بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
شبهة: المعصوم يُعرف بعلمه بكل اللغات
والآن أشرع بمناقشة الروايات التي تنص أو تشير الى أن الإمام يعرف كل اللغات:
الرواية الأولى:
الكافي ج 1 ص 285:
الكليني: أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ، عن أبي بصير قال : [قلت لأبي الحسن عليه السلام : جعلت فداك بم يعرف الإمام ؟ قال: فقال: بخصال: أما أولها فإنه بشئ قد تقدم من أبيه فيه بإشارة إليه لتكون عليهم حجة ويسأل فيجيب وإن سكت عنه ابتدأ ويخبر بما في غد ويكلم الناس بكل لسان ، ثم قال لي : يا أبا محمد أعطيك علامة قبل أن تقوم فلم ألبث أن دخل علينا رجل من أهل خراسان ، فكلمه الخراساني بالعربية فأجابه أبو الحسن عليه السلام بالفارسية فقال له الخراساني : والله جعلت فداك ما منعني أن أكلمك بالخراسانية غير أني ظننت أنك لا تحسنها ، فقال : سبحان الله إذا كنت لا أحسن أجيبك فما فضلي عليك ثم قال لي : يا أبا محمد إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شئ فيه الروح ، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام] .
وفي الرواية عدة مناقشات:
المناقشة الأولى:
الرواية آحاد لا يعتمد عليها في العقائد، لأن العقائد تبنى على العلم أي القطع والجزم، وهو لا يكون إلا بآية محكمة أو روايات متواترة أو محفوفة بقرائن الصحة، وسيأتي أن القرائن ضد ظاهر هذه الرواية.
المناقشة الثانية:
الرواية ضعيفة السند وبذلك فهي لا تفيد الظن فضلاً عن العلم، أي لا يعتمد عليها في الفقه فضلاً عن العقائد، وقد نص على ضعفها العلامة المجلسي في مرآة العقول ( )، ومحمد باقر البهبودي في صحيح الكافي.
وضعف السند هو بـالتالي:
1 - أحمد بن مهران:
فقد ضعفه ابن الغضائري بقوله: (أحمد بن مهران . روى عنه الكليني في كتاب "الكافي" . ضعيف) ( ).
وقد ذكره العلامة الحلي في القسم الثاني من الخلاصة – قسم غير المعتمدين – وقال عنه: (أحمد بن مهران ، روى عنه في كتاب الكافي . قال ابن الغضائري : انه ضعيف) ( ).
وقال المحقق الخوئي: (أحمد بن مهران : روى عنه الكليني في كتاب الكافي ، ضعيف . ذكره ابن الغضائري . أقول : اعتمد عليه الوحيد - قدس سره - في التعليقة لترحم الكليني عليه في عدة موارد ، وإكثاره الرواية عنه ، وفيه ما لا يخفى ...) ( ).
وقال محمد الجواهري في المفيد من معجم رجال الحديث ص48: (أحمد بن مهران : روى 52 موردا ، روى عنه في جميع ذلك الشيخ الكليني - مجهول - اعتمد عليه الوحيد لترحم الكليني عليه واكثار الراوية عنه . وفيه ما لا يخفى).
إذن فـ (أحمد بن مهران) إن لم نقل إنه ثابت الضعف، فهو لم تثبت وثاقته، فيكون سند الرواية ضعيفاً لجهالة حال أحمد بن مهران.
2 – محمد بن علي : الذي يروي عنه أحمد بن مهران، وهو محمد بن علي الصيرفي ابن سمينة، بدليل أن محمد بن جرير الطبري الشيعي روى عنه نفس هذه الرواية في كتابه دلائل الإمامة ص337 بالسند التالي:
(روى الحسن، قال : أخبرنا أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي الصيرفي ، عن علي ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، قال : دخلت على أبي الحسن - عليه السلام - ...).
إذن فراوي هذه الرواية هو (محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة) دون غيره، وهذا الرجل اشتهر بالضعف والكذب والغلو وفساد العقيدة، قال عنه النجاشي: (... ضعيف جدا ، فاسد الاعتقاد ، لا يعتمد في شئ ، وكان ورد قم ، وقد اشتهر بالكذب بالكوفة ، ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى مدة ، ثم تشهر بالغلو فجفي ...) ( )، وقيل إنه أشهر الكذابين، وصرَح الخوئي بأنه لا شك في ضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج 17 ص 319 وما بعدها برقم 11286.
