إصدارات أنصار الإمام المهدي / العدد (1- ب)
العِجْــل
(الجزء الثاني)
المذنب المقصر
أحمد الحسن
طبعة محققة
الطبعة الثالثة
1431هـ - 2010 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
أنصار الإمام المهدي (ع) اتباع الإمام احمد الحسن اليماني (ع) - انصار الامام المهدي (ع)
تقديم
أنصار الإمام المهدي
صوت مدوٍ وصرخة لابد أن تمر بها الدعوة الإلهية، صوت هدم وبناء، بيان وعمل، لابد أن يقوم داعية الله بها، يقوم بالهدم والتحرّك ضد قوى الضلالة، لابد من نسف العجل؛ ولذا كانت الدعوة السرية لحركة أنصار الإمام المهدي - أعني حركة ناصر آل محمد ويمانيهم السيد أحمد الحسن - تتطلب منه العمل على تحطيم العجل؛ ليتسنى للمجتمع بعدها العودة إلى جادة الحق.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ ( ).
ولذا بادر إلى كتابة كتاب العِجل، ومن ثم كان أول إصدارات أنصار الإمام المهدي، وهو دعوة موجهة إلى هذا المجتمع المُعرِض كل الإعراض عن محمد وآل محمد ، فما زال الرجل يدعوهم ليلاً ونهاراً، جهراً وإسراراً، حتى أعذر فيهم.
هذا وقد نشره السيد مخطوطاً في فترة الدعوة السرية بين طلبة النجف الأشرف؛ إذ رفض أصحاب المطابع طباعته؛ لما امتاز به من تحطيم العِجل كيفما كان، وأينما حل، سواء في هذا الحكام الفراعنة الفجرة أو فقهاء الدين الخونة.
ويستطيع القارئ أن يلتمس الأمر العظيم في الكتاب - أي إنّ السيد مرسل من الإمام المهدي - من خلال الآية التي ساقها السيد في ختام المقدّمة، حيث أورد التحصين ثم الآية القرآنية الكريمة، فقال:
(تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي القدرة والجبروت، واستعنت بذي العزة واللاهوت، من كل ما أخاف وأحذر، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي و محمد و علي والحسن ومحمد ، والحمد لله وحده).
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ ( ).
فيا من تدعون الولاية لعلي بن أبي طالب وأبنائه ، بم عرفتم حق علي بن أبي طالب؟!
أرجعوا لأنفسكم وانظروا في الأدلة التي تحتجون بها على غيركم من أبناء العامة؟! أليست هي بعينها التي رفعها السيد أحمد الحسن .
إنّ للرجل حقاً عظيماً، انظروا الأحاديث التي تكلمت عنه، ومنها حديث الأصبغ بن نباته في حديثه مع أمير المؤمنين ، فعلي وهو علي شغلته هذه الشخصية حتى أخذت لبه، وأجال فيها ذهنه، أنصت للحديث وتدبره جيداً فإنّك مسؤول عنه يوم القيامة.
قال الأصبغ بن نباته: أتيت أمير المؤمنين علياً ذات يوم فوجدته مفكراً ينكت في الأرض، فقلت: (يا أمير المؤمنين تنكت في الأرض أرغبة منك فيها؟ فقال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا ساعة قط، ولكن فكري في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، تكون له حيرة وغيبة، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: يا أمير المؤمنين فكم تكون تلك الحيرة والغيبة؟ قال: ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين، فقلت: إنّ هذا لكائن؟ فقال: نعم كما أنه مخلوق، قلت: أدرك ذلك الزمان؟ فقال: أنى لك يا أصبغ بهذا الأمر، أولئك خيار هذه الأمة مع أبرار هذه العترة، فقلت: ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال: يفعل الله ما يشاء، فإنّ له إرادات وغايات ونهايات) ( ).
فعاودوا رشدكم وتفكّروا فإنّ تفكر ساعة خير من عبادة ألف عام.
فأين يراد بكم، بل أين تذهبون، كيف بكم غداً في ساحة العرض على الإمام المهدي في القيامة الصغرى، وما الجواب الذي تجيبونه به؟ كيف بكم عند الحسيب الرقيب يوم القيامة الكبرى، وما الحجة لديكم؟! أتقولون لم يصلكم حديث أهل البيت فيه! أم تقولون إنهم لم يصفوه أو يسموه! أم إنّه لم يدع إلى كتاب الله وسنة الأطهار من آل بيته ! أم تقولون أنّه لم يبلغ البلاغ التام ولم يخبر عن نفسه!
بم تعتذرون حينما يعيد عليكم ما قاله اليوم: (ووالله لولا أنّ الله كتب على المؤمنين إنكار المنكر، ولولا أني اطلعت على كثير من الحقائق التي ملأت كبدي قيحاً، سواء من الحكام المفسدين أم من علماء السوء الفاسدين - ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ ( ) - لألقيت حبلها على غاربها، ولما اخترت هذه المواجهة الدامية، مع ألوف مؤلفة مسلحة، بكل أنواع الأسلحة المادية والعسكرية والإعلامية).
نعم فإنّ رسول الله بلغ بأوصيائه إلى قيام الساعة، ولكن لابد من التمحيص. وكما قال سيدي ومولاي في هذا الكتاب: (هذا والنبي لم يترك المسلمين في حياته دون أن يوجههم إلى القيادة من بعده، وإلى الأوصياء من ولده حيث أمره الله سبحانه بذلك. ولكن لابد من الفتنه للتمحيص، ولابد من السامري، ولابد من العجل).
وفي الختام أقول: إنّ هذا الكتاب صرخة بوجه الأمة أن عودي لرشدك وانتبهي لأمرك، وارجعي لكتاب الله وسنة نبيه لتحظي بعيشة السعداء وميتة الشهداء كما ضمن الرسول لنا ذلك، ودعي فراعنة الزمان من حكام خونة وفقهاء فسقة فـ مع الأسف كثيرون يعدون أنفسهم علماء مع أنّهم لا يحسنون تفسير سورتين من القرآن الكريم، على ما ورد عن آل محمد . ولم يقرؤوا إلاّ اليسير من روايات المعصومين مقتصرين على بعض الروايات الفقهية في الغالب. فبماذا يعدون أنفسهم علماء، أبالمنطق الذي وضعه أرسطو قبل آلاف السنين، وربما يوجد من الملاحدة من هو أعلم به منّا، أم بالمجادلات والإشكالات المنطقية وغيرها الخالية من ثمرة علمية أو عملية، ولا تعدوا كونها ترفاً علمياً وضياعاً للوقت؟!! ألسنا نروي عن رسول الله ما معناه: (إنّ المرء يحاسب عن عمره فيما أفناه) ( ).
والحمد لله أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً
خادم الأنصار الأحقر
ضياء الزيدي
هذه الطبعة
بلطف الله وعنايته تفضل علي سيدي ومولاي السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي متكرماً عليّ بان أقوم بمهمة تصليح كتاب العجل؛ وذلك لاحتواء طبعته الأولى على أخطاء مطبعية كثيرة جداً، وهذه الأخطاء غيرت المعاني كثيراً، بل إنّ هناك مواضع حذفت فيه آيات قرآنية، أو روايات، وقد يصل النقص في الطباعة إلى سطر أو عدة أسطر مقارنة بالنسخة الخطية.
والحمد لله تم تصليح ما أمكن تصليحه، سائلاً الله أن تكون هذه الطبعة قليلة الأخطاء. وتم تغير الكتاب شكلاً، فبدلاً من أن يكون كتاباً واحداً يحتوي على جزئيين كما هو الحال في الطبعة الأولى، أصبح كتابين كل جزء كتاب منفصل، وأسال الله العلي القدير أن يتقبل منا هذا العمل القليل، وأساله سبحانه وتعالى أن يثبتنا مع رسول الإمام المهدي ووصيه وخليفته وولده حتى نتمكن من الثبات بين يدي الإمام .
(اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ظللت عن ديني).
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل عمران: 53.
السيد صالح الموسوي
الإهــداء
إلى حملة كلمة لا إله إلا الله ...
إلى من حملوا أكفانهم وساروا إلى الله ...
إلى الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام ...
أيها السادة الكرام
هذا المسكين يهديكم السلام ويهديكم هذه البضاعة المزجاة
ويقول وقلبه مفعم بتوحيد الله والتسليم لكم
لقد مسنا وأهلنا الضر فتصدقوا علينا أن الله يجزي المتصدقين
أحمد الحسن
27 شوال 1421 هـ . ق
المقدمة
والحمد لله رب العالمين، الذي قال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ ( ).
وصلى الله على الأنبياء والمرسلين وعلى خاتمهم المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الغر الميامين، وعلى خاتمهم الذي سيبعث نقمة على الكافرين.
قدّمت في الجزء الأول إنّ هذا البحث هو: نظرة من خلال قصص الأنبياء والمرسلين والأمم الغابرة إلى حال المسلمين في الحاضر وفي المستقبل المرتقب فيه ظهور الإمام المهدي . كما أنّه دعوة للإصلاح ولمراجعة المسيرة، وخصوصاً لمن يدّعون تمثيل الإمام المهدي . وهو دعوة للاستعداد لنصرة الإمام المهدي وتجنب الوقوف ضدّه، سواء مع الطواغيت كالسفياني، أو مع علماء السوء السامريين. وقد توخيت فيها أن ألزم جانب اللين والرحمة، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ( ).
فالواقع الإسلامي اليوم مخزٍ، والحال مرير، ولابدّ من الإصلاح، ولابدّ أن يتصدّى مؤمنون لهذا الإصلاح. ومن الطبيعي أن تكون هناك تضحيات في صفوف السائرين على هذا النهج الشريف، الذي هو كالسير على الجمر.
فعن الإمام الباقر ، قال: (قال رسول الله ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللهم لقني إخواني مرتين. فقال من حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنّكم أصحابي، وأخواني قوم في آخر الزمان، آمنوا ولم يروني، لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد - أي الشوك - في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا ( )، أولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة) ( ).
فمن الصعب أن تقف بوجه الطواغيت و علماء السوء السامريين تقارعهم وتقاتلهم ويدك خالية حتى من حجر تدافع به عن نفسك، ولا ناصر ولا معين. وفي أيديهم أسلحة ودبابات وصواريخ وآلة إعلامية ضخمة، وأسماء رنّانة صرفت أموال طائلة لإحاطتها بهالة من القدسية الزائفة، وأموال طائلة تغدق على من يعبدهم من دون الله ويطبل ويزمر لهم ويسميهم زعماء وعلماء.
ولكن لي ولإخواني المؤمنين بموسى وهارون أسوة، عندما قارعا فرعون وهامان وقارون والسامري وبلعم بن باعورا (لعنه الله) الظاهر بلباس العالم العابد الناسك.
ولنا بعيسى عندما قارع قيصر وبيلاطس وجيوش الرومان وعلماء بني إسرائيل الضالين أسوة. ولنا بمحمد عندما قارع الطواغيت وعلماء السوء أسوة. ولنا بآل محمد عندما قارعوا طواغيت بني أمية وبني العباس وعلماء السوء السامريين في هذه الأمة أسوة.
ووالله لولا أنّ الله كتب على المؤمنين إنكار المنكر، ولولا أني اطلعت على كثير من الحقائق التي ملأت كبدي قيحاً، سواء من الحكام المفسدين أم من علماء السوء الفاسدين - ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ ( )- لألقيت حبلها على غاربها، ولما اخترت هذه المواجهة الدامية مع ألوف مؤلفة مسلحة بكل أنواع الأسلحة المادية والعسكرية والإعلامية. وليس بين يدي إلاّ أن أقول: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ ( ).
أيّها الأحبة إني لماّ تدبرت طويلاً وصية أمير المؤمنين وجدته يقول: (والله ما فاجئني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلاّ كقارب ورد ( )، وطالب وجد، وما عند الله خير للإبرار) ( ).
ووجدت أنّ العاقل اللبيب المطيع لله الموتُ أحب إليه من الحياة. وما عند الله خير للإبرار. جعلني الله أنا الحقير المسكين ممن يتمرّغون في تراب وطئوه، وممن يسلك الصراط المستقيم الذي سلكوه. وإنّي لما تدبرت طويلاً حال الأنبياء والأوصياء وعباد الله المخلصين في القرآن وفي سيرتهم، وجدتهم أصحاب غيرة وأنوف حمية، تأبى اختيار طاعة الطاغوت والخضوع له، بل وجدتهم يقتلون ويقطّعون ويصلبون بعز وكرامة دونما لحظة خضوع أو مداهنة أو ركون لظالم.
وجدت إبراهيم يحمل فأساً ويكسر الأصنام، ولا يبالي بما سيفعله به الطواغيت وعلماء السوء، حتى يلقى في النار.
ووجدت يحيى يصرخ بوجه هيرودس: إنّك فاجر، حتى يقطع رأسه.
ووجدت الحسين يهتف بوجه يزيد (لعنه الله) إنّك كافر، حتى قتل صحبه وبنو عمه وإخوته وبنوه، فما خضع وما ركن للظالم حتى قتل، ورُفع رأسه على رمح، وسبيت نساؤه. فنصره الله لما نصر دين الله في أرضه.
ووجدت موسى بن جعفر يهتف بوجه طواغيت بني العباس المهدي والهادي والرشيد الضالين: إنّكم كفرة، حتى نقلوه من سجن إلى سجن، ومن طامورة إلى طامورة، فما خضع وما استسلم حتى قتله الرشيد (لعنه الله) في السجن بالسم.
ووجدت موسى بن عمران يقارع فرعون (لعنه الله) وقواته المسلحة بأحدث أنواع الأسلحة في حينها، وليس معه إلاّ عصا شاء الله أن يجعلها آية من آياته.
ووجدت أمير المؤمنين تثخنه الجراح في أُحُد، فلا يزداد إلاّ يقيناً وقوة في دين الله، تزيده قوّة في بدنه، يجندل بها صناديد قريش.
