بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
(الماكيافيلية، أو الوصولية، أو النفعويّة...) أسماء متعدّدة لمعنى واحد والماكيافيلية تُنسب إلى مؤسّسها الإيطالي الشهير "Machiavelli"الذي كتب كتابه المعروف " الأمير " "il principe" وهو مفكّر عاش في القرون الوسطى في عصر النهضة الإيطالية في إمارة فلورانسا قلب إيطاليا الثقافي والحضاري والفكري.
و(للماكيافيلية) مقولة شهيرة كانت الأساس الذي ضرب بالمثل العليا عرض الحائط وجعلت لكلّ مغامر الفرصة في إمكانية الوصول إلى ما يطمح ويريد، هذه المقولة هي: "الغاية تُبرّر الوسيلة".
ولا أدري، هل يصحّ أن ننسب هذه النظرية أو الفلسفة ـ التي استشرت في أوروبا ونالنا منها نحن المسلمون المآسي والويلات ـ إلى ماكيافيلّي أم إلى معاوية بن أبي سفيان؟!
إنّ معاوية بن أبي سفيان من دهاة العرب الأربعة(1) كما يوصف، وهو مثال حيّ وقوي على الرجل النفعي الماكيافيلّي، فهو كالحرباء المتغيّرة اللّون حسب الظروف، فمعاوية حسب نشأته ومكانة أبيه في قريش لا يمكن أن يكون مسلما، لأنّ قبوله بالدين الجديد معناه أن يفقد جميع الإمتيازات التي كان يتمتّع بها وهو فتى من فتيان قريش المترفين ـ إنّه مثال للرّجعيّة الإجتماعية التي ترى في كلّ دعوة إصلاحية ـ وضعيةً
____________
1 ـ هم: معاوية، عمرو بن العاص، المغيرة بن شعبة، زياد بن أبيه. أنظر كتاب أسد الغابة: ترجمة المغيرة بن شعبة.
كانت أو سماوية ـ ضربة قاصمة للإمتيازات الطبقية التي كان يرفل فيها(1) ـ وهكذا شبّ معاوية ونشأ.
زيادة على ذلك (الخوف من فقدان الإمتيازات) ما لاقاه المسلمون الأوائل من شدة وتعذيب ما كان ليشجع معاوية (اللاّمبدئي) بأن يدخل هذا الدّين الجديد، لكن لمّا اشتدّت شوكة المسلمين وعظمت قدرة المسلمين يسرع أبو سفيان إلى خارج مكّة ليبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنّه مازال يرى أنّ محمّدا ملكا حتى أن نهاه العبّاس (رضي الله عنه)، وما كان أيسرها من كلمة ـ الشهادتين ـ فيكفي أن يلفظها أبو سفيان وهند ومعاوية بالنتيجة، حتّى يعصموا دماءهم وأموالهم وكذا مراكزهم الماديّة.
وهكذا يطلع علينا معاوية مُسلماً، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، لكن الفارق بينه وبينهم أنّه لا سابقة له ولا جهاد، ولا حتّى رمية سهم أو رمح في سبيل هذه الدعوة الجديدة!
كذلك هناك مفارقة كبيرة جعلته يشعر بالخزي والمذلّة أينما اتّجه، ألا وهي كونه من الطّلقاء.
لا يبرز أيّ ذكر لمعاوية إلى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحتّى إلى شوط كبير من حياة الخلفاء، إلى أن يُعَيَّنَ والياً على الشام ـ جزء منها ـ خلفاً لأخيه يزيد بن أبي سُفيان، ولا عجب إلاّ من عمر بن الخطاب الّذي ترك أجلاّء الصحابة جليسي بيوتهم ويولّي هذا الشّخص المغمور!! وهو القائل:
____________
1 ـ (وإذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) [ سورة الإسراء: 16 ].
"إنّ ولاية الأمر لا تكون لطليق ولا لمسلمة الفتح"(1)، فما عدا ممّا بدا؟!
