إصدارات أنصار الإمام المهدي / العدد (1- أ)
العِجْــل
(الجزء الأول)
المذنب المقصر
أحمد الحسن
طبعة محققة
الطبعة الثالثة
1431هـ - 2010 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
أنصار الإمام المهدي (ع) اتباع الإمام احمد الحسن اليماني (ع) - انصار الامام المهدي (ع)
تقديم
أنصار الإمام المهدي
صوت مدوٍ وصرخة لابد أن تمر بها الدعوة الإلهية، صوت هدم وبناء، بيان وعمل، لابد أن يقوم داعية الله بها، يقوم بالهدم والتحرّك ضد قوى الضلالة، لابد من نسف العجل؛ ولذا كانت الدعوة السرية لحركة أنصار الإمام المهدي - أعني حركة ناصر آل محمد ويمانيهم السيد أحمد الحسن - تتطلب منه العمل على تحطيم العجل؛ ليتسنى للمجتمع بعدها العودة إلى جادة الحق.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ ( ).
ولذا بادر إلى كتابة كتاب العِجل، ومن ثم كان أول إصدارات أنصار الإمام المهدي، وهو دعوة موجهة إلى هذا المجتمع المُعرِض كل الإعراض عن محمد وآل محمد ، فما زال الرجل يدعوهم ليلاً ونهاراً، جهراً وإسراراً، حتى أعذر فيهم.
هذا وقد نشره السيد مخطوطاً في فترة الدعوة السرية بين طلبة النجف الأشرف؛ إذ رفض أصحاب المطابع طباعته؛ لما امتاز به من تحطيم العِجل كيفما كان، وأينما حل، سواء في هذا الحكام الفراعنة الفجرة أو فقهاء الدين الخونة.
ويستطيع القارئ أن يلتمس الأمر العظيم في الكتاب - أي إنّ السيد مرسل من الإمام المهدي - من خلال الآية التي ساقها السيد في ختام المقدّمة، حيث أورد التحصين ثم الآية القرآنية الكريمة، فقال:
(تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي القدرة والجبروت، واستعنت بذي العزة واللاهوت، من كل ما أخاف وأحذر، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي و محمد و علي والحسن ومحمد ، والحمد لله وحده).
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ ( ).
فيا من تدعون الولاية لعلي بن أبي طالب وأبنائه ، بم عرفتم حق علي بن أبي طالب؟!
أرجعوا لأنفسكم وانظروا في الأدلة التي تحتجون بها على غيركم من أبناء العامة؟! أليست هي بعينها التي رفعها السيد أحمد الحسن .
إنّ للرجل حقاً عظيماً، انظروا الأحاديث التي تكلمت عنه، ومنها حديث الأصبغ بن نباته في حديثه مع أمير المؤمنين ، فعلي وهو علي شغلته هذه الشخصية حتى أخذت لبه، وأجال فيها ذهنه، أنصت للحديث وتدبره جيداً فإنّك مسؤول عنه يوم القيامة.
قال الأصبغ بن نباته: أتيت أمير المؤمنين علياً ذات يوم فوجدته مفكراً ينكت في الأرض، فقلت: (يا أمير المؤمنين تنكت في الأرض أرغبة منك فيها؟ فقال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا ساعة قط، ولكن فكري في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، تكون له حيرة وغيبة، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: يا أمير المؤمنين فكم تكون تلك الحيرة والغيبة؟ قال: ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين، فقلت: إنّ هذا لكائن؟ فقال: نعم كما أنه مخلوق، قلت: أدرك ذلك الزمان؟ فقال: أنى لك يا أصبغ بهذا الأمر، أولئك خيار هذه الأمة مع أبرار هذه العترة، فقلت: ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال: يفعل الله ما يشاء، فإنّ له إرادات وغايات ونهايات) ( ).
فعاودوا رشدكم وتفكّروا فإنّ تفكر ساعة خير من عبادة ألف عام.
فأين يراد بكم، بل أين تذهبون، كيف بكم غداً في ساحة العرض على الإمام المهدي في القيامة الصغرى، وما الجواب الذي تجيبونه به؟ كيف بكم عند الحسيب الرقيب يوم القيامة الكبرى، وما الحجة لديكم؟! أتقولون لم يصلكم حديث أهل البيت فيه! أم تقولون إنهم لم يصفوه أو يسموه! أم إنّه لم يدع إلى كتاب الله وسنة الأطهار من آل بيته ! أم تقولون أنّه لم يبلغ البلاغ التام ولم يخبر عن نفسه!
بم تعتذرون حينما يعيد عليكم ما قاله اليوم: (ووالله لولا أنّ الله كتب على المؤمنين إنكار المنكر، ولولا أني اطلعت على كثير من الحقائق التي ملأت كبدي قيحاً، سواء من الحكام المفسدين أم من علماء السوء الفاسدين - ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ ( ) - لألقيت حبلها على غاربها، ولما اخترت هذه المواجهة الدامية، مع ألوف مؤلفة مسلحة، بكل أنواع الأسلحة المادية والعسكرية والإعلامية).
نعم فإنّ رسول الله بلغ بأوصيائه إلى قيام الساعة، ولكن لابد من التمحيص. وكما قال سيدي ومولاي في هذا الكتاب: (هذا والنبي لم يترك المسلمين في حياته دون أن يوجههم إلى القيادة من بعده، وإلى الأوصياء من ولده حيث أمره الله سبحانه بذلك. ولكن لابد من الفتنه للتمحيص، ولابد من السامري، ولابد من العجل).
وفي الختام أقول: إنّ هذا الكتاب صرخة بوجه الأمة أن عودي لرشدك وانتبهي لأمرك، وارجعي لكتاب الله وسنة نبيه لتحظي بعيشة السعداء وميتة الشهداء كما ضمن الرسول لنا ذلك، ودعي فراعنة الزمان من حكام خونة وفقهاء فسقة فـ مع الأسف كثيرون يعدون أنفسهم علماء مع أنّهم لا يحسنون تفسير سورتين من القرآن الكريم، على ما ورد عن آل محمد . ولم يقرؤوا إلاّ اليسير من روايات المعصومين مقتصرين على بعض الروايات الفقهية في الغالب. فبماذا يعدون أنفسهم علماء، أبالمنطق الذي وضعه أرسطو قبل آلاف السنين، وربما يوجد من الملاحدة من هو أعلم به منّا، أم بالمجادلات والإشكالات المنطقية وغيرها الخالية من ثمرة علمية أو عملية، ولا تعدوا كونها ترفاً علمياً وضياعاً للوقت؟!! ألسنا نروي عن رسول الله ما معناه: (إنّ المرء يحاسب عن عمره فيما أفناه) ( ).
والحمد لله أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً
خادم الأنصار الأحقر
ضياء الزيدي
هذه الطبعة
بلطف الله وعنايته تفضل علي سيدي ومولاي السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي متكرماً عليّ بان أقوم بمهمة تصليح كتاب العجل؛ وذلك لاحتواء طبعته الأولى على أخطاء مطبعية كثيرة جداً، وهذه الأخطاء غيرت المعاني كثيراً، بل إنّ هناك مواضع حذفت فيه آيات قرآنية، أو روايات، وقد يصل النقص في الطباعة إلى سطر أو عدة أسطر مقارنة بالنسخة الخطية.
والحمد لله تم تصليح ما أمكن تصليحه، سائلاً الله أن تكون هذه الطبعة قليلة الأخطاء. وتم تغير الكتاب شكلاً، فبدلاً من أن يكون كتاباً واحداً يحتوي على جزئيين كما هو الحال في الطبعة الأولى، أصبح كتابين كل جزء كتاب منفصل، وأسال الله العلي القدير أن يتقبل منا هذا العمل القليل، وأساله سبحانه وتعالى أن يثبتنا مع رسول الإمام المهدي ووصيه وخليفته وولده حتى نتمكن من الثبات بين يدي الإمام .
(اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ظللت عن ديني).
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل عمران: 53.
السيد صالح الموسوي
الإهــداء
إلى حملة كلمة لا إله إلا الله ...
إلى من حملوا أكفانهم وساروا إلى الله ...
إلى الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام ...
أيها السادة الكرام
هذا المسكين يهديكم السلام ويهديكم هذه البضاعة المزجاة
ويقول وقلبه مفعم بتوحيد الله والتسليم لكم
لقد مسنا وأهلنا الضر فتصدقوا علينا أن الله يجزي المتصدقين
أحمد الحسن
27 شوال 1421 هـ . ق
المقدمة
والحمد لله، وصلى الله على محمد وآل محمد المعصومين، وصلى الله على مسك الختام نور الله وبقيته في أرضه (روحي فداه).
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ( ).
في قصص الأنبياء السابقين وأممهم التي اتبعتهم تارة واتبعت السامريين تارة أخرى، ونصرت الأنبياء مرّة وخذلتهم ونصرت الطواغيت مرّات، عبرة لمعتبر، وذكرى لمدّكر.
فالبحث فيها ضروري، والمرور من خلالها إلى ما حصل بعد وفاة النبي من تنحية الوصي والاستيلاء على السلطة - وما جرّه هذا الحدث على الأمة من مآسي، لا نزال نعاني منها إلى اليوم أشد العناء - يساعد على فهم ما حدث بعد وفاة النبي سواء مع أمير المؤمنين، أم مع ولده المعصومين الذين عانوا من الطواغيت المتسلطين على دفة الحكم بالقوة الغاشمة، كما عانوا الأمرين من السامريين أئمة الضلال، الذين حاولوا دائماً حرف الشريعة واستخفاف المسلمين.كما أنّ النظر إلى حالنا اليوم من خلال قصص الأنبياء السابقين وأممهم يساعد على قراءة المستقبل المرتقب فيه ظهور خاتم الأوصياء المهدي ، وما سيلاقيه سواء من الطواغيت الذين سيستخفون المسلمين ويقاتلونه كالسفياني، أم من السامريين (علماء السوء غير العاملين).
ولهذا ارتأيت أنا المسكين قليل العمل كثير الزلل، أن أكتب هذا البحث لعله يكون واقية لبعض المؤمنين من التردي في الهاوية. فالوقاية خير من العلاج، بل إنّ الوقوف مع السفياني أو علماء السوء الذين سيقاتلون المهدي لا علاج له إلاّ شرب الحميم ومعالجة الأغلال في الجحيم. ولعله يكون حافزاً لبعض المؤمنين للعمل على تهيئة الأرضية الملائمة لإقامة دولة لا إله إلاّ الله على الأرض، دولة الإمام المهدي ، والحق والعدل في وقت خيّم فيه الظلم على كل بقعة في هذه الأرض. فالطاغوت الأمريكي يُضيّق الخناق يوماً بعد يوم على الشعوب المستضعفة، ويسير بأهل الأرض نحو الهاوية، والطواغيت المتسلطون على الشعوب الإسلامية إذا لم يكونوا عبيداً لهذا الطاغوت الذي لم يعرف له تاريخ الإنسانية على الأرض مثيلاً، فهم يشتركون معه بعبادة الشيطان، والشعوب الإسلامية التي هي أكثر الشعوب استضعافاً في العالم، تعاني الأمرّين:
أولاً: من مطارق الطاغوت الأمريكي والطواغيت المتسلطين عليها.