ووجدت حبيب الله محمداً بعد أن تثخنه الجراح، وتكسر رباعيته في وقعة أُحُد، يعود ويكر على المشركين بجمع من أصحابه، معظمهم جرحى يتكئون على قوائم سيوفهم ورماحهم، فيرحم الله سبحانه حالهم ويلقي الرعب في صفوف المشركين فيولون مدبرين بعد أن قرّروا استئصال النبي وأصحابه، فنصره الله دونما قتال.
ثم نظرت إلى حالنا اليوم فوجدت الطواغيت المتسلطين على هذه الأمة، لم يبقوا من الدين إلاّ اسمه، ومن القران إلاّ رسمه، ويا ليتهم تركوه على حاله، بل عمدوا إليه وأهانوه ونجسوه تقرّباً للشيطان الرجيم، وامتثالاً لأوامر السحرة والكهان (لعنهم الله وأخزاهم)، والمسلمون وعلماؤهم صامتون، كأنّ على رؤوسهم الطير، وكأنّ القرآن لا يعنيهم بشيء ( ).
الويل لكم أيّها الصامتون، هذا هو الكتاب الذي لا يمسّه إلاّ المطهرون، هذا هو أحد الثقلين، فكيف خلفتم رسول الله فيه، كيف تسكتون على من ينجسه بدمه الخبيث، أخوفاً من الموت أو القتل؟! أذن لا تمتعون إلاّ قليلاً.
أم تقولون تقية، ويحيى بن زكريا قُتل وقطع رأسه من أجل أمر أقل من هذا بكثير، من أجل زنا بمحرم ( ).
أنتم يا علماء الإسلام، يا من تدعون تمثيل الأنبياء، ماذا بقي بعد الاستخفاف بكتاب الله وتنجيسه؟! ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ ( ).
قال عيسى : (إنكم علماء السوء الأجر تأخذون والعمل تضيعون. يوشك رب العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه) ( ).
لقد نبذ الكتاب حملته وتناساه حفظته، فكفروا به فسوف يعلمون. لقد شُغلوا بدراسة المنطق والنحو وتدريسها عن دراسة كتاب الله وتدريسه، وشُغلوا بتقديس المنطق عن كتاب الله وتقديسه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ ( ).
بماذا ستعتذرون أمام الله عن خذلانكم لكتاب الله بالتقية؟! إذاً لو كنتم في كربلاء لوقفتم مع جيش عمر بن سعد (لعنه الله) وقتلتم الحسين واعتذرتم بالتقية، أو على الأقل لوقفتم جانباً واعتزلتم القتال، واعتذرتم بهذا العذر القبيح، نعم فقتلة الحسين كانوا يدَّعون أنهم شيعة وراسلوا الحسين وادعوا أنهم سينصرونه، فلما وجدوا أنّ نصرته ستفقدهم حياتهم المادية قتلوه ونصروا أولاد البغايا! وخذلوا ابن فاطمة من خستهم والخبث والجبن الذي انطوت عليه نفوسهم. وهكذا أنتم لو خذلتم كتاب الله اليوم، فحتماً ستخذلون غداً ابن الحسين الإمام المهدي.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿المر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ( ). لا يؤمنون بالحق؛ لأنّه مر. ولا يسلكون طريق الحق؛ لأنّهم يستوحشون من السير فيه لقلة سالكيه، ويعجبهم الخبيث لكثرته، كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ﴾ ( ).
بلى سمعوها ووعوها، ولكنهم كما قال أمير المؤمنين : (حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها) ( ). واجتمعوا على جيفة أُفتضحوا بأكلها، ومن حلي في عينه شيء أعشى بصره وأعماه( ).
قال تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ ( ).
بلى مثلهم كالمنافقين في صدر الإسلام، أوقدوا شعلة الإسلام مع الرسول فلما أسلم الناس نافقوا هم وطلبوا الدنيا، فذهب الله بقشورهم الدينية التي غلفوا بها بواطنهم السوداء.
* * *
الانحراف
في الأمة الإسلامية عن الصراط المستقيم
قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ( ).
الانحراف عن الصراط المستقيم وقع حتماً في الأمة الإسلامية، سواء في العقائد أو الأحكام الشرعية: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ ( )، ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ ( ).
وقال رسول الله : (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنة بني إسرائيل) ( ).
والمستفاد من الروايات أنّ أول ما سيقوم به المهدي عند ظهوره وقيامه هو تعديل هذا الانحراف، وإعادة الأمة إلى جادة الصراط المستقيم، وإعادة الإسلام غضّاً طريّاً كما كان في عهد رسول الله ، بعد أن حرّفه أئمة الضلال السامريون.
عن أبي بصير، قال: قال الإمام الصادق : (الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء. فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله. فقال : يستأنف الداعي منّا دعاء جديداً كما دعا رسول الله ) ( ).
وعن الصادق ، قال: (يصنع - أي القائم - ما صنع رسول الله ، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهلية، يستأنف الإسلام جديداً) ( ).
وعن ابن عطاء، قال: (سألت أبا جعفر الباقر فقلت: إذا قام القائم بأي سيرة يسير في الناس؟ فقال : يهدم ما قبله كما صنع رسول الله ، يستأنف الإسلام جديداً) ( ).
عن الباقر ، قال: (إذا قام قائمنا دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا رسول الله ، وإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ( ).
وربما يُظن إنّ الانحراف طال السُـنَّة فقط، باعتبارهم تركوا التمسك بآل النبي الأئمة الاثني عشر ، مما أدّى بهم في النتيجة إلى الانحراف سواء في العقائد أو الأحكام، ولكن الحقيقة إنّ الأحاديث الواردة عن أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم دالة على أنّ الانحراف يطال الجميع قبل قيام الإمام المهدي ، كما أنّ الخلافات في العقائد وفي الأحكام الشرعية وفي طرق استنباط الأحكام الشرعية بين علماء المسلمين سواء بين السنة والشيعة، أو بين علماء كل فرقة أنفسهم دالة على ذلك.
ولهذا فمن الضروري أن نعرف الأمور التي وقع فيها خلاف بين علماء المسلمين ولو بشكل موجز، لكي لا نقع غداً عند ظهور الإمام المهدي فريسة سهلة لأحد أئمة الضلال السامريين، فيصيرنا - بسب جهلنا للحقائق - أعداءً للإمام المهدي ونحن نظن أننا على الصراط المستقيم وأننا نحسن صنعاً، ولهذا فسأحاول عرض بعض هذه الأمور وبشكل موجز، وربما مجمل في بعض الأحيان ومن الله التوفيق.
* * *
أولاً: التحريف في القران الكريم
وردت روايات كثيرة عن أهل بيت النبي دالة على التحريف، كما وردت روايات عن صحابة النبي عن طريق السنة في كتبهم دالة على وقوع التحريف ( ).
والمقصود بالتحريف: أنّ القرآن الذي بين أيدينا غير كامل، وإنّ بعض كلماته تبدلت أو بُدلت بقصد. ورجح بعض علماء المسلمين وقوع التحريف كما رجح بعضهم عدم وقوع التحريف.
ويَستدل القائلون بعدم التحريف بعدّة أمور هي:
1- آية الحفظ: ﴿إِنا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ( ).
وهذه الآية يمكن أن تفسّر بحفظ القرآن من التحريف، وبقائه عند الأمّة سالماً من الزيادة والنقص والتغيير، ومن أن تمتد يد أهل الباطل وأئمة الضلال إليه.
2- قال تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ( ).
وهذه الآية يمكن أن تفسّر بأنّ القرآن محفوظ من ولوج الباطل بين طياته، سواء أكان هذا الباطل بتبدّل بعض الكلمات أو بزيادة أو نقص بعض السور والآيات.
3- الروايات الدالة على التحريف يمكن حمل بعضها على أنّها دالة على التحريف المعنوي، أي التحريف في التأويل لا التنـزيل، وهذا أمر واقع يقرّه جميع المسلمين.
4- إنّ بعض الروايات الدالة على التحريف ضعيفة السند.
5- الروايات التي لا تقبل التأويل والدالة على التحريف اللفظي أو النقص يضرب بها عرض الجدار؛ وذلك لأنّها مخالفة للقرآن، وقد ورد عن المعصومين ما معناه: ما جاءكم عنا مخالف لكتاب الله فدعوه ( ).
6- القرآن المجموع في زمن النبي هو الذي بين أيدينا؛ لأنّ من غير المعقول أنّ رسول الله لم يهتم بكتابة وجمع القرآن في حياته.
ثم جاء بعده أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت ليجمعوه، وجاء بعدهم عثمان ليجمع الناس على مصحف واحد ويحرق أو يتلف البقية التي تختلف عنه بشكل أو بآخر، فيكون الذي بين أيدينا هو المصحف العثماني كما يروي العامة والخاصة.
7- القول بتحريف القرآن يلزم هدم إثبات نبوة محمد اليوم؛ لأنّ القرآن هو المعجز الذي جاء به النبي .
8- مع القول بالتحريف لا يبقى للقرآن الذي بين أيدينا فائدة، ولا يمكن التعويل عليه في العقائد، فضلاً عن الأحكام الشرعية وغيرها.
أمّا أدلة القائلين بالتحريف فهي:
1- الروايات الدالة على التحريف، وهي كثيرة جداً عن طريق الشيعة والسنة، وكمثال على ما روي عن طرق السنة، إنّ رسول الله قال: (من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما نزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) ( ).
وعلى هذا يكون ابن مسعود من خير الصحابة الذين حفظوا القرآن.
ثم إنّهم يروون عن ابن مالك، قال: (أمر بالمصاحف أن تغير، قال: قال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغل مصحفه فليغله، فإنّ من غل شيئاً جاء به يوم القيامة، قال: ثم قال - أي ابن مسعـود -: قرأت من فم رسـول الله سبعين سـورة، أفأترك ما أخذت من في رسـول الله ؟) ( ). وعندهم السند صحيح كما قال أحمد محمد شارح مسند أحمد.
ورواه أبو داود، وابن كثير في التفسير، وروى معناه ابن سعد في الطبقات ( ).
ومعنى الحديث واضح: إنّ ابن مسعود يرى أنّ القرآن الذي كتبه عثمان ناقص، أو حدث فيه بعض التغير على الأقل، فقوله: (أفأترك ما أخذت من في رسول الله )، دال على أنّ ما أخذه يختلف بشكل أو بآخر عمّا كتبه عثمان. وابن مسعود (رحمه الله) ظل مصراً على رأيه ورفضه لما كتبه عثمان حتى قتله عثمان عندما أحرق المصاحف وأحرق مصحفه، وجلده حتى مات بعدها.
والروايات التي وردت في كتب السنة الدالة على نقص القرآن كثيرة، وقد اختاروا اسم نسخ التلاوة للسور والآيات التي وردت عندهم بالروايات، ولم تكتب بالمصحف الموجود اليوم ( ).
أمّا الروايات الواردة عن أهل البيت فهي كثيرة، ولكنّهم أمرونا أن نقرأ كما يقرأ الناس، حتى يقوم القائم منهم صلوات الله عليه وعليهم ( ).
وسئل الشيخ المفيد (رحمه الله) في المسائل السرورية: ما قوله أدام الله تعالى حراسته في القرآن؟ أهو ما بين الدفتين الذي في أيدي الناس، أم هل ضاع مما أنزل الله تعالى على نبيه منه شيء أم لا؟ وهل هو ما جمعه أمير المؤمنين ، أم ما جمعه عثمان على ما يذكره المخالفون؟
فأجاب: (لا شك إنّ الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنـزيله، وليس فيه شيء من كلام البشر، وهو جمهور المنـزّل، والباقي مما أنزله الله تعالى (قرآناً) ( ) عند المستحفظ للشريعة، المستودع للأحكام - أي المهدي -، لم يضْيع منه شيء، وإن كان الذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله في جملة ما جمع، لأسباب دعته إلى ذلك، منها: قصوره عن معرفة بعضه. ومنها ما شك فيه. ومنها ما عمد بنفسه. ومنها ما تعمد إخراجه منه.
وقد جمع أمير المؤمنين القرآن المنـزل من أوله إلى أخره وألّفه بحسب ما وجب تأليفه، فقدم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في حقّه.
فلذلك قال جعفر بن محمد الصادق : (أما والله لو قرئ القرآن كما أُنزل ألفيتمونا فيه مسمين، كما سمي من كان قبلنا) ( ).
وقال : (نزل القرآن أربعة أرباع، ربع فينا، وربع في عدونا، وربع قصص وأمثال، وربع قضايا وأحكام، ولنا أهل البيت فضائل القرآن) ( ).
وقال المجلسي(رحمه الله): (غير أنّ الخبر قد صح عن أئمتنا أنهم أمروا بقراءة ما بين الدفتين، وأن لا نتعدّاها بلا زيادة فيه ولا نقصان منه حتى يقوم القائم فيقرئ الناس القرآن على ما أنزله الله تعالى، وجمعه أمير المؤمنين ) ( ).
2- قيام عثمان بإحراق المصاحف بعد أن اختار أحدها، مع وجود اختلاف بينها، بل وأحرق مصحف عبد الله بن مسعود وأنكر علية قراءته، وضربه حتى مات، مع أنّ رسول الله قال - على ما روي عنه -: (من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد) ( ).
3- اقتفاء سنن الماضين، فاليهود حرفوا التوراة، والمسيح حرفوا الإنجيل، قال تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾( ).
وقد ورد حديث اقتفاء سنن الماضين عن النبي وأهل بيته المعصومين ، والحديث صحيح مستفيض الرواية ( ).
ومعنى اقتفاء سنن الماضين موجود في أرض الواقع، وشيء حاصل بيّن لكل من تصفح التاريخ ولو إجمالاً ( ).
4- آية الحفظ متشابهة، تحتمل وجوه كثيرة من التفسير والتأويل، ومنها: إنّ القرآن محفوظ عند المعصوم .
وهذا الوجه في التفسير تدل عليه الروايات عنهم ( ).
وكذلك الآية الأخرى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾( )، متشابهة تحتمل وجوه.
والعجيب أن يُرجع بعضهم روايات صحيحة السند محكمة الدلالة وردت عن أهل بيت العصمة إلى آيات متشابهة، وهم يدعون فقه القرآن والسنة. فليت شعري المحكم يرجع إلى المتشابه أم المتشابه إلى المحكم؟!
