بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد واله الطاهرين الأئمة والمهديين وسلم تسليما
في رحاب آيات من سورة الكهف وهي تشير إلى لقاء نبي الله موسى بالعبد الصالح الذي شاء الله أن يبقى مخفياً إلى حين إذنه سبحانه بظهوره .. وهي كلمات كتبت بعد الاستفادة من جواب السيد احمد الحسن عليه السلام فيما يرتبط بهذا المثل القرآني .لابد أن يلتفت دائماً ونحن نسير في رحاب هذا المثل العظيم أنّ اللقاء بين حجتين معصومين من حجج الله على خلقه ، إلا أن احدهما أعلى درجة عند الله فكان معلماً والآخر اقل فكان متعلماً ، فهو لقاء إذن بين متعلم ومعلم ، على أنّ المتعلم متعلم فيما إذا قيس إلى معلمه وأما بلحاظ الناس فهو معلم لهم كيف وهو موسى نبي الله ومن أولي العزم من الرسل ، هذا أمر .
والأمر الآخر : إنّ العصمة درجات وليس درجة واحدة وما يهم الناس منها هو هذا القدر : أن المعصوم لا يدخلهم في باطل ولا يخرجهم من حق ، ولكن لو اجتمع معصومان بدرجتين متفاوتتين في العصمة فانّ الفرق بينهما سيكون جلياً كما لو انك ترى الأدنى غير معصوم وهو يواجه الأعلى .
الآن ، لو نظرنا إلى كلمات العبد الصالح مع موسى : ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ..... قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ..... قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً ..... قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ..... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ ، لوجدنا انه لايكاد يكلمه إلا وبكّته العبد الصالح بقلة الصبر مع أن الصبر من الإيمان - كما نعلم - بمنزلة الرأس من الجسد كما وصفه الرسول الكريم ، ويقول عنه الله سبحانه : ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ .
ولكنا نرى أن العبد الصالح كان يصف موسى وهو نبي ورسول من أولي العزم بأنه لا يمكنه أن يصبر معه ، فلو أننا كنا بين الاثنين فلا مجال للتخيير فضلاً عن الشك في أننا سنتبع العبد الصالح دون موسى باعتبار انه المرشد والمعلم لموسى ، وكان الأخير محتاجاً له وقد بيّن سبب إتباعه واحتياجه للعبد الصالح : ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ ،انه إذن العلم والمعرفة فهو محتاج له في ذلك ، وهذا يبين لنا بجلاء تمايز المعصومين .
نعم ، ربما يبقى هناك إشكال كتبه بعض من يجهلون الحقيقة وخاضوا فيما لا يعلمون ، حيث قالوا إن العبد الصالح ليس اعلم من موسى ولكنه خُصّ بعلم الباطن ، وخص موسى بعلم الشريعة ، ويبقى موسى هو الحجة على العبد الصالح لا العكس ، هذا ربما هو رأيهم جميعاً .
في حين أن الأمر محسوم قرآنياً كما هو واضح لصالح العبد الصالح ، فهذا تصريح قرآني واضح بتسليط العبد الصالح على موسى وكونه حجة عليه : ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾ . فلو لاحظنا : ﴿ لَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً .. ﴾ ، و ﴿ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً﴾ ، واعتذار موسى وصيغته ، وأيضاً ما قاله العبد الصالح في مخاطبته لموسى : ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ ، لبان الأمر بوضوح ، وان موسى هو من كان متعلماً ومحجوجاً بالعبد الصالح ، بل واخفق في مراحل التعليم عنده ، ويجب أن لا ننسى أن هؤلاء حجج الله سبحانه وموسى من أولي العزم من الرسل وهم خمسة فقط ، ولكن العبد الصالح يكلمه كما يكلم المعلم من يريد تعليمه ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ .
وأما سبب لقاء موسى بالعبد الصالح إجمالاً فهو : إنّ موسى تصور أنه عرف الحقيقة وحارب ( الأنا ) بأكمل صورها ، خصوصاً انه من كان لا يرى نفسه خير من كلب أجرب كما في الحديث ، وقد ورد أنّ الله سبحانه لما كلّمه وانزل عليه الألواح أحس في لحظة بأنّ الله سبحانه لم يخلق من هو اعلم منه ، فأرسل الله إليه جبرائيل يبلغه بالرحلة للقاء العبد الصالح .
وأيضاً : طلب موسى من الله سبحانه أن يكون هو قائم آل محمد ، عن سالم الأشل قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر يقول : ( نظر موسى بن عمران في السفر الأول إلى ما يعطى قائم آل محمد من التمكين والفضل ، فقال موسى : رب اجعلني قائم آل محمد ، فقيل له : إن ذاك من ذرية أحمد . ثم نظر في السفر الثاني فوجد فيه مثل ذلك فقال مثله ، فقيل له مثل ذلك ، ثم نظر في السفر الثالث فرأى مثله ، فقال مثله ، فقيل له مثله ).
ولو نظرنا إلى بداية حركة موسى للقاء نجد انه يبحث عن ( مجمع البحرين ) ويصف حاله انه لا مانع عنده أن يمضي الدهور في البحث عنه ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾ ، امضي حقباً ؟!! هذا هو شوق موسى الذي يبديه لفتاه ووصيه يوشع بن نون في بلوغ مجمع البحرين وشدة اهتمامه بالوصول إليه ، بل يعتبر أن قضاء الدهور في البحث عن مجمع البحرين أمر طبيعي ، فكم هو عزيز ذلك اللقاء على قلب موسى .
ولكن رغم كل ذلك الشوق نرى أنّ موسى قد ضيعه بادئ الأمر ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾ ، فهل يعقل أن يضيع إنسان عادي - فضلاً عن أن يكون نبياً من أولي العزم ويعتبر قضاء الدهور وإمضاء الحقب يسيراً دون بلوغ ذلك المجمع ولقائه - مكاناً يجتمع فيه نهران ، هل يعقل ذلك ؟! ولكن النتيجة أنّ موسى قد ضيعه بعد بلوغه والوصول إليه ؟!
في الحقيقة لم يكن ( مجمع البحرين ) مكاناً لالتقاء نهرين بل كان رجلاً ولذا ضيعه موسى بادئ الأمر ومرّ بقربه ولم يعرفه ، وقد جاء في تفسير القمي : ( ... لما أخبر رسول الله ص قريشاً بخبر أصحاب الكهف قالوا أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه وما قصته ، فأنزل الله عز وجل : ﴿ وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ .
قال : وكان سبب ذلك أنه لما كلم الله موسى تكليماً وأنزل عليه الألواح وفيها كما قال الله تعالى : ﴿ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ رجع موسى إلى بني إسرائيل فصعد المنبر فأخبرهم أن الله قد أنزل عليه التوراة وكلمه ، قال في نفسه : ما خلق الله خلقاً أعلم مني ، فأوحى الله إلى جبرئيل أن أدرك موسى فقد هلك وأعلمه أن عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجلاً أعلم منك فصر إليه وتعلم من علمه ، فنزل جبرئيل على موسى وأخبره فذل موسى في نفسه وعلم أنه أخطأ ودخله الرعب وقال لوصيه يوشع بن نون : إن الله قد أمرني أن أتبع رجلاً عند ملتقى البحرين وأتعلم منه ...) .
وإذا أردنا معرفة ذلك الرجل فما علينا إلا الذهاب إلى سورة الرحمن لننظر البحرين ومجمعهما هناك وسنجد روايات كثيرة رواها السنة والشيعة بأنّ البحرين هما علي وفاطمة عليهما السلام ، ومجمعهما الحسن والحسين عليهما السلام والحجج من بعدهم .