وثانياً: من الطواغيت الموجودين داخل الإطار الإسلامي، - أعني بعض علماء الدين غير العاملين الذين يدّعون تمثيل الإسلام - بل لعل بعضهم أستخف هذه الشعوب ووجد له كثيراً من الأتباع؛ ليعلمهم السكون والخضوع والاستسلام للطواغيت، وبالتالي القهر والجوع والذل.
فهي أذن حرب مستمرة في الخارج والداخل. عدو كافر يضرب باستمرار، ومنافق ينخر في الداخل، فرعون والسامري، بيلاطس وعلماء بني إسرائيل غير العاملين.
فمن جانب طاغوت يشن حرباً لا هوادة فيها ضد الدين: تلفزيون يعرض آيات من القرآن الكريم ثم بعد قليل أغاني ونساء شبه عاريات ومسلسلات الغرض منها تفكيك البنية الإسلامية للمجتمع، أو قل ما بقي من البنية الإسلامية للمجتمع أن تحلق اللحية وتطيل الشارب كما يفعل المجوس في العصور الغابرة، هذا هو الإسلام في نظر هؤلاء!! وكل من يقول لا إله إلاّ الله يُقتل وتُسبى نساؤه، وتهدم داره!! والطامة الكبرى أنّ بعضهم يدّعون أنّهم عرب، ويفعلون هذا باسم العروبة، وهم يعتدون على النساء وينتهكون الأعراض، وسجونهم مليئة بالنساء والأطفال.
والحال أنّ العربي شريف، إذا عادى يعادي الرجال ولا يعتدي على النساء، فأي عروبة يدعون هؤلاء الغجر، بقايا المغول والتتر!! لقد سودوا وجه الإنسانية، وارتكبوا جرائم وفضائح يندى لها جبين فرعون ونمرود (لعنهم الله) صاحبي موسى وإبراهيم (عليهما السلام).
وفي الجانب الآخر السامري (العالم غير العامل) الذي يحاول حرف الشريعة، ولا يكلف نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله باللسان، بل واليد إن أمكن، متـناسياً أنّ رسول الله قال ما معناه: (لتأمرون بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم ثم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) ( ).
وهل يوجد أشر من الطواغيت المتسلطين على الأمة الإسلامية اليوم؟ إنّ النتائج موجودة فحتماً إنّ المقدّمات كانت موجودة، ولا تزال إلى اليوم.
إذن فسبب التسلط الطاغوتي على المجتمعات الإسلامية اليوم هو: ترك هذه المجتمعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسبب ترك هذه المجتمعات لهذا الواجب هو: أنّ العلماء غير العاملين تاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إذا فسد العالِم فسد العالَم).
حتى ترسخت اليوم في نفوس كثير من المسلمين جذور الذل والخضوع والاستسلام للطاغوت، وحب الدنيا وحب الحياة، والخوف من الموت بشكل غير طبيعي. وأصبحوا يرون الحياة مع الذل خير من الموت مع العز، وهكذا ينكس الإنسان ويمسي يرى المقاييس مقلوبة، وهذا هو أقصى ما يريده الشيطان (لعنه الله)، أن تبقى الشعوب الإسلامية المستضعفة ساكنة بين المطرقة والسندان، أو قل بين فرعون والسامري، بين طاغوت يفسد ويقتل وينهب وعالم دين (غير عامل) لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وخلف الستار أصابع الطاغوت الأمريكي تحرك الخيوط يميناً وشمالاً، وهكذا لا يبقى من الإسلام إلاّ إسمه.
إنّ واجب العلماء اليوم هو التصدي لإصلاح الأمة الإسلامية، واجبهم هو حمل ثقل الرسالة التي تصدوا لحملها. أنتم يا طلبة العلوم الدينية، ويا علماء الإسلام - الشيعة والسنة - هـل تعتقدون أنّ كل ما أنتم مكلفون به هو تحصيل العلوم العقلية والنقلية دون العمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضمن تكليفكم الذي هو إصلاح الأمة وتبليغ وإنذار أبنائها، والجهاد في سبيل الله بالغالي والنفيس؟!
إذا كنتم تعتقدون هذا فالحق أقول لكم: إنكم مخطئون.
إنّ تحصيل العلوم العقلية والنقلية ليس بعسير، ولكن أن تعطي طعامك ثلاثة أيام لِأسير وابن سبيل ومسكين وتطوي جائعاً. كما فعل الإمام علي هو الأمر العسير( ). أن تعيش حياتك من أجل إسعاد الناس ورفع الحيف والظلم عنهم هو الأمر العسير، أن تعطي في سبيل الله كما أعطى الإمام الحسين هو الأمر العسير.
السلام عليك يا أبا عبد الله، بأبي أنت وأمي أعطيت كل شيء ولم تبقِ حتى الطفل الرضيع والنساء، لم تبق لمتخاذل حجة.
أيها السادة إذا اقتصرتم على تحصيل العلوم وعباداتكم، فأنتم بذلك تكونون قد أعطيتم للطواغيت كل ما يريدون، أن يحولونكم إلى عباد لا علماء، بل إنّ صفة العابد لا يمكن أن تخلع على العالم الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، هذا وإن المعنى الذي ورد عن المعصومين أنّ العالم أفضل من سبعين عابد؛ وذلك لأنّ العالم همه خلاص الناس والعابد همه خلاص نفسه.
روي عن الإمام الصادق : (الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)( ).
وقال تعالى: ﴿فَلَوْلا نفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾( ). لينذروا قومهم، لا ليناموا .. أو ينذروا فرداً أو فردين. فإذا كان همكم أيها السادة خلاص أنفسكم فلا تقولوا إننا طلبة علوم دينية أو علماء، ولا تلبسوا ملابسهم لتخدعوا الناس. لا تكونوا ذئاباً ترتدي جلود حملان، كما هو حال الكثيرين اليوم، فهذا ليس موضعاً لطلب الدنيا، وليس هذا موضعاً لتـنفيس الشهوات وقضاء الوطر، هذا موضع حمل ثقل رسالة الأنبياء والمعصومين فكونوا على حذر، وإلاّ فهو خسران الدنيا والآخرة.
قال عيسى : (مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم نهر، لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع) ( ).
في عام 1971 عندما كان السيد الخميني (رحمه الله ) في النجف الأشرف وكان تلاميذه ينتظرون منه درساً في تهذيب النفس، بدأ السيد بالقول: ( إنني أشعر بأنّ التكليف أن أذكّر السادة في بعض المناسبات بما يتعلق بمصائب المسلمين … ثم قال: والآن هل تريدونني أن أتحدث عن الأخلاق؟! إننا لن نكون مهذبين ما لم نفكر بهذه الأحوال ولو كنا مهذبين لفكرنا بالأوضاع).
فللعلماء غير العاملين أقول: اعرضوا عملكم على سيرة الأنبياء والمرسلين، والحمد لله في القرآن الذي بين أيدينا اليوم ما يكفي من قصصهم ، وستجدون أنّ سيرتكم مخالفة لهم تماماً، فأمّا أن تسيروا بسيرة الأنبياء والمرسلين، و أمّا أن تتـنحوا عن هذا الطريق، فلا تكونوا قطّاع الطريق إلى الله كما قال أمير المؤمنين .
وأقول لكم ما قاله عيسى لعلماء اليهود غير العاملين المتكبرين: (الويل لكم أنتم تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون) ( ).
أفيقوا قبل أن تبسل نفس بما كسبت، وقبل أن يأتي يوم تقولون يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله.
إنّ جذور الإسلام والمسلمين تتعرض اليوم للإبادة، ثم تريدونني أن أجلس وأتحدث عن تهذيب النفس؟!
أفيقوا قبل أن يخرج سيف ابن فاطمة من غمده، وعندها ستـندمون على أفعالكم التي وضعتكم اليوم في الخندق المقابل له، أفيقوا واعترفوا بخطئكم الفاحش، فالعار أولى من دخول النار.
وفي ذات الوقت فإني أشد على يد العلماء العاملين المجاهدين الزاهدين في الدنيا، الذين يدلك ظاهرهم على باطنهم، والذين يعملون ليلاً ونهاراً لنشر كلمة: (لا إله إلاّ الله)، ونشر العدالة في المجتمع الإسلامي. ومع أنّهم شرذمة قليلون كما قال الإمام الصادق ( ).
إلاّ أنّ الله سيبارك عملهم ويجعل فيه الخير الكثير إن شاء الله، فلا تهنوا ولا تنكلوا وأنتم الأعلون إن شاء الله، طوبى للمعروفين في السماء، المجهولين في الأرض مع كثرة عملهم وقلة ذات يدهم. أسأل الله أن يجعلني من خدمهم، وأن يحشرني في زمرتهم، مع كثرة جهلي وقلة علمي وقليل عملي بفضله ورحمته وعطائه الابتداء.
هذا وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت، متوسلاً بالحي الذي لا يموت أن أكون ممن لا يخشون في الله لومة لائم، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب، هو وليي وهو يتولى الصالحين وأعوذ بالله من الخزي في الدنيا والآخرة.
تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي القدرة والجبروت، واستعنت بذي العزة واللاهوت، من كل ما أخاف وأحذر، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي و محمد و علي والحسن ومحمد ، والحمد لله وحده.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمعُونَ﴾ ( ).
* * *
إبليس يتوعد
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ( ).
خلق الله سبحانه وتعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له، فكان هذا السجود اعترافاً عملياً بأفضلية آدم على الملائكة ، قدمته هذه الكيانات القدسية بما يناسب شأنها وعالمها، ولم يكن هذا السجود لجسد آدم ، إنّما كان لروحه وحقيقته، بل كان من خلاله للحقيقة المحمدية والإنسان الكامل والحجاب الأقرب، ومن خلاله توجه إلى الحي الذي لا يموت، فلم يأمرهم سبحانه بالسجود إلاّ بعد أن يفيض الصورة المثالية على مادة آدم وينفخ فيه من روحه سبحانه، روي في الحديث عن النبي ما معناه: (إن الله خلق آدم على صورته) ( )، أي إن آدم أو الإنسان قابل لتحصيل الكمالات الإلهية بأقصى ما يمكن للممكن، أو قل المخلوق وإن لم يصل آدم إلى القاب قوسين أو أدنى، فقد وصل من ذريته المصطفى المصفّى محمد ، والتفت إبليس (لعنه الله) إلى شيء من هذه الحقيقة، لكنه تمرّد ولم يسجد مع الملائكة وأخلد إلى الأرض، فنظر إلى مادة آدم التي خلق منها جسمه وقاسها بالطاقة أو النار التي خُلق هو منها، فاستنبط أنّ الطاقة أشرف من المادة، وتغافل عن حقيقة آدم وقربه من الله. فسقط إبليس في الهاوية مع علمه الواسع وعبادته الطويلة؛ لأنّه لم يكن عابداً مخلصا لله، بل كان عابداً مخلصاً لنفسه، وكان يطلب العلو والارتفاع بعبادته فحسب.