5- لا سبيل لردّ الروايات الصحيحة؛ لأنّ بعضها محكمة في دلالتها على التحريف والنقص، والآيات السابقة متشابهة والمتشابه يرجع إلى المحكم ليفهم معناه لا العكس، كما أنّ تغيير حرف أو كلمة في آية لا يعد، وما في القراءات السبعة من الاختلاف.
ومن هنا فإنّ قبول قراءة المعصوم أولى من قبول قراءة غيره، وعلى أقل تقدير فلتقبل قراءته كقراءة غيره، فلا وجه لحصر القراءات بسبعة مع أنّه توجد قراءات مروية غيرها.
6- القرآن الذي بين أيدينا جمع في زمن أبي بكر وعمر، والدال عليه الروايات عن طريق السنة والشيعة، بل إنّ هذه الحادثة متواترة في التاريخ وكانت هناك عدة مصاحف أحرقها عثمان وجمع الناس على مصحف واحد ( ).
أمّا القرآن الذي جمعه النبي فهو عند علي ، وقد عرضه على القوم ولم يقبلوه وهو عند الإمام الثاني عشر اليوم، والدال عليه روايات كثيرة وردت عن أهل البيت .
عن سالم بن سلمة، قال: قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله : (كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي ). وقال: (أخرجه علي إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، وقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزله الله على محمد وقد جمعته من اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القران لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنما كان عليَ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه) ( ). وفي رواية أخرى عن النبي قبل وفاته أعطى القراطيس التي كتب فيها القرآن لعلي ، وأمر بجمعه وحفظه.
أمّا الإدعاء بأنّ القرآن الذي بين أيدينا جمع في زمن النبي فهي دعوى جزافية لا دليل عليها، بل مردودة بما قدمت.
7- إنّ إثبات النبوة لمحمد بأخلاقه وأمانته وصدقه وسيرته قبل بعثته ومعجزات كثيرة القرآن أحدها. وقد نقل الكثير منها بشكل متواتر من جيل إلى جيل، وفي كتب التاريخ.
ومنها ما كان في ليلة ميلاده كانشقاق إيوان كسرى، وهدم أربعة عشر شرفة من شرفاته، وخمود نيران فـارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغور بحيرة ساوة، وفيض وادي السمـاوة،
وتهافت النجوم على الشياطين بالرجوم، ومنعها من السمع ( ).
ومنها: المقرونة بدعوى النبوة والتحدّي، كانشقاق القمر، وانشقاق الشجر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى بيده، ونبع الماء من أنامله، ونطق الجمادات والحيوانات لأجله، وتسليم الغزال عليه، ونطق اللحم المسموم بين يديه، وكلام ذئب الفلاة لأجله، ودر شاة أم مُعبد، وبرق الصخرة يوم الخندق، وأكل الخلق الكثير من الطعام القليل ( ).
كما أنّ القرآن الذي بين أيدينا عند القائلين بالتحريف هو قرآن من عند الله ولكنّه ليس جميعه، وبهذا يبقى على إعجازه، ويعتمد عليه في العقائد والأحكام وغيرها، مع أنّ إعجاز القرآن مختلف فيه أصلاً كونه البلاغة أو الأسلوب أم الحكم والمواعظ أو الأخبار بالمغيبات أو سلامته من التناقض أو التشريع العادل؟
وربما يقال: جميع هذه الأمور هي إعجاز القرآن. وربما قيل: إنّ إعجازه نفسي باطني.
ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً﴾ ( )، ويؤيده طمأنينة نفس المؤمن عند قراءته، ويؤيده أنّه شفاء للصدور، ويؤيده إنّ بعض آياته إذا قرأت لها تأثير على الموجودات الملكوتية واللطيفة كالجن، بل المادية كجسم الإنسان.
ورد عن المعصومين ما معناه: (إنّ الفاتحة إذا قرأت سبعين مرّة على ميت فلا تتعجبوا إذا قام حياً) ( )، ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾.
وربما لن يظهر هذا الإعجاز بشكل واضح للجميع إلاّ في زمن ظهور القائم ؛ حيث ورد أنّ أصحابه يسيرون على الماء ( )، بل لو تدبّرنا التحدّي في القرآن لوجدناه شاملاً للجميع لأهل العربية وغيرهم، وللإنس والجن: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ ( ). فلو كان الإعجاز في تركيب الألفاظ أي بالبلاغة أو الأسلوب أو غيرها، لكان التحدّي لغير أهل العربية لا معنى له مع أنّ الآية تشملهم، فإذا كان الأمر كذلك أي إن إعجاز القران باطني نفسي كان بقاء آية واحدة من القرآن كافياً لبقاء إعجازه، بل جزء من آية كافٍ، مثل: ﴿اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ( )، أو ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، بل الباء في البسملة كافية لإثبات إعجازه.
روي أنّ أمير المؤمنين تكلم في أسرار الباء في البسملة ليلة كاملة ( ).
وقال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ
مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ ( ).
فلا تتوهم أنّ سبب إيمان هؤلاء العلماء الربانيين القسيسين والرهبان هو: البلاغة أو الأسلوب، بل الحقائق التي وراء تلك الألفاظ، والتي جعلت أعينهم تفيض من الدمع. وهؤلاء وأمثالهم هم الحجة في كشف إعجاز القرآن لبني آدم، لا من أقتصر علمه على القشور والألفاظ فقط.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ ( ).
فمن كشف معجزة موسى لبني آدم؟! إنّهم السحرة عندما عرفوا أنها ليست بوهم، بل حقيقة من رب العالمين فلم يستكبروا وخروا ساجدين.
والخلاصة: إنّ القول بالتحريف لا يعدو القول بالنقصان أو بتغيير بعض الكلمات اعتماداً على الروايات التي وردت عن المعصومين وعن بعض الصحابة. وكلاهما - أي النقصان وتغير بعض الكلمات - لا يقدح بكون الذي بين أيدينا قرآناً، حيث إنّ القول بالنقصان يعني أن الذي بين أيدينا بعض القرآن، فلا إشكال في أنّه من الله سبحانه.
أمّا القول بتغير بعض الكلمات مثل : (أمة بـ أئمة)، و (اجعلنا بـ اجعل لنا)، و (طلح بـ طلع)، فهو شبيه بالقول بالقراءات السبعة أو العشر التي لاقت القبول من جميع المسلمين اليوم، وهم لا يخطّئون من يقرأ بأي منها مع اختلاف بعض الكلمات من قراءة إلى أخرى، سواء باللفظ أو بالمعنى.
هذا والحمد لله الذي رزقنا ذكره ومنّ علينا بكتابه الكريم وقرآنه العظيم، والحمد لله وحده.
* * *
ثانياً: التشريع بدليل العقل
بعد وفاة النبي كان على المسلمين الرجوع إلى أوصيائه ؛ لمعرفة الأحكام الشرعية المشتبهة عليهم أو التي تستجد مع مرور الزمن، ولكن بما أنّ جماعة من المسلمين انحرفوا عن الأوصياء ، وتركوا الأخذ عنهم - وهم أهل السنة - فقد أدّى مرور الزمن بهم إلى تأليف قواعد عقلية مستندة إلى القواعد المنطقية، اعتمدوا عليها في إصدار بعض الأحكام الشرعية، وسمّوها بـ (أصول الفقه)، وأعرض بعض علمائهم عنها والتزم بالقرآن وما صح عندهم أنّه صدر عن النبي .
أمّا الشيعة فكانوا دائماً يرجعون إلى الإمام المعصوم بعد النبي ، ولما وقعت الغيبة الصغرى كانوا يرجعون إلى سفير الإمام ، فلمّا وقعت الغيبة التامة كانوا يرجعون إلى الفقهاء الذين كانوا يروون عن المعصومين ، ومع مرور الزمن رجع بعض علماء الشيعة إلى القواعد العقلية التي بدأ بكتابتها علماء السنة. وقيل: إنّ أول من كتب في القواعد العقلية من الشيعة هو العلامة الحلي (رحمه الله)، حيث قام باختصار أحد كتب السنة في أصول الفقه.
وقع بعد ذلك خلاف كبير بين علماء الشيعة حول التوقف عند محكمات القرآن والروايات الواردة عن المعصومين في تحصيل الحكم الشرعي أو تجاوز الأمر إلى دليل العقل، وزاد آخرون الإجماع. وكل استدل على صحة طريقه بأدلة هي:
1- الأدلة على أنّ دليل العقل من أدلة التشريع:
وإنّه لا يجب التوقف عند محكمات الكتاب والروايات، ومنها:
أ- إنّ المشرّع سبحانه من جملة العقلاء - حسب ما قاله بعض الأصوليين - فما اتفق عليه العقلاء أقرّه المشرّع سبحانه ( ).
ب- إنّ الشريعة موافقة للعقل، فكل ما حسّنه العقل حثت عليه الشريعة، وكل ما قبّحه العقل نهت عنه الشريعة ( ).
ج- إنّ التوقف عن الفتوى عند الشبهات يلزم العسر؛ لأنّ العمل بالاحتياط قد يكون فيه عسر على المكلفين، كصلاة القصر والتمام أو صيام اليوم وقضاءه.
د- إنّ التوقف عن الفتوى عند عدم وجود رواية أو آية محكمة، يلزم جمود الشريعة وعدم مواكبتها للتطور. والمستحدثات أصبحت كثيرة خصوصاً في المعاملات، كأطفال الأنابيب والتلقيح الصناعي، والمعاملات المصرفية والمالية المتنوعة وتقنية الاستنساخ البشري والحيواني وغيرها.
2- الأدلة على وجوب التوقف عند الروايات والآيات المحكمة:
والتوقف عن الفتوى عند الشبهات والمستحدثات التي لا يوجد دليل نقلي عليها والعمل فيها بالاحتياط، ومنها:
أ- إنّ العقل حجة باطنة، وهذا ورد في الروايات عنهم ( )، فبالعقل يستدل على وجود الخالق، ثم بالعقل تعارض الروايات وتُعرف دلالة كل منها، وبالعقل تُفهم الآيات ويُعرف المتشابه والمحكم. وهذا لا اعتراض عليه، إنّما الاعتراض على وضع قاعدة عقلية غير مروية يستـنبط بواسطتها حكم شرعي ( ).
فهذه هي عبادة العباد للعباد ( )، وهكذا نعود إلى الحام والبحيرة والسائبة ( )، وعدنا إلى تحريم علماء اليهود بأهوائهم وتخرّصاتهم العقلية وتحليلهم المحرّمات، وهكذا نقرّ للطواغيت تشريعاتهم الوضعية الباطلة.
ب- اتفاق العقلاء المدّعى غير موجود ( )، ثم إنّ بعض القواعد العقلية لم يتحرّر النـزاع فيها في الأصول بين الأصوليين أنفسهم، فكيف يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية ( ). هذا فضلاً عن إنّ اعتبار المشرّع سبحانه من جملة العقلاء غير صحيح ( ).
ج- إنّ بعض الأشياء التي نهى عنها الشارع قبحها بيّن، فالعقل يحكم بقبحها، ولكن هناك كثير من الأشياء غير بيّنة القُبح والحُسن في الظاهر، فلابدّ من الاطلاع على حقائق الأشياء لمعرفة الحَسِن من القبيح. ولا يعرف حقائق الأشياء إلاّ خالقها أو من شاء الله اطلاعه عليها، ثم لعل بعض الأشياء نعتقد نحن بقبحها لعدم اطلاعنا على حقائقها وبواطنها، واكتفائنا بمنافاة ظاهرها لطباعنا وأحوالنا وتقاليدنا الاجتماعية التي عادة يعتبرها الناس نواميس إلهية يحرُم خرقها. قال تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ( ).
وبعض الأشياء فيها حسن وقبح وملائمة ومنافاة ولكن أحدهما أرجح من الآخر، قال تعالى:
﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾( )، فنحن وإن قلنا بأنّ الحسن والقبح مفهومان عقليان، ولكن تطبيق هذين المفهومين على الموجودات في الخارج - أي المصاديق - أمرٌ متعسّر؛ لأنّ بعض الموجودات متشابهة.
د- إنّ في الشبهات حكمة إلهية، فالذي نزّل القرآن قادر على أن يجعل جميع آياته محكمة - أي بينة المعنى -، ولكنه سبحانه جعل فيه آيات متشابهات - أي مشتبهة على جاهلها وتحتمل أكثر من وجه في التفسير والتأويل – لحكمة، ولعلها- والله العالم - بيان الحاجة إلى المعصوم الذي يعلم تفسير وتأويل المتشابه.
فعن رسول الله ما معناه: (أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيه فيجتنب، ومتشابهات بين ذلك يرد حكمها إلى الله وإلى الراسخين في العلم العالمين بتأويله) ( ).
إذن، ففي الشبهات إشارة إلى حاجة الأمة إلى الراسخين في العلم وهم الأئمة بعد النبي ، وفي زماننا صاحب الأمر ، ولعل الذي يفتي في الشبهات يلغي هذه الإشارة، بل لعله يشير إلى الاستغناء عن المعصوم عندما يفتي فلا حاجة لنا بك، فقد أصبحنا بفضل القواعد العقلية نفتي في كل مسألة وما عدنا نتوقف وما عاد لدينا شبهات، ومع أننا فقدناك فإننا اليوم لا نواجه عسراً في تحصيل الحكم الشرعي!!
هـ- ربما يكون الفساد الذي يحصل من فتوى غير صحيحة مستندة إلى دليل العقل أكبر بكثير مما نعتقده جمود في الشريعة عند الاحتياط والتوقف عن الفتوى. ثم إنّ الدين لله فمتى أصبح هناك عسر في الدين والشريعة، فإنّه سبحانه سيفرج هذا العسر حتماً وفق حكمته وعلمه بما يصلح البلاد والعباد. ثم إنّه سبحانه وتعالى لم يكلفنا أمر التشريع، فما الذي يدفعنا للتصدّي لهذا الأمر الخطير المحصور به سبحانه؟ ولم يتصدَ له الأنبياء والمرسلون والأئمة مع تمام عقولهم، وانكشاف كثير من الحقائق لهم.
