي كانوا يظنون أن حصونهم تمنعهم من محمد ؛ لأنهم في الظاهر يؤمنون بالله فهم أهل كتاب سماوي وأتباع نبي من أنبياء الله وهو موسى ، والذي انتصر عليهم وحطم حصونهم وأتاهم من حيث لم يحتسبوا هو محمد ، بل وهو بحسب الظاهر من قذف في قلوبهم الرعب عندما قلع أبواب حصونهم وقتل أبطالهم، بل إن المنفذ والمباشر كان علي أمير المؤمنين كما يعلم الجميع، وغير بعيد على كل مسلم أن علياً هو قالع باب خيبر وقاتل مرحب بطل اليهود.
وقال تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾( )، هؤلاء في هذه الآية هم أهل كتاب ويدعون أنهم مؤمنون بالله، فكيف يتصور أحد أن يقولوا عن الله الذي يعتقدون به إنه فقير هكذا بألسنتهم.
والله، إنهم ما قالوا إن الله فقير، بل قالوا عن الأنبياء والرسل إنهم فقراء وعيروهم بهذا، فقال العلماء غير العاملين ومقلدوهم بألسنتهم أو بأفعالهم في كل زمان عن الأنبياء والأوصياء لو كانوا مع الله لأغناهم الله، ولما كانوا يحتاجون لأنصار ولأموال ولأسلحة للدفاع عن عقيدتهم، واعتبروا أن كثرة أموال وأنصار العلماء غير العاملين تأييداً ودليلاً أنهم على الحق، فحكى الله سبحانه وتعالى قولهم هكذا: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ فجعل قولهم عن أنبيائه إنهم فقراء أنهم قالوا إن الله فقير ، وفي زمن الرسول محمد قالـوا إن محمداً فقير ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا .....﴾( )، في حين أن الله نقل قولهم إنهم قالوا إن الله فقير، أي إن قولهم إن محمداً فقير هو نفسه قول إن الله فقير؛ لأن محمداً هو وجه الله سبحانه وهو الله في الخلق.
عن الباقر في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ﴾، قال : (هم يزعمون أن الإمام يحتاج منهم إلى ما يحملون إليه) ( ).
وعن الصادق في قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ﴾ قال: والله ما رأوا الله تعالى فيعلموا أنه فقير ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء) ( ).
وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ﴾ ( )، وهذا السجود كما هو لآدم فهو أيضاً لمحمد وعلي والزهراء والأئمة ، وكونهم مقصودين بالسجود باعتبارهم قبلة الله سبحانه وتعالى فبهم يعرف الله وهم وجه الله وهم أسماؤه الحسنى، فهم الله في الخلق كما ورد في الحديث عن أسود بن سعيد، قال: كنت عند أبي جعفر فأنشأ يقول ابتداء من غير أن يُسئل: (نحن حجة الله ونحن باب الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده) ( ).
وعن الحارث بن المغيرة النصري، قال: سُئل أبو عبد الله عن قول الله تبارك وتعـالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾( )، فقال : (ما يقولون فيه ؟ قلت: يقولون يهلك كل شئ إلا وجه الله، فقال: سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عني بذلك وجه الله الذي يؤتى منه) ( ).
وعن أبي جعفر ، قال: (نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمداً ، ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا .....) ( ).
عن أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا ، قال: (قال النبي : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله تعالى، ودرجة النبي في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه: إن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله تعالى ؟ فقال : يا أبا الصلت، من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته، وقال الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾( )، وقال عز وجل: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ ) ( ).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾( )، قَالَ : (نَحْنُ وَاللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادِ عَمَلًا إِلَّا بِمَعْرِفَتِنَا) ( ).
وَعَنِ الرِّضَا أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا نَزَلَتْ بِكُمْ شَدِيدَةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾ ) ( ).
وعَنِ الرِّضَا ، قَالَ: (إِذَا نَزَلَتْ بِكُمْ شِدَّةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نَحْنُ وَاللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَتِنَا قَالَ فَادْعُوهُ بِها) ( ).
وهذا هو الاتصاف بصفة الألوهية في الخلق أي أنهم عباد الله سبحانه وتعالى وبأمره يعملون ﴿تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾( )، ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾( ).
وهؤلاء العباد على درجة عالية من الكمال بحيث أنهم يقومون بخلافة الله سبحانه وتعالى حق خلافته، فإذا تم بعثهم واستخلافهم في هذا العالم فهم يقومون مقام الله سبحانه وتعالى بحوله وقوته وبإذنه، فهم يدبرون هذا العالم بقوة الله ووفق ما علمهم الله فهم لا يشاؤون إلا ما يشاء الله، وقلوبهم أوعية لمشيئته سبحانه وتعالى، فالإرسال بعد بعثهم منهم (صلوات الله عليهم)، فمحمد خاتم الأنبياء والمرسلين من الله سبحانه وتعالى أما بعد بعثه فالإرسال منه صلوات الله عليه باعتباره الله في الخلق، فهو صورة الله التامة وأسماء الله الحسنى ووجه الله وكلمته التامة (..... وبكلمتك التي خلقت بها السماوات والارض ..... وبشأن الكلمة التامة ..... وأسألك بكلمتك التي غلبت كل شيء .....) ( )، وهو صلوات الله عليه ظهور الله في فاران (مكة) (..... وبطلعتك في ساعير وظهورك في جبل فاران .....) ( )، كما كان عيسى طلعة الله في ساعير ، والطلعة هي الإطلالة والظهور الجزئي، فكان عيسى ممهداً لمحمد .
فإرسال محمد للأئمة هو نفس إرسال الله سبحانه وتعالى لموسى ولهذا كان محمد خاتم الأنبياء والمرسلين أي من الله، فهو صلوات الله عليه الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل، وهذا هو سر ختم النبوة التي تخبط في سر ختمها علماء المسلمين وإلا فلا معنى لختم الإرسال والنبوة مع أن الحاجة هي هي لم تتبدل بعد بعث الرسول محمد ، بل ربما كانت الحاجة في بعض المواطن بعد بعث الرسول محمد أعظم، فالحالة أسوء وأكثر فساداً وظلماً وظلاماً وجاهلية، ولا تقوم الساعة - أي قيام القائم- إلا على شرار خلق الله، وقد نبأ الرسـول أن الحالة ستسوء من بعده ، إذن فالأئمة الإثنا عشر كانوا يقومون مقام أنبياء الله ورسله الماضين في هذه الأمة ولكن مرسلهم هو محمد ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ ( ).
عن جابر عن أبي جعفر ، قال: سألته عن تفسير هذه الآية: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾، قال : (تفسيرها بالباطن، أن لكل قرن من هذه الأمة رسولاً من آل محمد يخرج إلى القرن الذي هو إليهم رسول، وهم الأولياء وهم الرسل، وأما قوله: ﴿فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾، قال: معناه إن الرسل يقضون بالقسط وهم لا يظلمون كما قال الله) ( ).
فالرسول محمد والأئمة أيضاً قاموا مقام الله في الخلق فهم رسل وهم مُرسِلين، فمحمد رسول الله سبحانه وتعالى، ومحمد مُرسِل للأئمـة أيضاً، والإمـام المهدي رسول من محمد الله في الخلق أو وجه الله، والإمام المهدي مُرسِل للمهديين الإثنى عشر من ولده، وهو بهذا يكون أيضاً في مقام محمد أي الله في الخلق أو وجه الله سبحانه وتعالى، ولا تتوهم أن اتصاف محمد وأهل بيته بصفة ألوهية هي بعينها ألوهية الله سبحانه وتعالى، بل إن هذا الامر لا يخرجهم عن كونهم خلقاً فقراء لهم حدود مقيدون بها، وألوهيته سبحانه وتعالى ألوهية مطلقة، فاتصاف محمد وآل محمد بصفة الألوهية وإن كان الفقر لا يكاد يميز فيها ولكنها محتاجة وفقيرة له سبحانه وتعالى، فهم صلوات الله عليهم يكادون أن يكونوا أغنياء ولكنهم فقراء ومساكين الله سبحانه وتعالى ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾( ).
الله في الخلق
لما خلق الخلق سبحانه وتعالى واجههم بالأسماء والصفات، وهذه هي مدينة الكمالات الإلهية أو الذات أو الله، وهذا الاسم أطلق على تجلي وظهور الحقيقة للخلق فهو ليس الحقيقة بل حجاب الحقيقة، فالحقيقة: هي الاسم الأعظم الأعظم الأعظم، وهذا الاسم قريب من الاسم الأعظم كقرب سواد العين من بياضها كما ورد عن الإمام في الحديث.
وهذا الاسم (الله)، هو الاسم الجامع لكل صفات الكمال، فالتوجه إليه هو توجه إلى كل صفات وأسماء الكمال وهذا التوجه لا يخلو من الشرك في مرتبة ما؛ لأن تمام الإخلاص في التوحيد هو نفي الأسماء والصفات كما قال أمير المؤمنين : (..... أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف) ( ).
وقال الكاظم : (أول الديانة به معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة) ( ).
وقال الرضا : (أول الديانة معرفته، وكمال المعرفة توحيده، وكمال التوحيد نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة) ( ).
