شبهة: المعصوم يُعرف بعلمه بكل اللغات
(1)
(1)
معرفة كل اللغات:
معرفة كل اللغات صفة من صفات الله تعالى، كما سيأتي ذكره في نصوص متعددة عن آل محمد (ع)، فلا يمكن أن يتصف بها مخلوق، لأن ذلك يعني أنه مساوٍ لله تعالى في ذلك وهذا باطل بداهة، واكتساب معرفة كل اللغات أمر مستحيل وخارج عن استطاعة البشر مهما بلغ من الذكاء وسرعة الحفظ، فاللغات الحية الآن في العالم أكثر من ثلاثة آلاف لغة – كما قيل -، فضلاً عن اللغات المنقرضة الميتة، وحتى لو قلنا بأن اللغات هي ألف لغة فقط، وفرضنا أن شخصاً يتعلم كل لغة في شهرين فقط، فهذا يعني أنه سيتعلم الألف لغة في (166) سنة، وهذا مما لا يمكن حصوله لأحد من البشر عادة.
إذن فمعرفة كل اللغات خارجة عن قدرة أي فرد من أفراد البشر، بل خارج عن قدرة كل الخلق بما فيهم الملائكة، بعد أن عرفنا أنه من صفات الله تعالى، وبعد أن عرفنا استحالة اكتساب أي فرد من أفراد البشر لذلك.
أما معرفة بعض اللغات، فهو يتصور على نحوين:
النحو الأول:
أن يعلم عدداً من اللغات يعجز أبناء جنسه أن يحيطوا بها، مثلاً أن يعلم (100) لغة، وكون معرفة هذا العدد من اللغات لفرد من البشر بما هو بشر مستحيل، فهذا يعني أنه لا يكون لفرد من البشر إلا بإعجاز إلهي، والإعجاز له قانون إلهي فقد يحصل لبعض البشر كالأنبياء والأئمة وقد لا يحصل لهم، وسيأتي بيان أن المعجزة التي يمكن أن تتخلف لا يتوقف عليها صدق صاحب أي دعوة.
النحو الثاني:
أن يعلم عدداً من اللغات يمكن لأمثاله من البشر أن يحيطوا بها، كأن يعلم مثلاً (30) لغة، والمعرفة لهذا العدد من اللغات لا تثبت لصاحبها خصوصية منفية عن أبناء جنسه، كنبوة أو إمامة، لأن هذا بمقدور البشر أو بعضهم، والعلم الذي يستدل به على مزية خاصة كالنبوة أو الإمامة لابد أن يكون خارج عن قدرة البشر فعندما يتصف به أحدهم يكون دليلاً على تأييده من الله تعالى.
إذن فمعرفة بعض اللغات على النحو الأول المتقدم هو إعجاز إلهي، والإعجاز قد يحصل وقد لا يحصل، فعند عدم اتصاف صاحب أي دعوة بهذا الإعجاز لا يعني كذبه، فقد يكون صادقاً ولكن الله تعالى لم يشأ إظهار هذه المعجزة على يديه، والآيات بيد الله تعالى لا بيد الرسل والأئمة.
وأما معرفة بعض اللغات على النحو الثاني، فسواء وجدت أم لم توجد لا تدل على صدق المدعي، لأنها ممكنة لبقية البشر أو بعضهم، فلا يمكن أن تكون دليلاً موصلاً إلى الجزم بصدق صاحب دعوة إلهية.
والآن أذكر بعض الأدلة الروائية على كون (معرفة كل اللغات) من صفات الله تعالى:
1 – الكليني في الكافي ج2 ص593 – 595: بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع): قال:
(قل : اللهم إني أسألك قول التوابين وعملهم و نور الأنبياء وصدقهم .......... ويا أكمل منعوت ويا أسمح المعطين ويا من يفقه بكل لغة يدعى بها ويا من عفوه قديم وبطشه شديد وملكه مستقيم ...) ( ).
2 – السيد ابن طاووس في جمال الأسبوع ص 183: بسنده عن الحسن بن القاسم العباسي قال: دخلت على أبى الحسن موسى ابن جعفر عليهما السلام ببغداد وهو يصلى صلاة جعفر عند ارتفاع النهار يوم الجمعة فلم أصل خلفه فرغ ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال :
(يا من لا تخفى عليه اللغات ولا تتشابه عليه الأصوات ويا من هو كل يوم في شأن يا من لا يشغله شأن عن شأن يا مدبر الأمور يا باعث من في القبور يا محيى العظام ...).
