قانون معرفة الحجة والمعجزة...
[ إضـــــــاءة
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾([1]).
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾([2]).
الآيات التي رافقت يوسف (ع) بإذن الله لم تكن عصا تتحول أفعى، ولم تكن يداً تشع نوراً ولم تكن بحراً ينشق، بل كانت قميصاً أظهر حق يوسف (ع) وكانت توفيقاً وتسديداً إلهياً لمسيرة يوسف (ع)، فمن هم وكم هم الذين يرون أن القميص الذي تمزق بل تمزقه بالذات كان آية ؟ وأين هم الذين يرون توفيق وتسديد الله ليوسف (ع) ليعرفوا انه مرسل من الله سبحانه ؟ تلك الآيات رافقت يوسف ورآها أولئك الذين رافقوا مسيرة يوسف (ع)، ولكنهم لم يروها كآيات، وكان أن قرروا ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.
عن أبي جعفر (ع) في قوله: ﴿ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾، (فالآيات شهادة الصبي والقميص المخرق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب فلما عصاها فلم تزل ملحة بزوجها حتى حبسه، ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ﴾([3])، يقول: عبدان للملك احدهما خباز والآخر صاحب الشراب والذي كذب ولم ير المنام هو الخباز) ([4]).
لم تكن هذه الآيات هي كل ما رافق دعوة ومسيرة يوسف (ع)، بل ما جاء به كل الأنبياء المرسلين كدليل على الدعوة الإلهية التي كلفوا بها، جاء به يوسف (ع)، فهو (ع) لم يكن شاذاً عن المرسلين وعن طريقهم الواحد للدلالة على رسالاتهم، ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ﴾([5]) طريقهم المبين ( الوصية أو النص، العلم والحكمة، راية البيعة لله أو الملك لله أو حاكمية الله)، هذه الآيات الثلاث البينة جاء بها يوسف (ع) ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
وقبل أن نعرف كيف ومتى وأين جاء بها يوسف (ع)، نحتاج إلى معرفة ما تمثله هذه الأمور الثلاثة في خط الدعوة الإلهية عموماً.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾([6]).
دعوة الحق لا يمكن أن تكون وحدها، دون وجود دعوات باطلة تعارضها، فمنذ اليوم الأول الذي كان فيه نبياً يوصي لمن بعده بأمر الله سبحانه، وجدنا مدعياً مبطلاً يعارض دعوة الحق، فآدم (ع) أول أنبياء الله مبعثاً يوصي لهابيل (ع)، ويقوم قابيل بمعارضة دعوة الحق، وادعاء حق الخلافة، وحتى القربان الذي كان الفيصل في تحديد وصي آدم (ع)، لم يقبل به قابيل كآية دالة على هابيل وصي آدم، وأقدم قابيل على تهديد هابيل الوصي، ثم قتله دون تردد أو خوف من الله سبحانه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾([7]).
وهذا حصل مع يوسف (ع) لما حسده إخوته.
بل وجرى مع كل الأوصياء ، فكما أن الله سبحانه وتعالى يصطفي رسله، كذا فإن إبليس (لعنه الله) يختار من جنده من يعارض دعوة الحق.
فالله سبحانه وتعالى يختار هابيل (ع)، وإبليس (لعنه الله) يختار قابيل ليعارض داعي الله، والله يختار محمداً ، وإبليس يختار مسيلمة وسجاح والأسود وغيرهم ليعارضوا داعي الحق محمداً .
وهنا أوجه السؤال: هل يُعْذَر من ترك اتباع محمد بحجة وجود أكثر من دعوة في الساحة، وأنه لا يستطيع تمييز المحق من المبطل؟!!!
والحق، إنه لا يعذر ويكون مصيره إلى جهنم تماماً كأولئك الذين اتبعوا من ادعوا النبوة أو الرسالة كذباً وزوراً.