ومن هنا كان الامتحان بالسجود لآدم طامة كبرى بالنسبة له، وصاعقة سقطت على أم رأسه، وحسد آدم ، فلو مثلته لعقلك لوجدته في ذلك الوقت يقول: أبعد كل هذه المدّة في العبادة، يخلق الله عبداً خيراً مني حال خلقه وعند نطقه؟ فيعلو ويرتفع لتمسي الملائكة دون درجته. فكان هذا الحجاب يمنعه من النظر إلى حقيقة آدم، ويدفعه إلى البحث عن عذر لامتناعه عن السجود يقنع به نفسه، ويجادل به ربه.
ولم يكن ردّ الله سبحانه وتعالى عليه إلاّ بالطرد واللعن؛ لأنّه من الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ( )، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ( ).
فلم يكن إبليس (لعنه الله ) جاهلاً يُعلّم، ولا عاصياً يُؤنب ويُؤدب، بل كان عالماً متكبراً، وطاغياً متعالياً لا يرتدع، وانطوت نفسه على بغض لهذا المخلوق الجديد، وجعله السبب في طرده من رحمة الله واتخذه وذريته أعداء؛ ولهذا طلب الإنظار والإمهال إلى يوم البعث للحساب، ليضلهم عن الصراط المستقيم، ولكن الله سبحانه أمهله إلى يوم الوقت المعلوم فتوعد اللعين أن يحرف بني آدم عن صراط الله المستقيم: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ ( ).
ويوم الوقت المعلوم هو يوم قيام الإمام المهدي ، حيث ورد في الحديث عن اسحق بن عمار قال: سألته - أي الإمام - عن إنظار الله تعالى إبليس وقتا معلوماً ذكره في كتابه، فقال: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ ( )، قال : (الوقت المعلوم يوم قيام القائم، فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة، وجاء إبليس حتى يجثو على ركبتيه فيقول ويلاه من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم منتهى أجله) ( ).
وفي الإنجيل أنّ الشيطان يقيد في الأغلال في القيامة الصغرى، أي في زمن قيام الإمام المهدي، جاء في رؤيا يوحنا: (… ثم رأيت مَلاكاً نازلاً من السماء يحمل بيده مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة، فامسك التنينُ تلك الحيةَ القديمة أي إبليس أو الشيطان وقيده لألف سنة، ورماه في الهاوية، وأقفلها عليه وختمها. فلا يضلل الأمم بعد حتى تتم الألف سنة، ولابد من إطلاقه بعد ذلك لوقت قليل) ( ).
وعن السيد ابن طاووس (رحمه الله) قال: إني وجدت في صحف إدريس النبي عند ذكر سؤال إبليس وجواب الله له: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال: لا، ولكنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فإنّه يوم قضيت وحتمت أن أطهّر الأرض ذلك اليوم من الكفر والشرك والمعاصي. وانتخبتُ لذلك الوقت عباداً لي امتحنت قلوبهم للأيمان، وحشوتها بالورع والإخلاص واليقين، والتقوى والخشوع والصدق، والحلم والصبر والوقار، والتقى والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عندي، وأجعلهم دعاة الشمس والقمر، وأستخلفهم في الأرض، وأمكن لهم دينهم الذي ارتضيته لهم ثم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، يقيمون الصلاة لوقتها ويؤتون الزكاة لحينها، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وألقي في ذلك الزمان الأمانة على الأرض، فلا يضر شيء شيئاً ولا يخاف شيء من شيء، ثم تكون الهوام والمواشي بين الناس فلا يؤذي بعضهم بعضاً، وأنزع حمة كل ذي حمة من الهوام وغيرها، وأذهب سم كل ما يلدغ، وأنزل بركات من السماء والأرض وتزهر الأرض بحسن نباتها، وتخرج كل ثمارها وأنواع طيبها. وألقي الرأفة والرحمة بينهم فيتواسون ويقتسمون بالسوية فيستغني الفقير، ولا يعلو بعضهم بعضاً، ويرحم الكبير الصغير ويوقّر الصغير الكبير، ويدينون بالحق وبه يعدلون ويحكمون.
أولئك أوليائي، اخترت لهم نبياً مصطفى، وأميناً مرتضى، فجعلته لهم نبياً ورسولاً، وجعلتهم له أولياء وأنصار. تلك أمة اخترتها لنبيّ المصطفى، وأميني المرتضى، ذلك وقت حجبته في علم غيبي ولابد أنه واقع. أبيدك يومئذٍ وخيلكَ ورجلكَ وجنودكَ أجمعين، فاذهب فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) ( ).
هذه هي قصة إبليس العالم العابد الذي سقط في الهاوية، وأرداه تكبره في الحامية. وإن فيها لعبرة لمعتبر وذكرى لمدَّكر، وأين هم المعتبرون والمتذكرون؟!
قال أمير المؤمنين : (فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصية؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد. وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة، في إباحة حمى حرمه على العالمين.
فاحذروا عباد الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله. فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب. وقال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ( )، ... واستعيذوا بالله من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدهر.
فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه … وكانوا أقواماً مستضعفين. وقد اختبرهم الله بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره … ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزه فقال: (ألا تعجبون من هذين، يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساورة من ذهب)، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه … الله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة. فما تكدي أبداً، ولا تشوي أحداً، لا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره … فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي … ألا وقد قطعتم قيد الإسلام وعطلتم حدوده، وأمتم أحكامه … وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم. سيماهم سيما الصديقين وكلامهم كلام الأبرار. عُمّار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل) ( ).
الصراط المستقيم
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ ( ).
هو الحق أو الطريق الذي يريد الله سبحانه من عباده سلوكه، أو هو الطريق الموصل إلى الحي القيوم سبحانه، وبعبارة أخرى هو الاعتقادات والأحكام الشرعية الصحيحة الصادرة منه سبحانه والواصلة لعبادة بواسطة أنبيائه ورسله و أوصيائهم ، ولا بد للعاقل من البحث عن الحق ليدفع عن نفسه العذاب وليتخذ إلى ربه المآب، سالكاً صراطه المستقيم، فالرضا بهذه الحياة المادية والاستغراق فيها أشد من الممات، بل هو شبه العدم، بل هو جهنم، قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ( )، كما أن معرفة الحق والسير به وعليه وإليه هو الحياة الحقيقية؛ لأنّ في نهايته الوصول إلى عالم العقل والعودة إلى الحي الذي لا يموت، وهذه غاية فوق الجنة، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ( ).
قال تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ( )، فالعاقل لا يضيع حظه من السير على هذا الطريق، فإن وصل فبرحمة الله، وإلاّ فهو يتقلب في الجنان بفضل الله وببركة إجابة دعاء الحي الذي لا يموت: (أقبِل) ( ).
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ( )، أي إنّ الله خلقكم رجاء أن تصلوا إلى عالم العقل كما وصل الأنبياء والأئمة ، بل إنّ المطلوب الوصول إلى أعلى درجة في هذا العالم، وهي درجة المس بعالم اللاهوت أو درجة ألقاب قوسين أو أدنى. وصاحب هذا المقام المحمود من خُلقَ لأجلهِ الوجود (محمد وعلي نفسه). ومع أني اخترت الاختصار والإشارة، ولكن لا بأس من التوضيح قليلاً لعل الله يرزقني دعاء من يقرأ هذه الكلمات.
اعلموا أيها الأحبة من المؤمنين والمؤمنات إنّ المخلوق الأول هو العقل، وهو العالم الأول الروحاني وهو عالم كلي، الموجودات فيه مستغرقة بعضها في بعض ولا تنافي بينها. وأهله على درجات أعلاها المس بعالم اللاهوت سبحانه، وهي درجه خاصة بمحمد وعلي .
فمحمد ﴿دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾( ) وعلي نفسه، قال تعالى: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم﴾ ( )، وعلي ممسوس بذات الله كما ورد عنه ( )، ودونهما درجات، فهما (عليهما السلام) محيطان ويعلمان بكل من دونهما، ومن دونهما يعلم منهما بقدر درجته ولا يعرفهما أحد بتمام معرفتهما غير خالقهما، كما لا يعرف الله سبحانه أحد غيرهما بتمام معرفته الممكنة للإنسان.
ورد عن صاحب المقام المحمود ما معناه: (يا علي ما عرف الله إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلاّ الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا) ( ).
أمّا العالم الثاني فهو عالم الملكوت، وهو عالم مثالي صوري، وهو عالم الأنفس شبيه بما يراه النائم. وذلك أن النائم غفل عن وجوده المادي فالتفت إلى وجوده الملكوتي، ولك أن تقول المثالي أو النفسي.
أمّا العالم الثالث فهو العالم المادي، وهو عالم شبيه بالعدم ليس له حظ من الوجود إلا قابليته للوجود، وهو آخر درجات التنـزل. فإذا أفيضت الصورة على المادة تكوّن الجسم، وهو أول درجات الصعود أو العودة، ثم إن الأجسام تنقسم بحسب درجاتها الوجودية إلى جماد ونبات وحيوان وإنسان، والإنسان إما يرتقي ويعود إلى مبدئه سبحانه، فيسبح في عالم العقل والقرب من الحي الذي لا يموت، وإما يزري بنفسه ويدبر عن ربه، فلا يرى إلاّ المادة التي لا تكاد تدرك أو يحصل العلم بها إلا عند إفاضة الصورة المثالية عليها، وهكذا يصبح كالأنعام بل أضل سبيلاً؛ لأنه خُلق ليقبل فأدبر، وخُلق ليعقل فأبى إلا الجهل، وخُلق ليحيا فأبى إلا الموت.
قال أبو عبد الله : (إنّ الله عز وجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال أدبر فأدبر ثم قال له أقبل فأقبل. فقال الله تبارك وتعالى خلقتك خلقاً عظيماً وكرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً، فقال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فلم يقبل، فقال له استكبرت فلعنه …) ( ).
أما العقل كل العقل فهو محمد ووصيه علي ؛ لأنه نفسه كما في الآية وأنفسنا وأنفسكم ( ). وأمّا الجهل كل الجهل فهو الثاني (لعنه الله)، وهو مبدأ التكبر، وهو الذي أضل إبليس وأرداه في الهاوية. قال إبليس (لعنه الله): ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ ( )، أي بالذي أغويتني به، أو بالنكرة التي تسببت بإغوائي. وهو في الآية النكرة الموصوفة؛ لأنه ظلماني لا هوية له، و (ما) التي تستعمل لـ (غير العاقل)؛ لأنه لا عقل له لعنه الله وأخزاه.
وهكذا فمن بني آدم من ارتقى بالعبادة والكمالات الأخلاقية، حتى وصل إلى القاب قوسين أو أدنى، فهو معلم الروحانيين والملائكة المقربين، وهو الإنسان الكامل أي محمد ،كما أن آدم علم الملائكة ما لم يكونوا يعلمون، قال أمير المؤمنين: (خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك السبع الشداد) ( ).