3 - العلامة المجلسي في بحار الأنوار ج 91 ص 294 – 295: قال: ومن ذلك : دعاء لمولانا الصادق جعفر بن محمد عليه أفضل الصلاة والسلام لما استدعاه المنصور به مرة سادسة وهي ثاني مرة إلى بغداد ، بعد قتل محمد و إبراهيم ابني عبد الله بن الحسن .....:
(يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء ، يا من ليس له أمد ولا نهاية ، ولا ميقات ولا غاية ، يا ذا العرش المجيد ، والبطش الشديد ، يا من هو فعال لما يريد ، يا من لا يخفى عليه اللغات ، ولا تشتبه عليه الأصوات ، يا من قامت بجبروته الأرض والسماوات يا حسن الصحبة يا واسع المغفرة ، يا كريم العفو صل على محمد وآل محمد واحرسني في سفري ومقامي وفي حركتي وانتقالي بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يضام).
4 - بحار الأنوار ج 82 ص 235:
(يامن لا تغيره الأيام والليالي ، ولا تتشابه عليه الأصوات ، ولا تخفى عليه اللغات ولا يبرمه إلحاح الملحين أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد خيرتك من خلقك ، فصل عليهم بأفضل صلواتك ، وصل على جميع النبيين والمرسلين الذين بلغوا عنك الهدى وعقدوا لك المواثيق بالطاعة ، وصل على عبادك الصالحين).
5 - الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 240 – 241:
قال: (ومما يختص بسجدة الشكر ، عقيب صلاة الصبح ، أن تقول : يا ماجد ! يا جواد ! يا حي حين لا حي ! يا فرد ! يا متفردا بالوحدانية ! يا من لا تشتبه عليه الأصوات ! يا من لا تخفي عليه اللغات ! يا من يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، يا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ! يا من هو أعلم بسريرتي مني بها ...).
6 - الشيخ المفيد في المقنعة ص 183:
(ثم اسجد ، وقل في سجودك : " يا سامع كل صوت ، ويا جامع كل فوت ، ويا بارئ النفوس بعد الموت ، يا من لا تغشاه الظلمات ، ولا تشابه عليه الأصوات ، ولا تحيره اللغات).
7 – الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 306:
فإذا فرغت من الصلاة ، عقبت بعدها ، وسبحت تسبيح الزهراء عليها السلام ، ثم تدعو بهذا الدعاء : (يا من لا تخفي عليه اللغات ولا تتشابه عليه الأصوات ! ويا من هو كل يوم في شأن ! يا من لا يشغله شأن عن شأن ، يا مدبر الأمور ! يا باعث من في القبور ! يا محيي العظام وهي رميم ! يا بطاش يا ذا البطش الشديد ! يا فعالا لما يريد ! يا رازق من يشاء بغير حساب ! يا رازق الجنين والطفل الصغير وراحم الشيخ الكبير وجابر العظم الكسير ! يا مدرك الهاربين ! ويا غاية الطالبين ! يا من يعلم ما في الضمير وما تكن الصدور ! يا رب الأرباب وسيد السادات وإله الآلهة وجبار الجبابرة ...).
8 – الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 561:
ثم اسجد ، وقل في سجودك : (اللهم ! إني أسألك يا سامع كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت يا من لا تغشاه الظلمات ولا تتشابه عليه الأصوات ولا تغلطه الحاجات ، يا من لا ينسي شيئا لشئ ولا يشغله شئ عن شئ أعط محمدا وآل محمد صلواتك عليه وعليهم أفضل ما سألوا وخير ما سألوك وخير ما سئلت لهم ، وخير ما سألتك لهم وخير ما أنت مسؤول لهم إلى يوم القيامة ثم ارفع رأسك وادع بما أحببت).
9 – الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج 3 ص 75 – 79: بسنده عن عن أبي حمزة الثمالي قال : أخذت هذا الدعاء من أبي جعفر عليه السلام وكان يسميه الدعاء الجامع بسم الله الرحمن الرحيم ....... الى قوله: ثم تسجد وتقول في سجودك :
(يا سامع كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت ويا من لا تغشاه الظلمات ، ويا من لا تتشابه عليه الأصوات .....).