ثم هل ان الله سبحانه وتعالى وضع قانوناً يعرف به داعي الحق في كل زمان وهو حجة الله على عباده وخليفة الله في أرضه وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، والإيمان به والتسليم له هو الإيمان بالله والتسليم لله والكفر به والالتواء عليه، هو الكفر بالله والالتواء على الله.
أم أن الله ترك الحبل على الغارب (حاشاه سبحانه وتعالى) وهو الحكيم المطلق وقدر كل شيء فأحسن تقديره، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾([8])، وهو﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾([9]).
فالنتيجة، أنّ مقتضى الحكمة الإلهية هو وضع قانون لمعرفة خليفة الله في أرضه في كل زمان، ولابد أن يكون هذا القانون وضع منذ اليوم الأول الذي جعل فيه الله سبحانه خليفة له في أرضه، فلا يمكن أن يكون هذا القانون طارئاً في إحدى رسالات السماء المتأخرة عن اليوم الأول، لوجود مكلفين منذ اليوم الأول، ولا أقل أن القدر المتيقن للجميع هو وجود إبليس كمكلف منذ اليوم الأول، والمكلف يحتاج هذا القانون لمعرفة صاحب الحق الإلهي، وإلا فإنه سيعتذر عن اتباع صاحب الحق الإلهي بأنه لم يكن يستطيع التمييز، ولا يوجد لديه قانون إلهي لمعرفة هذا الخليفة المنصب من قبل الله سبحانه وتعالى.
والقدر المتيقن للجميع حول تاريخ اليوم الأول الذي جعل فيه الله خليفة له في أرضه هو:
1. إن الله نص على آدم وانه خليفته في أرضه بمحضر الملائكة (ع) وإبليس.
2. بعد أن خلق الله آدم (ع) علَّمه الأسماء كلها.
3. ثم أمر الله من كان يعبده في ذلك الوقت الملائكة وإبليس بالسجود لآدم.
قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾([10])، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([11])، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾([12])، ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾([13]).
هذه الأمور الثلاثة هي قانون الله سبحانه وتعالى لمعرفة الحجة على الناس وخليفة الله في أرضه وهذه الأمور الثلاثة قانون سَنَّه الله سبحانه وتعالى لمعرفة خليفته منذ اليوم الأول، وستمضي هذه السنة الإلهية إلى انقضاء الدنيا وقيام الساعة.
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾([14]).
﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾([15]).
كما أنه وببساطة: أي إنسان يملك مصنعاً أو مزرعة أو سفينة أو أي شيء فيه عمال يعملون له فيه، لابد أن يُعيِّن لهم شخصاً منهم يرأسهم، ولابد أن ينص عليه بالاسم وإلا ستعمّ الفوضى، كما لابد أن يكون أعلمهم وأفضلهم، ولابد أن يأمرهم بطاعته ليحقق ما يرجو، وإلا فإن قَصَّر هذا الإنسان في أيٍ من هذه الأمور الثلاثة فسيجانب الحكمة إلى السفه، فكيف يُجِّوز الناس على الله ترك أيٍ من هذه الأمور الثلاثة وهو الحكيم المطلق ؟!!
وإذا تعرضنا إلى هذا القانون الإلهي بشيء من التفصيل نجد أن النص الإلهي على آدم (ع) تحول إلى الوصية لعلة وجود الخليفة السابق، فهو ينص على من بعده بأمر الله سبحانه وتعالى، وهذا من ضمن واجبه كخليفة لله في أرضه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾([16]).
أما تعليم الله سبحانه لآدم الأسماء فالمراد منه معرفته بحقيقة الأسماء الإلهية، وتحليه بها وتجليها فيه، ليكون خليفة الله في أرضه. وهو (ع) أنبأ الملائكة بأسمائهم أي عرَّفهم بحقيقة الأسماء الإلهية التي خُلقوا منها، فالله سبحانه عرَّف آدم كل الأسماء الإلهية وبحسب مقامه (ع)، أما الملائكة فلم يكن كل منهم يعرف إلا الاسم أو الأسماء التي خُلق منها، وبهذا ثبتت حجية آدم (ع) عليهم بالعلم والحكمة.