وحسب ما تقدم تكون هذه الرواية رواية غلاة كذابين فاسدي العقيدة، فكيف يبنى عليها عقيدة وتكون ميزاناً لإثبات إمامة الأئمة (ع) ؟!!!
3 – بالإرسال؛ فالسند مرسل قطعاً، لأن محمد بن علي الصيرفي ومن في طبقته لا يمكن أن يروي عن أبي بصير بلا واسطة، فأبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي روى عن الباقر والصادق والكاظم (ع) وتوفي سنة 150 هـ ( )، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي روى عن الباقر والصادق (ع) ( ) ( )، فالأسدي توفي بعد الإمام الصادق (ع) بسنتين، والمرادي لم يُعَد في أصحاب الكاظم (ع)، وهذا يشير إلى أنه لم يدرك إمامته (ع) وكان قد استلم الإمامة سنة 148 هـ، ومحمد بن علي الصيرفي عده الطوسي والبرقي في أصحاب الرضا (ع) ( )، وهذا يعني أنه لم يدرك الكاظم (ع)، فكيف يروي عمن توفي عام 150 هـ ولم يدرك من إمامة الكاظم (ع) إلا سنتين ؟!
ولا توجد رواية للصيرفي عن أبي بصير لا في الكتب الأربعة ولا في غيرها من الكتب المعتبرة المشهورة، بل يروي عنه بأكثر من واسطة.
وعلي أي حال يكفي في المقام تضعيف العلامة المجلسي في مرآة العقول، والبهبودي في صحيح الكافي لسند هذه الرواية.
وروى هذه الرواية عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد مع زيادة في المتن واختلاف في الألفاظ مع اتحاد القصة، وبالسند التالي:
(محمد بن خالد الطيالسي ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي الحسن الماضي عليه السلام ... ) ( ).
والسند ضعيف بكل من:
1 – محمد بن خالد الطيالسي: فقد ذكره النجاشي والطوسي من دون توثيق أو مدح، فهو مجهول الحال، راجع معجم رجال الحديث ج17 ص75 برقم 10717. وقد صرَّح بمجهوليته محمد الجواهري في المفيد من معجم رجال الحديث ص524.
2 – علي بن أبي حمزة: وهو البطائني، فالمشهور ضلاله وأنه أصل الواقفة، وقال العلامة الحلي إنه ضعيف جداً، وحكم الخوئي بضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج12 ص234 برقم 7846.
وأيضاً روى محمد بن جرير الطبري الشيعي هذه الرواية في كتابه دلائل الإمامة ص337، وبالسند التالي:
(روى الحسن (علي بن هبة الله) ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي الصيرفي ، عن علي ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، قال : دخلت على أبي الحسن - عليه السلام - ...).
وهذا السند يؤكد أن سند الرواية في الكافي مرسل فهنا أبو سمينة يروي عن أبي بصير بثلاثة وسائط، بينما في الكافي روى عن أبي بصير مباشرة وبدون أي واسطة.
وسند دلائل الإمامة ضعيف بكل من:
1 – محمد بن علي الصيرفي: هو أبو سمينة، قال عنه النجاشي: (... ضعيف جدا ، فاسد الاعتقاد ، لا يعتمد في شئ ، وكان ورد قم ، وقد اشتهر بالكذب بالكوفة ، ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى مدة ، ثم تشهر بالغلو فجفي ...)، وقيل إنه أشهر الكذابين، وصرَح الخوئي بأنه لا شك في ضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج 17 ص 319 وما بعدها برقم 11286.
2 – علي: فلم يذكر له في هذا السند أب أو كنية أو لقب، فلا نعرفه من هو.
3 – الحسن بن علي بن أبي حمزة: نقل النجاشي الطعن عليه، وقال الكشي إنه كذاب، وقال علي بن الحسن بن فضال إنه كذاب ملعون، وضعفه ابن الغضائري، وقد حكم الخوئي بضعفه ( ).
4 – علي بن أبي حمزة: وهو البطائني، والمشهور ضلاله وأنه أصل الواقفة، وقال العلامة الحلي إنه ضعيف جداً، وحكم الخوئي بضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج12 ص234 برقم 7846.
فالسند مهلهل كما ترى لا يعتمد عليه في شيء عند القوم.