10 – الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج 3 ص 86: بسنده عن الرضا (ع):
(...... ثم اسجد وقل في سجودك : ( اللهم إني أسألك يا سامع كل صوت ، ويا بارئ النفوس بعد الموت ، ويا من لا تغشاه الظلمات ، ولا تتشابه عليه الأصوات ، ولا تغلطه الحاجات ، يا من لا ينسى شيئا لشئ ، ولا يشغله شئ عن شئ ، اعط محمدا وآل محمد صلواتك عليه وعليهم أفضل ما سألوا وخير ما سألوك وخير ما سئلت لهم وخير ما سألتك لهم وخير ما أنت مسؤول لهم إلى يوم القيامة).
11 – الميرزا النوري في مستدرك الوسائل ج 4 ص 301 – 302: عن الصادق (عليه السلام) قال : ما لأحدكم إذا ضاق بالأمر ذرعا ، ان [ لا ] يتناول المصحف بيده ، عازما على امر يقتضيه من عند الله ، ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثلاثا ، والاخلاص ثلاثا ، وآية الكرسي ثلاثا ، وعنده مفاتح الغيب ثلاثا ، والقدر ثلاثا والجحد ثلاثا والمعوذتين ثلاثا ويتوجه بالقرآن قائلا :
(اللهم إني أتوجه إليك بالقرآن العظيم ، من فاتحته إلى خاتمته ، وفيه اسمك الأكبر ، وكلماتك التامات ، يا سامع كل صوت ، يا جامع كل فوت ، ويا بارئ النفوس بعد الموت ، يا من لا تغشاه الظلمات ، ولا تشتبه عليه الأصوات ، أسألك ان تخير لي بما أشكل علي به ، فإنك عالم بكل معلوم غير معلم ...... ثم تنظر آخر سطر تجده كالوحي فيما تريد ، إن شاء الله تعالى).
12 – بحار الأنوار ج 92 ص 398 – 400: عن أمير المؤمنين (ع):
(...... يا من لا تشتبه عليه الأصوات ، يا من لا تضجره المسئلات ، ولا تغشاه الظلمات ، يا نور الأرض والسماوات . يا سابع النعم ، يا دافع النقم ، يا بارئ النسم ، يا جامع الأمم ، يا شافي السقم يا خالق النور والظلم ، يا ذا الجود والكرم ، يا من لا يطأ عرشه قدم . يا أجود الأجودين ، يا أكرم الأكرمين يا أسمع السامعين ، يا أبصر الناظرين ، يا جار المستجيرين ، يا أمان الخائفين ، يا ظهير اللاجين ، يا ولي المؤمنين يا غياث المستغيثين ، يا غاية الطالبين).
13 - بحار الأنوار ج 92 ص 154 – 155: عن أبي عبد الله (ع):
(يا من لا يحجبه سماء عن سماء ، ولا أرض عن أرض ، ولا جنب عن قلب ، ولا ستر عن كن ولا جبل عما في أصله ، ولا بحر عما في قعره ، يا من لا تشتبه عليه الأصوات ، ولا تغلبه كثرة الحاجات ، ولا يبرمه إلحاح الملحين ، صل على محمد وآل محمد " ثم سل حاجتك).
14 - بحار الأنوار ج 94 ص 264 – 265:
(يا من لا يشغله سمع عن سمع ، يا من لا تشتبه عليه الأصوات ، ولا يغلطه السائلون ، ولا تختلف عليه اللغات ، يا من لا يبرمه إلحاح الملحين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، برحمتك يا أرحم الراحمين ويا خير الغافرين).
ولا تخفى دلالة هذه الأدعية الشريفة على أن معرفة كل اللغات هي من صفات الله تعالى.