وولاية الشام فتحت لمعاوية المغامر آفاقا وآفاقا، وهي التي مهّدت له خلافة المسلمين فيما بعد.
وجاءت الفتنة الكبرى، حيث أحاطت جموع الثائرين والجائعين الذين رأوا بني أمية يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع(2)، ورأوا الوليد بن عقبة(3) يصلّي بهم في الكوفة صلاة الصّبح أربعا وهو سكران، ورأوا ما كان عليه معاوية وبقية عمّال عثمان من بطر وجاهلية جديدة وطبقية بغيضة مغلّفة بغلاف الإسلام!
حُوصر عثمان في بيته أربعين يوماً، فهل أثارت حالة الخليفة هذه ابن عمّه معاوية بن أبي سفيان؟!
الجواب: لا.
هل كان معاوية عاجزا أن يرسل جيشا أو حتّى كتيبة تفكّ حالة الحصار عن ابن عمّه عثمان الأموي؟!
والجواب: لا. إذن لماذا تقاعس معاوية عن نصرة عثمان؟! والجواب: هو شخصيّة معاوية الماكيافيليّة التي لا يمكن أن ترتكب هذه المجازفة الخطيرة فتُوقد هَكذا خطوة نقمة المسلمين عليه كما أُوقِدت على عثمان،
____________
1 ـ مسلمة الفتح: هم الذين أسلموا يوم فتح مكّة وربّما يقصدهم ومن أسلم بعد ذلك، راجع طبقات ابن سعد 3/342، حيث قال: "هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثمّ في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لمسلمة الفتح شيء".
هذا مع أنّ عمر عندما كان يرى معاوية كان يقول عنه: هذا كسرى العرب [ تاريخ الإسلام للذهبي سنة 41 ـ 61 هـ ص 311 ].
2 ـ أنظر كلام الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: الخطبة 3 المعروفة بالشقشقيّة.
3 ـ هو الذي سمّاه القرآن فاسقا [سورة الحجرات: 6 ] أنظر: تفسير الدر المنثور 7/555، تفسير الطبري 26/78، تفسير القرطبي 16/311، تفسير ابن كثير 4/223.
وزيادة على ذلك وهو الأهم، كان معاوية يرى أنّ هذه الفتنة قد تَرفَعه وتدفعه إلى مقام ما كان ليحلم به حتّى في المنام. ألا وهو مقام الخلافة وقيادة الأمّة!!
وهل كان لمعاوية مطمع فيها وكبار الصحابة كعليّ وعمّار والزّبير وسعد على قيد الحياة؟!
نقول: إنّ السرّ موجود في ماكيافيلية معاوية الّذي لولا بعدُ نظره وكثرة أحلامه لما استمرّ على ولاية الشام سنة واحدة، وهو الذي كان يعيش فيها عيش الأكاسرة والأباطرة.
لقد أراد معاوية كبش فداء لطموحه الكبير، فكان عثمان أو قميص عثمان، فما إن قُتل الخليفة حتّى أقام عليه معاوية المناحات وعلّق قميصه على منبر مسجد الشام، واستغلّ هذا القميص أحسن استغلال حتّى يبدو وكأنّه المدافع عن حرمة الخلافة ويكسب بذلك القلوب.
يُقتل الخليفة ولا ينصره بشيء، ويأخذ قميصه ويجعل منه قضية السّاعة(1)!
ليس المهم عند معاوية أن يُقتل عثمان ولا تهمّه كذلك الأسماء، المهم لديه ماذا ستُضيف إليه هكذا أحداث، وأيّة موجه يركب حتّى تدفعه خطوة إلى الأمام. وتبدأ فصول المسرحية، فعندما يبايع المهاجرون والأنصار أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ويقوم بعزل جميع ولاة عثمان لما أحدثوا من عظائم الأمور، يرى معاوية أنّه وصل إلى نقطة الصّفر، حيث سيعود كما بدأ بل أرذل، لكن هل يخضع معاوية وأمثاله
____________
1 ـ حتّى ضرب بذلك المثل فيقال لمن يستغل شيئاً بسيطاً ويكثر من استغلاله: قميص عثمان.