المناقشة الثالثة:
هناك أمر مريب في هذه الرواية وهو أنها منسوبة الى أكثر من رجل، أي إن الرجل الذي سأل الإمام الكاظم (ع) (بم يعرف الإمام) وأجابه الكاظم (ع) بالجواب المذكور أكثر من واحد، فقد أخرج هذه الرواية حسين بن عبد الوهاب ( ) في كتابه عيون المعجزات عن علي بن حمزة الثمالي:
عيون المعجزات: عن علي بن حمزة الثمالي قال: (دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) وكان يكنى أبا الحسن وأبا إبراهيم فقلت جعلت فداك بم يعرف الإمام فقال بخصال أولها النص من أبيه عليه ونصبه للناس علما حتى يكون عليهم حجة كما نصب رسول الله (ص) أمير المؤمنين (ع) إماما وعلما وكذلك الأئمة نص الأول على الثاني ونصبه حجة وعلما ان تسأله فيجيب فتسكت عنه فيبتدء ويخبر الناس بما يكون في غد ويكلم الناس بكل لسان ويعرف منطق الطير والساعة أعطيك العلامة قبل ان تقوم من مقامك فما برحت حتى دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلم بالعربية فاجابه (ع) بالفارسية فقال الخراساني ما معنى ان أكلمك بكلامي إلا ظني بأنك لا تحسنه فقال (ع) سبحان الله ان كنت لا أحسن أجيبك فما فضلي عليك ثم قال لي يا أبا محمد ان الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا منطق الطير والبهائم فمن لم يكن فيه هذه الخصال فليس بإمام) ( ).
فرواية الكافي تصرح بأن السائل هو أبو بصير، ورواية عيون المعجزات تصرح بأن السائل هو علي بن حمزة الثمالي، وأحداث الرواية متطابقة تماماً، وهذا ما يثير الاستغراب !
وأيضاً روى الشيخ الصدوق صدر الرواية بمعناه، ولكن عن أبي الجارود عن الباقر (ع):
معاني الأخبار: حدثنا إبراهيم بن هارون العبسي ( )، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن عبد الله ، قال : حدثنا كثير بن عياش ( )، عن أبي الجارود ( ) قال : (سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام : بم يعرف الإمام ؟ قال : بخصال أولها : نص من الله تبارك وتعالى عليه و نصبه علما للناس حتى يكون عليهم حجة ، لان رسول الله صلى الله عليه وآله نصب عليا عليه السلام وعرفه الناس باسمه وعينه وكذلك الأئمة عليهم السلام ينصب الأول الثاني وأن يسأل فيجيب وأن يسكت عنه فيبتدئ ، ويخبر الناس بما يكون في غد ، ويكلم الناس بكل لسان ولغة) ( ).
فالسائل هنا هو زياد بن المنذر أبو الجارود، والمسؤول هو الإمام الباقر (ع)، بينما في رواية الكافي وعيون المعجزات المسؤول هو الإمام الكاظم (ع)، والسائل في رواية الكافي هو ابو بصير، وفي رواية عيون المعجزات هو علي بن حمزة الثمالي ! وهذا الاضطراب يضع على هذه الرواية شبهات مريبة !
المناقشة الرابعة:
هذه الرواية تنص على أن الإمام يعلم لغات كل البشر بل ومنطق الطير والبهائم بل وكل ذي روح وهو يشمل الملائكة والجن: (إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شئ فيه الروح). وقد تقدم أن الذي يعلم كل ذلك هو الله فقط، وإذا كان مخلوق يعلم ذلك سيكون مساوياً لله تعالى في علمه باللغات، وهذا باطل حتى لو كان بتعليم الله، لأن النتيجة واحدة وهي مساواة مخلوق لله تعالى في معرفة كل اللغات.
نعم يمكن فهم الرواية بفهمين صحيحين:
الأول:
أن يكون علم الإمام بكل اللغات بالقوة لا بالفعل، بمعنى إن اقتضت الضرورة في مناسبة ما أن يعلم المعصوم منطق طير أو بهيمة ما أو لغة قوم معينين، يُعلمه الله تعالى ذلك على نحو الإعجاز إن شاء، لا أن الإمام متصف بمعرفة كل اللغات في كل الأحوال.
ووقوع الإعجاز للأئمة (ع) بهذا النحو لا ننكره، ولكنه ليس شرطاً في إثبات الإمامة، أي إنه قد يكون وقد لا يكون، وتخلفه لا يعني نقض الإمامة.