والأمر الثالث في هذا القانون الإلهي هو أمر الله سبحانه وتعالى للملائكة وإبليس بالسجود لآدم، وهذا الأمر هو بمثابة ممارسة عملية للخليفة ليقوم بدوره كمستخلف، وممارسة عملية لعمال الله سبحانه (الملائكة) ليقوموا بدورهم كعمال ومتعلمين عند هذا الخليفة (آدم (ع)).
وهذا الأمر ثبّت أن حاكمية الله وملك الله في أرضه يتحقق من خلال طاعة خليفة الله في أرضه.
وهكذا فإن جميع المرسلين ومنهم محمد كانوا يحملون هذه الراية: (البيعة لله، أو حاكمية الله، أو الملك لله)، ويواجهون الذين يقرون حاكمية الناس ولا يقبلون بحاكمية الله وملكه سبحانه وتعالى. وهم دائماً متهمون بسبب هذه المطالبة وهذه المواجهة، فعيسى (ع) قيل عنه إنه جاء ليطلب ملك بني إسرائيل ليس إلا، وقيل عن محمد : (لا جنة ولا نار ولكنه الملك) أي أنّ محمداً جاء ليطلب الملك له ولأهل بيته، وقيل عن علي (ع) إنه حريص على الملك.
والحقيقة، أنه من تابع أحوال عيسى أو محمد أو علي (ع) يجد أنهم معرضون عن الدنيا وزخرفها وما فيها من مال أو جاه، لكن هذا هو أمر الله لهم بأن يطالبوا بملكه سبحانه وتعالى، ثم هم يعلمون أن الناس لن يسلموهم الملك بل سيتعرضون لهم بالسخرية والاستهزاء والهتك ومحاولة القتل أو السجن، فهذا شبيه عيسى (ع) يلبسونه تاجاً من الشوك وهم يسخرون منه قبل صلبه، وعلي (ع) يُكسَر باب داره ويُكسَر ضلع زوجته الزهراء ويُجر من داره والسيوف مشرعة بوجهه، وموسى بن جعفر (ع) الذي حدد فدكاً بأنها الملك وخلافة الله في أرضه يسجن حتى الموت، ومع هذا فانّ كثيراً من الجهلة جعلوا ما تشابه عليهم من مطالبة صاحب الحق بملك الله سبحانه وتعالى عاذراً لسقطتهم، وهم يصرخون بوجه صاحب الحق الإلهي إنه جاء ليطلب الملك ليس إلا، والحق إنه لو كان خليفة الله في أرضه طالباً للدنيا أو الملك لما طالب به أصلاً وهو يعلم أن هذه المطالبة ستكون حتماً سبباً لانتهاك حرمته والاستهزاء والتعريض به على أنه طالب دنيا.
ثم لسلك طريقاً آخر يعرفه كل الناس ولكنهم يتغافلون، وهو طريق كل أولئك الذين وصلوا إلى الملك الدنيوي بالخداع والتزوير أو القتل والترويع، فعلي (ع) يطالب بالملك ويقول أنا وصي محمد وأنا خليفة الله في أرضه، وفي المقابل ذاك الذي وصل إلى الملك الدنيوي أبو بكر بن أبي قحافة يقول: أقيلوني فلست بخيركم.
فهل أن علياً طالب دنيا أو أن ابن أبي قحافة زاهد بالملك الدنيوي وهو الذي أنكر حق الوصي (ع) وتنكر لوصية رسول الله لأجل الملك الدنيوي ؟! ما لكم كيف تحكمون؟!.