في كلّ عصر ومصر إلى هكذا نهاية بعد كلّ ذلك العناء؟!
الجواب: قطعا لا.
وهنا تبدأ الذهنية الشريرة التي تُحوّل المواقف الحرجة إلى مكاسب، جعل معاوية ينادي بالقصاص من قتلة عثمان شرطا لكي ينعزل ويتنحّى، وما أذكاه من شرط! حتّى يكسب شيئين: عدم التنحّي، وإظهار نفسه بمظهر الشرعية لاستمالة قلوب الناس.
وما أشبه اليوم بالبارحة! فما أكثر الحكّام اليوم الذين رفعوا قميص فلسطين لكنهم لم يرموا إسرائيل بأيّ رصاصة، ثم قس على ذلك بقية القمصان وما أكثرها في كلّ عصر وزمان وإن تغيّر المصداق.
ما أذكاه من شرط! وهل هناك قتلة معيّنون قتلوا عثمان؟!
إنّ كلّ الأمة قتلت عثمان، وفي مقدّمتهم عائشة وطلحة والزبير وحتّى... عمرو بن العاص الذي عزله عن مصر فكان يقول: "كنت ألقى الراعي فأحرّضه على عثمان"(1).
فهل اقتصّ معاوية منهم بعد ذلك حين صار خليفة المسلمين؟!... يا له من موقف حرج آخر أشد من الأوّل!!
إنّ جنود الإمام عليّ(عليه السلام) يقتربون من خيمة معاوية، وسيف مالك الأشتر حامل لواء جيش أمير المؤمنين يلوح أحمر تحت لهيب الشمس في ذلك اليوم من أيام حرب صفّين.
____________
1 ـ أنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/163.
هل ستكون الضّربة القاضية التي تأخرت عن معاوية كثيرا؟! هكذا كان معاوية يفكّر وهو يستعدّ ليحزم أمتعته ويفرّ من الميدان إلى... امبراطور بيزنطة ربّما.
لكن ما أحلى ذلك السّلاح الذي طالما جرّبه معاوية ولم يخب: "الغاية تبرّر الوسيلة" وجاءت فكرة عمرو بن العاص برفع المصاحف.
الآن، الآن تقيم للمصحف وزناً يا معاوية وقد خالفت كلّ أحكامه(1)؟!
ورحم الله أحمد شوقي بقوله:
خرج الثعلب يوماً في ثياب الناسكينا.
وما أكثر اليوم من يرفعون المصاحف لغاياتهم الخبيثة!
والحيلة آتت أكلها، حيث دبّ الخلاف وطلعت الفتنة بعد رفع معاوية للمصاحف، وانشقت الأمة إلى فرق وأحزاب، وما زالت إلى يومنا هذا.
ويظهر معاوية بن أبي سفيان "كرجل سلام" من الدرجة الأولى، حيث يعقد بعد استشهاد عليّ صلحا مع الحسن بن عليّ، فيبدو في عيون المسلمين المُستَغْفَلين حريصا على الدّماء وصائناً لها، لكنّه سرعان ما يغدر بالإمام الحسن ويفتك به، عن طريق إرسال السمّ إليه بواسطة واليه على المدينة والذي بدوره يعطيه لزوجة الحسن حتّى لا يبقى في الأمة معارض له، ويُتوّج جهوده الإعلامية والرشويّة فيصبح أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين فياله من خليفة ويا لهم من مسلمين!! ويظهر معاوية حقيقته التي طالما سعى لإخفاءها خوفا من شوكة الصحابة الأجلاّء وخوفا من السقوط. أما وقد فتك بالصالحين منهم واشترى ذمم
____________
1 ـ مثل أنه صلّى صلاة الجمعة يوم الأربعاء عند مسيره لحرب صفّين، والخروج على الحاكم الشرعي، وقتاله بغيا لبقية المسلمين، أنظر: مروج الذهب للمسعودي 3/32.