الثاني:
أن يعلم الإمام بعض اللغات التي يستحيل أن يعلمها بشر غيره بالفعل، لا كل اللغات، ولكن تقدم أن هذا لا يكون إلا بإعجاز، والإعجاز ليس شرطاً في إثبات الإمامة، بمعنى إن لم يتصف المعصوم بذلك لا يكون دليلاً على نقض إمامته، وأيضاً الإعجاز له قانونه الإلهي الذي يقتضي إن لا يكون إلا في حال توقف إقامة الحجة عليه ...، فهو رهن هذا الشرط وجوداً وعدماً.
المناقشة الخامسة:
أما ذيل الرواية القائل: (فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام)، فلا يمكن أخذه على ظاهره، بحيث أن الإمامة متوقفة على إثبات معرفة الإمام لكل اللغات وإخباره الناس بما في غد، لأن هذا أمر عقائدي وهو لا يثبت إلا بدليل قطعي، وهذه الرواية آحاد بل وسندها ضعيف جداً وتدور حولها الشبهات. ولم نجد نبياً أو إماماً أثبت نبوته أو إمامته بمعرفة كل اللغات.
نعم .. تقدم أننا نجوِّز أن يعلم الإمام لغات يعجز البشر عن معرفتها، ولكن ذيل الرواية السابقة يجعل ذلك شرطاً في ثبوت الإمامة، وهذا ما أنكره حتى أشهر العلماء المتقدمين كالسيد المرتضى (ره)، ولا يخفى أن المشروط عدم عند عدم شرطه، أي أن من لم يثبت أنه يعلم كل اللغات تبطل إمامته، وهذا أصل عقائدي خطير لا يمكن أن يسلم به إلا بدليل قطعي الصدور والدلالة، وهو مفقود. فهناك فرق مهم جداً بين أن نجد رواية تقول أن الإمام يعلم كل اللغات أو المعجز منها وبين أن تنص رواية على أن ذلك شرط في ثبوت الإمامة، فعلى الأخير تكون الرواية بصدد بيان طريق الى معرفة الإمام الحجة، بخلاف ما لم تنص على ذلك.
ولكن لا نسلم أن ذيل الرواية يجعل ذلك شرطاً في إثبات الإمامة بدلالة قطعية، بل هناك احتمال آخر لفهم ذيل الرواية، وهو أن معرفة كل اللغات ومنطق الطير بما أنه معجزة، فهو يكون عند توقف إقامة الحجة أو الهداية عليه، فمن لا يعرف لغات الرعية عند انعدام السبل الطبيعية لمعرفتها، فهو ليس بإمام، لأن المفروض أنه مؤيد وملهم من الله تعالى، فلابد أن يُعلمه عندئذ لغة ما لا يجد سبيلاً الى معرفته من اللغات على نحو الإعجاز المؤقت لا الدائم، قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} الرعد:8. وبهذا تكون الرواية أجنبية عن جعل معرفة اللغات شرطاً في إثبات الإمامة، بل ناظرة إلى إثبات صفة للإمام بما هو هو، لا من حيث كونها طريقاً لإثبات إمامته للناس، والفرق بين الأمرين لا يخفى على اللبيب.
فمثلاً ما رواه الكليني بسنده عن أبي عبد الله (ع): [أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجة لله على خلقه] ( ).
لا يعني بأن الإمام يجب عليه أن يخبر الناس بما سيصيبه في المستقبل وما سينتهي إليه أمره وإلا فهو ليس بإمام، وأعتقدُ بأنَّ هذا لا يحتاج مزيد بيان.
وكذلك إن أخبر الإمام بما سيصيبه في المستقبل، لا يعني أن إثبات إمامته تكون رهن وقوع ما أخبر به في أرض الواقع، بمعنى أن إمامته غير ثابتة حتى يقع ما أخبر به.
إنما الرواية ناظرة إلى بيان أن الإمام لابد أن يعرفه الله تعالى ما سيصيبه، ولم تتطرق إلى أن الإمام يجب عليه أن يخبر الناس بذلك أو أن إظهار ذلك شرط في أثبات الإمامة.
وهذا التفسير هو المتعين لموافقته لعموم القرآن والسنة والحكمة الإلهية.