بل لعله عندما يفتي في أي مسألة وإن لم يكن عليها دليل نقلي يقول بلسان الحال للإمام المهدي : ارجع يا ابن فاطمة فلا حاجة لنا بك!!
و- الروايات الدالة على وجوب التوقّف عند الأدلة النقلية:
ومنها : قال أمير المؤمنين : (واعلموا عباد الله إنّ المؤمن يستحل العام ما استحل عاماً أوّل، ويحرّم العام ما حرّم عاماً أوّل، وإنّ ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرّم عليكم، ولكن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله. فقد جربتم الأمور وضرستموها ووعظتم بمن كان قبلكم، وضربت الأمثال لكم ودعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصم عن ذلك إلاّ أصم ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى. ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة وأتاه التقصير من أمامه حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف. وإنما الناس رجلان: متبع شرعة ومبتدع بدعة، ليس معه من الله سبحانه برهان سنة، ولا ضياء حجة، وإنّ الله سبحانه لم يعظ أحد بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين وفيه ربيع القلب وينابيع العلم. وما للقلب جلاء غيره، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون، وبقي الناسون والمتناسون، فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شرّاً فاذهبوا عنه، فإنّ رسول الله كان يقول: يا بن آدم اعمل الخير ودع الشر، فإذا أنت جواد قاصد) ( ).
وعن النبي : (إنّ المؤمن أخذ دينه عن الله، وإن المنافق نصب رأياً واتخذ دينه منه).
وعن أمير المؤمنين أنّه قال: (إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزّ وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلاً في جهّال الناس، عان بأغباش الفتنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً، بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره وإن خالف قاضياً سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشواً من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهباً، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب نظره وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم. ثم جسر فقضى، فهو مفتاح عشوات، ركاب شبهات، خبّاط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، يستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال، لا ملئ بإصدار ما عليه ورد، ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق) ( ).
وروي أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته، فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهمّ عمر بذلك وسأل أمير المؤمنين، فقال : (إنّ القرآن أنزل على النبي والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفيء فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذٍ فتركه الله على حاله. ولم يتركه نسياناً، ولم يخف عليه مكاناً فأقرّه حيث أقرّه الله ورسوله)، فقال عمر: لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله ( ).
وعن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة فننظر فيها، قال: (لا، أما إنّك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجل)( ). عن الصادق، عن أبيه، عن علي قال: (من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس) ( ).
قال: وقال أبو جعفر : (من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم) ( ).
وعن أبي عبد الله في محاججته لأبي حنيفة في حديث طويل، قال: (يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم. قال: يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علماً!! ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلاّ عند الخاص من ذرية نبينا ، ما ورثك الله من كتابه حرفاً فإن كنت كما نقـول ولست كما تقول …… ) ( ).
وعن عبد الله بن شبرمة، قال: ما ذكرت حديثاً سمعته من جعفر بن محمد إلاّ كاد أن يتصدع له قلبي، سمعته يقول: (حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله ، قال ابن شبرمة: - وأقسم بالله ما كذب أبوه على جدّه ولا جدّه على رسول الله - قال: رسول الله : (من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك) ( ).
وعن الصادق : (إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك، إيّاك أن تفتي الناس برأيك، وأن تدين بما لا تعلم) ( ).
وعن الباقر : (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه) ( ).
وعن النبي : (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) ( ).
وعن الصادق : (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً)( ).
وعن الصادق : (إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس، فلم يزدهم المقاييس عن الحق إلاّ بعداً، وأنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس) ( ).
وعن الكاظم : (من نظر برأيه هلك، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) ( ).
وعن أمير المؤمنين : (يا معشر شيعتنا والمنتحلين ولايتنا إياكم وأصحاب الرأي فأنهم أعداء السنن، تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها، وأعيتهم السنة أن يعوها، فاتخذوا عباد الله خولاً، وماله دولاً، فذّلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب، ونازعوا الحق وأهله فتمثلوا بالأئمة المعصومين الصادقين، وهم من الجهّال الملاعين، فسألوا عن ما لا يعلمون، فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم، وضلوا فاضلوا، أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أولى بالمسح من ظاهرهما) ( ).
وقال الصادق : (أيتها العصابة المرحومة المفلحة، إن الله أتم لكم ما أتاكم من الخير، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، قد أنزل الله القرآن، وجعل فيه تبيان كل شيء، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن - أي آل محمد - الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس. أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه، وخصّهم به، ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر) ( )، ( ).
* * *
ثالثاً: الـعقـائــد
والخلاف فيها كبير بين علماء الإسلام السنّة والشيعة وغيرهم. كما أنّ السنة افترقوا فيها إلى معتزلة وأشاعرة ( )، واختلف علماء كل فرقة فيما بينهم، ولعل الخلاف الرئيسي بين فرق المسلمين يدور حول الإمامة والقيادة الدينية والدنيوية بعد النبي لهذه الأمّة.
ثم جرّ هذا الخلاف خلافات عقائدية أخرى كان سببها أنّ الشيعة يرجعون في عقائدهم إلى أوصياء النبي المعصومين ، والسنة يرجعون إلى استدلالات عقلية كما يدّعون والتي تعارضها عقول قوم آخرين .
كما حصل في مسألة الجبر والتفويض، التي وقع الخلاف فيها بين الأشاعرة والمعتزلة فجاء جواب آل النبي بأنّه: (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين) ( ).
أو كقضية خلق القرآن، التي استغلها كفار بني العباس للخوض في دماء المسلمين وأعانهم على ذلك بعض أئمة الضلال السامريين ( ).
فجاء ردّ أهل القرآن آل النبي المصطفى بأنّ القران كلام الله لا غير ( )، ليدع الناس السفسطة والجدل الشيطاني الذي لا طائل وراءه إلاّ حب الظهور والعلو على الناس بلقب العالم.
كما وقع خلاف واسع في توحيد الخالق سبحانه وصفاته، أو ما سمّي بـ (علم الكلام).
والحقيقة إنّ علم الكلام ما هو إلاّ شكل آخر من الفلسفة اليونانية المشائية أو الاستدلالية، فمن تتبع الفلسفة اليونانية القديمة يعلم أن فيها طريقين رئيسيين، وإنّ كليهما يبحث في الوجود:
الأول: الاستدلالي. أو ما يسمى بـ (المشائي)، ويعتمد على الأدلة العقلية.
والثاني: الإشراقي. ويعتمد على تصفية النفس من رذائل الأخلاق، وبالتالي يكون الإنسان أهلا لإشراق الحقائق في نفسه.
وقد تأثر علماء المسلمين بالفلسفة اليونانية المشائية بعد ترجمتها، وأعادوا كتابتها كل بحسب ما يعتقد. وبدأ يظهر ما يسمى بـ (الفلسفة الإسلامية المشائية) أو(الاستدلالية) التي اشتق منها علم الكلام، الذي يبحث في وجود الخالق وتوحيده وصفاته. وربما يلحق به مباحث العدل والمعاد والنبوة والإمامة وغيرها.
وإنّ ما سمي بـ (علم الكلام) كونه يبحث حول أشرف موجود سبحانه، فالألف واللام لاستغراق الصفات، فلعلهم أرادوا القول إنّ هذا العلم فيه أشرف كلام، والله اعلم.
وكان لعلم الكلام أو لخوض علماء المسلمين في الفلسفة اليونانية دور كبير في تناحر فرق المسلمين، حتى وصل الأمر إلى تكفير بعضهم بعضاً، وأصبح علماء كل فرقة يتأولون آيات القرآن وفق أهوائهم لتوافق القواعد الفلسفية أو العقلية التي يعتقدونها. فجعلوا أنفسهم أئمة الكتاب لا أنّ الكتاب إمامهم، وتقدّموا الكتاب بعد أن تقدموا العترة ( )، فضلوا .
وأي ضلال بعد أن أعرضوا عن وصية رسول الله في حديث الثقلين المشهور بأن لا ئيتقدّموهما ( ).
لقد ضيع المسلمون الحق المبين واتبعوا من لم يزده علمه إلاّ خساراً بعدم رجوعهم إلى آل النبي واعتمادهم على الأدلة العقلية والفلسفية اليونانية، أو علم الكلام المستند إليها والمشتق منها، مع أنّ في الفلسفة كثيراً من السفسطة والمغالطات والمجادلات، وقالوا وقلنا التي لا تنتهي، والتي لا يعدو كثير منها اللغو، وليس وراءه طائل ولا ثمرة علمية أو عملية.
والحق أنه ليس لنا - ونحن المغروسين في المادة، وليس لكثير منا حظ من العقل إلاّ ظلة - أن نتكلم عن الحي القيوم جل شأنه، إلاّ بحدود ما ورد في القرآن وحديث النبي وآله الأطهار ، وهو عن الله سبحانه وتعالى وما هو إلاّ وحي يوحى، وقد صرح بهذا المعنى الملا صدرا (رحمه الله) في الشواهد الربوبية.
وليعلم أولئك الذين يدعون الحجج العقلية وهم مختلفون، أنهم لو كانوا عقلاء بالمعنى الحقيقي
لما اختلفوا؛ لأنّ العقل واحد، وهو الحق المطلوب من ابن آدم الوصول إليه، ليعقل نفسه ويعرف ربه، وهو عالم كلي لا تنافي فيه. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ( ).
أمّا الذي يشترك فيه جميع بني آدم فهو ظل لذلك العقل، أو النفس الإنسانية لا العقل الحقيقي. وهذه النفس موجودة في عالم الملكوت وهو عالم متـنافيات تماماً كعالم الشهادة، إلاّ أنه مجرّد من المادة.
قال المصطفى ما معناه: (لولا إنّ الشياطين يحومون حول قلب ابن آدم لنظر إلى ملكوت السماوات) ( )، أي إنّ ابن آدم لو أخلص لله لنظر إلى ملكوت السماوات.
وبما أنّ اللّب الذي بين جنبينا هو ظل للعقل، فيكون الإنسان قادراً على إدراك كثير من قوانين عالم المادة، وربما شيئاً من عالم الملكوت ولكنه غير قادر على معرفة عالم العقل؛ لأنّه فوقه إلاّ بالوصول إليه. ولا يصل إلاّ العبد المخلص لله المجيب لدعاء (أقبِل) بعد أن أدبر وغرس في عالم المادة ( )، فإذا عرفنا هذا عرفنا خطأ من ادعى العقل ابتداءً لكل بني آدم، ثم جعل المشرّع سبحانه من جملة العقلاء جل شأنه خالقنا وخالق عالم العقل الذي لا يصله إلاّ المقرّبون، ﴿كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ ( )، مع أنّ ما ادعاه عقلاً ما هو إلاّ ظل له وصورة له تختلف باختلاف المرآة التي انعكست عليها والنفس التي انطبعت فيها، ففي النفوس المنكوسة تنطبع الصورة معكوسة، قال أمير المؤمنين علي : (وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج الدرة من بين حب الحصيد) ( ).
ومن هنا فإن اتفق عشرة على أمرٍ معين خالفهم عشرة آخرون، ولو رجعوا إلى كنـز التوحيد محمد وعلي وآلهما وتدبروا كلامهم لأراحوا واستراحوا، فالصواب أن يكون علم الكلام في الإسلام مستنداً إلى القرآن والسنّة الصحيحة عن النبي وآله الأطهار . ولا بأس بالاستدلالات العقلية كسند ثانوي للعقائد الإسلامية المستقاة من القرآن والسنّة الصحيحة.
روي أنّ الإمام الصادق قال ليونس بن يعقوب: (وددت أنك يا يونس تحسن الكلام. فقال له يونس: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول ويل لأهل الكلام، يقول هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال أبو عبد الله : إنما قلت ويل لهم إذا تركوا قولي وصاروا إلى خلافه … ) ( ).
وقال الإمام الصادق : (حاجوا الناس بكلامي، فإن حجوكم فأنا المحجوج) ( ).
وقال الصادق : (من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل) ( ).
وقال : (إياكم والتقليد، فإنّه من قلّد في دينه هلك، إنّ الله تعالى يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ( )، فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، وقلدوهم في ذلك فعبدوهم وهم لا يشعرون) ( ).
وقال : (من أجاب ناطقاً فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله تعالى فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان) ( ).
أمّا العرفان في الإسلام، فقد أرجعه بعضهم إلى الفلسفة اليونانية الإشراقية، والعرفان عند الشيعة إلى السنة.
وقالوا: إنّ أول من بحث في العرفان هو (ابن عربي) أو غيره من علماء السنة.
والحقيقة إنّ هذا خطأ ومغالطة، لا تنطلي على من تفحّص الأديان الإلهية والشرائع السماوية، حيث إنّ السلوك العرفاني أو العمل لمعرفة الله هو الذي جاء به الأنبياء، بل هو الفطرة التي فطر عليها الإنسان، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾( ). وقال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾( ).
فالآيات في الأنفس لمن زكّاها، وفي الآفاق لمن أراد الاستدلال بالعقل ولمن زكّى نفسه. كما أنّ النبي والأوصياء نبهوا المؤمنين في أحاديث كثيرة إلى هذا الطريق وضرورة سلوكه وعدم التواني في تطبيق الشريعة، واجبها و مستحبها و محرّمها و مكروهها. والتي هي وهي فقط الطريق الموصل إلى الله لا الألفاظ ولا المصطلحات و تخرّصات بعض الذين كتبوا في العرفان وما يسمونه بمجاهدات ما أنزل الله بها من سلطان.
فمعرفة الله إنما تتم بتزكية النفس، وتزكية النفس لا تتم إلاّ بتطبيق الشريعة والزهد في الدنيا، والإنفاق في سبيل الله، والتحلّي بمكارم الأخلاق، والحب في الله والبغض في الله، والشدّة في ذات الله والغلظة مع الكافرين والمنافقين، والرحمة مع المؤمنين. قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( ).
