[ إضاءة من المعجزة والعذاب
في الحلقة الأولى من الإضاءات قلت: إن الأنبياء يأتون ليرشدوا الناس إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم يتركونهم يختارون بين الحق الذي جاءوا به أو الباطل الذي عليه الناس وكبراؤهم من علماء الضلالة، وعادة بداية دعوة المرسلين تستند إلى شخصياتهم التي عرفهم بها قومهم واتصافهم بمكارم الأخلاق وصدق الحديث وأداء الأمانة، ولكن الناس - وحتى القريبين من المرسلين- ولأنهم نكسوا فطرتهم لا يستطيعون معرفة الحق الذي جاء به المرسلون، فتبدأ المسالة بطلب الدليل على الرسالة، فيأتي الرسول بالأدلة الكافية ليعلم الناس أنه صادق، ولكنهم يماطلون ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾([33])، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾([34])، ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾([35])، ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾([36]).
ما هي الآية المطلوبة ؟! آية علمية، آية روحية ملكوتية، آية مادية !!!
الحقيقة، إن الناس يختلفون في الآية المطلوبة والدالة على صدق المرسل عندهم، فبعضهم يعتبر العلم والحكمة هو الآية، وبعضهم يعتبر الآيات الملكوتية التي يراها الإنسان بنفسه أو يراها عدد من الناس يمتنع تواطؤهم على الكذب هي الآية المطلوبة، ومن هذه الآيات الملكوتية الكشف في اليقظة والرؤيا الصادقة في المنام، أما ما تبقى من الناس فيعتبرون الآية المادية هي الدليل لا غيرها، وهؤلاء بالحقيقة منكوسون ماديون، وفي الغالب حتى لو جاءت الآية المادية لا يؤمنون إلا قليل منهم على شك وريبة في الغالب، وبين يديك رسالات الأنبياء.
وعلى كل حال، نتعرض هنا إلى هذه الآيات على التوالي:
الآية العلمية: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾([37]).
ولعل أهم مائز لدعوات المرسلين هو العلم والحكمة وحسن التدبير، ولكن أكثر الناس لا يميزون بين الحكمة الإلهية التي ينطق بها المرسلون وبين السفسطة التي يعارضهم بها علماء الضلالة قطاع طريق الله سبحانه وتعالى، وعدم التمييز ليس بسبب صعوبة تمييز الحكمة كما يدعي أو يتوهم بعض الناس، بل إن أهم أسباب هذا الخلط هو أن الناس لوثوا فطرتهم وأصبحوا كالأعمى لا يميزون بين الخمر واللبن أو بين سفه الشيطان وحكمة الله سبحانه وتعالى، ويا للأسف فهذا حال معظم الناس في كل زمان.
وكمثال لتوضيح الحال التي وصل إليها المسلمون، إن محمداً (ص) جاء بالقران كمعجزة، والمسلمون جميعاً على هذا القول، ولكن من الذي يميز أن القرآن آية معجزة ؟ فلو جاء اليوم محمد بن عبد الله (ص) ونزل إلى الأرض ومعه سورة قرآنية جديدة، جاء بها من الله سبحانه وتعالى، فهل يستطيع المسلمون أن يميزوا هذه السورة ويقطعون أنها من الله سبحانه وتعالى ؟ وبالتالي يثبت عندهم أن هذا الشخص الذي جاء بها هو محمد (ص)، أقول وبلا تردد إن معظم المسلمين غير قادرين على التمييز وسواء منهم العلماء أم الجهلاء، إلا إذا كان هناك مسلمون لم يلوثوا فطرتهم، يستطيعون أن يميزوا هذه السورة ويعرفون أنها آية من الله سبحانه، وبالتالي فإن الذي جاء بها ليس شخصاً اعتيادياً.
إذن، فالنتيجة المتحصلة أن محمداً بن عبد الله (ص) لو جاء بالقرآن اليوم لكفر به معظم المسلمين ولم يؤمنوا به، ولقالوا ساحر وكذاب.