فإن قيل بأن معرفة كل اللغات تتوقف عليها هداية البشر، فكيف يستطيع النبي أو الإمام أن يهدي أو يبلغ أو يحكم لمن لا يتكلمون لغته ؟
أقول:
1 – تقدم إثبات أن معرفة كل اللغات من صفات الله تعالى ومختصاته، ولا يمكن لمخلوق أن يتصف بذلك على نحو الإطلاق، ومعرفة بعض اللغات إما أن يكون معرفة عدد خارج عن قدرة البشر وهو معجزة والمعجزة لا تكون دائماً وخصوصاً مع وجود الأسباب الطبيعية وفعاليتها، وإما أن يكون معرفة بعض اللغات على سبيل معرفة عدد منها باستطاعة البشر أن يحيطوا بها، وقلت بأن هذا لا يكون دليلاً على معرفة الإمام أو الحجة ولا من مختصاته، ولا يجب توفرها.
2 – النبي محمد (ص) كان نبياً مرسلاً للعالمين، والى الآن الخلاف قائم هل أنه كان يحسن القراءة والكتابة أم لا، فافترق المسلمون بين مانع ومجوز وموجب. وعدم معرفة القراءة والكتابة يعني أنه يحتاج الى من يكتب ويقرأ ويترجم له الكتب، ولا يخفى أن ذلك لا يقدح في نبوته ورسالته، وخصوصاً عند عدم قيام الدليل القطعي على خلافه حسب ما صرح به السيد المرتضى (ره) – كما يأتي -، أذن فلا إشكال حتى لو كان الإمام لا يحسن علوم لغة قومه كالقراءة والكتابة فضلا عن سائر اللغات.
ومن المعلوم أن النبي محمداً (ص) عندما راسل الملوك والرؤساء كتب لهم بالعربية وليس بلغاتهم، وحينئذ أكيداً سيعتمد بيان مراد النبي ومضمون رسائله على المترجمين، وهذا يعني جواز التعويل على المترجمين في بيان رسالة النبي أو الإمام.
أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ، عن رسول الله (ص) أنه قال : (... إن الله بعث كل نبي كان قبلي إلى أمته بلسان قومه ، وبعثني إلى كل أسود وأحمر بالعربية ...) ( ).
وكل أسود وأبيض يعني إلى كل الناس على اختلاف لغاتهم، أي إن النبي محمداً (ص) بعثه الله تعالى إلى كل البشر بالعربية وليس بغيرها.
إذن فالنبي محمد (ص) أرسل بلغة قومه إلى جميع العالمين، وهذا يعني أنه يبين لقومه الحق والهدى، وقومه هم من ينشروا رسالته إلى بقية الأمم على اختلاف ألسنتهم.
ثم إن القرآن الكريم بتعاليمه وهدايته عام لكل البشر وليس للعرب فقط، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان من أهل الإسلام، فلماذا لم يعمد النبي (ص) الى ترجمته الى جميع لغات من تشملهم تكاليف القرآن وتعاليمه ؟ لماذا ترك هذا الأمر الى المترجمين ؟ أليس على فكر المستشكل أن هداية بقية الأمم غير العرب تتوقف على فهم معاني القرآن ومضامينه ؟ فلماذا ترك النبي ترجمة القرآن الى لغاتهم ؟!
كل هذا يدل على أن بقية الأمم مكلفون بإيجاد مقدمات فهم معاني القرآن وتعاليمه، كترجمة القرآن وسنة النبي (ص) الى لغاتهم، ويضاف الى ذلك أن المؤمنين أيضا مكلفون بنشر تعاليم القرآن وسنة النبي (ص) الى بقية اللغات وحسب الإمكان.
والنتيجة أن هداية بقية الأمم لا تستلزم أن يكون الإمام عارفاً بجميع لغاتها ما دام أن هناك أسباباً طبيعية يمكن أن تفي بهذا الغرض، فلا داع للإعجاز.
معرفة كل اللغات صفة من صفات الله تعالى، كما سيأتي ذكره في نصوص متعددة عن آل محمد (ع)، فلا يمكن أن يتصف بها مخلوق، لأن ذلك يعني أنه مساوٍ لله تعالى في ذلك وهذا باطل بداهة، واكتساب معرفة كل اللغات أمر مستحيل وخارج عن استطاعة البشر مهما بلغ من الذكاء وسرعة الحفظ، فاللغات الحية الآن في العالم أكثر من ثلاثة آلاف لغة – كما قيل -، فضلاً عن اللغات المنقرضة الميتة، وحتى لو قلنا بأن اللغات هي ألف لغة فقط، وفرضنا أن شخصاً يتعلم كل لغة في شهرين فقط، فهذا يعني أنه سيتعلم الألف لغة في (166) سنة، وهذا مما لا يمكن حصوله لأحد من البشر عادة.