الشيخ ناظم العقيلي
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
شبهة: المعصوم يُعرف بعلمه بكل اللغات
والآن أشرع بمناقشة الروايات التي تنص أو تشير الى أن الإمام يعرف كل اللغات:
الرواية الأولى:
الكافي ج 1 ص 285:
الكليني: أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ، عن أبي بصير قال : [قلت لأبي الحسن عليه السلام : جعلت فداك بم يعرف الإمام ؟ قال: فقال: بخصال: أما أولها فإنه بشئ قد تقدم من أبيه فيه بإشارة إليه لتكون عليهم حجة ويسأل فيجيب وإن سكت عنه ابتدأ ويخبر بما في غد ويكلم الناس بكل لسان ، ثم قال لي : يا أبا محمد أعطيك علامة قبل أن تقوم فلم ألبث أن دخل علينا رجل من أهل خراسان ، فكلمه الخراساني بالعربية فأجابه أبو الحسن عليه السلام بالفارسية فقال له الخراساني : والله جعلت فداك ما منعني أن أكلمك بالخراسانية غير أني ظننت أنك لا تحسنها ، فقال : سبحان الله إذا كنت لا أحسن أجيبك فما فضلي عليك ثم قال لي : يا أبا محمد إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شئ فيه الروح ، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام] .
وفي الرواية عدة مناقشات:
المناقشة الأولى:
الرواية آحاد لا يعتمد عليها في العقائد، لأن العقائد تبنى على العلم أي القطع والجزم، وهو لا يكون إلا بآية محكمة أو روايات متواترة أو محفوفة بقرائن الصحة، وسيأتي أن القرائن ضد ظاهر هذه الرواية.
المناقشة الثانية:
الرواية ضعيفة السند وبذلك فهي لا تفيد الظن فضلاً عن العلم، أي لا يعتمد عليها في الفقه فضلاً عن العقائد، وقد نص على ضعفها العلامة المجلسي في مرآة العقول ( )، ومحمد باقر البهبودي في صحيح الكافي.
وضعف السند هو بـالتالي:
1 - أحمد بن مهران:
فقد ضعفه ابن الغضائري بقوله: (أحمد بن مهران . روى عنه الكليني في كتاب "الكافي" . ضعيف) ( ).
وقد ذكره العلامة الحلي في القسم الثاني من الخلاصة – قسم غير المعتمدين – وقال عنه: (أحمد بن مهران ، روى عنه في كتاب الكافي . قال ابن الغضائري : انه ضعيف) ( ).
وقال المحقق الخوئي: (أحمد بن مهران : روى عنه الكليني في كتاب الكافي ، ضعيف . ذكره ابن الغضائري . أقول : اعتمد عليه الوحيد - قدس سره - في التعليقة لترحم الكليني عليه في عدة موارد ، وإكثاره الرواية عنه ، وفيه ما لا يخفى ...) ( ).
وقال محمد الجواهري في المفيد من معجم رجال الحديث ص48: (أحمد بن مهران : روى 52 موردا ، روى عنه في جميع ذلك الشيخ الكليني - مجهول - اعتمد عليه الوحيد لترحم الكليني عليه واكثار الراوية عنه . وفيه ما لا يخفى).
إذن فـ (أحمد بن مهران) إن لم نقل إنه ثابت الضعف، فهو لم تثبت وثاقته، فيكون سند الرواية ضعيفاً لجهالة حال أحمد بن مهران.
2 – محمد بن علي : الذي يروي عنه أحمد بن مهران، وهو محمد بن علي الصيرفي ابن سمينة، بدليل أن محمد بن جرير الطبري الشيعي روى عنه نفس هذه الرواية في كتابه دلائل الإمامة ص337 بالسند التالي:
(روى الحسن، قال : أخبرنا أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي الصيرفي ، عن علي ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، قال : دخلت على أبي الحسن - عليه السلام - ...).
إذن فراوي هذه الرواية هو (محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة) دون غيره، وهذا الرجل اشتهر بالضعف والكذب والغلو وفساد العقيدة، قال عنه النجاشي: (... ضعيف جدا ، فاسد الاعتقاد ، لا يعتمد في شئ ، وكان ورد قم ، وقد اشتهر بالكذب بالكوفة ، ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى مدة ، ثم تشهر بالغلو فجفي ...) ( )، وقيل إنه أشهر الكذابين، وصرَح الخوئي بأنه لا شك في ضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج 17 ص 319 وما بعدها برقم 11286.