والحمد لله وحده، ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ ( ).
العِجْــل
(الجزء الثاني)
المذنب المقصر
أحمد الحسن
طبعة محققة
الطبعة الثالثة
1431هـ - 2010 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
أنصار الإمام المهدي (ع) اتباع الإمام احمد الحسن اليماني (ع) - انصار الامام المهدي (ع)
تقديم
أنصار الإمام المهدي
صوت مدوٍ وصرخة لابد أن تمر بها الدعوة الإلهية، صوت هدم وبناء، بيان وعمل، لابد أن يقوم داعية الله بها، يقوم بالهدم والتحرّك ضد قوى الضلالة، لابد من نسف العجل؛ ولذا كانت الدعوة السرية لحركة أنصار الإمام المهدي - أعني حركة ناصر آل محمد ويمانيهم السيد أحمد الحسن - تتطلب منه العمل على تحطيم العجل؛ ليتسنى للمجتمع بعدها العودة إلى جادة الحق.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ ( ).
ولذا بادر إلى كتابة كتاب العِجل، ومن ثم كان أول إصدارات أنصار الإمام المهدي، وهو دعوة موجهة إلى هذا المجتمع المُعرِض كل الإعراض عن محمد وآل محمد ، فما زال الرجل يدعوهم ليلاً ونهاراً، جهراً وإسراراً، حتى أعذر فيهم.
هذا وقد نشره السيد مخطوطاً في فترة الدعوة السرية بين طلبة النجف الأشرف؛ إذ رفض أصحاب المطابع طباعته؛ لما امتاز به من تحطيم العِجل كيفما كان، وأينما حل، سواء في هذا الحكام الفراعنة الفجرة أو فقهاء الدين الخونة.
ويستطيع القارئ أن يلتمس الأمر العظيم في الكتاب - أي إنّ السيد مرسل من الإمام المهدي - من خلال الآية التي ساقها السيد في ختام المقدّمة، حيث أورد التحصين ثم الآية القرآنية الكريمة، فقال:
(تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي القدرة والجبروت، واستعنت بذي العزة واللاهوت، من كل ما أخاف وأحذر، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي و محمد و علي والحسن ومحمد ، والحمد لله وحده).
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ ( ).
فيا من تدعون الولاية لعلي بن أبي طالب وأبنائه ، بم عرفتم حق علي بن أبي طالب؟!
أرجعوا لأنفسكم وانظروا في الأدلة التي تحتجون بها على غيركم من أبناء العامة؟! أليست هي بعينها التي رفعها السيد أحمد الحسن .
إنّ للرجل حقاً عظيماً، انظروا الأحاديث التي تكلمت عنه، ومنها حديث الأصبغ بن نباته في حديثه مع أمير المؤمنين ، فعلي وهو علي شغلته هذه الشخصية حتى أخذت لبه، وأجال فيها ذهنه، أنصت للحديث وتدبره جيداً فإنّك مسؤول عنه يوم القيامة.
قال الأصبغ بن نباته: أتيت أمير المؤمنين علياً ذات يوم فوجدته مفكراً ينكت في الأرض، فقلت: (يا أمير المؤمنين تنكت في الأرض أرغبة منك فيها؟ فقال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا ساعة قط، ولكن فكري في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، تكون له حيرة وغيبة، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: يا أمير المؤمنين فكم تكون تلك الحيرة والغيبة؟ قال: ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين، فقلت: إنّ هذا لكائن؟ فقال: نعم كما أنه مخلوق، قلت: أدرك ذلك الزمان؟ فقال: أنى لك يا أصبغ بهذا الأمر، أولئك خيار هذه الأمة مع أبرار هذه العترة، فقلت: ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال: يفعل الله ما يشاء، فإنّ له إرادات وغايات ونهايات) ( ).
فعاودوا رشدكم وتفكّروا فإنّ تفكر ساعة خير من عبادة ألف عام.
فأين يراد بكم، بل أين تذهبون، كيف بكم غداً في ساحة العرض على الإمام المهدي في القيامة الصغرى، وما الجواب الذي تجيبونه به؟ كيف بكم عند الحسيب الرقيب يوم القيامة الكبرى، وما الحجة لديكم؟! أتقولون لم يصلكم حديث أهل البيت فيه! أم تقولون إنهم لم يصفوه أو يسموه! أم إنّه لم يدع إلى كتاب الله وسنة الأطهار من آل بيته ! أم تقولون أنّه لم يبلغ البلاغ التام ولم يخبر عن نفسه!
بم تعتذرون حينما يعيد عليكم ما قاله اليوم: (ووالله لولا أنّ الله كتب على المؤمنين إنكار المنكر، ولولا أني اطلعت على كثير من الحقائق التي ملأت كبدي قيحاً، سواء من الحكام المفسدين أم من علماء السوء الفاسدين - ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ ( ) - لألقيت حبلها على غاربها، ولما اخترت هذه المواجهة الدامية، مع ألوف مؤلفة مسلحة، بكل أنواع الأسلحة المادية والعسكرية والإعلامية).
نعم فإنّ رسول الله بلغ بأوصيائه إلى قيام الساعة، ولكن لابد من التمحيص. وكما قال سيدي ومولاي في هذا الكتاب: (هذا والنبي لم يترك المسلمين في حياته دون أن يوجههم إلى القيادة من بعده، وإلى الأوصياء من ولده حيث أمره الله سبحانه بذلك. ولكن لابد من الفتنه للتمحيص، ولابد من السامري، ولابد من العجل).
وفي الختام أقول: إنّ هذا الكتاب صرخة بوجه الأمة أن عودي لرشدك وانتبهي لأمرك، وارجعي لكتاب الله وسنة نبيه لتحظي بعيشة السعداء وميتة الشهداء كما ضمن الرسول لنا ذلك، ودعي فراعنة الزمان من حكام خونة وفقهاء فسقة فـ مع الأسف كثيرون يعدون أنفسهم علماء مع أنّهم لا يحسنون تفسير سورتين من القرآن الكريم، على ما ورد عن آل محمد . ولم يقرؤوا إلاّ اليسير من روايات المعصومين مقتصرين على بعض الروايات الفقهية في الغالب. فبماذا يعدون أنفسهم علماء، أبالمنطق الذي وضعه أرسطو قبل آلاف السنين، وربما يوجد من الملاحدة من هو أعلم به منّا، أم بالمجادلات والإشكالات المنطقية وغيرها الخالية من ثمرة علمية أو عملية، ولا تعدوا كونها ترفاً علمياً وضياعاً للوقت؟!! ألسنا نروي عن رسول الله ما معناه: (إنّ المرء يحاسب عن عمره فيما أفناه) ( ).
والحمد لله أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً
خادم الأنصار الأحقر
ضياء الزيدي
هذه الطبعة
بلطف الله وعنايته تفضل علي سيدي ومولاي السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي متكرماً عليّ بان أقوم بمهمة تصليح كتاب العجل؛ وذلك لاحتواء طبعته الأولى على أخطاء مطبعية كثيرة جداً، وهذه الأخطاء غيرت المعاني كثيراً، بل إنّ هناك مواضع حذفت فيه آيات قرآنية، أو روايات، وقد يصل النقص في الطباعة إلى سطر أو عدة أسطر مقارنة بالنسخة الخطية.
والحمد لله تم تصليح ما أمكن تصليحه، سائلاً الله أن تكون هذه الطبعة قليلة الأخطاء. وتم تغير الكتاب شكلاً، فبدلاً من أن يكون كتاباً واحداً يحتوي على جزئيين كما هو الحال في الطبعة الأولى، أصبح كتابين كل جزء كتاب منفصل، وأسال الله العلي القدير أن يتقبل منا هذا العمل القليل، وأساله سبحانه وتعالى أن يثبتنا مع رسول الإمام المهدي ووصيه وخليفته وولده حتى نتمكن من الثبات بين يدي الإمام .
(اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ظللت عن ديني).
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل عمران: 53.
السيد صالح الموسوي
الإهــداء
إلى حملة كلمة لا إله إلا الله ...
إلى من حملوا أكفانهم وساروا إلى الله ...
إلى الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام ...
أيها السادة الكرام
هذا المسكين يهديكم السلام ويهديكم هذه البضاعة المزجاة
ويقول وقلبه مفعم بتوحيد الله والتسليم لكم
لقد مسنا وأهلنا الضر فتصدقوا علينا أن الله يجزي المتصدقين
أحمد الحسن
27 شوال 1421 هـ . ق
المقدمة
والحمد لله رب العالمين، الذي قال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ ( ).
وصلى الله على الأنبياء والمرسلين وعلى خاتمهم المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الغر الميامين، وعلى خاتمهم الذي سيبعث نقمة على الكافرين.
قدّمت في الجزء الأول إنّ هذا البحث هو: نظرة من خلال قصص الأنبياء والمرسلين والأمم الغابرة إلى حال المسلمين في الحاضر وفي المستقبل المرتقب فيه ظهور الإمام المهدي . كما أنّه دعوة للإصلاح ولمراجعة المسيرة، وخصوصاً لمن يدّعون تمثيل الإمام المهدي . وهو دعوة للاستعداد لنصرة الإمام المهدي وتجنب الوقوف ضدّه، سواء مع الطواغيت كالسفياني، أو مع علماء السوء السامريين. وقد توخيت فيها أن ألزم جانب اللين والرحمة، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ( ).
فالواقع الإسلامي اليوم مخزٍ، والحال مرير، ولابدّ من الإصلاح، ولابدّ أن يتصدّى مؤمنون لهذا الإصلاح. ومن الطبيعي أن تكون هناك تضحيات في صفوف السائرين على هذا النهج الشريف، الذي هو كالسير على الجمر.
فعن الإمام الباقر ، قال: (قال رسول الله ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللهم لقني إخواني مرتين. فقال من حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنّكم أصحابي، وأخواني قوم في آخر الزمان، آمنوا ولم يروني، لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد - أي الشوك - في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا ( )، أولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة) ( ).
فمن الصعب أن تقف بوجه الطواغيت و علماء السوء السامريين تقارعهم وتقاتلهم ويدك خالية حتى من حجر تدافع به عن نفسك، ولا ناصر ولا معين. وفي أيديهم أسلحة ودبابات وصواريخ وآلة إعلامية ضخمة، وأسماء رنّانة صرفت أموال طائلة لإحاطتها بهالة من القدسية الزائفة، وأموال طائلة تغدق على من يعبدهم من دون الله ويطبل ويزمر لهم ويسميهم زعماء وعلماء.
ولكن لي ولإخواني المؤمنين بموسى وهارون أسوة، عندما قارعا فرعون وهامان وقارون والسامري وبلعم بن باعورا (لعنه الله) الظاهر بلباس العالم العابد الناسك.
ولنا بعيسى عندما قارع قيصر وبيلاطس وجيوش الرومان وعلماء بني إسرائيل الضالين أسوة. ولنا بمحمد عندما قارع الطواغيت وعلماء السوء أسوة. ولنا بآل محمد عندما قارعوا طواغيت بني أمية وبني العباس وعلماء السوء السامريين في هذه الأمة أسوة.
ووالله لولا أنّ الله كتب على المؤمنين إنكار المنكر، ولولا أني اطلعت على كثير من الحقائق التي ملأت كبدي قيحاً، سواء من الحكام المفسدين أم من علماء السوء الفاسدين - ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ ( )- لألقيت حبلها على غاربها، ولما اخترت هذه المواجهة الدامية مع ألوف مؤلفة مسلحة بكل أنواع الأسلحة المادية والعسكرية والإعلامية. وليس بين يدي إلاّ أن أقول: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ ( ).
أيّها الأحبة إني لماّ تدبرت طويلاً وصية أمير المؤمنين وجدته يقول: (والله ما فاجئني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلاّ كقارب ورد ( )، وطالب وجد، وما عند الله خير للإبرار) ( ).
ووجدت أنّ العاقل اللبيب المطيع لله الموتُ أحب إليه من الحياة. وما عند الله خير للإبرار. جعلني الله أنا الحقير المسكين ممن يتمرّغون في تراب وطئوه، وممن يسلك الصراط المستقيم الذي سلكوه. وإنّي لما تدبرت طويلاً حال الأنبياء والأوصياء وعباد الله المخلصين في القرآن وفي سيرتهم، وجدتهم أصحاب غيرة وأنوف حمية، تأبى اختيار طاعة الطاغوت والخضوع له، بل وجدتهم يقتلون ويقطّعون ويصلبون بعز وكرامة دونما لحظة خضوع أو مداهنة أو ركون لظالم.
وجدت إبراهيم يحمل فأساً ويكسر الأصنام، ولا يبالي بما سيفعله به الطواغيت وعلماء السوء، حتى يلقى في النار.
ووجدت يحيى يصرخ بوجه هيرودس: إنّك فاجر، حتى يقطع رأسه.
ووجدت الحسين يهتف بوجه يزيد (لعنه الله) إنّك كافر، حتى قتل صحبه وبنو عمه وإخوته وبنوه، فما خضع وما ركن للظالم حتى قتل، ورُفع رأسه على رمح، وسبيت نساؤه. فنصره الله لما نصر دين الله في أرضه.
ووجدت موسى بن جعفر يهتف بوجه طواغيت بني العباس المهدي والهادي والرشيد الضالين: إنّكم كفرة، حتى نقلوه من سجن إلى سجن، ومن طامورة إلى طامورة، فما خضع وما استسلم حتى قتله الرشيد (لعنه الله) في السجن بالسم.
ووجدت موسى بن عمران يقارع فرعون (لعنه الله) وقواته المسلحة بأحدث أنواع الأسلحة في حينها، وليس معه إلاّ عصا شاء الله أن يجعلها آية من آياته.
ووجدت أمير المؤمنين تثخنه الجراح في أُحُد، فلا يزداد إلاّ يقيناً وقوة في دين الله، تزيده قوّة في بدنه، يجندل بها صناديد قريش.