إذن فمعرفة كل اللغات خارجة عن قدرة أي فرد من أفراد البشر، بل خارج عن قدرة كل الخلق بما فيهم الملائكة، بعد أن عرفنا أنه من صفات الله تعالى، وبعد أن عرفنا استحالة اكتساب أي فرد من أفراد البشر لذلك.
أما معرفة بعض اللغات، فهو يتصور على نحوين:
النحو الأول:
أن يعلم عدداً من اللغات يعجز أبناء جنسه أن يحيطوا بها، مثلاً أن يعلم (100) لغة، وكون معرفة هذا العدد من اللغات لفرد من البشر بما هو بشر مستحيل، فهذا يعني أنه لا يكون لفرد من البشر إلا بإعجاز إلهي، والإعجاز له قانون إلهي فقد يحصل لبعض البشر كالأنبياء والأئمة وقد لا يحصل لهم، وسيأتي بيان أن المعجزة التي يمكن أن تتخلف لا يتوقف عليها صدق صاحب أي دعوة.
النحو الثاني:
أن يعلم عدداً من اللغات يمكن لأمثاله من البشر أن يحيطوا بها، كأن يعلم مثلاً (30) لغة، والمعرفة لهذا العدد من اللغات لا تثبت لصاحبها خصوصية منفية عن أبناء جنسه، كنبوة أو إمامة، لأن هذا بمقدور البشر أو بعضهم، والعلم الذي يستدل به على مزية خاصة كالنبوة أو الإمامة لابد أن يكون خارج عن قدرة البشر فعندما يتصف به أحدهم يكون دليلاً على تأييده من الله تعالى.
إذن فمعرفة بعض اللغات على النحو الأول المتقدم هو إعجاز إلهي، والإعجاز قد يحصل وقد لا يحصل، فعند عدم اتصاف صاحب أي دعوة بهذا الإعجاز لا يعني كذبه، فقد يكون صادقاً ولكن الله تعالى لم يشأ إظهار هذه المعجزة على يديه، والآيات بيد الله تعالى لا بيد الرسل والأئمة.
وأما معرفة بعض اللغات على النحو الثاني، فسواء وجدت أم لم توجد لا تدل على صدق المدعي، لأنها ممكنة لبقية البشر أو بعضهم، فلا يمكن أن تكون دليلاً موصلاً إلى الجزم بصدق صاحب دعوة إلهية.
والآن أذكر بعض الأدلة الروائية على كون (معرفة كل اللغات) من صفات الله تعالى:
1 – الكليني في الكافي ج2 ص593 – 595: بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع): قال:
(قل : اللهم إني أسألك قول التوابين وعملهم و نور الأنبياء وصدقهم .......... ويا أكمل منعوت ويا أسمح المعطين ويا من يفقه بكل لغة يدعى بها ويا من عفوه قديم وبطشه شديد وملكه مستقيم ...) ( ).
2 – السيد ابن طاووس في جمال الأسبوع ص 183: بسنده عن الحسن بن القاسم العباسي قال: دخلت على أبى الحسن موسى ابن جعفر عليهما السلام ببغداد وهو يصلى صلاة جعفر عند ارتفاع النهار يوم الجمعة فلم أصل خلفه فرغ ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال :
(يا من لا تخفى عليه اللغات ولا تتشابه عليه الأصوات ويا من هو كل يوم في شأن يا من لا يشغله شأن عن شأن يا مدبر الأمور يا باعث من في القبور يا محيى العظام ...).
3 - العلامة المجلسي في بحار الأنوار ج 91 ص 294 – 295: قال: ومن ذلك : دعاء لمولانا الصادق جعفر بن محمد عليه أفضل الصلاة والسلام لما استدعاه المنصور به مرة سادسة وهي ثاني مرة إلى بغداد ، بعد قتل محمد و إبراهيم ابني عبد الله بن الحسن .....:
(يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء ، يا من ليس له أمد ولا نهاية ، ولا ميقات ولا غاية ، يا ذا العرش المجيد ، والبطش الشديد ، يا من هو فعال لما يريد ، يا من لا يخفى عليه اللغات ، ولا تشتبه عليه الأصوات ، يا من قامت بجبروته الأرض والسماوات يا حسن الصحبة يا واسع المغفرة ، يا كريم العفو صل على محمد وآل محمد واحرسني في سفري ومقامي وفي حركتي وانتقالي بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يضام).