والوصية بالخصوص جاء بها كل الأوصياء وأكدوا عليها، بل وفي أصعب الظروف نجد الحسين (ع) في كربلاء يقول لهم ابحثوا في الأرض لا تجدون من هو أقرب إلى محمد مني (أنا سبط محمد الوحيد على هذه الأرض)، هنا أكد (ع) على الوصية والنص الإلهي ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([17])، فالذين يفهمون هذه الآية يعرفون أن الحسين (ع) أراد أن الوصاية محصورة به (ع) لأنه الوحيد من هذه الذرية المستخلفة.
والآن، نعود إلى يوسف لنجد:
1- الوصـية:
في قول يعقوب (ع) ليوسف (ع): ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾([18]).
فيعقوب يبين أن يوسف (ع) وصيه وأنه امتداد لدعوة إبراهيم (ع) وبكل وضوح.
وفي قول يوسف (ع): ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾([19])، فيوسف (ع) يؤكد انتسابه إلى الأنبياء وأنه الخط الطبيعي لاستمرار دعوتهم .
2- العلـم:
في قوله: ﴿قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾([20]).
وفي قوله: ﴿... تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾([21]).
وفي قوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾([22]).
3- البيعـة لله:
في قوله ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾([23]). ]
اضاءات من دعوات المرسلين ج3 ق2 ص(10-17)
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) يوسف: 35.
([2]) غافر: 34.
([3]) يوسف: 36.
([4]) تفسير القمي: ج2 ص344.
([5]) الأحقاف: 9.
([6]) لقمان: 20 - 22.
([7]) المائدة: 27 - 30.
([8]) الرعد: 8.
([9]) سـبأ: 3 .
([10]) البقرة: 30 .
([11]) البقرة: 31.
([12]) الحجر: 29.
([13]) الكهف: 50.
([14]) الأحزاب: 62.
([15]) الفتح: 23.
([16]) النساء: 58.
([17]) آل عمران: 34.
([18]) يوسف: 6.
([19]) يوسف: 38.
([20]) يوسف: 37.
([21]) يوسف: 47 - 49.
([22]) يوسف: 55.
([23]) يوسف: 39 - 40.
[ إضـــــــاءة
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾([1]).
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾([2]).
الآيات التي رافقت يوسف (ع) بإذن الله لم تكن عصا تتحول أفعى، ولم تكن يداً تشع نوراً ولم تكن بحراً ينشق، بل كانت قميصاً أظهر حق يوسف (ع) وكانت توفيقاً وتسديداً إلهياً لمسيرة يوسف (ع)، فمن هم وكم هم الذين يرون أن القميص الذي تمزق بل تمزقه بالذات كان آية ؟ وأين هم الذين يرون توفيق وتسديد الله ليوسف (ع) ليعرفوا انه مرسل من الله سبحانه ؟ تلك الآيات رافقت يوسف ورآها أولئك الذين رافقوا مسيرة يوسف (ع)، ولكنهم لم يروها كآيات، وكان أن قرروا ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.
عن أبي جعفر (ع) في قوله: ﴿ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾، (فالآيات شهادة الصبي والقميص المخرق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب فلما عصاها فلم تزل ملحة بزوجها حتى حبسه، ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ﴾([3])، يقول: عبدان للملك احدهما خباز والآخر صاحب الشراب والذي كذب ولم ير المنام هو الخباز) ([4]).
لم تكن هذه الآيات هي كل ما رافق دعوة ومسيرة يوسف (ع)، بل ما جاء به كل الأنبياء المرسلين كدليل على الدعوة الإلهية التي كلفوا بها، جاء به يوسف (ع)، فهو (ع) لم يكن شاذاً عن المرسلين وعن طريقهم الواحد للدلالة على رسالاتهم، ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ﴾([5]) طريقهم المبين ( الوصية أو النص، العلم والحكمة، راية البيعة لله أو الملك لله أو حاكمية الله)، هذه الآيات الثلاث البينة جاء بها يوسف (ع) ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
وقبل أن نعرف كيف ومتى وأين جاء بها يوسف (ع)، نحتاج إلى معرفة ما تمثله هذه الأمور الثلاثة في خط الدعوة الإلهية عموماً.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾([6]).