ووجدت حبيب الله محمداً بعد أن تثخنه الجراح، وتكسر رباعيته في وقعة أُحُد، يعود ويكر على المشركين بجمع من أصحابه، معظمهم جرحى يتكئون على قوائم سيوفهم ورماحهم، فيرحم الله سبحانه حالهم ويلقي الرعب في صفوف المشركين فيولون مدبرين بعد أن قرّروا استئصال النبي وأصحابه، فنصره الله دونما قتال.
ثم نظرت إلى حالنا اليوم فوجدت الطواغيت المتسلطين على هذه الأمة، لم يبقوا من الدين إلاّ اسمه، ومن القران إلاّ رسمه، ويا ليتهم تركوه على حاله، بل عمدوا إليه وأهانوه ونجسوه تقرّباً للشيطان الرجيم، وامتثالاً لأوامر السحرة والكهان (لعنهم الله وأخزاهم)، والمسلمون وعلماؤهم صامتون، كأنّ على رؤوسهم الطير، وكأنّ القرآن لا يعنيهم بشيء ( ).
الويل لكم أيّها الصامتون، هذا هو الكتاب الذي لا يمسّه إلاّ المطهرون، هذا هو أحد الثقلين، فكيف خلفتم رسول الله فيه، كيف تسكتون على من ينجسه بدمه الخبيث، أخوفاً من الموت أو القتل؟! أذن لا تمتعون إلاّ قليلاً.
أم تقولون تقية، ويحيى بن زكريا قُتل وقطع رأسه من أجل أمر أقل من هذا بكثير، من أجل زنا بمحرم ( ).
أنتم يا علماء الإسلام، يا من تدعون تمثيل الأنبياء، ماذا بقي بعد الاستخفاف بكتاب الله وتنجيسه؟! ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ ( ).
قال عيسى : (إنكم علماء السوء الأجر تأخذون والعمل تضيعون. يوشك رب العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه) ( ).
لقد نبذ الكتاب حملته وتناساه حفظته، فكفروا به فسوف يعلمون. لقد شُغلوا بدراسة المنطق والنحو وتدريسها عن دراسة كتاب الله وتدريسه، وشُغلوا بتقديس المنطق عن كتاب الله وتقديسه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ ( ).
بماذا ستعتذرون أمام الله عن خذلانكم لكتاب الله بالتقية؟! إذاً لو كنتم في كربلاء لوقفتم مع جيش عمر بن سعد (لعنه الله) وقتلتم الحسين واعتذرتم بالتقية، أو على الأقل لوقفتم جانباً واعتزلتم القتال، واعتذرتم بهذا العذر القبيح، نعم فقتلة الحسين كانوا يدَّعون أنهم شيعة وراسلوا الحسين وادعوا أنهم سينصرونه، فلما وجدوا أنّ نصرته ستفقدهم حياتهم المادية قتلوه ونصروا أولاد البغايا! وخذلوا ابن فاطمة من خستهم والخبث والجبن الذي انطوت عليه نفوسهم. وهكذا أنتم لو خذلتم كتاب الله اليوم، فحتماً ستخذلون غداً ابن الحسين الإمام المهدي.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿المر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ( ). لا يؤمنون بالحق؛ لأنّه مر. ولا يسلكون طريق الحق؛ لأنّهم يستوحشون من السير فيه لقلة سالكيه، ويعجبهم الخبيث لكثرته، كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ﴾ ( ).
بلى سمعوها ووعوها، ولكنهم كما قال أمير المؤمنين : (حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها) ( ). واجتمعوا على جيفة أُفتضحوا بأكلها، ومن حلي في عينه شيء أعشى بصره وأعماه( ).
قال تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ ( ).
بلى مثلهم كالمنافقين في صدر الإسلام، أوقدوا شعلة الإسلام مع الرسول فلما أسلم الناس نافقوا هم وطلبوا الدنيا، فذهب الله بقشورهم الدينية التي غلفوا بها بواطنهم السوداء.
* * *
الانحراف
في الأمة الإسلامية عن الصراط المستقيم
قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ( ).
الانحراف عن الصراط المستقيم وقع حتماً في الأمة الإسلامية، سواء في العقائد أو الأحكام الشرعية: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ ( )، ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ ( ).
وقال رسول الله : (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنة بني إسرائيل) ( ).
والمستفاد من الروايات أنّ أول ما سيقوم به المهدي عند ظهوره وقيامه هو تعديل هذا الانحراف، وإعادة الأمة إلى جادة الصراط المستقيم، وإعادة الإسلام غضّاً طريّاً كما كان في عهد رسول الله ، بعد أن حرّفه أئمة الضلال السامريون.
عن أبي بصير، قال: قال الإمام الصادق : (الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء. فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله. فقال : يستأنف الداعي منّا دعاء جديداً كما دعا رسول الله ) ( ).
وعن الصادق ، قال: (يصنع - أي القائم - ما صنع رسول الله ، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهلية، يستأنف الإسلام جديداً) ( ).
وعن ابن عطاء، قال: (سألت أبا جعفر الباقر فقلت: إذا قام القائم بأي سيرة يسير في الناس؟ فقال : يهدم ما قبله كما صنع رسول الله ، يستأنف الإسلام جديداً) ( ).
عن الباقر ، قال: (إذا قام قائمنا دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا رسول الله ، وإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ( ).
وربما يُظن إنّ الانحراف طال السُـنَّة فقط، باعتبارهم تركوا التمسك بآل النبي الأئمة الاثني عشر ، مما أدّى بهم في النتيجة إلى الانحراف سواء في العقائد أو الأحكام، ولكن الحقيقة إنّ الأحاديث الواردة عن أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم دالة على أنّ الانحراف يطال الجميع قبل قيام الإمام المهدي ، كما أنّ الخلافات في العقائد وفي الأحكام الشرعية وفي طرق استنباط الأحكام الشرعية بين علماء المسلمين سواء بين السنة والشيعة، أو بين علماء كل فرقة أنفسهم دالة على ذلك.
ولهذا فمن الضروري أن نعرف الأمور التي وقع فيها خلاف بين علماء المسلمين ولو بشكل موجز، لكي لا نقع غداً عند ظهور الإمام المهدي فريسة سهلة لأحد أئمة الضلال السامريين، فيصيرنا - بسب جهلنا للحقائق - أعداءً للإمام المهدي ونحن نظن أننا على الصراط المستقيم وأننا نحسن صنعاً، ولهذا فسأحاول عرض بعض هذه الأمور وبشكل موجز، وربما مجمل في بعض الأحيان ومن الله التوفيق.
* * *
أولاً: التحريف في القران الكريم
وردت روايات كثيرة عن أهل بيت النبي دالة على التحريف، كما وردت روايات عن صحابة النبي عن طريق السنة في كتبهم دالة على وقوع التحريف ( ).
والمقصود بالتحريف: أنّ القرآن الذي بين أيدينا غير كامل، وإنّ بعض كلماته تبدلت أو بُدلت بقصد. ورجح بعض علماء المسلمين وقوع التحريف كما رجح بعضهم عدم وقوع التحريف.
ويَستدل القائلون بعدم التحريف بعدّة أمور هي:
1- آية الحفظ: ﴿إِنا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ( ).
وهذه الآية يمكن أن تفسّر بحفظ القرآن من التحريف، وبقائه عند الأمّة سالماً من الزيادة والنقص والتغيير، ومن أن تمتد يد أهل الباطل وأئمة الضلال إليه.
2- قال تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ( ).
وهذه الآية يمكن أن تفسّر بأنّ القرآن محفوظ من ولوج الباطل بين طياته، سواء أكان هذا الباطل بتبدّل بعض الكلمات أو بزيادة أو نقص بعض السور والآيات.
3- الروايات الدالة على التحريف يمكن حمل بعضها على أنّها دالة على التحريف المعنوي، أي التحريف في التأويل لا التنـزيل، وهذا أمر واقع يقرّه جميع المسلمين.
4- إنّ بعض الروايات الدالة على التحريف ضعيفة السند.
5- الروايات التي لا تقبل التأويل والدالة على التحريف اللفظي أو النقص يضرب بها عرض الجدار؛ وذلك لأنّها مخالفة للقرآن، وقد ورد عن المعصومين ما معناه: ما جاءكم عنا مخالف لكتاب الله فدعوه ( ).
6- القرآن المجموع في زمن النبي هو الذي بين أيدينا؛ لأنّ من غير المعقول أنّ رسول الله لم يهتم بكتابة وجمع القرآن في حياته.
ثم جاء بعده أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت ليجمعوه، وجاء بعدهم عثمان ليجمع الناس على مصحف واحد ويحرق أو يتلف البقية التي تختلف عنه بشكل أو بآخر، فيكون الذي بين أيدينا هو المصحف العثماني كما يروي العامة والخاصة.
7- القول بتحريف القرآن يلزم هدم إثبات نبوة محمد اليوم؛ لأنّ القرآن هو المعجز الذي جاء به النبي .
8- مع القول بالتحريف لا يبقى للقرآن الذي بين أيدينا فائدة، ولا يمكن التعويل عليه في العقائد، فضلاً عن الأحكام الشرعية وغيرها.
أمّا أدلة القائلين بالتحريف فهي:
1- الروايات الدالة على التحريف، وهي كثيرة جداً عن طريق الشيعة والسنة، وكمثال على ما روي عن طرق السنة، إنّ رسول الله قال: (من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما نزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) ( ).
وعلى هذا يكون ابن مسعود من خير الصحابة الذين حفظوا القرآن.
ثم إنّهم يروون عن ابن مالك، قال: (أمر بالمصاحف أن تغير، قال: قال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغل مصحفه فليغله، فإنّ من غل شيئاً جاء به يوم القيامة، قال: ثم قال - أي ابن مسعـود -: قرأت من فم رسـول الله سبعين سـورة، أفأترك ما أخذت من في رسـول الله ؟) ( ). وعندهم السند صحيح كما قال أحمد محمد شارح مسند أحمد.
ورواه أبو داود، وابن كثير في التفسير، وروى معناه ابن سعد في الطبقات ( ).
ومعنى الحديث واضح: إنّ ابن مسعود يرى أنّ القرآن الذي كتبه عثمان ناقص، أو حدث فيه بعض التغير على الأقل، فقوله: (أفأترك ما أخذت من في رسول الله )، دال على أنّ ما أخذه يختلف بشكل أو بآخر عمّا كتبه عثمان. وابن مسعود (رحمه الله) ظل مصراً على رأيه ورفضه لما كتبه عثمان حتى قتله عثمان عندما أحرق المصاحف وأحرق مصحفه، وجلده حتى مات بعدها.
والروايات التي وردت في كتب السنة الدالة على نقص القرآن كثيرة، وقد اختاروا اسم نسخ التلاوة للسور والآيات التي وردت عندهم بالروايات، ولم تكتب بالمصحف الموجود اليوم ( ).
أمّا الروايات الواردة عن أهل البيت فهي كثيرة، ولكنّهم أمرونا أن نقرأ كما يقرأ الناس، حتى يقوم القائم منهم صلوات الله عليه وعليهم ( ).
وسئل الشيخ المفيد (رحمه الله) في المسائل السرورية: ما قوله أدام الله تعالى حراسته في القرآن؟ أهو ما بين الدفتين الذي في أيدي الناس، أم هل ضاع مما أنزل الله تعالى على نبيه منه شيء أم لا؟ وهل هو ما جمعه أمير المؤمنين ، أم ما جمعه عثمان على ما يذكره المخالفون؟
فأجاب: (لا شك إنّ الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنـزيله، وليس فيه شيء من كلام البشر، وهو جمهور المنـزّل، والباقي مما أنزله الله تعالى (قرآناً) ( ) عند المستحفظ للشريعة، المستودع للأحكام - أي المهدي -، لم يضْيع منه شيء، وإن كان الذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله في جملة ما جمع، لأسباب دعته إلى ذلك، منها: قصوره عن معرفة بعضه. ومنها ما شك فيه. ومنها ما عمد بنفسه. ومنها ما تعمد إخراجه منه.
وقد جمع أمير المؤمنين القرآن المنـزل من أوله إلى أخره وألّفه بحسب ما وجب تأليفه، فقدم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في حقّه.
فلذلك قال جعفر بن محمد الصادق : (أما والله لو قرئ القرآن كما أُنزل ألفيتمونا فيه مسمين، كما سمي من كان قبلنا) ( ).
وقال : (نزل القرآن أربعة أرباع، ربع فينا، وربع في عدونا، وربع قصص وأمثال، وربع قضايا وأحكام، ولنا أهل البيت فضائل القرآن) ( ).
وقال المجلسي(رحمه الله): (غير أنّ الخبر قد صح عن أئمتنا أنهم أمروا بقراءة ما بين الدفتين، وأن لا نتعدّاها بلا زيادة فيه ولا نقصان منه حتى يقوم القائم فيقرئ الناس القرآن على ما أنزله الله تعالى، وجمعه أمير المؤمنين ) ( ).
2- قيام عثمان بإحراق المصاحف بعد أن اختار أحدها، مع وجود اختلاف بينها، بل وأحرق مصحف عبد الله بن مسعود وأنكر علية قراءته، وضربه حتى مات، مع أنّ رسول الله قال - على ما روي عنه -: (من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد) ( ).
3- اقتفاء سنن الماضين، فاليهود حرفوا التوراة، والمسيح حرفوا الإنجيل، قال تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾( ).
وقد ورد حديث اقتفاء سنن الماضين عن النبي وأهل بيته المعصومين ، والحديث صحيح مستفيض الرواية ( ).
ومعنى اقتفاء سنن الماضين موجود في أرض الواقع، وشيء حاصل بيّن لكل من تصفح التاريخ ولو إجمالاً ( ).
4- آية الحفظ متشابهة، تحتمل وجوه كثيرة من التفسير والتأويل، ومنها: إنّ القرآن محفوظ عند المعصوم .
وهذا الوجه في التفسير تدل عليه الروايات عنهم ( ).
وكذلك الآية الأخرى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾( )، متشابهة تحتمل وجوه.
والعجيب أن يُرجع بعضهم روايات صحيحة السند محكمة الدلالة وردت عن أهل بيت العصمة إلى آيات متشابهة، وهم يدعون فقه القرآن والسنة. فليت شعري المحكم يرجع إلى المتشابه أم المتشابه إلى المحكم؟!