الباقين(1)، فلا بأس بالتعرّي وكشف السّوءة، فيقول مجاهرا غير مستح قولته الشهيرة: " إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتصوموا، لكنّي قاتلتكم حتّى أتأمّر عليكم!! "(2).
وما الصلاة وما الحجّ وما الإسلام أصلاً أمام المُلك الّذي لبسه غصبا وأورثه ملكا عضوضا إلى بني أمية من بعده حتّى كاد الإسلام يعود أثرا بعد عين، وحتّى وصل الأمر بأمراء بني أمية أن يضربوا الكعبة بالمنجنيق، ويستبيحوا المدينة المنوّرة، ويسخر الحجّاج بن يوسف من طواف المسلمين بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنبره ويقول: إنّما يطوفون بأعواد ورمّة، وينصحهم بأن يطوفوا بقصر "أمير المؤمنين" عبدالملك بن مروان بالشام(3).
نعم، ما كان أظلمها من صفحات في تاريخنا الإسلامي، فأبو ذر صاحب السّابقة يموت وحيدا شريدا في صحراء الرّبذة، ومعاوية لا يموت إلاّ وهو يلعب مع جواريه وخصيانه بالدّولة الإسلامية العريضة من المشرق إلى المغرب.
____________
1 ـ كقتله للصحابي الجليل حجر بن عدي باعتراف أُمّ المؤمنين عائشة وباعترافه هو نفسه حيث كان يقول: الويل لي من حجر يكرّر ذلك ثلاثاً، أنظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/49.
أمّا أكبر ذمّة لصحابي اشتراها معاوية فهي ذمة أبي هريرة.
2 ـ أنظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/131.
3 ـ أنظر: الكامل للمبرد 1/222، العقد الفريد لابن عبد ربه 5/310.
وليس عسيراً بعد ذلك على معاوية بما يملك من مال وبطش أن يجعل من نفسه كاتب الوحي(1)، وخال المؤمنين(2)، بل حتّى هادياً مهديّا(3) وأن يضع الفضائل الزائفة فيمن أحبّه، وأن يلعن وينتقص من أبغضه(4).
وليس عجيبا بعد أن ترى في حكّام اليوم الذين يحكمون بلدانهم لفترات محدودة أن يحرّفوا التاريخ ويقرّبوا من شاؤوا ويبعدوا من شاؤوا حتّى يصبح أحدهم الربّ الأعلى على سيرة فرعون، وكلّهم كمعاوية مجتهدون مخطئون لهم أجر واحد، والبركة في المضيرة لمن يشتهيها والسّيف لمن يخافه!.
ومن يدري فلعلّ ماكيافيلّي اطلع على تاريخنا وبنى على سيرة معاوية مدرسته الفكريّة، من يدري؟!
____________
1 ـ ولا ندري متى كتب الوحي وقد أسلم يوم الفتح في أواخر حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
أنظر: صحيح مسلم: فضائل الصحابة فضائل أبي سفيان 4/1945، مسند أحمد 4/226 حديث رقم 2651.
2 ـ لأنّه أخو أم حبيبة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي أبغضت أباها كما أبغضت أخاها.
3 ـ في حديث مزعوم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللّهم اجعله هادياً مهديّا وأهد به! " أنظر صحيح الترميذي 6/157 حديث 3842.
4 ـ كأمره لوعّاظه في طول البلاد وعرضها بلعن علي بن أبي طالب على المنابر واستمرّ ذلك إلى 70 سنة. أنظر: تاريخ الطبري حوادث سنة 51.