ومن بني آدم من أردى نفسه في الهاوية، فهو يسبح في بحر أجاج ظلمات بعضها فوق بعض، إذا اخرج يده لم يكد يراها، حتى أمسى ظلمانياً لا نور فيه، وجهلاً لا عقل معه، واضطراباً لا استقرار له، وخوفاً لا طمأنينة فيه، ولا سكينة تنـزل عليه. فلا يطمع في رحمة الله ويائس من روح الله مع أنّ إبليس (لعنه الله)، إذا قامت القيامة يطمع في رحمة الله كما ورد في الحديث، قال تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ( ).
وهؤلاء يوحون لشياطين الجن زخرف القول بأنفسهم الخبيثة المستكبرة. فشياطين الجن من شياطين الأنس تأخذ ومنهم تتعلم، قال تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ ( ).
وقال الحروري :
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ( ).
وبقي شيء ... ولسائل أن يسأل، فالذي عند الكفرة أليس بعقل فهم يخترعون به الطائرة وأجهزة الاتصال المتطورة ؟!
والجواب: سئل أبو عبد الله عن الذي كان عند معاوية فقال : (تلك النكراء تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل) ( ). فكل إنسان له نصيب في عالم الملكوت، ونصيبه نفسه وهي صورة مثالية وظل للعقل، وهذا الظل هو قوة الإدراك أو الناطقة المغروسة في الجنان. والحيوان الصامت يشاركنا فيها ولكن مرآة الإنسان أصفى، فإشراق العقل على نفسه أبهى وأوضح، فحظه من هذا الظل أكبر. ومن تتبع عالم الحيوان سيعلم أنّه لبعض الحيوانات القدرة على اختراع بعض الآلات، كما ورد عن بعض علماء الأحياء. وكمثال القنادس تنصب السدود لترفع منسوب الماء، فليس للإنسان فضل على الحيوان إلا أن ينظر في هذا الظل ليرى الحقيقة والعقل، ويسير نحوها للتكامل بالعبادة والشكر والأخلاق الحميدة، وإلاّ فان اكتفى بهذا الظل فهو كالأنعام، أي كالحيوان الصامت، وإن أزرى بنفسه بالأخلاق الذميمة فهو أضل سبيلاً ( ). والحمد لله وحده، وما أوتينا من العلم إلاّ قليلاً، ربي أدخلني والمؤمنين والمؤمنات في رحمتك أنت ولي في الدنيا والآخرة فنعم المولى ونعم النصير.
العقائد والأحكام
وتشمل:
العقائد الصحيحة:
الإيمان بوجود خالق وتوحيده، والتصديق بأنبيائه ورسله وأوصيائهم ، والعدل والقضاء والقدر والبداء والجنة والنار، وعصمة خلفاء الله في أرضه ، والملائكة والغيب وكل ما أخبر به الأنبياء والمرسلون وأوصياؤهم ، ومالنا إلاّ التمسك بأذيالهم والاقتداء بآثارهم، قال تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه﴾ ( ).
وعن زرارة، قال: سُئل أبو عبد الله من بدء النسل من آدم كيف كان، وعند بدء النسل من ذرية آدم، فإن أناساً عندنا يقولون: إن الله عز وجل أوحى إلى آدم أن يزوج بناته ببنيه، وأن هذا الخلق كله أصله من الأخوة والأخوات.
فقال أبو عبد الله : (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يقول: من قال هذا ... بأنّ الله عز وجل خلق صفوة خلقه وأحباءه وأنبياءه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام؟!!! ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال!!! وقد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب، فوالله لقد تبينت أن بعض البهائم نُكرت له أخته، فلما نزا عليها ونزل كُشف له عنها، فلما علم أنها أخته أخرج عزموله ثم قبض عليه بأسنانه حتى قطعه فخر ميتاً. وآخر نُكرت له أمه ففعل هذا بعينه فكيف الإنسان في أنسيته وفضله وعلمه، غير أن جيلاً من هذا الخلق - الذي ترون - رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم، وأخذوا من حيث لم يأمروا بأخذه، فصاروا إلى ما ترون من الضلال والجهل بالعلم، كيف كانت الأشياء الماضية من بدء أن خلق الله ما خلق، وما هو كائن أبداً.
ثم قال: ويح هؤلاء أين هم عما لم يختلف فيه فقهاء أهل الحجاز ولا فقهاء أهل العراق، أن الله عز وجل أمر القلم فجرى على اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام، وأن كُتب الله كلها فيما جرى فيه القلم في كلها تحريم الأخوات على الأخوة مع ما حرم. وهذا نحن قد نرى هذه الكتب الأربعة المشهورة في هذا العالم: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، أنزلها الله عن اللوح المحفوظ على رسله منها التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، وعلى النبيين وليس فيها تحليل شيء من ذلك حقاً. أقول ما أراد من يقـول هذا وشبهه إلا تقويـة حجج المجوس، فما لهم قـاتلهم الله …) ( ).
فالحمد لله الذي فضحهم وأخزاهم بجهلهم وعنادهم للصادقين من آل محمد حيث جعلوا الأنبياء أولاد زنا، حاشاهم عن ذلك فسود الله وجه كل من تصدّى أمام الصادقين من آل محمد ، وادعى أنّه يعلم بسنة الرسول وبمحكم الكتاب ومتشابهه، ونصب نفسه إماماً يدعو إلى النار في أمور الدين، كما فعل الأمويون والعباسيون ومن تبعهم في أمور الدنيا ولم يبق عذر اليوم لأتباعهم إلاّ العناد والتكبر، وإلاّ أن يقولوا عنـزة ولو طارت!
وعمدة العقائد التي يجب الإيمان بها هي ما جاءت في آخر سـورة البقرة، وهي التي آمن بها النبي ، وهي:
الأيمان بالله وبالملائكة وبالكتب السماوية وبالرسل، سواء كانوا أنبياء أو أوصياء أو أي مرسل من الله سبحانه، حتى ولو كان مرسل للقيادة الدنيوية فقط كطالوت .
فعلى كل مسلم أن يؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وأن يؤمن بنبوة محمد ، وأن يؤمن بالملائكة والكتب والأنبياء السابقين وأوصيائهم وشرائعهم، وأن يحترمها وإن نسخت؛ لأنها كانت شريعة الله في يوم من الأيام على هذه الأرض. وعلى المسلم أن يؤمن بأوصياء النبي محمد الاثني عشر ، وأن يقبل كل ما صح من الأخبار عنهم ، كما على المسلم أن يؤمن أن الوصي الثاني عشر من أوصياء محمد هو الإمام محمد بن الحسن المهدي ، وهو حي يرزق إلى اليوم وسيقوم بالسيف كما قام جدّه ، وعلى المسلم موالاته والنصح له، وتقديمه على النفس والمال والولد، والعمل لإعلاء كلمته وإظهار أمره ومظلوميته، والتهيئة لدولته ، ومعاداة عدوه من أئمة الجور المتسلطين على هذه الأمة، وأعوانهم وجنودهم الكافرين الخارجين من ولاية الله إلى ولاية إبليس (اللعين). وعلى المؤمن أن لا يخشى عددهم وعدتهم.
قال تعالى: ﴿وَمكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
الأحكام:
أمّا الأحكام، فهي مجموع التشريعات التي يأتي بها الأنبياء والمرسلون منه سبحانه، والتي يكلف بها العباد وربما نسخ بعضها، أو زيدت تشريعات أخرى خلال مرور الزمن وفق علم الحكيم الخبير بما يصلح حال العباد والبلاد في كل زمن، ولا يصح النسخ والتغير والزيادة إلاّ ببعث نذير معصوم ناطق عن الله وعامل بأمره، ومن ابتغى وراء ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً، ولو نظرنا في الشرائع السماوية والأحكام الإلهية لوجدنا تطبيقها هو، وهو فقط المصلح للأرواح والأبدان والبلاد والاقتصاد، فمن شرّع أو غيّر ونسخ أو زاد في الشريعة من غير أولئك المعصومين الناطقين عن الله فقد ادّعى أنّه إله وعلى الخلق أن يعبدوه، وإن لم يصرح بهذا في قوله، فقد صرح القرآن أن اليهود كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم من دون الله؛ لأنّهم كانوا يحلّون لهم الحرام ويحرمون الحلال فيطيعونهم، عن أبي جعفر في تفسير قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ( )، قال : (وأمّا أحبارهم ورهبانهم فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم واتبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه، فاتخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم، وتركهم ما أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتبعوه وأطاعوهم وعصوا الله، وإنّما ذكر هذا في كتابنا لكي نتعظ بهم … ) ( ).
إذن فكل عقيدة يعتقدها الإنسان إن لم يأخذها من معصوم جاء بها من الله فهي عبادة من دون الله، وكل حكم شرعي يتعبد به الإنسان إن لم يأخذه من معصوم جاء به من الله فهو عبادة لذلك الشخص الذي أفتى وشرّع؛ لأنّه ادعى أنه إله، حيث إن المعصومين أنفسهم ليس لهم إلاّ نقل الحكم الشرعي عن الله.
قال الإمام الصادق في رسالته المشهورة إلى الشيعة: (أيتها العصابة المرحومة المفلحة، أن الله أتم لكم ما أتاكم من الخير، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء. وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن الذين أتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، أغناهم الله عن ذلك بما أتاهم من علمه أخصهم به، ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم، وهم الذين من سألهم - وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم - أرشدوه، أعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه، وإلى جميع سبل الحق، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم - الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم - ألا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق، تحت الأظلة، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم، وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان؛ لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين، وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراماً، وجعلوا ما حرّم الله في كثير من الأمر حلالاً.
فذلك أصل ثمرة أهوائهم، وقد عهد إليهم رسول الله قبل موته فقالوا: نحن بعد ما قبض الله عزّ وجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما أجتمع عليه رأى الناس، بعدما قبض الله عزّ وجل رسوله ، وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به. مخالفاً لله ولرسوله ، فما أحد أجرأ على الله، ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك، وزعم أن ذلك يسعه.
والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد ، وبعد موته. هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحداً ممن أسلم مع محمد أخذ بقوله ورأيه ومقائيسه؟ فإن قال: نعم، فقد كذب على الله وضل ضلالاً بعيداً. وإن قال: لا، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه، فقد أقر بالحجة على نفسه. وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله ، وقد قال الله وقوله الحق: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾( )، وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمد ، وبعد قبض الله محمداً ، وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه، خلافاً لأمر محمد ، فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه) ( ).
فإذا كان الأئمة مع تمام عقولهم وعلمهم بمحكم الكتاب ومتشابهه، وتنـزيله وتأويله، ليس لهم الفتوى، بل ينقلون عن الله وعن رسوله ، فكيف يكون لغيرهم مع نقصان عقولهم وجهلهم بالمحكم والمتشابه، والتنـزيل والتأويل.
قال الإمام الصادق لأبي حنيفة عندما دخل عليه: (يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته؟!!! وتعرف الناسخ والمنسوخ؟!!! قال: نعم، قال : يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل الله عليهم. ويلك ولا هو إلاّ عند الخاص من ذرية نبينا ، ما ورثك الله من كتابه حرفاً، فإن كنت كما تقول ولست كما تقول، فأخبرني … ) ( ).