5- لا سبيل لردّ الروايات الصحيحة؛ لأنّ بعضها محكمة في دلالتها على التحريف والنقص، والآيات السابقة متشابهة والمتشابه يرجع إلى المحكم ليفهم معناه لا العكس، كما أنّ تغيير حرف أو كلمة في آية لا يعد، وما في القراءات السبعة من الاختلاف.
ومن هنا فإنّ قبول قراءة المعصوم أولى من قبول قراءة غيره، وعلى أقل تقدير فلتقبل قراءته كقراءة غيره، فلا وجه لحصر القراءات بسبعة مع أنّه توجد قراءات مروية غيرها.
6- القرآن الذي بين أيدينا جمع في زمن أبي بكر وعمر، والدال عليه الروايات عن طريق السنة والشيعة، بل إنّ هذه الحادثة متواترة في التاريخ وكانت هناك عدة مصاحف أحرقها عثمان وجمع الناس على مصحف واحد ( ).
أمّا القرآن الذي جمعه النبي فهو عند علي ، وقد عرضه على القوم ولم يقبلوه وهو عند الإمام الثاني عشر اليوم، والدال عليه روايات كثيرة وردت عن أهل البيت .
عن سالم بن سلمة، قال: قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله : (كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي ). وقال: (أخرجه علي إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، وقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزله الله على محمد وقد جمعته من اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القران لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنما كان عليَ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه) ( ). وفي رواية أخرى عن النبي قبل وفاته أعطى القراطيس التي كتب فيها القرآن لعلي ، وأمر بجمعه وحفظه.
أمّا الإدعاء بأنّ القرآن الذي بين أيدينا جمع في زمن النبي فهي دعوى جزافية لا دليل عليها، بل مردودة بما قدمت.
7- إنّ إثبات النبوة لمحمد بأخلاقه وأمانته وصدقه وسيرته قبل بعثته ومعجزات كثيرة القرآن أحدها. وقد نقل الكثير منها بشكل متواتر من جيل إلى جيل، وفي كتب التاريخ.
ومنها ما كان في ليلة ميلاده كانشقاق إيوان كسرى، وهدم أربعة عشر شرفة من شرفاته، وخمود نيران فـارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغور بحيرة ساوة، وفيض وادي السمـاوة،
وتهافت النجوم على الشياطين بالرجوم، ومنعها من السمع ( ).
ومنها: المقرونة بدعوى النبوة والتحدّي، كانشقاق القمر، وانشقاق الشجر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى بيده، ونبع الماء من أنامله، ونطق الجمادات والحيوانات لأجله، وتسليم الغزال عليه، ونطق اللحم المسموم بين يديه، وكلام ذئب الفلاة لأجله، ودر شاة أم مُعبد، وبرق الصخرة يوم الخندق، وأكل الخلق الكثير من الطعام القليل ( ).
كما أنّ القرآن الذي بين أيدينا عند القائلين بالتحريف هو قرآن من عند الله ولكنّه ليس جميعه، وبهذا يبقى على إعجازه، ويعتمد عليه في العقائد والأحكام وغيرها، مع أنّ إعجاز القرآن مختلف فيه أصلاً كونه البلاغة أو الأسلوب أم الحكم والمواعظ أو الأخبار بالمغيبات أو سلامته من التناقض أو التشريع العادل؟
وربما يقال: جميع هذه الأمور هي إعجاز القرآن. وربما قيل: إنّ إعجازه نفسي باطني.
ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً﴾ ( )، ويؤيده طمأنينة نفس المؤمن عند قراءته، ويؤيده أنّه شفاء للصدور، ويؤيده إنّ بعض آياته إذا قرأت لها تأثير على الموجودات الملكوتية واللطيفة كالجن، بل المادية كجسم الإنسان.
ورد عن المعصومين ما معناه: (إنّ الفاتحة إذا قرأت سبعين مرّة على ميت فلا تتعجبوا إذا قام حياً) ( )، ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾.
وربما لن يظهر هذا الإعجاز بشكل واضح للجميع إلاّ في زمن ظهور القائم ؛ حيث ورد أنّ أصحابه يسيرون على الماء ( )، بل لو تدبّرنا التحدّي في القرآن لوجدناه شاملاً للجميع لأهل العربية وغيرهم، وللإنس والجن: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ ( ). فلو كان الإعجاز في تركيب الألفاظ أي بالبلاغة أو الأسلوب أو غيرها، لكان التحدّي لغير أهل العربية لا معنى له مع أنّ الآية تشملهم، فإذا كان الأمر كذلك أي إن إعجاز القران باطني نفسي كان بقاء آية واحدة من القرآن كافياً لبقاء إعجازه، بل جزء من آية كافٍ، مثل: ﴿اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ( )، أو ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، بل الباء في البسملة كافية لإثبات إعجازه.
روي أنّ أمير المؤمنين تكلم في أسرار الباء في البسملة ليلة كاملة ( ).
وقال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ
مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ ( ).
فلا تتوهم أنّ سبب إيمان هؤلاء العلماء الربانيين القسيسين والرهبان هو: البلاغة أو الأسلوب، بل الحقائق التي وراء تلك الألفاظ، والتي جعلت أعينهم تفيض من الدمع. وهؤلاء وأمثالهم هم الحجة في كشف إعجاز القرآن لبني آدم، لا من أقتصر علمه على القشور والألفاظ فقط.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ ( ).
فمن كشف معجزة موسى لبني آدم؟! إنّهم السحرة عندما عرفوا أنها ليست بوهم، بل حقيقة من رب العالمين فلم يستكبروا وخروا ساجدين.
والخلاصة: إنّ القول بالتحريف لا يعدو القول بالنقصان أو بتغيير بعض الكلمات اعتماداً على الروايات التي وردت عن المعصومين وعن بعض الصحابة. وكلاهما - أي النقصان وتغير بعض الكلمات - لا يقدح بكون الذي بين أيدينا قرآناً، حيث إنّ القول بالنقصان يعني أن الذي بين أيدينا بعض القرآن، فلا إشكال في أنّه من الله سبحانه.
أمّا القول بتغير بعض الكلمات مثل : (أمة بـ أئمة)، و (اجعلنا بـ اجعل لنا)، و (طلح بـ طلع)، فهو شبيه بالقول بالقراءات السبعة أو العشر التي لاقت القبول من جميع المسلمين اليوم، وهم لا يخطّئون من يقرأ بأي منها مع اختلاف بعض الكلمات من قراءة إلى أخرى، سواء باللفظ أو بالمعنى.
هذا والحمد لله الذي رزقنا ذكره ومنّ علينا بكتابه الكريم وقرآنه العظيم، والحمد لله وحده.
* * *
ثانياً: التشريع بدليل العقل
بعد وفاة النبي كان على المسلمين الرجوع إلى أوصيائه ؛ لمعرفة الأحكام الشرعية المشتبهة عليهم أو التي تستجد مع مرور الزمن، ولكن بما أنّ جماعة من المسلمين انحرفوا عن الأوصياء ، وتركوا الأخذ عنهم - وهم أهل السنة - فقد أدّى مرور الزمن بهم إلى تأليف قواعد عقلية مستندة إلى القواعد المنطقية، اعتمدوا عليها في إصدار بعض الأحكام الشرعية، وسمّوها بـ (أصول الفقه)، وأعرض بعض علمائهم عنها والتزم بالقرآن وما صح عندهم أنّه صدر عن النبي .
أمّا الشيعة فكانوا دائماً يرجعون إلى الإمام المعصوم بعد النبي ، ولما وقعت الغيبة الصغرى كانوا يرجعون إلى سفير الإمام ، فلمّا وقعت الغيبة التامة كانوا يرجعون إلى الفقهاء الذين كانوا يروون عن المعصومين ، ومع مرور الزمن رجع بعض علماء الشيعة إلى القواعد العقلية التي بدأ بكتابتها علماء السنة. وقيل: إنّ أول من كتب في القواعد العقلية من الشيعة هو العلامة الحلي (رحمه الله)، حيث قام باختصار أحد كتب السنة في أصول الفقه.
وقع بعد ذلك خلاف كبير بين علماء الشيعة حول التوقف عند محكمات القرآن والروايات الواردة عن المعصومين في تحصيل الحكم الشرعي أو تجاوز الأمر إلى دليل العقل، وزاد آخرون الإجماع. وكل استدل على صحة طريقه بأدلة هي:
1- الأدلة على أنّ دليل العقل من أدلة التشريع:
وإنّه لا يجب التوقف عند محكمات الكتاب والروايات، ومنها:
أ- إنّ المشرّع سبحانه من جملة العقلاء - حسب ما قاله بعض الأصوليين - فما اتفق عليه العقلاء أقرّه المشرّع سبحانه ( ).
ب- إنّ الشريعة موافقة للعقل، فكل ما حسّنه العقل حثت عليه الشريعة، وكل ما قبّحه العقل نهت عنه الشريعة ( ).
ج- إنّ التوقف عن الفتوى عند الشبهات يلزم العسر؛ لأنّ العمل بالاحتياط قد يكون فيه عسر على المكلفين، كصلاة القصر والتمام أو صيام اليوم وقضاءه.
د- إنّ التوقف عن الفتوى عند عدم وجود رواية أو آية محكمة، يلزم جمود الشريعة وعدم مواكبتها للتطور. والمستحدثات أصبحت كثيرة خصوصاً في المعاملات، كأطفال الأنابيب والتلقيح الصناعي، والمعاملات المصرفية والمالية المتنوعة وتقنية الاستنساخ البشري والحيواني وغيرها.
2- الأدلة على وجوب التوقف عند الروايات والآيات المحكمة:
والتوقف عن الفتوى عند الشبهات والمستحدثات التي لا يوجد دليل نقلي عليها والعمل فيها بالاحتياط، ومنها:
أ- إنّ العقل حجة باطنة، وهذا ورد في الروايات عنهم ( )، فبالعقل يستدل على وجود الخالق، ثم بالعقل تعارض الروايات وتُعرف دلالة كل منها، وبالعقل تُفهم الآيات ويُعرف المتشابه والمحكم. وهذا لا اعتراض عليه، إنّما الاعتراض على وضع قاعدة عقلية غير مروية يستـنبط بواسطتها حكم شرعي ( ).
فهذه هي عبادة العباد للعباد ( )، وهكذا نعود إلى الحام والبحيرة والسائبة ( )، وعدنا إلى تحريم علماء اليهود بأهوائهم وتخرّصاتهم العقلية وتحليلهم المحرّمات، وهكذا نقرّ للطواغيت تشريعاتهم الوضعية الباطلة.
ب- اتفاق العقلاء المدّعى غير موجود ( )، ثم إنّ بعض القواعد العقلية لم يتحرّر النـزاع فيها في الأصول بين الأصوليين أنفسهم، فكيف يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية ( ). هذا فضلاً عن إنّ اعتبار المشرّع سبحانه من جملة العقلاء غير صحيح ( ).
ج- إنّ بعض الأشياء التي نهى عنها الشارع قبحها بيّن، فالعقل يحكم بقبحها، ولكن هناك كثير من الأشياء غير بيّنة القُبح والحُسن في الظاهر، فلابدّ من الاطلاع على حقائق الأشياء لمعرفة الحَسِن من القبيح. ولا يعرف حقائق الأشياء إلاّ خالقها أو من شاء الله اطلاعه عليها، ثم لعل بعض الأشياء نعتقد نحن بقبحها لعدم اطلاعنا على حقائقها وبواطنها، واكتفائنا بمنافاة ظاهرها لطباعنا وأحوالنا وتقاليدنا الاجتماعية التي عادة يعتبرها الناس نواميس إلهية يحرُم خرقها. قال تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ( ).
وبعض الأشياء فيها حسن وقبح وملائمة ومنافاة ولكن أحدهما أرجح من الآخر، قال تعالى:
﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾( )، فنحن وإن قلنا بأنّ الحسن والقبح مفهومان عقليان، ولكن تطبيق هذين المفهومين على الموجودات في الخارج - أي المصاديق - أمرٌ متعسّر؛ لأنّ بعض الموجودات متشابهة.
د- إنّ في الشبهات حكمة إلهية، فالذي نزّل القرآن قادر على أن يجعل جميع آياته محكمة - أي بينة المعنى -، ولكنه سبحانه جعل فيه آيات متشابهات - أي مشتبهة على جاهلها وتحتمل أكثر من وجه في التفسير والتأويل – لحكمة، ولعلها- والله العالم - بيان الحاجة إلى المعصوم الذي يعلم تفسير وتأويل المتشابه.
فعن رسول الله ما معناه: (أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيه فيجتنب، ومتشابهات بين ذلك يرد حكمها إلى الله وإلى الراسخين في العلم العالمين بتأويله) ( ).
إذن، ففي الشبهات إشارة إلى حاجة الأمة إلى الراسخين في العلم وهم الأئمة بعد النبي ، وفي زماننا صاحب الأمر ، ولعل الذي يفتي في الشبهات يلغي هذه الإشارة، بل لعله يشير إلى الاستغناء عن المعصوم عندما يفتي فلا حاجة لنا بك، فقد أصبحنا بفضل القواعد العقلية نفتي في كل مسألة وما عدنا نتوقف وما عاد لدينا شبهات، ومع أننا فقدناك فإننا اليوم لا نواجه عسراً في تحصيل الحكم الشرعي!!
هـ- ربما يكون الفساد الذي يحصل من فتوى غير صحيحة مستندة إلى دليل العقل أكبر بكثير مما نعتقده جمود في الشريعة عند الاحتياط والتوقف عن الفتوى. ثم إنّ الدين لله فمتى أصبح هناك عسر في الدين والشريعة، فإنّه سبحانه سيفرج هذا العسر حتماً وفق حكمته وعلمه بما يصلح البلاد والعباد. ثم إنّه سبحانه وتعالى لم يكلفنا أمر التشريع، فما الذي يدفعنا للتصدّي لهذا الأمر الخطير المحصور به سبحانه؟ ولم يتصدَ له الأنبياء والمرسلون والأئمة مع تمام عقولهم، وانكشاف كثير من الحقائق لهم.