اللهم صل على محمد وآل محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
(الماكيافيلية، أو الوصولية، أو النفعويّة...) أسماء متعدّدة لمعنى واحد والماكيافيلية تُنسب إلى مؤسّسها الإيطالي الشهير "Machiavelli"الذي كتب كتابه المعروف " الأمير " "il principe" وهو مفكّر عاش في القرون الوسطى في عصر النهضة الإيطالية في إمارة فلورانسا قلب إيطاليا الثقافي والحضاري والفكري.
و(للماكيافيلية) مقولة شهيرة كانت الأساس الذي ضرب بالمثل العليا عرض الحائط وجعلت لكلّ مغامر الفرصة في إمكانية الوصول إلى ما يطمح ويريد، هذه المقولة هي: "الغاية تُبرّر الوسيلة".
ولا أدري، هل يصحّ أن ننسب هذه النظرية أو الفلسفة ـ التي استشرت في أوروبا ونالنا منها نحن المسلمون المآسي والويلات ـ إلى ماكيافيلّي أم إلى معاوية بن أبي سفيان؟!
إنّ معاوية بن أبي سفيان من دهاة العرب الأربعة(1) كما يوصف، وهو مثال حيّ وقوي على الرجل النفعي الماكيافيلّي، فهو كالحرباء المتغيّرة اللّون حسب الظروف، فمعاوية حسب نشأته ومكانة أبيه في قريش لا يمكن أن يكون مسلما، لأنّ قبوله بالدين الجديد معناه أن يفقد جميع الإمتيازات التي كان يتمتّع بها وهو فتى من فتيان قريش المترفين ـ إنّه مثال للرّجعيّة الإجتماعية التي ترى في كلّ دعوة إصلاحية ـ وضعيةً
____________
1 ـ هم: معاوية، عمرو بن العاص، المغيرة بن شعبة، زياد بن أبيه. أنظر كتاب أسد الغابة: ترجمة المغيرة بن شعبة.
كانت أو سماوية ـ ضربة قاصمة للإمتيازات الطبقية التي كان يرفل فيها(1) ـ وهكذا شبّ معاوية ونشأ.
زيادة على ذلك (الخوف من فقدان الإمتيازات) ما لاقاه المسلمون الأوائل من شدة وتعذيب ما كان ليشجع معاوية (اللاّمبدئي) بأن يدخل هذا الدّين الجديد، لكن لمّا اشتدّت شوكة المسلمين وعظمت قدرة المسلمين يسرع أبو سفيان إلى خارج مكّة ليبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنّه مازال يرى أنّ محمّدا ملكا حتى أن نهاه العبّاس (رضي الله عنه)، وما كان أيسرها من كلمة ـ الشهادتين ـ فيكفي أن يلفظها أبو سفيان وهند ومعاوية بالنتيجة، حتّى يعصموا دماءهم وأموالهم وكذا مراكزهم الماديّة.
وهكذا يطلع علينا معاوية مُسلماً، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، لكن الفارق بينه وبينهم أنّه لا سابقة له ولا جهاد، ولا حتّى رمية سهم أو رمح في سبيل هذه الدعوة الجديدة!
كذلك هناك مفارقة كبيرة جعلته يشعر بالخزي والمذلّة أينما اتّجه، ألا وهي كونه من الطّلقاء.
لا يبرز أيّ ذكر لمعاوية إلى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحتّى إلى شوط كبير من حياة الخلفاء، إلى أن يُعَيَّنَ والياً على الشام ـ جزء منها ـ خلفاً لأخيه يزيد بن أبي سُفيان، ولا عجب إلاّ من عمر بن الخطاب الّذي ترك أجلاّء الصحابة جليسي بيوتهم ويولّي هذا الشّخص المغمور!! وهو القائل:
____________
1 ـ (وإذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) [ سورة الإسراء: 16 ].
"إنّ ولاية الأمر لا تكون لطليق ولا لمسلمة الفتح"(1)، فما عدا ممّا بدا؟!