الآية الملكوتية:
هناك سؤالان مهمان يطرحان نفسيهما في هذا المقام:
1. ما هي الآية الملكوتية ؟
2. على من تكون هذه الآيات الملكوتية حجة ؟
والجواب: إن الآيات الملكوتية كثيرة جداً منها الآفاقية الملكوتية ومنها الأنفسية، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([38])، أي قيام القائم بالحق ومن هذه الآيات:
أنور البصيرة واطمئنان القلب والسكينة، إذا كان الإنسان على فطرة الله التي فطر الناس عليها لم يلوثها أو أنه عاد إليها بعد تذكره وانتباهه من الغفلة.
بالفراسة والتوسم في الآفاق والأنفس.
تالرؤيا الصادقة في النوم.
ثالرؤيا الصادقة في اليقظة ( الكشف ) ومنها:
1) الرؤيا الصادقة في الصلاة .
2) الرؤيا الصادقة في الركوع.
3) الرؤيا الصادقة في السجود.
4) الرؤيا الصادقة في السنة بين النوم واليقظة.
5) الرؤيا الصادقة عند قراءة القران.
6) الرؤيا الصادقة عند السير إلى أبي عبد الله الحسين (ع).
7) الرؤيا الصادقة عند الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
8) الرؤيا الصادقة في أضرحة الأئمة والأنبياء (ع) والمساجد والحسينيات وغيرها كثير.
وكل هذه الأنواع من الكشف والرؤيا الصادقة هي آيات إلهية لأنها لا تكون إلا بأمر الله وبمشيئة الله سبحانه وتعالى، ويقوم بها ملائكة الله سبحانه وتعالى وعباده الصالحون، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. فهذه الآيات حجة بالغة لله سبحانه وتعالى على عباده، لأنها كلماته التي يكلم بها الناس، فمن كذب بها فقد كذب الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظم أنواع الكفر والتكذيب، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([39]).
أي الآفاق الملكوتية والملكية وفي النفس الإنسانية، ليتبين لهم أنه الحق، أي قيام القائم (ع)، كما جاء في الروايات عنهم (ع)؛ لأن الناس يكذبون به ولا يصدقونه.
والله سبحانه وتعالى يعتبر أن معظم الناس غافلون ومعرضون عن الآيات النفسية والآفاقية، ولهذا يكون الكفر بالرسالات الإلهية نتيجة حتمية وحصيلة نهائية لا بد منها، ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾([40])، ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾([41])، ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾([42]).
وفي النهاية يهدد الله سبحانه وتعالى هؤلاء القوم الذين لا يؤمنون بالآيات الأنفسية والآفاقية وخصوصاً علماء الضلالة الذين يسفسطون ويجادلون لإبطال حجية هذه الآيات الإلهية، ويتوعدهم الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾([43])، ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾([44])، ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾([45])، ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾([46]).
فهذه الآيات حجة دامغة سواء على أصحابها أم على الناس القريبين منهم والمعاشرين لهم، أو على الأقل فهي على غير أصحابها إن لم تكن حجة لكثرتها، فهي سبب يحفزهم بقوة للبحث في الدعوة الإلهية وتصديق الرسول الذي أرسل بها، ولكن مع الأسف معظم الناس سيبقون غافلين عن الآيات الملكوتية حتى تخرج دابة الأرض تختم جباههم بأنهم كافرون بآيات الله، ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ﴾([47]).
الآية الجسمانية (المادية):
وهي آخر العلاج و آخر العلاج الكي، مع إن الكي للحيوان لا للإنسان.
وعادة تكون بطلب وإلحاح من الناس، بعد أن اعتذروا بأعذار واهية عن عدم التصديق بالمرسلين والأدلة الدامغة التي واجهوهم بها، والآيات الأنفسية والآفاقية العظيمة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى في خلقه، لتصديق دعوة أوليائه ورسله الذين أرسلهم لإصلاح الفساد، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾([48]).