بل لعله عندما يفتي في أي مسألة وإن لم يكن عليها دليل نقلي يقول بلسان الحال للإمام المهدي : ارجع يا ابن فاطمة فلا حاجة لنا بك!!
و- الروايات الدالة على وجوب التوقّف عند الأدلة النقلية:
ومنها : قال أمير المؤمنين : (واعلموا عباد الله إنّ المؤمن يستحل العام ما استحل عاماً أوّل، ويحرّم العام ما حرّم عاماً أوّل، وإنّ ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرّم عليكم، ولكن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله. فقد جربتم الأمور وضرستموها ووعظتم بمن كان قبلكم، وضربت الأمثال لكم ودعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصم عن ذلك إلاّ أصم ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى. ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة وأتاه التقصير من أمامه حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف. وإنما الناس رجلان: متبع شرعة ومبتدع بدعة، ليس معه من الله سبحانه برهان سنة، ولا ضياء حجة، وإنّ الله سبحانه لم يعظ أحد بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين وفيه ربيع القلب وينابيع العلم. وما للقلب جلاء غيره، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون، وبقي الناسون والمتناسون، فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شرّاً فاذهبوا عنه، فإنّ رسول الله كان يقول: يا بن آدم اعمل الخير ودع الشر، فإذا أنت جواد قاصد) ( ).
وعن النبي : (إنّ المؤمن أخذ دينه عن الله، وإن المنافق نصب رأياً واتخذ دينه منه).
وعن أمير المؤمنين أنّه قال: (إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزّ وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلاً في جهّال الناس، عان بأغباش الفتنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً، بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره وإن خالف قاضياً سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشواً من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهباً، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب نظره وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم. ثم جسر فقضى، فهو مفتاح عشوات، ركاب شبهات، خبّاط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، يستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال، لا ملئ بإصدار ما عليه ورد، ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق) ( ).
وروي أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته، فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهمّ عمر بذلك وسأل أمير المؤمنين، فقال : (إنّ القرآن أنزل على النبي والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفيء فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذٍ فتركه الله على حاله. ولم يتركه نسياناً، ولم يخف عليه مكاناً فأقرّه حيث أقرّه الله ورسوله)، فقال عمر: لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله ( ).
وعن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة فننظر فيها، قال: (لا، أما إنّك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجل)( ). عن الصادق، عن أبيه، عن علي قال: (من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس) ( ).
قال: وقال أبو جعفر : (من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم) ( ).
وعن أبي عبد الله في محاججته لأبي حنيفة في حديث طويل، قال: (يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم. قال: يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علماً!! ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلاّ عند الخاص من ذرية نبينا ، ما ورثك الله من كتابه حرفاً فإن كنت كما نقـول ولست كما تقول …… ) ( ).
وعن عبد الله بن شبرمة، قال: ما ذكرت حديثاً سمعته من جعفر بن محمد إلاّ كاد أن يتصدع له قلبي، سمعته يقول: (حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله ، قال ابن شبرمة: - وأقسم بالله ما كذب أبوه على جدّه ولا جدّه على رسول الله - قال: رسول الله : (من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك) ( ).
وعن الصادق : (إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك، إيّاك أن تفتي الناس برأيك، وأن تدين بما لا تعلم) ( ).
وعن الباقر : (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه) ( ).
وعن النبي : (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) ( ).
وعن الصادق : (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً)( ).
وعن الصادق : (إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس، فلم يزدهم المقاييس عن الحق إلاّ بعداً، وأنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس) ( ).
وعن الكاظم : (من نظر برأيه هلك، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) ( ).
وعن أمير المؤمنين : (يا معشر شيعتنا والمنتحلين ولايتنا إياكم وأصحاب الرأي فأنهم أعداء السنن، تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها، وأعيتهم السنة أن يعوها، فاتخذوا عباد الله خولاً، وماله دولاً، فذّلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب، ونازعوا الحق وأهله فتمثلوا بالأئمة المعصومين الصادقين، وهم من الجهّال الملاعين، فسألوا عن ما لا يعلمون، فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم، وضلوا فاضلوا، أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أولى بالمسح من ظاهرهما) ( ).
وقال الصادق : (أيتها العصابة المرحومة المفلحة، إن الله أتم لكم ما أتاكم من الخير، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، قد أنزل الله القرآن، وجعل فيه تبيان كل شيء، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن - أي آل محمد - الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس. أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه، وخصّهم به، ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر) ( )، ( ).
* * *
ثالثاً: الـعقـائــد
والخلاف فيها كبير بين علماء الإسلام السنّة والشيعة وغيرهم. كما أنّ السنة افترقوا فيها إلى معتزلة وأشاعرة ( )، واختلف علماء كل فرقة فيما بينهم، ولعل الخلاف الرئيسي بين فرق المسلمين يدور حول الإمامة والقيادة الدينية والدنيوية بعد النبي لهذه الأمّة.
ثم جرّ هذا الخلاف خلافات عقائدية أخرى كان سببها أنّ الشيعة يرجعون في عقائدهم إلى أوصياء النبي المعصومين ، والسنة يرجعون إلى استدلالات عقلية كما يدّعون والتي تعارضها عقول قوم آخرين .
كما حصل في مسألة الجبر والتفويض، التي وقع الخلاف فيها بين الأشاعرة والمعتزلة فجاء جواب آل النبي بأنّه: (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين) ( ).
أو كقضية خلق القرآن، التي استغلها كفار بني العباس للخوض في دماء المسلمين وأعانهم على ذلك بعض أئمة الضلال السامريين ( ).
فجاء ردّ أهل القرآن آل النبي المصطفى بأنّ القران كلام الله لا غير ( )، ليدع الناس السفسطة والجدل الشيطاني الذي لا طائل وراءه إلاّ حب الظهور والعلو على الناس بلقب العالم.
كما وقع خلاف واسع في توحيد الخالق سبحانه وصفاته، أو ما سمّي بـ (علم الكلام).
والحقيقة إنّ علم الكلام ما هو إلاّ شكل آخر من الفلسفة اليونانية المشائية أو الاستدلالية، فمن تتبع الفلسفة اليونانية القديمة يعلم أن فيها طريقين رئيسيين، وإنّ كليهما يبحث في الوجود:
الأول: الاستدلالي. أو ما يسمى بـ (المشائي)، ويعتمد على الأدلة العقلية.
والثاني: الإشراقي. ويعتمد على تصفية النفس من رذائل الأخلاق، وبالتالي يكون الإنسان أهلا لإشراق الحقائق في نفسه.
وقد تأثر علماء المسلمين بالفلسفة اليونانية المشائية بعد ترجمتها، وأعادوا كتابتها كل بحسب ما يعتقد. وبدأ يظهر ما يسمى بـ (الفلسفة الإسلامية المشائية) أو(الاستدلالية) التي اشتق منها علم الكلام، الذي يبحث في وجود الخالق وتوحيده وصفاته. وربما يلحق به مباحث العدل والمعاد والنبوة والإمامة وغيرها.
وإنّ ما سمي بـ (علم الكلام) كونه يبحث حول أشرف موجود سبحانه، فالألف واللام لاستغراق الصفات، فلعلهم أرادوا القول إنّ هذا العلم فيه أشرف كلام، والله اعلم.
وكان لعلم الكلام أو لخوض علماء المسلمين في الفلسفة اليونانية دور كبير في تناحر فرق المسلمين، حتى وصل الأمر إلى تكفير بعضهم بعضاً، وأصبح علماء كل فرقة يتأولون آيات القرآن وفق أهوائهم لتوافق القواعد الفلسفية أو العقلية التي يعتقدونها. فجعلوا أنفسهم أئمة الكتاب لا أنّ الكتاب إمامهم، وتقدّموا الكتاب بعد أن تقدموا العترة ( )، فضلوا .
وأي ضلال بعد أن أعرضوا عن وصية رسول الله في حديث الثقلين المشهور بأن لا ئيتقدّموهما ( ).
لقد ضيع المسلمون الحق المبين واتبعوا من لم يزده علمه إلاّ خساراً بعدم رجوعهم إلى آل النبي واعتمادهم على الأدلة العقلية والفلسفية اليونانية، أو علم الكلام المستند إليها والمشتق منها، مع أنّ في الفلسفة كثيراً من السفسطة والمغالطات والمجادلات، وقالوا وقلنا التي لا تنتهي، والتي لا يعدو كثير منها اللغو، وليس وراءه طائل ولا ثمرة علمية أو عملية.
والحق أنه ليس لنا - ونحن المغروسين في المادة، وليس لكثير منا حظ من العقل إلاّ ظلة - أن نتكلم عن الحي القيوم جل شأنه، إلاّ بحدود ما ورد في القرآن وحديث النبي وآله الأطهار ، وهو عن الله سبحانه وتعالى وما هو إلاّ وحي يوحى، وقد صرح بهذا المعنى الملا صدرا (رحمه الله) في الشواهد الربوبية.
وليعلم أولئك الذين يدعون الحجج العقلية وهم مختلفون، أنهم لو كانوا عقلاء بالمعنى الحقيقي
لما اختلفوا؛ لأنّ العقل واحد، وهو الحق المطلوب من ابن آدم الوصول إليه، ليعقل نفسه ويعرف ربه، وهو عالم كلي لا تنافي فيه. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ( ).
أمّا الذي يشترك فيه جميع بني آدم فهو ظل لذلك العقل، أو النفس الإنسانية لا العقل الحقيقي. وهذه النفس موجودة في عالم الملكوت وهو عالم متـنافيات تماماً كعالم الشهادة، إلاّ أنه مجرّد من المادة.
قال المصطفى ما معناه: (لولا إنّ الشياطين يحومون حول قلب ابن آدم لنظر إلى ملكوت السماوات) ( )، أي إنّ ابن آدم لو أخلص لله لنظر إلى ملكوت السماوات.
وبما أنّ اللّب الذي بين جنبينا هو ظل للعقل، فيكون الإنسان قادراً على إدراك كثير من قوانين عالم المادة، وربما شيئاً من عالم الملكوت ولكنه غير قادر على معرفة عالم العقل؛ لأنّه فوقه إلاّ بالوصول إليه. ولا يصل إلاّ العبد المخلص لله المجيب لدعاء (أقبِل) بعد أن أدبر وغرس في عالم المادة ( )، فإذا عرفنا هذا عرفنا خطأ من ادعى العقل ابتداءً لكل بني آدم، ثم جعل المشرّع سبحانه من جملة العقلاء جل شأنه خالقنا وخالق عالم العقل الذي لا يصله إلاّ المقرّبون، ﴿كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ ( )، مع أنّ ما ادعاه عقلاً ما هو إلاّ ظل له وصورة له تختلف باختلاف المرآة التي انعكست عليها والنفس التي انطبعت فيها، ففي النفوس المنكوسة تنطبع الصورة معكوسة، قال أمير المؤمنين علي : (وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج الدرة من بين حب الحصيد) ( ).
ومن هنا فإن اتفق عشرة على أمرٍ معين خالفهم عشرة آخرون، ولو رجعوا إلى كنـز التوحيد محمد وعلي وآلهما وتدبروا كلامهم لأراحوا واستراحوا، فالصواب أن يكون علم الكلام في الإسلام مستنداً إلى القرآن والسنّة الصحيحة عن النبي وآله الأطهار . ولا بأس بالاستدلالات العقلية كسند ثانوي للعقائد الإسلامية المستقاة من القرآن والسنّة الصحيحة.
روي أنّ الإمام الصادق قال ليونس بن يعقوب: (وددت أنك يا يونس تحسن الكلام. فقال له يونس: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول ويل لأهل الكلام، يقول هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال أبو عبد الله : إنما قلت ويل لهم إذا تركوا قولي وصاروا إلى خلافه … ) ( ).
وقال الإمام الصادق : (حاجوا الناس بكلامي، فإن حجوكم فأنا المحجوج) ( ).
وقال الصادق : (من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل) ( ).
وقال : (إياكم والتقليد، فإنّه من قلّد في دينه هلك، إنّ الله تعالى يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ( )، فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، وقلدوهم في ذلك فعبدوهم وهم لا يشعرون) ( ).
وقال : (من أجاب ناطقاً فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله تعالى فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان) ( ).
أمّا العرفان في الإسلام، فقد أرجعه بعضهم إلى الفلسفة اليونانية الإشراقية، والعرفان عند الشيعة إلى السنة.
وقالوا: إنّ أول من بحث في العرفان هو (ابن عربي) أو غيره من علماء السنة.
والحقيقة إنّ هذا خطأ ومغالطة، لا تنطلي على من تفحّص الأديان الإلهية والشرائع السماوية، حيث إنّ السلوك العرفاني أو العمل لمعرفة الله هو الذي جاء به الأنبياء، بل هو الفطرة التي فطر عليها الإنسان، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾( ). وقال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾( ).
فالآيات في الأنفس لمن زكّاها، وفي الآفاق لمن أراد الاستدلال بالعقل ولمن زكّى نفسه. كما أنّ النبي والأوصياء نبهوا المؤمنين في أحاديث كثيرة إلى هذا الطريق وضرورة سلوكه وعدم التواني في تطبيق الشريعة، واجبها و مستحبها و محرّمها و مكروهها. والتي هي وهي فقط الطريق الموصل إلى الله لا الألفاظ ولا المصطلحات و تخرّصات بعض الذين كتبوا في العرفان وما يسمونه بمجاهدات ما أنزل الله بها من سلطان.
فمعرفة الله إنما تتم بتزكية النفس، وتزكية النفس لا تتم إلاّ بتطبيق الشريعة والزهد في الدنيا، والإنفاق في سبيل الله، والتحلّي بمكارم الأخلاق، والحب في الله والبغض في الله، والشدّة في ذات الله والغلظة مع الكافرين والمنافقين، والرحمة مع المؤمنين. قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ( ).
والحمد لله وحده، ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ ( ).
Comment