فهذا الاسم (الله) الجامع لصفات الكمال والمشير إلى الذات هو حجاب يجب أن يسعى العبد إلى رفعه بالتحلي بصفات الكمال الإلهية، وعندها يكشف الغطاء للعبد ليعرف الحقيقة، وتمام معرفة الحقيقة هو العجز عن المعرفة، فضمير الغائب المعبر عن الحقيقة أو الإسم الأعظم الأعظم الأعظم (هو) فالهاء لإثبات الوجود والواو لبيان غيبته فهو الشاهد الغائب سبحانه وتعالى.
أما في مرتبة ما دون الذات الإلهية أو الله أي في مراتب الخلق والتنـزل فإن مراتب التجلي أو المقامات عشرة هي: سرادق العرش الأعظم، والعرش الأعظم، والكرسي، ثم العرش العظيم، وفيه سبع مراتب أو مقامات هي السماوات السبعة تنـزلاً من السابعة إلى السماء الأولى أو الدنيا.
وخير خلق الله محمد يمتد بصفحة وجوده من سرادق العرش الأعظم إلى السماء الدنيا، فأول مراحل التجلي هي: النقطة الأولى (البرزخ) أو سرادق العرش الأعظم، ثم مرحلة التجلي الثانية هي وعاء النون أو العرش الأعظم، ثم مرحلة التجلي الثالثة وهي وعاء الباء أو الكرسي، ثم مرحلة التجلي الرابعة وهي النقطة الثانية في الخلق، وجميع هذه المراحل الأربعة هي محمد فهو نقطة النون والنون، وهو الباء ونقطة الباء، أو قل هو الفيض النازل من الحق إلى الخلق، وهو أي محمداً في المراحل الثلاث الأولى (سرادق, العرش, الكرسي) برزخ بين الحق والخلق فهو يخفق فساعة لا يبقى إلا الله الواحد القهار وساعة يعود إلى الأنا والشخصية، أما في مرتبة العرش العظيم فهو مستقر في الخلق وهو عبد الله.
ويجب الالتفات إلى أن النقطة الأولى هي القرآن وهي الحجاب الذي بين محمد وبين الله (كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق) وعند الفتح (فنظر في مثل سم الإبرة) ( )، قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾( )، رفع هذا الحجاب بأن احتواه محمد فأصبح القرآن ومحمد واحداً، وهو يخفق بين فناء فلا يبقى إلا الله الواحد القهار وبين عودة الأنا والشخصية الإنسية.
فإن عرفنا ما تقدم تبين لنا أن محمداً هو مرتبة البرزخ بين الحق والخلق، ولذلك توهم به لما رآه ابراهيم والملائكة وظنوا أنه الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنه صورة تحاكي الذات الإلهية وتظهر اللاهوت المطلق للخلق ليعرفوا (..... وبطلعتك في ساعير وظهورك في جبل فاران .....) ( )، وقال : (الله خلق آدم على صورته) ( ).
فهو الله في الخلق وكذلك أهل بيته في مرتبة دون مرتبة الرسول الأعظم صلوات الله عليه، فهم أيضاً وجه الله وأسماء الله الحسنى، فهم يمثلون الله في الخلق وكل منهم يؤله إليه ويقصد في قضاء الحاجات وسد النقص وبلوغ الكمال، فهم على درجة عالية من الكمالات الإلهية ولكنها مقيدة بالحاجة والفقر لله سبحانه وتعالى، أما ألوهيته سبحانه وتعالى فهي ألوهية مطلقة وهي كمال وغنى مطلق وعطاء وفيض غير مقيد إلا بمشيئته سبحانه وتعالى.
وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا المعنى، قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾( )، أي أن هناك خالقين وهو سبحانه وتعالى أحسنهم وأفضلهم، وهؤلاء هم محمد وآل محمد ، وفي الدعاء: (..... يارب الأرباب وإله الآلهة .....) ( ).
وكذلك ورد: (..... الإله الأكبر .....) ( )، وهذا من أدعية السر وهي واحد وثلاثون دعاء لحوائج الدنيا والآخرة مسندة متصلة وصحيحة السند، مذكورة في مصباح المتهجد، ومصباح الكفعمي، والبحار، وذكرها الحر العاملي في الجواهر السنية.
وفي الحديث القدسي في فضلها: (يا محمد، قل للذين يريدون التقرب إلي إعلموا علم اليقين أن هذا الكلام أفضل ما أنتم متقربون به إلي بعد الفرائض) ( ).