* * *
العِجْــل
(الجزء الأول)
المذنب المقصر
أحمد الحسن
طبعة محققة
الطبعة الثالثة
1431هـ - 2010 م
لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن
يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي :
أنصار الإمام المهدي (ع) اتباع الإمام احمد الحسن اليماني (ع) - انصار الامام المهدي (ع)
تقديم
أنصار الإمام المهدي
صوت مدوٍ وصرخة لابد أن تمر بها الدعوة الإلهية، صوت هدم وبناء، بيان وعمل، لابد أن يقوم داعية الله بها، يقوم بالهدم والتحرّك ضد قوى الضلالة، لابد من نسف العجل؛ ولذا كانت الدعوة السرية لحركة أنصار الإمام المهدي - أعني حركة ناصر آل محمد ويمانيهم السيد أحمد الحسن - تتطلب منه العمل على تحطيم العجل؛ ليتسنى للمجتمع بعدها العودة إلى جادة الحق.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ ( ).
ولذا بادر إلى كتابة كتاب العِجل، ومن ثم كان أول إصدارات أنصار الإمام المهدي، وهو دعوة موجهة إلى هذا المجتمع المُعرِض كل الإعراض عن محمد وآل محمد ، فما زال الرجل يدعوهم ليلاً ونهاراً، جهراً وإسراراً، حتى أعذر فيهم.
هذا وقد نشره السيد مخطوطاً في فترة الدعوة السرية بين طلبة النجف الأشرف؛ إذ رفض أصحاب المطابع طباعته؛ لما امتاز به من تحطيم العِجل كيفما كان، وأينما حل، سواء في هذا الحكام الفراعنة الفجرة أو فقهاء الدين الخونة.
ويستطيع القارئ أن يلتمس الأمر العظيم في الكتاب - أي إنّ السيد مرسل من الإمام المهدي - من خلال الآية التي ساقها السيد في ختام المقدّمة، حيث أورد التحصين ثم الآية القرآنية الكريمة، فقال:
(تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي القدرة والجبروت، واستعنت بذي العزة واللاهوت، من كل ما أخاف وأحذر، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي و محمد و علي والحسن ومحمد ، والحمد لله وحده).
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ ( ).
فيا من تدعون الولاية لعلي بن أبي طالب وأبنائه ، بم عرفتم حق علي بن أبي طالب؟!
أرجعوا لأنفسكم وانظروا في الأدلة التي تحتجون بها على غيركم من أبناء العامة؟! أليست هي بعينها التي رفعها السيد أحمد الحسن .
إنّ للرجل حقاً عظيماً، انظروا الأحاديث التي تكلمت عنه، ومنها حديث الأصبغ بن نباته في حديثه مع أمير المؤمنين ، فعلي وهو علي شغلته هذه الشخصية حتى أخذت لبه، وأجال فيها ذهنه، أنصت للحديث وتدبره جيداً فإنّك مسؤول عنه يوم القيامة.
قال الأصبغ بن نباته: أتيت أمير المؤمنين علياً ذات يوم فوجدته مفكراً ينكت في الأرض، فقلت: (يا أمير المؤمنين تنكت في الأرض أرغبة منك فيها؟ فقال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا ساعة قط، ولكن فكري في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، تكون له حيرة وغيبة، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: يا أمير المؤمنين فكم تكون تلك الحيرة والغيبة؟ قال: ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين، فقلت: إنّ هذا لكائن؟ فقال: نعم كما أنه مخلوق، قلت: أدرك ذلك الزمان؟ فقال: أنى لك يا أصبغ بهذا الأمر، أولئك خيار هذه الأمة مع أبرار هذه العترة، فقلت: ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال: يفعل الله ما يشاء، فإنّ له إرادات وغايات ونهايات) ( ).
فعاودوا رشدكم وتفكّروا فإنّ تفكر ساعة خير من عبادة ألف عام.
فأين يراد بكم، بل أين تذهبون، كيف بكم غداً في ساحة العرض على الإمام المهدي في القيامة الصغرى، وما الجواب الذي تجيبونه به؟ كيف بكم عند الحسيب الرقيب يوم القيامة الكبرى، وما الحجة لديكم؟! أتقولون لم يصلكم حديث أهل البيت فيه! أم تقولون إنهم لم يصفوه أو يسموه! أم إنّه لم يدع إلى كتاب الله وسنة الأطهار من آل بيته ! أم تقولون أنّه لم يبلغ البلاغ التام ولم يخبر عن نفسه!
بم تعتذرون حينما يعيد عليكم ما قاله اليوم: (ووالله لولا أنّ الله كتب على المؤمنين إنكار المنكر، ولولا أني اطلعت على كثير من الحقائق التي ملأت كبدي قيحاً، سواء من الحكام المفسدين أم من علماء السوء الفاسدين - ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ ( ) - لألقيت حبلها على غاربها، ولما اخترت هذه المواجهة الدامية، مع ألوف مؤلفة مسلحة، بكل أنواع الأسلحة المادية والعسكرية والإعلامية).
نعم فإنّ رسول الله بلغ بأوصيائه إلى قيام الساعة، ولكن لابد من التمحيص. وكما قال سيدي ومولاي في هذا الكتاب: (هذا والنبي لم يترك المسلمين في حياته دون أن يوجههم إلى القيادة من بعده، وإلى الأوصياء من ولده حيث أمره الله سبحانه بذلك. ولكن لابد من الفتنه للتمحيص، ولابد من السامري، ولابد من العجل).
وفي الختام أقول: إنّ هذا الكتاب صرخة بوجه الأمة أن عودي لرشدك وانتبهي لأمرك، وارجعي لكتاب الله وسنة نبيه لتحظي بعيشة السعداء وميتة الشهداء كما ضمن الرسول لنا ذلك، ودعي فراعنة الزمان من حكام خونة وفقهاء فسقة فـ مع الأسف كثيرون يعدون أنفسهم علماء مع أنّهم لا يحسنون تفسير سورتين من القرآن الكريم، على ما ورد عن آل محمد . ولم يقرؤوا إلاّ اليسير من روايات المعصومين مقتصرين على بعض الروايات الفقهية في الغالب. فبماذا يعدون أنفسهم علماء، أبالمنطق الذي وضعه أرسطو قبل آلاف السنين، وربما يوجد من الملاحدة من هو أعلم به منّا، أم بالمجادلات والإشكالات المنطقية وغيرها الخالية من ثمرة علمية أو عملية، ولا تعدوا كونها ترفاً علمياً وضياعاً للوقت؟!! ألسنا نروي عن رسول الله ما معناه: (إنّ المرء يحاسب عن عمره فيما أفناه) ( ).
والحمد لله أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً
خادم الأنصار الأحقر
ضياء الزيدي
هذه الطبعة
بلطف الله وعنايته تفضل علي سيدي ومولاي السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي متكرماً عليّ بان أقوم بمهمة تصليح كتاب العجل؛ وذلك لاحتواء طبعته الأولى على أخطاء مطبعية كثيرة جداً، وهذه الأخطاء غيرت المعاني كثيراً، بل إنّ هناك مواضع حذفت فيه آيات قرآنية، أو روايات، وقد يصل النقص في الطباعة إلى سطر أو عدة أسطر مقارنة بالنسخة الخطية.
والحمد لله تم تصليح ما أمكن تصليحه، سائلاً الله أن تكون هذه الطبعة قليلة الأخطاء. وتم تغير الكتاب شكلاً، فبدلاً من أن يكون كتاباً واحداً يحتوي على جزئيين كما هو الحال في الطبعة الأولى، أصبح كتابين كل جزء كتاب منفصل، وأسال الله العلي القدير أن يتقبل منا هذا العمل القليل، وأساله سبحانه وتعالى أن يثبتنا مع رسول الإمام المهدي ووصيه وخليفته وولده حتى نتمكن من الثبات بين يدي الإمام .
(اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ظللت عن ديني).
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل عمران: 53.
السيد صالح الموسوي
الإهــداء
إلى حملة كلمة لا إله إلا الله ...
إلى من حملوا أكفانهم وساروا إلى الله ...
إلى الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام ...
أيها السادة الكرام
هذا المسكين يهديكم السلام ويهديكم هذه البضاعة المزجاة
ويقول وقلبه مفعم بتوحيد الله والتسليم لكم
لقد مسنا وأهلنا الضر فتصدقوا علينا أن الله يجزي المتصدقين
أحمد الحسن
27 شوال 1421 هـ . ق
المقدمة
والحمد لله، وصلى الله على محمد وآل محمد المعصومين، وصلى الله على مسك الختام نور الله وبقيته في أرضه (روحي فداه).
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ( ).
في قصص الأنبياء السابقين وأممهم التي اتبعتهم تارة واتبعت السامريين تارة أخرى، ونصرت الأنبياء مرّة وخذلتهم ونصرت الطواغيت مرّات، عبرة لمعتبر، وذكرى لمدّكر.
فالبحث فيها ضروري، والمرور من خلالها إلى ما حصل بعد وفاة النبي من تنحية الوصي والاستيلاء على السلطة - وما جرّه هذا الحدث على الأمة من مآسي، لا نزال نعاني منها إلى اليوم أشد العناء - يساعد على فهم ما حدث بعد وفاة النبي سواء مع أمير المؤمنين، أم مع ولده المعصومين الذين عانوا من الطواغيت المتسلطين على دفة الحكم بالقوة الغاشمة، كما عانوا الأمرين من السامريين أئمة الضلال، الذين حاولوا دائماً حرف الشريعة واستخفاف المسلمين.كما أنّ النظر إلى حالنا اليوم من خلال قصص الأنبياء السابقين وأممهم يساعد على قراءة المستقبل المرتقب فيه ظهور خاتم الأوصياء المهدي ، وما سيلاقيه سواء من الطواغيت الذين سيستخفون المسلمين ويقاتلونه كالسفياني، أم من السامريين (علماء السوء غير العاملين).
ولهذا ارتأيت أنا المسكين قليل العمل كثير الزلل، أن أكتب هذا البحث لعله يكون واقية لبعض المؤمنين من التردي في الهاوية. فالوقاية خير من العلاج، بل إنّ الوقوف مع السفياني أو علماء السوء الذين سيقاتلون المهدي لا علاج له إلاّ شرب الحميم ومعالجة الأغلال في الجحيم. ولعله يكون حافزاً لبعض المؤمنين للعمل على تهيئة الأرضية الملائمة لإقامة دولة لا إله إلاّ الله على الأرض، دولة الإمام المهدي ، والحق والعدل في وقت خيّم فيه الظلم على كل بقعة في هذه الأرض. فالطاغوت الأمريكي يُضيّق الخناق يوماً بعد يوم على الشعوب المستضعفة، ويسير بأهل الأرض نحو الهاوية، والطواغيت المتسلطون على الشعوب الإسلامية إذا لم يكونوا عبيداً لهذا الطاغوت الذي لم يعرف له تاريخ الإنسانية على الأرض مثيلاً، فهم يشتركون معه بعبادة الشيطان، والشعوب الإسلامية التي هي أكثر الشعوب استضعافاً في العالم، تعاني الأمرّين:
أولاً: من مطارق الطاغوت الأمريكي والطواغيت المتسلطين عليها.