وحسب ما تقدم تكون هذه الرواية رواية غلاة كذابين فاسدي العقيدة، فكيف يبنى عليها عقيدة وتكون ميزاناً لإثبات إمامة الأئمة (ع) ؟!!!
3 – بالإرسال؛ فالسند مرسل قطعاً، لأن محمد بن علي الصيرفي ومن في طبقته لا يمكن أن يروي عن أبي بصير بلا واسطة، فأبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي روى عن الباقر والصادق والكاظم (ع) وتوفي سنة 150 هـ ( )، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي روى عن الباقر والصادق (ع) ( ) ( )، فالأسدي توفي بعد الإمام الصادق (ع) بسنتين، والمرادي لم يُعَد في أصحاب الكاظم (ع)، وهذا يشير إلى أنه لم يدرك إمامته (ع) وكان قد استلم الإمامة سنة 148 هـ، ومحمد بن علي الصيرفي عده الطوسي والبرقي في أصحاب الرضا (ع) ( )، وهذا يعني أنه لم يدرك الكاظم (ع)، فكيف يروي عمن توفي عام 150 هـ ولم يدرك من إمامة الكاظم (ع) إلا سنتين ؟!
ولا توجد رواية للصيرفي عن أبي بصير لا في الكتب الأربعة ولا في غيرها من الكتب المعتبرة المشهورة، بل يروي عنه بأكثر من واسطة.
وعلي أي حال يكفي في المقام تضعيف العلامة المجلسي في مرآة العقول، والبهبودي في صحيح الكافي لسند هذه الرواية.
وروى هذه الرواية عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد مع زيادة في المتن واختلاف في الألفاظ مع اتحاد القصة، وبالسند التالي:
(محمد بن خالد الطيالسي ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي الحسن الماضي عليه السلام ... ) ( ).
والسند ضعيف بكل من:
1 – محمد بن خالد الطيالسي: فقد ذكره النجاشي والطوسي من دون توثيق أو مدح، فهو مجهول الحال، راجع معجم رجال الحديث ج17 ص75 برقم 10717. وقد صرَّح بمجهوليته محمد الجواهري في المفيد من معجم رجال الحديث ص524.
2 – علي بن أبي حمزة: وهو البطائني، فالمشهور ضلاله وأنه أصل الواقفة، وقال العلامة الحلي إنه ضعيف جداً، وحكم الخوئي بضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج12 ص234 برقم 7846.
وأيضاً روى محمد بن جرير الطبري الشيعي هذه الرواية في كتابه دلائل الإمامة ص337، وبالسند التالي:
(روى الحسن (علي بن هبة الله) ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي الصيرفي ، عن علي ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، قال : دخلت على أبي الحسن - عليه السلام - ...).
وهذا السند يؤكد أن سند الرواية في الكافي مرسل فهنا أبو سمينة يروي عن أبي بصير بثلاثة وسائط، بينما في الكافي روى عن أبي بصير مباشرة وبدون أي واسطة.
وسند دلائل الإمامة ضعيف بكل من:
1 – محمد بن علي الصيرفي: هو أبو سمينة، قال عنه النجاشي: (... ضعيف جدا ، فاسد الاعتقاد ، لا يعتمد في شئ ، وكان ورد قم ، وقد اشتهر بالكذب بالكوفة ، ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى مدة ، ثم تشهر بالغلو فجفي ...)، وقيل إنه أشهر الكذابين، وصرَح الخوئي بأنه لا شك في ضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج 17 ص 319 وما بعدها برقم 11286.
2 – علي: فلم يذكر له في هذا السند أب أو كنية أو لقب، فلا نعرفه من هو.
3 – الحسن بن علي بن أبي حمزة: نقل النجاشي الطعن عليه، وقال الكشي إنه كذاب، وقال علي بن الحسن بن فضال إنه كذاب ملعون، وضعفه ابن الغضائري، وقد حكم الخوئي بضعفه ( ).
4 – علي بن أبي حمزة: وهو البطائني، والمشهور ضلاله وأنه أصل الواقفة، وقال العلامة الحلي إنه ضعيف جداً، وحكم الخوئي بضعفه، راجع معجم رجال الحديث ج12 ص234 برقم 7846.
فالسند مهلهل كما ترى لا يعتمد عليه في شيء عند القوم.