وفي هذه المرحلة الأخيرة من الآيات، أي مرحلة الآية المادية، يكون العذاب مرافقاً للآية، قال تعالى: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([49]). فبمجرد التكذيب بهذه الآية واتخاذ موقف مضاد ينـزل العذاب، ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾([50]).
والحقيقة أن المتوقع هو الإعراض عن الآية المادية، كما حصل الإعراض عن الآيات الأنفسية والآفاقية الملكوتية، لأن المكذبين بملكوت السماوات وبغيب الله سبحانه وتعالى وبكلمات الله في الرؤيا الصادقة حتماً هم أناس منكوسون، قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾([51]).
وهؤلاء حقت عليهم كلمة العذاب لأنهم كذبوا كلمات الله وردوا أيدي المرسلين إلى أفواههم ولم يستمعوا كلماتهم وحكمتهم، ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾([52])، فعند هؤلاء كل آية مؤولة جن .. سحر .. أو أي شيء آخر حتى يروا العذاب الأليم، ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾([53])، ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾([54]).
وفي النهاية وعندما يقف المكذبون على حافة جهنم، يتذكرون كيف واجهوا المرسلين واتهموهم بأنهم سحرة، فيأتيهم النداء لينبههم إلى عاقبتهم المخزية: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾([55]). ]
اضاءات من دعوات المرسلين ج2
------------------------------------------------------------------------------------
الهامش
([33]) الأنعام: 37.
([34]) البقرة: 118.
([35]) يونس: 20.
([36]) الرعد: 7.
([37]) الجمعة: 2.
([38]) فصلت: 53.
([39]) فصلت: 53.
([40]) يونس: 92.
([41]) يونس: 7.
([42]) الحجر: 81.
([43]) الحج: 51.
([44]) سـبأ: 38.
([45]) يونس: 21.
([46]) سـبأ: 5.
([47]) النمل: 82.
([48]) البقرة: 118.
([49]) الأعراف: 73.
([50]) هود: 64.
([51]) الأعراف: 146.
([52]) يونس: 95 - 97.
([53]) الأعراف: 132.
([54]) القمر: 2.
([55]) الطور: 15.
في الحلقة الأولى من الإضاءات قلت: إن الأنبياء يأتون ليرشدوا الناس إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم يتركونهم يختارون بين الحق الذي جاءوا به أو الباطل الذي عليه الناس وكبراؤهم من علماء الضلالة، وعادة بداية دعوة المرسلين تستند إلى شخصياتهم التي عرفهم بها قومهم واتصافهم بمكارم الأخلاق وصدق الحديث وأداء الأمانة، ولكن الناس - وحتى القريبين من المرسلين- ولأنهم نكسوا فطرتهم لا يستطيعون معرفة الحق الذي جاء به المرسلون، فتبدأ المسالة بطلب الدليل على الرسالة، فيأتي الرسول بالأدلة الكافية ليعلم الناس أنه صادق، ولكنهم يماطلون ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾([33])، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾([34])، ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾([35])، ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾([36]).
ما هي الآية المطلوبة ؟! آية علمية، آية روحية ملكوتية، آية مادية !!!
الحقيقة، إن الناس يختلفون في الآية المطلوبة والدالة على صدق المرسل عندهم، فبعضهم يعتبر العلم والحكمة هو الآية، وبعضهم يعتبر الآيات الملكوتية التي يراها الإنسان بنفسه أو يراها عدد من الناس يمتنع تواطؤهم على الكذب هي الآية المطلوبة، ومن هذه الآيات الملكوتية الكشف في اليقظة والرؤيا الصادقة في المنام، أما ما تبقى من الناس فيعتبرون الآية المادية هي الدليل لا غيرها، وهؤلاء بالحقيقة منكوسون ماديون، وفي الغالب حتى لو جاءت الآية المادية لا يؤمنون إلا قليل منهم على شك وريبة في الغالب، وبين يديك رسالات الأنبياء.
وعلى كل حال، نتعرض هنا إلى هذه الآيات على التوالي:
الآية العلمية: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾([37]).