ولا شك أن ورود الإله الأكبر في الدعاء القدسي وهو من الله سبحانه وتعالى ونظير القرآن الكريم يدل بشكل يقيني قاطع لمن أراد النص على ما قدمت، حيث أن مخاطبة الله سبحانه وتعالى بالإله الأكبر دال على أن خلقه سبحانه يتصفون بصفة اللاهوت؛ وذلك لأن الأكبر صفة تفضيل دالة على وجود الأقل عند ذكرها وإلا فلا معنى لورودها في الكلام، فأفعل التفضيل أو صفات التفضيل دالة على المشاركة وزيادة كما هو بين وواضح، وقد ذكره علماء اللغة العربية بل هو بين لكل من قرأ الدعاء وتمعن فيه.
بين الله سبحانه وتعالى ووجه الله أو الله في الخلق
محمد عبد الله ورسوله، ليس في هذا العالم السفلي الجسماني فقط بل هو رسول الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق بقية الخلق، والرسول إذا كان وجه المُرسِل وصورة المُرسِل، قال الإمام الباقر : (نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمداً ، ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا ...) ( ). وفي الحديث: (الله خلق آدم على صورته) ( ).
والرسول إذا كان أمره أمر المُرسِل - قال الإمام المهدي : (قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء الله شئنا، والله عز وجل يقول: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾( ) ) ( ) - كان إرسال الرسول هو إرسال المُرسِل ومواجهة الرسول هي مواجهة المُرسِل، ومن هنا يتبين أن جميع الأنبياء والمرسلين من الله سبحانه وتعالى هم مُرسَلين من محمد إسرائيل أو عبد الله ووجه الله أو الله في الخلق، فالأنبياء والمُرسَلون واجهوا الله في الخلق وهو محمد ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾( )، ومعلمهم هو الله في الخلق وهو محمد ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾( )، بل إن مواجهتهم لم تكن إلا مع باب محمد وهو علي ، فعن أبي جعفر عن آبائه قال: (قال رسول الله : أنا مدينة العلم وهي الجنة، وأنت يا علي بابها، فكيف يهتدي المهتدي إلى الجنة ولا يهتدي إليها إلا من بابها) ( ).
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله : (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب) ( ).
وفي الكافي عن أبي عبد الله الصادق ، قال: قال رسول الله : (أنا المدينة وعلي الباب، وكذب من زعم أنه يدخل المدينة إلا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً ) ( ).
وعنه : (أنا مدينة العلم (الحكمة) وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها) ( ).
فمحمد هو مَن عرَف الله وعرَّف الخلق بالله ولم تتم المعرفة إلا من باب محمد وهو علي، ومحمد هو البرزخ بين الحق والخلق (يخفق بين الإنسانية والفناء في الذات الإلهية)، وعلي هو الإنسان الأول في الخلق، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾( )، فالبشر هو علي والحجاب هو محمد، وأيضاً البشر هم الأئمة والحجاب علي والمتكلم محمد أو الله في الخلق، وأيضاً البشر هم الأنبياء والمرسلون والحجاب هم الأئمة والمتكلم علي أو الرحمن في الخلق، قال علي الإمام الذي ظلمه حتى من يدَّعون موالاته: (أنا أؤدي من النبيين إلى الوصيين، ومن الوصيين إلى النبيين، وما بعث الله نبياً إلا وأنا أقضي دينه وأنجز عداته، ولقد اصطفاني ربي بالعلم والظفر، ولقد وفدت إلى ربي اثنتي عشرة وفادة فعرفني نفسه وأعطاني مفاتيح الغيب)( ).
فيمكن أن نقول: إن علياً هو من كلم موسى ، بل إن من كلم موسى من آل محمد يأتمر بأمر علي ، وعلي يأتمر بأمر محمد ، ومحمد يأتمر بأمر الله سبحانه وتعالى.
عن علي أمير المؤمنين : (.... وعقدت الراية لعماليق كردان، ....، فتوقعوا ظهور مكلم موسى من الشجرة على الطور، فيظهر هذا ظاهر مكشوف، ومعاين موصوف ....)( ).
قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾( )، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾( ).
فكما أن المتوفي هو الله في كل تلك الأحوال كذلك فإن المتكلم هو الله في كل تلك الأحوال، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( ).
فتنـزه سبحانه وتعالى أن يكلّم بشراً إلا من وراء حجاب، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾( )، فلم يكتب كلام الله سبحانه وتعالى مباشرة ومن غير حجاب إلا في صفحة وجود محمد ولذلك كان علي هو الإنسان الأول والبشر الأول، ومحمد هو الحجاب بين الحق والخلق لفنائه في القرآن، ثم خفقه بين الإنسانية وبين الذات الإلهية فلا يبقى إلا الله الواحد القهار، ولم أقل: فلا يبقى إلا الله الرحمن الرحيم؛ لأن محمداً هو الرحمة في الخلق فإذا فني في الذات الإلهية لم تبق إلا النقمة والقهر، حيث إن نظر الله سبحانه وتعالى إلى محمد ، قال تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.
* * *
Comment