دعوة الحق لا يمكن أن تكون وحدها، دون وجود دعوات باطلة تعارضها، فمنذ اليوم الأول الذي كان فيه نبياً يوصي لمن بعده بأمر الله سبحانه، وجدنا مدعياً مبطلاً يعارض دعوة الحق، فآدم (ع) أول أنبياء الله مبعثاً يوصي لهابيل (ع)، ويقوم قابيل بمعارضة دعوة الحق، وادعاء حق الخلافة، وحتى القربان الذي كان الفيصل في تحديد وصي آدم (ع)، لم يقبل به قابيل كآية دالة على هابيل وصي آدم، وأقدم قابيل على تهديد هابيل الوصي، ثم قتله دون تردد أو خوف من الله سبحانه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾([7]).
وهذا حصل مع يوسف (ع) لما حسده إخوته.
بل وجرى مع كل الأوصياء ، فكما أن الله سبحانه وتعالى يصطفي رسله، كذا فإن إبليس (لعنه الله) يختار من جنده من يعارض دعوة الحق.
فالله سبحانه وتعالى يختار هابيل (ع)، وإبليس (لعنه الله) يختار قابيل ليعارض داعي الله، والله يختار محمداً ، وإبليس يختار مسيلمة وسجاح والأسود وغيرهم ليعارضوا داعي الحق محمداً .
وهنا أوجه السؤال: هل يُعْذَر من ترك اتباع محمد بحجة وجود أكثر من دعوة في الساحة، وأنه لا يستطيع تمييز المحق من المبطل؟!!!
والحق، إنه لا يعذر ويكون مصيره إلى جهنم تماماً كأولئك الذين اتبعوا من ادعوا النبوة أو الرسالة كذباً وزوراً.
ثم هل ان الله سبحانه وتعالى وضع قانوناً يعرف به داعي الحق في كل زمان وهو حجة الله على عباده وخليفة الله في أرضه وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، والإيمان به والتسليم له هو الإيمان بالله والتسليم لله والكفر به والالتواء عليه، هو الكفر بالله والالتواء على الله.
أم أن الله ترك الحبل على الغارب (حاشاه سبحانه وتعالى) وهو الحكيم المطلق وقدر كل شيء فأحسن تقديره، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾([8])، وهو﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾([9]).
فالنتيجة، أنّ مقتضى الحكمة الإلهية هو وضع قانون لمعرفة خليفة الله في أرضه في كل زمان، ولابد أن يكون هذا القانون وضع منذ اليوم الأول الذي جعل فيه الله سبحانه خليفة له في أرضه، فلا يمكن أن يكون هذا القانون طارئاً في إحدى رسالات السماء المتأخرة عن اليوم الأول، لوجود مكلفين منذ اليوم الأول، ولا أقل أن القدر المتيقن للجميع هو وجود إبليس كمكلف منذ اليوم الأول، والمكلف يحتاج هذا القانون لمعرفة صاحب الحق الإلهي، وإلا فإنه سيعتذر عن اتباع صاحب الحق الإلهي بأنه لم يكن يستطيع التمييز، ولا يوجد لديه قانون إلهي لمعرفة هذا الخليفة المنصب من قبل الله سبحانه وتعالى.
والقدر المتيقن للجميع حول تاريخ اليوم الأول الذي جعل فيه الله خليفة له في أرضه هو:
1. إن الله نص على آدم وانه خليفته في أرضه بمحضر الملائكة (ع) وإبليس.
2. بعد أن خلق الله آدم (ع) علَّمه الأسماء كلها.
3. ثم أمر الله من كان يعبده في ذلك الوقت الملائكة وإبليس بالسجود لآدم.
قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾([10])، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([11])، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾([12])، ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾([13]).