ولعل أهم مائز لدعوات المرسلين هو العلم والحكمة وحسن التدبير، ولكن أكثر الناس لا يميزون بين الحكمة الإلهية التي ينطق بها المرسلون وبين السفسطة التي يعارضهم بها علماء الضلالة قطاع طريق الله سبحانه وتعالى، وعدم التمييز ليس بسبب صعوبة تمييز الحكمة كما يدعي أو يتوهم بعض الناس، بل إن أهم أسباب هذا الخلط هو أن الناس لوثوا فطرتهم وأصبحوا كالأعمى لا يميزون بين الخمر واللبن أو بين سفه الشيطان وحكمة الله سبحانه وتعالى، ويا للأسف فهذا حال معظم الناس في كل زمان.
وكمثال لتوضيح الحال التي وصل إليها المسلمون، إن محمداً (ص) جاء بالقران كمعجزة، والمسلمون جميعاً على هذا القول، ولكن من الذي يميز أن القرآن آية معجزة ؟ فلو جاء اليوم محمد بن عبد الله (ص) ونزل إلى الأرض ومعه سورة قرآنية جديدة، جاء بها من الله سبحانه وتعالى، فهل يستطيع المسلمون أن يميزوا هذه السورة ويقطعون أنها من الله سبحانه وتعالى ؟ وبالتالي يثبت عندهم أن هذا الشخص الذي جاء بها هو محمد (ص)، أقول وبلا تردد إن معظم المسلمين غير قادرين على التمييز وسواء منهم العلماء أم الجهلاء، إلا إذا كان هناك مسلمون لم يلوثوا فطرتهم، يستطيعون أن يميزوا هذه السورة ويعرفون أنها آية من الله سبحانه، وبالتالي فإن الذي جاء بها ليس شخصاً اعتيادياً.
إذن، فالنتيجة المتحصلة أن محمداً بن عبد الله (ص) لو جاء بالقرآن اليوم لكفر به معظم المسلمين ولم يؤمنوا به، ولقالوا ساحر وكذاب.
الآية الملكوتية:
هناك سؤالان مهمان يطرحان نفسيهما في هذا المقام:
1. ما هي الآية الملكوتية ؟
2. على من تكون هذه الآيات الملكوتية حجة ؟
والجواب: إن الآيات الملكوتية كثيرة جداً منها الآفاقية الملكوتية ومنها الأنفسية، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([38])، أي قيام القائم بالحق ومن هذه الآيات:
أنور البصيرة واطمئنان القلب والسكينة، إذا كان الإنسان على فطرة الله التي فطر الناس عليها لم يلوثها أو أنه عاد إليها بعد تذكره وانتباهه من الغفلة.
بالفراسة والتوسم في الآفاق والأنفس.
تالرؤيا الصادقة في النوم.
ثالرؤيا الصادقة في اليقظة ( الكشف ) ومنها:
1) الرؤيا الصادقة في الصلاة .
2) الرؤيا الصادقة في الركوع.
3) الرؤيا الصادقة في السجود.
4) الرؤيا الصادقة في السنة بين النوم واليقظة.
5) الرؤيا الصادقة عند قراءة القران.
6) الرؤيا الصادقة عند السير إلى أبي عبد الله الحسين (ع).
7) الرؤيا الصادقة عند الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
8) الرؤيا الصادقة في أضرحة الأئمة والأنبياء (ع) والمساجد والحسينيات وغيرها كثير.
وكل هذه الأنواع من الكشف والرؤيا الصادقة هي آيات إلهية لأنها لا تكون إلا بأمر الله وبمشيئة الله سبحانه وتعالى، ويقوم بها ملائكة الله سبحانه وتعالى وعباده الصالحون، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. فهذه الآيات حجة بالغة لله سبحانه وتعالى على عباده، لأنها كلماته التي يكلم بها الناس، فمن كذب بها فقد كذب الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظم أنواع الكفر والتكذيب، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([39]).
أي الآفاق الملكوتية والملكية وفي النفس الإنسانية، ليتبين لهم أنه الحق، أي قيام القائم (ع)، كما جاء في الروايات عنهم (ع)؛ لأن الناس يكذبون به ولا يصدقونه.