وثانياً: من الطواغيت الموجودين داخل الإطار الإسلامي، - أعني بعض علماء الدين غير العاملين الذين يدّعون تمثيل الإسلام - بل لعل بعضهم أستخف هذه الشعوب ووجد له كثيراً من الأتباع؛ ليعلمهم السكون والخضوع والاستسلام للطواغيت، وبالتالي القهر والجوع والذل.
فهي أذن حرب مستمرة في الخارج والداخل. عدو كافر يضرب باستمرار، ومنافق ينخر في الداخل، فرعون والسامري، بيلاطس وعلماء بني إسرائيل غير العاملين.
فمن جانب طاغوت يشن حرباً لا هوادة فيها ضد الدين: تلفزيون يعرض آيات من القرآن الكريم ثم بعد قليل أغاني ونساء شبه عاريات ومسلسلات الغرض منها تفكيك البنية الإسلامية للمجتمع، أو قل ما بقي من البنية الإسلامية للمجتمع أن تحلق اللحية وتطيل الشارب كما يفعل المجوس في العصور الغابرة، هذا هو الإسلام في نظر هؤلاء!! وكل من يقول لا إله إلاّ الله يُقتل وتُسبى نساؤه، وتهدم داره!! والطامة الكبرى أنّ بعضهم يدّعون أنّهم عرب، ويفعلون هذا باسم العروبة، وهم يعتدون على النساء وينتهكون الأعراض، وسجونهم مليئة بالنساء والأطفال.
والحال أنّ العربي شريف، إذا عادى يعادي الرجال ولا يعتدي على النساء، فأي عروبة يدعون هؤلاء الغجر، بقايا المغول والتتر!! لقد سودوا وجه الإنسانية، وارتكبوا جرائم وفضائح يندى لها جبين فرعون ونمرود (لعنهم الله) صاحبي موسى وإبراهيم (عليهما السلام).
وفي الجانب الآخر السامري (العالم غير العامل) الذي يحاول حرف الشريعة، ولا يكلف نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله باللسان، بل واليد إن أمكن، متـناسياً أنّ رسول الله قال ما معناه: (لتأمرون بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم ثم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) ( ).
وهل يوجد أشر من الطواغيت المتسلطين على الأمة الإسلامية اليوم؟ إنّ النتائج موجودة فحتماً إنّ المقدّمات كانت موجودة، ولا تزال إلى اليوم.
إذن فسبب التسلط الطاغوتي على المجتمعات الإسلامية اليوم هو: ترك هذه المجتمعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسبب ترك هذه المجتمعات لهذا الواجب هو: أنّ العلماء غير العاملين تاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إذا فسد العالِم فسد العالَم).
حتى ترسخت اليوم في نفوس كثير من المسلمين جذور الذل والخضوع والاستسلام للطاغوت، وحب الدنيا وحب الحياة، والخوف من الموت بشكل غير طبيعي. وأصبحوا يرون الحياة مع الذل خير من الموت مع العز، وهكذا ينكس الإنسان ويمسي يرى المقاييس مقلوبة، وهذا هو أقصى ما يريده الشيطان (لعنه الله)، أن تبقى الشعوب الإسلامية المستضعفة ساكنة بين المطرقة والسندان، أو قل بين فرعون والسامري، بين طاغوت يفسد ويقتل وينهب وعالم دين (غير عامل) لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وخلف الستار أصابع الطاغوت الأمريكي تحرك الخيوط يميناً وشمالاً، وهكذا لا يبقى من الإسلام إلاّ إسمه.
إنّ واجب العلماء اليوم هو التصدي لإصلاح الأمة الإسلامية، واجبهم هو حمل ثقل الرسالة التي تصدوا لحملها. أنتم يا طلبة العلوم الدينية، ويا علماء الإسلام - الشيعة والسنة - هـل تعتقدون أنّ كل ما أنتم مكلفون به هو تحصيل العلوم العقلية والنقلية دون العمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضمن تكليفكم الذي هو إصلاح الأمة وتبليغ وإنذار أبنائها، والجهاد في سبيل الله بالغالي والنفيس؟!
إذا كنتم تعتقدون هذا فالحق أقول لكم: إنكم مخطئون.
إنّ تحصيل العلوم العقلية والنقلية ليس بعسير، ولكن أن تعطي طعامك ثلاثة أيام لِأسير وابن سبيل ومسكين وتطوي جائعاً. كما فعل الإمام علي هو الأمر العسير( ). أن تعيش حياتك من أجل إسعاد الناس ورفع الحيف والظلم عنهم هو الأمر العسير، أن تعطي في سبيل الله كما أعطى الإمام الحسين هو الأمر العسير.
السلام عليك يا أبا عبد الله، بأبي أنت وأمي أعطيت كل شيء ولم تبقِ حتى الطفل الرضيع والنساء، لم تبق لمتخاذل حجة.
أيها السادة إذا اقتصرتم على تحصيل العلوم وعباداتكم، فأنتم بذلك تكونون قد أعطيتم للطواغيت كل ما يريدون، أن يحولونكم إلى عباد لا علماء، بل إنّ صفة العابد لا يمكن أن تخلع على العالم الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، هذا وإن المعنى الذي ورد عن المعصومين أنّ العالم أفضل من سبعين عابد؛ وذلك لأنّ العالم همه خلاص الناس والعابد همه خلاص نفسه.
روي عن الإمام الصادق : (الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)( ).
وقال تعالى: ﴿فَلَوْلا نفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾( ). لينذروا قومهم، لا ليناموا .. أو ينذروا فرداً أو فردين. فإذا كان همكم أيها السادة خلاص أنفسكم فلا تقولوا إننا طلبة علوم دينية أو علماء، ولا تلبسوا ملابسهم لتخدعوا الناس. لا تكونوا ذئاباً ترتدي جلود حملان، كما هو حال الكثيرين اليوم، فهذا ليس موضعاً لطلب الدنيا، وليس هذا موضعاً لتـنفيس الشهوات وقضاء الوطر، هذا موضع حمل ثقل رسالة الأنبياء والمعصومين فكونوا على حذر، وإلاّ فهو خسران الدنيا والآخرة.
قال عيسى : (مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم نهر، لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع) ( ).
في عام 1971 عندما كان السيد الخميني (رحمه الله ) في النجف الأشرف وكان تلاميذه ينتظرون منه درساً في تهذيب النفس، بدأ السيد بالقول: ( إنني أشعر بأنّ التكليف أن أذكّر السادة في بعض المناسبات بما يتعلق بمصائب المسلمين … ثم قال: والآن هل تريدونني أن أتحدث عن الأخلاق؟! إننا لن نكون مهذبين ما لم نفكر بهذه الأحوال ولو كنا مهذبين لفكرنا بالأوضاع).
فللعلماء غير العاملين أقول: اعرضوا عملكم على سيرة الأنبياء والمرسلين، والحمد لله في القرآن الذي بين أيدينا اليوم ما يكفي من قصصهم ، وستجدون أنّ سيرتكم مخالفة لهم تماماً، فأمّا أن تسيروا بسيرة الأنبياء والمرسلين، و أمّا أن تتـنحوا عن هذا الطريق، فلا تكونوا قطّاع الطريق إلى الله كما قال أمير المؤمنين .
وأقول لكم ما قاله عيسى لعلماء اليهود غير العاملين المتكبرين: (الويل لكم أنتم تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون) ( ).
أفيقوا قبل أن تبسل نفس بما كسبت، وقبل أن يأتي يوم تقولون يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله.
إنّ جذور الإسلام والمسلمين تتعرض اليوم للإبادة، ثم تريدونني أن أجلس وأتحدث عن تهذيب النفس؟!
أفيقوا قبل أن يخرج سيف ابن فاطمة من غمده، وعندها ستـندمون على أفعالكم التي وضعتكم اليوم في الخندق المقابل له، أفيقوا واعترفوا بخطئكم الفاحش، فالعار أولى من دخول النار.
وفي ذات الوقت فإني أشد على يد العلماء العاملين المجاهدين الزاهدين في الدنيا، الذين يدلك ظاهرهم على باطنهم، والذين يعملون ليلاً ونهاراً لنشر كلمة: (لا إله إلاّ الله)، ونشر العدالة في المجتمع الإسلامي. ومع أنّهم شرذمة قليلون كما قال الإمام الصادق ( ).
إلاّ أنّ الله سيبارك عملهم ويجعل فيه الخير الكثير إن شاء الله، فلا تهنوا ولا تنكلوا وأنتم الأعلون إن شاء الله، طوبى للمعروفين في السماء، المجهولين في الأرض مع كثرة عملهم وقلة ذات يدهم. أسأل الله أن يجعلني من خدمهم، وأن يحشرني في زمرتهم، مع كثرة جهلي وقلة علمي وقليل عملي بفضله ورحمته وعطائه الابتداء.
هذا وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت، متوسلاً بالحي الذي لا يموت أن أكون ممن لا يخشون في الله لومة لائم، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب، هو وليي وهو يتولى الصالحين وأعوذ بالله من الخزي في الدنيا والآخرة.
تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي القدرة والجبروت، واستعنت بذي العزة واللاهوت، من كل ما أخاف وأحذر، وبمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي و محمد و علي والحسن ومحمد ، والحمد لله وحده.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمعُونَ﴾ ( ).
* * *
إبليس يتوعد
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ( ).
خلق الله سبحانه وتعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له، فكان هذا السجود اعترافاً عملياً بأفضلية آدم على الملائكة ، قدمته هذه الكيانات القدسية بما يناسب شأنها وعالمها، ولم يكن هذا السجود لجسد آدم ، إنّما كان لروحه وحقيقته، بل كان من خلاله للحقيقة المحمدية والإنسان الكامل والحجاب الأقرب، ومن خلاله توجه إلى الحي الذي لا يموت، فلم يأمرهم سبحانه بالسجود إلاّ بعد أن يفيض الصورة المثالية على مادة آدم وينفخ فيه من روحه سبحانه، روي في الحديث عن النبي ما معناه: (إن الله خلق آدم على صورته) ( )، أي إن آدم أو الإنسان قابل لتحصيل الكمالات الإلهية بأقصى ما يمكن للممكن، أو قل المخلوق وإن لم يصل آدم إلى القاب قوسين أو أدنى، فقد وصل من ذريته المصطفى المصفّى محمد ، والتفت إبليس (لعنه الله) إلى شيء من هذه الحقيقة، لكنه تمرّد ولم يسجد مع الملائكة وأخلد إلى الأرض، فنظر إلى مادة آدم التي خلق منها جسمه وقاسها بالطاقة أو النار التي خُلق هو منها، فاستنبط أنّ الطاقة أشرف من المادة، وتغافل عن حقيقة آدم وقربه من الله. فسقط إبليس في الهاوية مع علمه الواسع وعبادته الطويلة؛ لأنّه لم يكن عابداً مخلصا لله، بل كان عابداً مخلصاً لنفسه، وكان يطلب العلو والارتفاع بعبادته فحسب.