وولاية الشام فتحت لمعاوية المغامر آفاقا وآفاقا، وهي التي مهّدت له خلافة المسلمين فيما بعد.
وجاءت الفتنة الكبرى، حيث أحاطت جموع الثائرين والجائعين الذين رأوا بني أمية يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع(2)، ورأوا الوليد بن عقبة(3) يصلّي بهم في الكوفة صلاة الصّبح أربعا وهو سكران، ورأوا ما كان عليه معاوية وبقية عمّال عثمان من بطر وجاهلية جديدة وطبقية بغيضة مغلّفة بغلاف الإسلام!
حُوصر عثمان في بيته أربعين يوماً، فهل أثارت حالة الخليفة هذه ابن عمّه معاوية بن أبي سفيان؟!
الجواب: لا.
هل كان معاوية عاجزا أن يرسل جيشا أو حتّى كتيبة تفكّ حالة الحصار عن ابن عمّه عثمان الأموي؟!
والجواب: لا. إذن لماذا تقاعس معاوية عن نصرة عثمان؟! والجواب: هو شخصيّة معاوية الماكيافيليّة التي لا يمكن أن ترتكب هذه المجازفة الخطيرة فتُوقد هَكذا خطوة نقمة المسلمين عليه كما أُوقِدت على عثمان،
____________
1 ـ مسلمة الفتح: هم الذين أسلموا يوم فتح مكّة وربّما يقصدهم ومن أسلم بعد ذلك، راجع طبقات ابن سعد 3/342، حيث قال: "هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثمّ في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لمسلمة الفتح شيء".
هذا مع أنّ عمر عندما كان يرى معاوية كان يقول عنه: هذا كسرى العرب [ تاريخ الإسلام للذهبي سنة 41 ـ 61 هـ ص 311 ].
2 ـ أنظر كلام الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: الخطبة 3 المعروفة بالشقشقيّة.
3 ـ هو الذي سمّاه القرآن فاسقا [سورة الحجرات: 6 ] أنظر: تفسير الدر المنثور 7/555، تفسير الطبري 26/78، تفسير القرطبي 16/311، تفسير ابن كثير 4/223.
وزيادة على ذلك وهو الأهم، كان معاوية يرى أنّ هذه الفتنة قد تَرفَعه وتدفعه إلى مقام ما كان ليحلم به حتّى في المنام. ألا وهو مقام الخلافة وقيادة الأمّة!!
وهل كان لمعاوية مطمع فيها وكبار الصحابة كعليّ وعمّار والزّبير وسعد على قيد الحياة؟!
نقول: إنّ السرّ موجود في ماكيافيلية معاوية الّذي لولا بعدُ نظره وكثرة أحلامه لما استمرّ على ولاية الشام سنة واحدة، وهو الذي كان يعيش فيها عيش الأكاسرة والأباطرة.
لقد أراد معاوية كبش فداء لطموحه الكبير، فكان عثمان أو قميص عثمان، فما إن قُتل الخليفة حتّى أقام عليه معاوية المناحات وعلّق قميصه على منبر مسجد الشام، واستغلّ هذا القميص أحسن استغلال حتّى يبدو وكأنّه المدافع عن حرمة الخلافة ويكسب بذلك القلوب.
يُقتل الخليفة ولا ينصره بشيء، ويأخذ قميصه ويجعل منه قضية السّاعة(1)!
ليس المهم عند معاوية أن يُقتل عثمان ولا تهمّه كذلك الأسماء، المهم لديه ماذا ستُضيف إليه هكذا أحداث، وأيّة موجه يركب حتّى تدفعه خطوة إلى الأمام. وتبدأ فصول المسرحية، فعندما يبايع المهاجرون والأنصار أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ويقوم بعزل جميع ولاة عثمان لما أحدثوا من عظائم الأمور، يرى معاوية أنّه وصل إلى نقطة الصّفر، حيث سيعود كما بدأ بل أرذل، لكن هل يخضع معاوية وأمثاله
____________
1 ـ حتّى ضرب بذلك المثل فيقال لمن يستغل شيئاً بسيطاً ويكثر من استغلاله: قميص عثمان.