والله سبحانه وتعالى يعتبر أن معظم الناس غافلون ومعرضون عن الآيات النفسية والآفاقية، ولهذا يكون الكفر بالرسالات الإلهية نتيجة حتمية وحصيلة نهائية لا بد منها، ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾([40])، ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾([41])، ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾([42]).
وفي النهاية يهدد الله سبحانه وتعالى هؤلاء القوم الذين لا يؤمنون بالآيات الأنفسية والآفاقية وخصوصاً علماء الضلالة الذين يسفسطون ويجادلون لإبطال حجية هذه الآيات الإلهية، ويتوعدهم الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾([43])، ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾([44])، ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾([45])، ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾([46]).
فهذه الآيات حجة دامغة سواء على أصحابها أم على الناس القريبين منهم والمعاشرين لهم، أو على الأقل فهي على غير أصحابها إن لم تكن حجة لكثرتها، فهي سبب يحفزهم بقوة للبحث في الدعوة الإلهية وتصديق الرسول الذي أرسل بها، ولكن مع الأسف معظم الناس سيبقون غافلين عن الآيات الملكوتية حتى تخرج دابة الأرض تختم جباههم بأنهم كافرون بآيات الله، ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ﴾([47]).
الآية الجسمانية (المادية):
وهي آخر العلاج و آخر العلاج الكي، مع إن الكي للحيوان لا للإنسان.
وعادة تكون بطلب وإلحاح من الناس، بعد أن اعتذروا بأعذار واهية عن عدم التصديق بالمرسلين والأدلة الدامغة التي واجهوهم بها، والآيات الأنفسية والآفاقية العظيمة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى في خلقه، لتصديق دعوة أوليائه ورسله الذين أرسلهم لإصلاح الفساد، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾([48]).
وفي هذه المرحلة الأخيرة من الآيات، أي مرحلة الآية المادية، يكون العذاب مرافقاً للآية، قال تعالى: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([49]). فبمجرد التكذيب بهذه الآية واتخاذ موقف مضاد ينـزل العذاب، ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾([50]).
والحقيقة أن المتوقع هو الإعراض عن الآية المادية، كما حصل الإعراض عن الآيات الأنفسية والآفاقية الملكوتية، لأن المكذبين بملكوت السماوات وبغيب الله سبحانه وتعالى وبكلمات الله في الرؤيا الصادقة حتماً هم أناس منكوسون، قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾([51]).
وهؤلاء حقت عليهم كلمة العذاب لأنهم كذبوا كلمات الله وردوا أيدي المرسلين إلى أفواههم ولم يستمعوا كلماتهم وحكمتهم، ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾([52])، فعند هؤلاء كل آية مؤولة جن .. سحر .. أو أي شيء آخر حتى يروا العذاب الأليم، ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾([53])، ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾([54]).
وفي النهاية وعندما يقف المكذبون على حافة جهنم، يتذكرون كيف واجهوا المرسلين واتهموهم بأنهم سحرة، فيأتيهم النداء لينبههم إلى عاقبتهم المخزية: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾([55]). ]
اضاءات من دعوات المرسلين ج2
------------------------------------------------------------------------------------
الهامش
([33]) الأنعام: 37.
([34]) البقرة: 118.
([35]) يونس: 20.
([36]) الرعد: 7.
([37]) الجمعة: 2.
([38]) فصلت: 53.
([39]) فصلت: 53.
([40]) يونس: 92.
([41]) يونس: 7.
([42]) الحجر: 81.
([43]) الحج: 51.
([44]) سـبأ: 38.
([45]) يونس: 21.
([46]) سـبأ: 5.
([47]) النمل: 82.
([48]) البقرة: 118.
([49]) الأعراف: 73.
([50]) هود: 64.
([51]) الأعراف: 146.
([52]) يونس: 95 - 97.
([53]) الأعراف: 132.
([54]) القمر: 2.
([55]) الطور: 15.
Comment