ومن هنا كان الامتحان بالسجود لآدم طامة كبرى بالنسبة له، وصاعقة سقطت على أم رأسه، وحسد آدم ، فلو مثلته لعقلك لوجدته في ذلك الوقت يقول: أبعد كل هذه المدّة في العبادة، يخلق الله عبداً خيراً مني حال خلقه وعند نطقه؟ فيعلو ويرتفع لتمسي الملائكة دون درجته. فكان هذا الحجاب يمنعه من النظر إلى حقيقة آدم، ويدفعه إلى البحث عن عذر لامتناعه عن السجود يقنع به نفسه، ويجادل به ربه.
ولم يكن ردّ الله سبحانه وتعالى عليه إلاّ بالطرد واللعن؛ لأنّه من الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ( )، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ( ).
فلم يكن إبليس (لعنه الله ) جاهلاً يُعلّم، ولا عاصياً يُؤنب ويُؤدب، بل كان عالماً متكبراً، وطاغياً متعالياً لا يرتدع، وانطوت نفسه على بغض لهذا المخلوق الجديد، وجعله السبب في طرده من رحمة الله واتخذه وذريته أعداء؛ ولهذا طلب الإنظار والإمهال إلى يوم البعث للحساب، ليضلهم عن الصراط المستقيم، ولكن الله سبحانه أمهله إلى يوم الوقت المعلوم فتوعد اللعين أن يحرف بني آدم عن صراط الله المستقيم: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ ( ).
ويوم الوقت المعلوم هو يوم قيام الإمام المهدي ، حيث ورد في الحديث عن اسحق بن عمار قال: سألته - أي الإمام - عن إنظار الله تعالى إبليس وقتا معلوماً ذكره في كتابه، فقال: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ ( )، قال : (الوقت المعلوم يوم قيام القائم، فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة، وجاء إبليس حتى يجثو على ركبتيه فيقول ويلاه من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم منتهى أجله) ( ).
وفي الإنجيل أنّ الشيطان يقيد في الأغلال في القيامة الصغرى، أي في زمن قيام الإمام المهدي، جاء في رؤيا يوحنا: (… ثم رأيت مَلاكاً نازلاً من السماء يحمل بيده مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة، فامسك التنينُ تلك الحيةَ القديمة أي إبليس أو الشيطان وقيده لألف سنة، ورماه في الهاوية، وأقفلها عليه وختمها. فلا يضلل الأمم بعد حتى تتم الألف سنة، ولابد من إطلاقه بعد ذلك لوقت قليل) ( ).
وعن السيد ابن طاووس (رحمه الله) قال: إني وجدت في صحف إدريس النبي عند ذكر سؤال إبليس وجواب الله له: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال: لا، ولكنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فإنّه يوم قضيت وحتمت أن أطهّر الأرض ذلك اليوم من الكفر والشرك والمعاصي. وانتخبتُ لذلك الوقت عباداً لي امتحنت قلوبهم للأيمان، وحشوتها بالورع والإخلاص واليقين، والتقوى والخشوع والصدق، والحلم والصبر والوقار، والتقى والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عندي، وأجعلهم دعاة الشمس والقمر، وأستخلفهم في الأرض، وأمكن لهم دينهم الذي ارتضيته لهم ثم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، يقيمون الصلاة لوقتها ويؤتون الزكاة لحينها، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وألقي في ذلك الزمان الأمانة على الأرض، فلا يضر شيء شيئاً ولا يخاف شيء من شيء، ثم تكون الهوام والمواشي بين الناس فلا يؤذي بعضهم بعضاً، وأنزع حمة كل ذي حمة من الهوام وغيرها، وأذهب سم كل ما يلدغ، وأنزل بركات من السماء والأرض وتزهر الأرض بحسن نباتها، وتخرج كل ثمارها وأنواع طيبها. وألقي الرأفة والرحمة بينهم فيتواسون ويقتسمون بالسوية فيستغني الفقير، ولا يعلو بعضهم بعضاً، ويرحم الكبير الصغير ويوقّر الصغير الكبير، ويدينون بالحق وبه يعدلون ويحكمون.
أولئك أوليائي، اخترت لهم نبياً مصطفى، وأميناً مرتضى، فجعلته لهم نبياً ورسولاً، وجعلتهم له أولياء وأنصار. تلك أمة اخترتها لنبيّ المصطفى، وأميني المرتضى، ذلك وقت حجبته في علم غيبي ولابد أنه واقع. أبيدك يومئذٍ وخيلكَ ورجلكَ وجنودكَ أجمعين، فاذهب فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) ( ).
هذه هي قصة إبليس العالم العابد الذي سقط في الهاوية، وأرداه تكبره في الحامية. وإن فيها لعبرة لمعتبر وذكرى لمدَّكر، وأين هم المعتبرون والمتذكرون؟!
قال أمير المؤمنين : (فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصية؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد. وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة، في إباحة حمى حرمه على العالمين.
فاحذروا عباد الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله. فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب. وقال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ( )، ... واستعيذوا بالله من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدهر.
فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه … وكانوا أقواماً مستضعفين. وقد اختبرهم الله بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره … ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزه فقال: (ألا تعجبون من هذين، يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساورة من ذهب)، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه … الله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة. فما تكدي أبداً، ولا تشوي أحداً، لا عالماً لعلمه، ولا مقلاً في طمره … فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي … ألا وقد قطعتم قيد الإسلام وعطلتم حدوده، وأمتم أحكامه … وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم. سيماهم سيما الصديقين وكلامهم كلام الأبرار. عُمّار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل) ( ).
الصراط المستقيم
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ ( ).
هو الحق أو الطريق الذي يريد الله سبحانه من عباده سلوكه، أو هو الطريق الموصل إلى الحي القيوم سبحانه، وبعبارة أخرى هو الاعتقادات والأحكام الشرعية الصحيحة الصادرة منه سبحانه والواصلة لعبادة بواسطة أنبيائه ورسله و أوصيائهم ، ولا بد للعاقل من البحث عن الحق ليدفع عن نفسه العذاب وليتخذ إلى ربه المآب، سالكاً صراطه المستقيم، فالرضا بهذه الحياة المادية والاستغراق فيها أشد من الممات، بل هو شبه العدم، بل هو جهنم، قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ( )، كما أن معرفة الحق والسير به وعليه وإليه هو الحياة الحقيقية؛ لأنّ في نهايته الوصول إلى عالم العقل والعودة إلى الحي الذي لا يموت، وهذه غاية فوق الجنة، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ( ).
قال تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ( )، فالعاقل لا يضيع حظه من السير على هذا الطريق، فإن وصل فبرحمة الله، وإلاّ فهو يتقلب في الجنان بفضل الله وببركة إجابة دعاء الحي الذي لا يموت: (أقبِل) ( ).
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ( )، أي إنّ الله خلقكم رجاء أن تصلوا إلى عالم العقل كما وصل الأنبياء والأئمة ، بل إنّ المطلوب الوصول إلى أعلى درجة في هذا العالم، وهي درجة المس بعالم اللاهوت أو درجة ألقاب قوسين أو أدنى. وصاحب هذا المقام المحمود من خُلقَ لأجلهِ الوجود (محمد وعلي نفسه). ومع أني اخترت الاختصار والإشارة، ولكن لا بأس من التوضيح قليلاً لعل الله يرزقني دعاء من يقرأ هذه الكلمات.
اعلموا أيها الأحبة من المؤمنين والمؤمنات إنّ المخلوق الأول هو العقل، وهو العالم الأول الروحاني وهو عالم كلي، الموجودات فيه مستغرقة بعضها في بعض ولا تنافي بينها. وأهله على درجات أعلاها المس بعالم اللاهوت سبحانه، وهي درجه خاصة بمحمد وعلي .
فمحمد ﴿دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾( ) وعلي نفسه، قال تعالى: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم﴾ ( )، وعلي ممسوس بذات الله كما ورد عنه ( )، ودونهما درجات، فهما (عليهما السلام) محيطان ويعلمان بكل من دونهما، ومن دونهما يعلم منهما بقدر درجته ولا يعرفهما أحد بتمام معرفتهما غير خالقهما، كما لا يعرف الله سبحانه أحد غيرهما بتمام معرفته الممكنة للإنسان.
ورد عن صاحب المقام المحمود ما معناه: (يا علي ما عرف الله إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلاّ الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا) ( ).
أمّا العالم الثاني فهو عالم الملكوت، وهو عالم مثالي صوري، وهو عالم الأنفس شبيه بما يراه النائم. وذلك أن النائم غفل عن وجوده المادي فالتفت إلى وجوده الملكوتي، ولك أن تقول المثالي أو النفسي.
أمّا العالم الثالث فهو العالم المادي، وهو عالم شبيه بالعدم ليس له حظ من الوجود إلا قابليته للوجود، وهو آخر درجات التنـزل. فإذا أفيضت الصورة على المادة تكوّن الجسم، وهو أول درجات الصعود أو العودة، ثم إن الأجسام تنقسم بحسب درجاتها الوجودية إلى جماد ونبات وحيوان وإنسان، والإنسان إما يرتقي ويعود إلى مبدئه سبحانه، فيسبح في عالم العقل والقرب من الحي الذي لا يموت، وإما يزري بنفسه ويدبر عن ربه، فلا يرى إلاّ المادة التي لا تكاد تدرك أو يحصل العلم بها إلا عند إفاضة الصورة المثالية عليها، وهكذا يصبح كالأنعام بل أضل سبيلاً؛ لأنه خُلق ليقبل فأدبر، وخُلق ليعقل فأبى إلا الجهل، وخُلق ليحيا فأبى إلا الموت.
قال أبو عبد الله : (إنّ الله عز وجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال أدبر فأدبر ثم قال له أقبل فأقبل. فقال الله تبارك وتعالى خلقتك خلقاً عظيماً وكرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً، فقال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فلم يقبل، فقال له استكبرت فلعنه …) ( ).
أما العقل كل العقل فهو محمد ووصيه علي ؛ لأنه نفسه كما في الآية وأنفسنا وأنفسكم ( ). وأمّا الجهل كل الجهل فهو الثاني (لعنه الله)، وهو مبدأ التكبر، وهو الذي أضل إبليس وأرداه في الهاوية. قال إبليس (لعنه الله): ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ ( )، أي بالذي أغويتني به، أو بالنكرة التي تسببت بإغوائي. وهو في الآية النكرة الموصوفة؛ لأنه ظلماني لا هوية له، و (ما) التي تستعمل لـ (غير العاقل)؛ لأنه لا عقل له لعنه الله وأخزاه.
وهكذا فمن بني آدم من ارتقى بالعبادة والكمالات الأخلاقية، حتى وصل إلى القاب قوسين أو أدنى، فهو معلم الروحانيين والملائكة المقربين، وهو الإنسان الكامل أي محمد ،كما أن آدم علم الملائكة ما لم يكونوا يعلمون، قال أمير المؤمنين: (خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك السبع الشداد) ( ).