عن أبي سعيد الخدري في قوله عز وجل : ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾ ، قال : ( علي وفاطمة ، قال : لا يبغي هذا على هذه ، ولا هذه على هذا . ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ ،قال : الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين ) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه في قوله عز وجل : ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾قال : ( علي وفاطمة عليهما السلام ، ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾قال : الحسن والحسين عليهما السلام ، فمن رأى مثل هؤلاء الأربعة : علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ؟ لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا كافر ، فكونوا مؤمنين بحب أهل البيت ، ولا تكونوا كفاراً ببغض أهل البيت فتلقوا في النار ) .
فمجمع البحرين إذن رجل وليس مكان ولهذا ضيعه . والأئمة والمهديين ( آل محمد ) وإن كان يصدق على كلِّ واحد منهم بأنه مجمع البحرين ، ولكن موسى لو تذكرنا طلبه لما نظر إلى السفر لوجدناه يطلب مجمعاً خاصاً وهو ( القائم ) ؛ ذلك انه يأتي بالحصيلة التي جاء الخلق لأجلها وهي الـ ( 27 ) حرفاً من التوحيد والمعرفة ، عن أبان عن أبي عبد الله قال : ( العلم سبعة وعشرون حرفاً فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين ، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس ، وضم إليها الحرفين ، حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً )
وموسى في لقائه بالعبد الصالح كان قد تعهد بالصبر ، ومع هذا وجد نفسه يخرج من إخفاق ليقع في آخر : ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾هذه كانت المرة الأولى ، أما الثانية فكان موسى فيها منكسراً : ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً﴾، وفي الثالثة نلاحظ أن موسى قد اختار الصمت أو أن الصمت هو الذي اختار موسى ، فظل يستمع فقط ولم يتكلم بعدها ، فتعلم موسى وتحقق الهدف من مجيئه ، فانّ العبد الصالح قال لموسى بهذه الأفعال البسيطة كل شيء ، قال له إن محاربة الأنا مراتب لا تنتهي ، ونعمة الله لا تحصى ، والمقامات التي يمكن للإنسان تحصيلها لا تحصى .
فتدرج العبد الصالح مع موسى في مراتب التوحيد فالأولى كانت ( أنا ) والثانية ( نحن ) والثالثة ( هو ) ، ومع أنها كانت بأمر الله ولكنها على التوالي تشير إلى الكفر بمرتبة ما : ( أنا وليس هو ) ، والشرك بمرتبة ما : ( أنا وهو ) ، والتوحيد ( هو فقط ) .
﴿ ... أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ ... ... وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا ..... وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ ..... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي .....﴾.
وأهم ما يستقى من دروس وعبر من هذا اللقاء الرباني :
1- إنّ الإنسان ربما يضيع هدفه ، فهذا موسى ومع شديد اهتمامه وشوقه ضيع هدفه الذي يعتبر أنّ إنفاق الدهر في البحث عنه قليل ، فهلا تلتفت هذه الأمة أنها ربما ضيعت هدفها الذي تطلبه في نصرة إمامها وهي تحاربه اليوم بمحاربتها لوصيه فتثوب إلى رشدها ، وهل هي خير من موسى ؟!!
2- إنّ آل محمد قوم لا يقاس بهم احد من البشر طراً بما فيهم أنبياء الله ورسله ، بل أولوا العزم منهم فضلاً عن غيرهم ، فانّ للعصمة درجات وهي تعتمد على المعرفة ، وكان لمحمد واله صلوات الله عليهم أجمعين قدم السبق في ذلك ، فصار من دونهم متعلماً منهم .
3- التسليم لحجج الله هو درب النجاة ، وللصبر فيه موقع هام .
4- إنّ محاربة الأنا لا تنتهي وتقف عند حد ، وبمقدار محاربة الإنسان لها يرتقي في سلم التوحيد وينال مرتبة أعلى بمقدار حربه وانتصاره على الأنا .
5- التدرج في التعليم وطرح المعرفة ، وهو درس للدعاة إلى الله .
وغير ذلك مما يستقيه المتأمل ، والحمد لله رب العالمين .
Comment