في كلّ عصر ومصر إلى هكذا نهاية بعد كلّ ذلك العناء؟!
الجواب: قطعا لا.
وهنا تبدأ الذهنية الشريرة التي تُحوّل المواقف الحرجة إلى مكاسب، جعل معاوية ينادي بالقصاص من قتلة عثمان شرطا لكي ينعزل ويتنحّى، وما أذكاه من شرط! حتّى يكسب شيئين: عدم التنحّي، وإظهار نفسه بمظهر الشرعية لاستمالة قلوب الناس.
وما أشبه اليوم بالبارحة! فما أكثر الحكّام اليوم الذين رفعوا قميص فلسطين لكنهم لم يرموا إسرائيل بأيّ رصاصة، ثم قس على ذلك بقية القمصان وما أكثرها في كلّ عصر وزمان وإن تغيّر المصداق.
ما أذكاه من شرط! وهل هناك قتلة معيّنون قتلوا عثمان؟!
إنّ كلّ الأمة قتلت عثمان، وفي مقدّمتهم عائشة وطلحة والزبير وحتّى... عمرو بن العاص الذي عزله عن مصر فكان يقول: "كنت ألقى الراعي فأحرّضه على عثمان"(1).
فهل اقتصّ معاوية منهم بعد ذلك حين صار خليفة المسلمين؟!... يا له من موقف حرج آخر أشد من الأوّل!!
إنّ جنود الإمام عليّ(عليه السلام) يقتربون من خيمة معاوية، وسيف مالك الأشتر حامل لواء جيش أمير المؤمنين يلوح أحمر تحت لهيب الشمس في ذلك اليوم من أيام حرب صفّين.
____________
1 ـ أنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/163.
هل ستكون الضّربة القاضية التي تأخرت عن معاوية كثيرا؟! هكذا كان معاوية يفكّر وهو يستعدّ ليحزم أمتعته ويفرّ من الميدان إلى... امبراطور بيزنطة ربّما.
لكن ما أحلى ذلك السّلاح الذي طالما جرّبه معاوية ولم يخب: "الغاية تبرّر الوسيلة" وجاءت فكرة عمرو بن العاص برفع المصاحف.
الآن، الآن تقيم للمصحف وزناً يا معاوية وقد خالفت كلّ أحكامه(1)؟!
ورحم الله أحمد شوقي بقوله:
خرج الثعلب يوماً في ثياب الناسكينا.
وما أكثر اليوم من يرفعون المصاحف لغاياتهم الخبيثة!
والحيلة آتت أكلها، حيث دبّ الخلاف وطلعت الفتنة بعد رفع معاوية للمصاحف، وانشقت الأمة إلى فرق وأحزاب، وما زالت إلى يومنا هذا.
ويظهر معاوية بن أبي سفيان "كرجل سلام" من الدرجة الأولى، حيث يعقد بعد استشهاد عليّ صلحا مع الحسن بن عليّ، فيبدو في عيون المسلمين المُستَغْفَلين حريصا على الدّماء وصائناً لها، لكنّه سرعان ما يغدر بالإمام الحسن ويفتك به، عن طريق إرسال السمّ إليه بواسطة واليه على المدينة والذي بدوره يعطيه لزوجة الحسن حتّى لا يبقى في الأمة معارض له، ويُتوّج جهوده الإعلامية والرشويّة فيصبح أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين فياله من خليفة ويا لهم من مسلمين!! ويظهر معاوية حقيقته التي طالما سعى لإخفاءها خوفا من شوكة الصحابة الأجلاّء وخوفا من السقوط. أما وقد فتك بالصالحين منهم واشترى ذمم
____________
1 ـ مثل أنه صلّى صلاة الجمعة يوم الأربعاء عند مسيره لحرب صفّين، والخروج على الحاكم الشرعي، وقتاله بغيا لبقية المسلمين، أنظر: مروج الذهب للمسعودي 3/32.