ومن بني آدم من أردى نفسه في الهاوية، فهو يسبح في بحر أجاج ظلمات بعضها فوق بعض، إذا اخرج يده لم يكد يراها، حتى أمسى ظلمانياً لا نور فيه، وجهلاً لا عقل معه، واضطراباً لا استقرار له، وخوفاً لا طمأنينة فيه، ولا سكينة تنـزل عليه. فلا يطمع في رحمة الله ويائس من روح الله مع أنّ إبليس (لعنه الله)، إذا قامت القيامة يطمع في رحمة الله كما ورد في الحديث، قال تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ( ).
وهؤلاء يوحون لشياطين الجن زخرف القول بأنفسهم الخبيثة المستكبرة. فشياطين الجن من شياطين الأنس تأخذ ومنهم تتعلم، قال تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ ( ).
وقال الحروري :
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ( ).
وبقي شيء ... ولسائل أن يسأل، فالذي عند الكفرة أليس بعقل فهم يخترعون به الطائرة وأجهزة الاتصال المتطورة ؟!
والجواب: سئل أبو عبد الله عن الذي كان عند معاوية فقال : (تلك النكراء تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل) ( ). فكل إنسان له نصيب في عالم الملكوت، ونصيبه نفسه وهي صورة مثالية وظل للعقل، وهذا الظل هو قوة الإدراك أو الناطقة المغروسة في الجنان. والحيوان الصامت يشاركنا فيها ولكن مرآة الإنسان أصفى، فإشراق العقل على نفسه أبهى وأوضح، فحظه من هذا الظل أكبر. ومن تتبع عالم الحيوان سيعلم أنّه لبعض الحيوانات القدرة على اختراع بعض الآلات، كما ورد عن بعض علماء الأحياء. وكمثال القنادس تنصب السدود لترفع منسوب الماء، فليس للإنسان فضل على الحيوان إلا أن ينظر في هذا الظل ليرى الحقيقة والعقل، ويسير نحوها للتكامل بالعبادة والشكر والأخلاق الحميدة، وإلاّ فان اكتفى بهذا الظل فهو كالأنعام، أي كالحيوان الصامت، وإن أزرى بنفسه بالأخلاق الذميمة فهو أضل سبيلاً ( ). والحمد لله وحده، وما أوتينا من العلم إلاّ قليلاً، ربي أدخلني والمؤمنين والمؤمنات في رحمتك أنت ولي في الدنيا والآخرة فنعم المولى ونعم النصير.
العقائد والأحكام
وتشمل:
العقائد الصحيحة:
الإيمان بوجود خالق وتوحيده، والتصديق بأنبيائه ورسله وأوصيائهم ، والعدل والقضاء والقدر والبداء والجنة والنار، وعصمة خلفاء الله في أرضه ، والملائكة والغيب وكل ما أخبر به الأنبياء والمرسلون وأوصياؤهم ، ومالنا إلاّ التمسك بأذيالهم والاقتداء بآثارهم، قال تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه﴾ ( ).
وعن زرارة، قال: سُئل أبو عبد الله من بدء النسل من آدم كيف كان، وعند بدء النسل من ذرية آدم، فإن أناساً عندنا يقولون: إن الله عز وجل أوحى إلى آدم أن يزوج بناته ببنيه، وأن هذا الخلق كله أصله من الأخوة والأخوات.
فقال أبو عبد الله : (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يقول: من قال هذا ... بأنّ الله عز وجل خلق صفوة خلقه وأحباءه وأنبياءه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام؟!!! ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال!!! وقد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب، فوالله لقد تبينت أن بعض البهائم نُكرت له أخته، فلما نزا عليها ونزل كُشف له عنها، فلما علم أنها أخته أخرج عزموله ثم قبض عليه بأسنانه حتى قطعه فخر ميتاً. وآخر نُكرت له أمه ففعل هذا بعينه فكيف الإنسان في أنسيته وفضله وعلمه، غير أن جيلاً من هذا الخلق - الذي ترون - رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم، وأخذوا من حيث لم يأمروا بأخذه، فصاروا إلى ما ترون من الضلال والجهل بالعلم، كيف كانت الأشياء الماضية من بدء أن خلق الله ما خلق، وما هو كائن أبداً.
ثم قال: ويح هؤلاء أين هم عما لم يختلف فيه فقهاء أهل الحجاز ولا فقهاء أهل العراق، أن الله عز وجل أمر القلم فجرى على اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام، وأن كُتب الله كلها فيما جرى فيه القلم في كلها تحريم الأخوات على الأخوة مع ما حرم. وهذا نحن قد نرى هذه الكتب الأربعة المشهورة في هذا العالم: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، أنزلها الله عن اللوح المحفوظ على رسله منها التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، وعلى النبيين وليس فيها تحليل شيء من ذلك حقاً. أقول ما أراد من يقـول هذا وشبهه إلا تقويـة حجج المجوس، فما لهم قـاتلهم الله …) ( ).
فالحمد لله الذي فضحهم وأخزاهم بجهلهم وعنادهم للصادقين من آل محمد حيث جعلوا الأنبياء أولاد زنا، حاشاهم عن ذلك فسود الله وجه كل من تصدّى أمام الصادقين من آل محمد ، وادعى أنّه يعلم بسنة الرسول وبمحكم الكتاب ومتشابهه، ونصب نفسه إماماً يدعو إلى النار في أمور الدين، كما فعل الأمويون والعباسيون ومن تبعهم في أمور الدنيا ولم يبق عذر اليوم لأتباعهم إلاّ العناد والتكبر، وإلاّ أن يقولوا عنـزة ولو طارت!
وعمدة العقائد التي يجب الإيمان بها هي ما جاءت في آخر سـورة البقرة، وهي التي آمن بها النبي ، وهي:
الأيمان بالله وبالملائكة وبالكتب السماوية وبالرسل، سواء كانوا أنبياء أو أوصياء أو أي مرسل من الله سبحانه، حتى ولو كان مرسل للقيادة الدنيوية فقط كطالوت .
فعلى كل مسلم أن يؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وأن يؤمن بنبوة محمد ، وأن يؤمن بالملائكة والكتب والأنبياء السابقين وأوصيائهم وشرائعهم، وأن يحترمها وإن نسخت؛ لأنها كانت شريعة الله في يوم من الأيام على هذه الأرض. وعلى المسلم أن يؤمن بأوصياء النبي محمد الاثني عشر ، وأن يقبل كل ما صح من الأخبار عنهم ، كما على المسلم أن يؤمن أن الوصي الثاني عشر من أوصياء محمد هو الإمام محمد بن الحسن المهدي ، وهو حي يرزق إلى اليوم وسيقوم بالسيف كما قام جدّه ، وعلى المسلم موالاته والنصح له، وتقديمه على النفس والمال والولد، والعمل لإعلاء كلمته وإظهار أمره ومظلوميته، والتهيئة لدولته ، ومعاداة عدوه من أئمة الجور المتسلطين على هذه الأمة، وأعوانهم وجنودهم الكافرين الخارجين من ولاية الله إلى ولاية إبليس (اللعين). وعلى المؤمن أن لا يخشى عددهم وعدتهم.
قال تعالى: ﴿وَمكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
الأحكام:
أمّا الأحكام، فهي مجموع التشريعات التي يأتي بها الأنبياء والمرسلون منه سبحانه، والتي يكلف بها العباد وربما نسخ بعضها، أو زيدت تشريعات أخرى خلال مرور الزمن وفق علم الحكيم الخبير بما يصلح حال العباد والبلاد في كل زمن، ولا يصح النسخ والتغير والزيادة إلاّ ببعث نذير معصوم ناطق عن الله وعامل بأمره، ومن ابتغى وراء ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً، ولو نظرنا في الشرائع السماوية والأحكام الإلهية لوجدنا تطبيقها هو، وهو فقط المصلح للأرواح والأبدان والبلاد والاقتصاد، فمن شرّع أو غيّر ونسخ أو زاد في الشريعة من غير أولئك المعصومين الناطقين عن الله فقد ادّعى أنّه إله وعلى الخلق أن يعبدوه، وإن لم يصرح بهذا في قوله، فقد صرح القرآن أن اليهود كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم من دون الله؛ لأنّهم كانوا يحلّون لهم الحرام ويحرمون الحلال فيطيعونهم، عن أبي جعفر في تفسير قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ( )، قال : (وأمّا أحبارهم ورهبانهم فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم واتبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه، فاتخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم، وتركهم ما أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتبعوه وأطاعوهم وعصوا الله، وإنّما ذكر هذا في كتابنا لكي نتعظ بهم … ) ( ).
إذن فكل عقيدة يعتقدها الإنسان إن لم يأخذها من معصوم جاء بها من الله فهي عبادة من دون الله، وكل حكم شرعي يتعبد به الإنسان إن لم يأخذه من معصوم جاء به من الله فهو عبادة لذلك الشخص الذي أفتى وشرّع؛ لأنّه ادعى أنه إله، حيث إن المعصومين أنفسهم ليس لهم إلاّ نقل الحكم الشرعي عن الله.
قال الإمام الصادق في رسالته المشهورة إلى الشيعة: (أيتها العصابة المرحومة المفلحة، أن الله أتم لكم ما أتاكم من الخير، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء. وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن الذين أتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، أغناهم الله عن ذلك بما أتاهم من علمه أخصهم به، ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم، وهم الذين من سألهم - وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم - أرشدوه، أعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه، وإلى جميع سبل الحق، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم - الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم - ألا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق، تحت الأظلة، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم، وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان؛ لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين، وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراماً، وجعلوا ما حرّم الله في كثير من الأمر حلالاً.
فذلك أصل ثمرة أهوائهم، وقد عهد إليهم رسول الله قبل موته فقالوا: نحن بعد ما قبض الله عزّ وجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما أجتمع عليه رأى الناس، بعدما قبض الله عزّ وجل رسوله ، وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به. مخالفاً لله ولرسوله ، فما أحد أجرأ على الله، ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك، وزعم أن ذلك يسعه.
والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد ، وبعد موته. هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحداً ممن أسلم مع محمد أخذ بقوله ورأيه ومقائيسه؟ فإن قال: نعم، فقد كذب على الله وضل ضلالاً بعيداً. وإن قال: لا، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه، فقد أقر بالحجة على نفسه. وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله ، وقد قال الله وقوله الحق: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾( )، وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمد ، وبعد قبض الله محمداً ، وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه، خلافاً لأمر محمد ، فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه) ( ).
فإذا كان الأئمة مع تمام عقولهم وعلمهم بمحكم الكتاب ومتشابهه، وتنـزيله وتأويله، ليس لهم الفتوى، بل ينقلون عن الله وعن رسوله ، فكيف يكون لغيرهم مع نقصان عقولهم وجهلهم بالمحكم والمتشابه، والتنـزيل والتأويل.
قال الإمام الصادق لأبي حنيفة عندما دخل عليه: (يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حق معرفته؟!!! وتعرف الناسخ والمنسوخ؟!!! قال: نعم، قال : يا أبا حنيفة، لقد ادعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل الله عليهم. ويلك ولا هو إلاّ عند الخاص من ذرية نبينا ، ما ورثك الله من كتابه حرفاً، فإن كنت كما تقول ولست كما تقول، فأخبرني … ) ( ).
* * *
Comment