المناقشة الثالثة:
هناك أمر مريب في هذه الرواية وهو أنها منسوبة الى أكثر من رجل، أي إن الرجل الذي سأل الإمام الكاظم (ع) (بم يعرف الإمام) وأجابه الكاظم (ع) بالجواب المذكور أكثر من واحد، فقد أخرج هذه الرواية حسين بن عبد الوهاب ( ) في كتابه عيون المعجزات عن علي بن حمزة الثمالي:
عيون المعجزات: عن علي بن حمزة الثمالي قال: (دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) وكان يكنى أبا الحسن وأبا إبراهيم فقلت جعلت فداك بم يعرف الإمام فقال بخصال أولها النص من أبيه عليه ونصبه للناس علما حتى يكون عليهم حجة كما نصب رسول الله (ص) أمير المؤمنين (ع) إماما وعلما وكذلك الأئمة نص الأول على الثاني ونصبه حجة وعلما ان تسأله فيجيب فتسكت عنه فيبتدء ويخبر الناس بما يكون في غد ويكلم الناس بكل لسان ويعرف منطق الطير والساعة أعطيك العلامة قبل ان تقوم من مقامك فما برحت حتى دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلم بالعربية فاجابه (ع) بالفارسية فقال الخراساني ما معنى ان أكلمك بكلامي إلا ظني بأنك لا تحسنه فقال (ع) سبحان الله ان كنت لا أحسن أجيبك فما فضلي عليك ثم قال لي يا أبا محمد ان الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا منطق الطير والبهائم فمن لم يكن فيه هذه الخصال فليس بإمام) ( ).
فرواية الكافي تصرح بأن السائل هو أبو بصير، ورواية عيون المعجزات تصرح بأن السائل هو علي بن حمزة الثمالي، وأحداث الرواية متطابقة تماماً، وهذا ما يثير الاستغراب !
وأيضاً روى الشيخ الصدوق صدر الرواية بمعناه، ولكن عن أبي الجارود عن الباقر (ع):
معاني الأخبار: حدثنا إبراهيم بن هارون العبسي ( )، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن عبد الله ، قال : حدثنا كثير بن عياش ( )، عن أبي الجارود ( ) قال : (سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام : بم يعرف الإمام ؟ قال : بخصال أولها : نص من الله تبارك وتعالى عليه و نصبه علما للناس حتى يكون عليهم حجة ، لان رسول الله صلى الله عليه وآله نصب عليا عليه السلام وعرفه الناس باسمه وعينه وكذلك الأئمة عليهم السلام ينصب الأول الثاني وأن يسأل فيجيب وأن يسكت عنه فيبتدئ ، ويخبر الناس بما يكون في غد ، ويكلم الناس بكل لسان ولغة) ( ).
فالسائل هنا هو زياد بن المنذر أبو الجارود، والمسؤول هو الإمام الباقر (ع)، بينما في رواية الكافي وعيون المعجزات المسؤول هو الإمام الكاظم (ع)، والسائل في رواية الكافي هو ابو بصير، وفي رواية عيون المعجزات هو علي بن حمزة الثمالي ! وهذا الاضطراب يضع على هذه الرواية شبهات مريبة !
المناقشة الرابعة:
هذه الرواية تنص على أن الإمام يعلم لغات كل البشر بل ومنطق الطير والبهائم بل وكل ذي روح وهو يشمل الملائكة والجن: (إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شئ فيه الروح). وقد تقدم أن الذي يعلم كل ذلك هو الله فقط، وإذا كان مخلوق يعلم ذلك سيكون مساوياً لله تعالى في علمه باللغات، وهذا باطل حتى لو كان بتعليم الله، لأن النتيجة واحدة وهي مساواة مخلوق لله تعالى في معرفة كل اللغات.
نعم يمكن فهم الرواية بفهمين صحيحين:
الأول:
أن يكون علم الإمام بكل اللغات بالقوة لا بالفعل، بمعنى إن اقتضت الضرورة في مناسبة ما أن يعلم المعصوم منطق طير أو بهيمة ما أو لغة قوم معينين، يُعلمه الله تعالى ذلك على نحو الإعجاز إن شاء، لا أن الإمام متصف بمعرفة كل اللغات في كل الأحوال.
ووقوع الإعجاز للأئمة (ع) بهذا النحو لا ننكره، ولكنه ليس شرطاً في إثبات الإمامة، أي إنه قد يكون وقد لا يكون، وتخلفه لا يعني نقض الإمامة.