هذه الأمور الثلاثة هي قانون الله سبحانه وتعالى لمعرفة الحجة على الناس وخليفة الله في أرضه وهذه الأمور الثلاثة قانون سَنَّه الله سبحانه وتعالى لمعرفة خليفته منذ اليوم الأول، وستمضي هذه السنة الإلهية إلى انقضاء الدنيا وقيام الساعة.
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾([14]).
﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾([15]).
كما أنه وببساطة: أي إنسان يملك مصنعاً أو مزرعة أو سفينة أو أي شيء فيه عمال يعملون له فيه، لابد أن يُعيِّن لهم شخصاً منهم يرأسهم، ولابد أن ينص عليه بالاسم وإلا ستعمّ الفوضى، كما لابد أن يكون أعلمهم وأفضلهم، ولابد أن يأمرهم بطاعته ليحقق ما يرجو، وإلا فإن قَصَّر هذا الإنسان في أيٍ من هذه الأمور الثلاثة فسيجانب الحكمة إلى السفه، فكيف يُجِّوز الناس على الله ترك أيٍ من هذه الأمور الثلاثة وهو الحكيم المطلق ؟!!
وإذا تعرضنا إلى هذا القانون الإلهي بشيء من التفصيل نجد أن النص الإلهي على آدم (ع) تحول إلى الوصية لعلة وجود الخليفة السابق، فهو ينص على من بعده بأمر الله سبحانه وتعالى، وهذا من ضمن واجبه كخليفة لله في أرضه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾([16]).
أما تعليم الله سبحانه لآدم الأسماء فالمراد منه معرفته بحقيقة الأسماء الإلهية، وتحليه بها وتجليها فيه، ليكون خليفة الله في أرضه. وهو (ع) أنبأ الملائكة بأسمائهم أي عرَّفهم بحقيقة الأسماء الإلهية التي خُلقوا منها، فالله سبحانه عرَّف آدم كل الأسماء الإلهية وبحسب مقامه (ع)، أما الملائكة فلم يكن كل منهم يعرف إلا الاسم أو الأسماء التي خُلق منها، وبهذا ثبتت حجية آدم (ع) عليهم بالعلم والحكمة.
والأمر الثالث في هذا القانون الإلهي هو أمر الله سبحانه وتعالى للملائكة وإبليس بالسجود لآدم، وهذا الأمر هو بمثابة ممارسة عملية للخليفة ليقوم بدوره كمستخلف، وممارسة عملية لعمال الله سبحانه (الملائكة) ليقوموا بدورهم كعمال ومتعلمين عند هذا الخليفة (آدم (ع)).
وهذا الأمر ثبّت أن حاكمية الله وملك الله في أرضه يتحقق من خلال طاعة خليفة الله في أرضه.
وهكذا فإن جميع المرسلين ومنهم محمد كانوا يحملون هذه الراية: (البيعة لله، أو حاكمية الله، أو الملك لله)، ويواجهون الذين يقرون حاكمية الناس ولا يقبلون بحاكمية الله وملكه سبحانه وتعالى. وهم دائماً متهمون بسبب هذه المطالبة وهذه المواجهة، فعيسى (ع) قيل عنه إنه جاء ليطلب ملك بني إسرائيل ليس إلا، وقيل عن محمد : (لا جنة ولا نار ولكنه الملك) أي أنّ محمداً جاء ليطلب الملك له ولأهل بيته، وقيل عن علي (ع) إنه حريص على الملك.