الباقين(1)، فلا بأس بالتعرّي وكشف السّوءة، فيقول مجاهرا غير مستح قولته الشهيرة: " إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتصوموا، لكنّي قاتلتكم حتّى أتأمّر عليكم!! "(2).
وما الصلاة وما الحجّ وما الإسلام أصلاً أمام المُلك الّذي لبسه غصبا وأورثه ملكا عضوضا إلى بني أمية من بعده حتّى كاد الإسلام يعود أثرا بعد عين، وحتّى وصل الأمر بأمراء بني أمية أن يضربوا الكعبة بالمنجنيق، ويستبيحوا المدينة المنوّرة، ويسخر الحجّاج بن يوسف من طواف المسلمين بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنبره ويقول: إنّما يطوفون بأعواد ورمّة، وينصحهم بأن يطوفوا بقصر "أمير المؤمنين" عبدالملك بن مروان بالشام(3).
نعم، ما كان أظلمها من صفحات في تاريخنا الإسلامي، فأبو ذر صاحب السّابقة يموت وحيدا شريدا في صحراء الرّبذة، ومعاوية لا يموت إلاّ وهو يلعب مع جواريه وخصيانه بالدّولة الإسلامية العريضة من المشرق إلى المغرب.
____________
1 ـ كقتله للصحابي الجليل حجر بن عدي باعتراف أُمّ المؤمنين عائشة وباعترافه هو نفسه حيث كان يقول: الويل لي من حجر يكرّر ذلك ثلاثاً، أنظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/49.
أمّا أكبر ذمّة لصحابي اشتراها معاوية فهي ذمة أبي هريرة.
2 ـ أنظر: البداية والنهاية لابن كثير 8/131.
3 ـ أنظر: الكامل للمبرد 1/222، العقد الفريد لابن عبد ربه 5/310.
وليس عسيراً بعد ذلك على معاوية بما يملك من مال وبطش أن يجعل من نفسه كاتب الوحي(1)، وخال المؤمنين(2)، بل حتّى هادياً مهديّا(3) وأن يضع الفضائل الزائفة فيمن أحبّه، وأن يلعن وينتقص من أبغضه(4).
وليس عجيبا بعد أن ترى في حكّام اليوم الذين يحكمون بلدانهم لفترات محدودة أن يحرّفوا التاريخ ويقرّبوا من شاؤوا ويبعدوا من شاؤوا حتّى يصبح أحدهم الربّ الأعلى على سيرة فرعون، وكلّهم كمعاوية مجتهدون مخطئون لهم أجر واحد، والبركة في المضيرة لمن يشتهيها والسّيف لمن يخافه!.
ومن يدري فلعلّ ماكيافيلّي اطلع على تاريخنا وبنى على سيرة معاوية مدرسته الفكريّة، من يدري؟!
____________
1 ـ ولا ندري متى كتب الوحي وقد أسلم يوم الفتح في أواخر حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
أنظر: صحيح مسلم: فضائل الصحابة فضائل أبي سفيان 4/1945، مسند أحمد 4/226 حديث رقم 2651.
2 ـ لأنّه أخو أم حبيبة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي أبغضت أباها كما أبغضت أخاها.
3 ـ في حديث مزعوم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللّهم اجعله هادياً مهديّا وأهد به! " أنظر صحيح الترميذي 6/157 حديث 3842.
4 ـ كأمره لوعّاظه في طول البلاد وعرضها بلعن علي بن أبي طالب على المنابر واستمرّ ذلك إلى 70 سنة. أنظر: تاريخ الطبري حوادث سنة 51.
Comment