الثاني:
أن يعلم الإمام بعض اللغات التي يستحيل أن يعلمها بشر غيره بالفعل، لا كل اللغات، ولكن تقدم أن هذا لا يكون إلا بإعجاز، والإعجاز ليس شرطاً في إثبات الإمامة، بمعنى إن لم يتصف المعصوم بذلك لا يكون دليلاً على نقض إمامته، وأيضاً الإعجاز له قانونه الإلهي الذي يقتضي إن لا يكون إلا في حال توقف إقامة الحجة عليه ...، فهو رهن هذا الشرط وجوداً وعدماً.
المناقشة الخامسة:
أما ذيل الرواية القائل: (فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام)، فلا يمكن أخذه على ظاهره، بحيث أن الإمامة متوقفة على إثبات معرفة الإمام لكل اللغات وإخباره الناس بما في غد، لأن هذا أمر عقائدي وهو لا يثبت إلا بدليل قطعي، وهذه الرواية آحاد بل وسندها ضعيف جداً وتدور حولها الشبهات. ولم نجد نبياً أو إماماً أثبت نبوته أو إمامته بمعرفة كل اللغات.
نعم .. تقدم أننا نجوِّز أن يعلم الإمام لغات يعجز البشر عن معرفتها، ولكن ذيل الرواية السابقة يجعل ذلك شرطاً في ثبوت الإمامة، وهذا ما أنكره حتى أشهر العلماء المتقدمين كالسيد المرتضى (ره)، ولا يخفى أن المشروط عدم عند عدم شرطه، أي أن من لم يثبت أنه يعلم كل اللغات تبطل إمامته، وهذا أصل عقائدي خطير لا يمكن أن يسلم به إلا بدليل قطعي الصدور والدلالة، وهو مفقود. فهناك فرق مهم جداً بين أن نجد رواية تقول أن الإمام يعلم كل اللغات أو المعجز منها وبين أن تنص رواية على أن ذلك شرط في ثبوت الإمامة، فعلى الأخير تكون الرواية بصدد بيان طريق الى معرفة الإمام الحجة، بخلاف ما لم تنص على ذلك.
ولكن لا نسلم أن ذيل الرواية يجعل ذلك شرطاً في إثبات الإمامة بدلالة قطعية، بل هناك احتمال آخر لفهم ذيل الرواية، وهو أن معرفة كل اللغات ومنطق الطير بما أنه معجزة، فهو يكون عند توقف إقامة الحجة أو الهداية عليه، فمن لا يعرف لغات الرعية عند انعدام السبل الطبيعية لمعرفتها، فهو ليس بإمام، لأن المفروض أنه مؤيد وملهم من الله تعالى، فلابد أن يُعلمه عندئذ لغة ما لا يجد سبيلاً الى معرفته من اللغات على نحو الإعجاز المؤقت لا الدائم، قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} الرعد:8. وبهذا تكون الرواية أجنبية عن جعل معرفة اللغات شرطاً في إثبات الإمامة، بل ناظرة إلى إثبات صفة للإمام بما هو هو، لا من حيث كونها طريقاً لإثبات إمامته للناس، والفرق بين الأمرين لا يخفى على اللبيب.
فمثلاً ما رواه الكليني بسنده عن أبي عبد الله (ع): [أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجة لله على خلقه] ( ).
لا يعني بأن الإمام يجب عليه أن يخبر الناس بما سيصيبه في المستقبل وما سينتهي إليه أمره وإلا فهو ليس بإمام، وأعتقدُ بأنَّ هذا لا يحتاج مزيد بيان.
وكذلك إن أخبر الإمام بما سيصيبه في المستقبل، لا يعني أن إثبات إمامته تكون رهن وقوع ما أخبر به في أرض الواقع، بمعنى أن إمامته غير ثابتة حتى يقع ما أخبر به.
إنما الرواية ناظرة إلى بيان أن الإمام لابد أن يعرفه الله تعالى ما سيصيبه، ولم تتطرق إلى أن الإمام يجب عليه أن يخبر الناس بذلك أو أن إظهار ذلك شرط في أثبات الإمامة.
وهذا التفسير هو المتعين لموافقته لعموم القرآن والسنة والحكمة الإلهية.
الشيخ ناظم العقيلي