والحقيقة، أنه من تابع أحوال عيسى أو محمد أو علي (ع) يجد أنهم معرضون عن الدنيا وزخرفها وما فيها من مال أو جاه، لكن هذا هو أمر الله لهم بأن يطالبوا بملكه سبحانه وتعالى، ثم هم يعلمون أن الناس لن يسلموهم الملك بل سيتعرضون لهم بالسخرية والاستهزاء والهتك ومحاولة القتل أو السجن، فهذا شبيه عيسى (ع) يلبسونه تاجاً من الشوك وهم يسخرون منه قبل صلبه، وعلي (ع) يُكسَر باب داره ويُكسَر ضلع زوجته الزهراء ويُجر من داره والسيوف مشرعة بوجهه، وموسى بن جعفر (ع) الذي حدد فدكاً بأنها الملك وخلافة الله في أرضه يسجن حتى الموت، ومع هذا فانّ كثيراً من الجهلة جعلوا ما تشابه عليهم من مطالبة صاحب الحق بملك الله سبحانه وتعالى عاذراً لسقطتهم، وهم يصرخون بوجه صاحب الحق الإلهي إنه جاء ليطلب الملك ليس إلا، والحق إنه لو كان خليفة الله في أرضه طالباً للدنيا أو الملك لما طالب به أصلاً وهو يعلم أن هذه المطالبة ستكون حتماً سبباً لانتهاك حرمته والاستهزاء والتعريض به على أنه طالب دنيا.
ثم لسلك طريقاً آخر يعرفه كل الناس ولكنهم يتغافلون، وهو طريق كل أولئك الذين وصلوا إلى الملك الدنيوي بالخداع والتزوير أو القتل والترويع، فعلي (ع) يطالب بالملك ويقول أنا وصي محمد وأنا خليفة الله في أرضه، وفي المقابل ذاك الذي وصل إلى الملك الدنيوي أبو بكر بن أبي قحافة يقول: أقيلوني فلست بخيركم.
فهل أن علياً طالب دنيا أو أن ابن أبي قحافة زاهد بالملك الدنيوي وهو الذي أنكر حق الوصي (ع) وتنكر لوصية رسول الله لأجل الملك الدنيوي ؟! ما لكم كيف تحكمون؟!.
والوصية بالخصوص جاء بها كل الأوصياء وأكدوا عليها، بل وفي أصعب الظروف نجد الحسين (ع) في كربلاء يقول لهم ابحثوا في الأرض لا تجدون من هو أقرب إلى محمد مني (أنا سبط محمد الوحيد على هذه الأرض)، هنا أكد (ع) على الوصية والنص الإلهي ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([17])، فالذين يفهمون هذه الآية يعرفون أن الحسين (ع) أراد أن الوصاية محصورة به (ع) لأنه الوحيد من هذه الذرية المستخلفة.
والآن، نعود إلى يوسف لنجد:
1- الوصـية:
في قول يعقوب (ع) ليوسف (ع): ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾([18]).
فيعقوب يبين أن يوسف (ع) وصيه وأنه امتداد لدعوة إبراهيم (ع) وبكل وضوح.
وفي قول يوسف (ع): ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾([19])، فيوسف (ع) يؤكد انتسابه إلى الأنبياء وأنه الخط الطبيعي لاستمرار دعوتهم .
2- العلـم:
في قوله: ﴿قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾([20]).
وفي قوله: ﴿... تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾([21]).
وفي قوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾([22]).
3- البيعـة لله:
في قوله ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾([23]). ]
اضاءات من دعوات المرسلين ج3 ق2 ص(10-17)
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) يوسف: 35.
([2]) غافر: 34.
([3]) يوسف: 36.
([4]) تفسير القمي: ج2 ص344.
([5]) الأحقاف: 9.
([6]) لقمان: 20 - 22.
([7]) المائدة: 27 - 30.
([8]) الرعد: 8.
([9]) سـبأ: 3 .
([10]) البقرة: 30 .
([11]) البقرة: 31.
([12]) الحجر: 29.
([13]) الكهف: 50.
([14]) الأحزاب: 62.
([15]) الفتح: 23.
([16]) النساء: 58.
([17]) آل عمران: 34.
([18]) يوسف: 6.
([19]) يوسف: 38.
([20]) يوسف: 37.
([21]) يوسف: 47 - 49.
([22]) يوسف: 55.
([23]) يوسف: 39 - 40.
Comment