4 - بحار الأنوار ج 82 ص 235:
(يامن لا تغيره الأيام والليالي ، ولا تتشابه عليه الأصوات ، ولا تخفى عليه اللغات ولا يبرمه إلحاح الملحين أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد خيرتك من خلقك ، فصل عليهم بأفضل صلواتك ، وصل على جميع النبيين والمرسلين الذين بلغوا عنك الهدى وعقدوا لك المواثيق بالطاعة ، وصل على عبادك الصالحين).
5 - الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 240 – 241:
قال: (ومما يختص بسجدة الشكر ، عقيب صلاة الصبح ، أن تقول : يا ماجد ! يا جواد ! يا حي حين لا حي ! يا فرد ! يا متفردا بالوحدانية ! يا من لا تشتبه عليه الأصوات ! يا من لا تخفي عليه اللغات ! يا من يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، يا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ! يا من هو أعلم بسريرتي مني بها ...).
6 - الشيخ المفيد في المقنعة ص 183:
(ثم اسجد ، وقل في سجودك : " يا سامع كل صوت ، ويا جامع كل فوت ، ويا بارئ النفوس بعد الموت ، يا من لا تغشاه الظلمات ، ولا تشابه عليه الأصوات ، ولا تحيره اللغات).
7 – الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 306:
فإذا فرغت من الصلاة ، عقبت بعدها ، وسبحت تسبيح الزهراء عليها السلام ، ثم تدعو بهذا الدعاء : (يا من لا تخفي عليه اللغات ولا تتشابه عليه الأصوات ! ويا من هو كل يوم في شأن ! يا من لا يشغله شأن عن شأن ، يا مدبر الأمور ! يا باعث من في القبور ! يا محيي العظام وهي رميم ! يا بطاش يا ذا البطش الشديد ! يا فعالا لما يريد ! يا رازق من يشاء بغير حساب ! يا رازق الجنين والطفل الصغير وراحم الشيخ الكبير وجابر العظم الكسير ! يا مدرك الهاربين ! ويا غاية الطالبين ! يا من يعلم ما في الضمير وما تكن الصدور ! يا رب الأرباب وسيد السادات وإله الآلهة وجبار الجبابرة ...).
8 – الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ص 561:
ثم اسجد ، وقل في سجودك : (اللهم ! إني أسألك يا سامع كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت يا من لا تغشاه الظلمات ولا تتشابه عليه الأصوات ولا تغلطه الحاجات ، يا من لا ينسي شيئا لشئ ولا يشغله شئ عن شئ أعط محمدا وآل محمد صلواتك عليه وعليهم أفضل ما سألوا وخير ما سألوك وخير ما سئلت لهم ، وخير ما سألتك لهم وخير ما أنت مسؤول لهم إلى يوم القيامة ثم ارفع رأسك وادع بما أحببت).
9 – الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج 3 ص 75 – 79: بسنده عن عن أبي حمزة الثمالي قال : أخذت هذا الدعاء من أبي جعفر عليه السلام وكان يسميه الدعاء الجامع بسم الله الرحمن الرحيم ....... الى قوله: ثم تسجد وتقول في سجودك :
(يا سامع كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت ويا من لا تغشاه الظلمات ، ويا من لا تتشابه عليه الأصوات .....).
10 – الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج 3 ص 86: بسنده عن الرضا (ع):
(...... ثم اسجد وقل في سجودك : ( اللهم إني أسألك يا سامع كل صوت ، ويا بارئ النفوس بعد الموت ، ويا من لا تغشاه الظلمات ، ولا تتشابه عليه الأصوات ، ولا تغلطه الحاجات ، يا من لا ينسى شيئا لشئ ، ولا يشغله شئ عن شئ ، اعط محمدا وآل محمد صلواتك عليه وعليهم أفضل ما سألوا وخير ما سألوك وخير ما سئلت لهم وخير ما سألتك لهم وخير ما أنت مسؤول لهم إلى يوم القيامة).
11 – الميرزا النوري في مستدرك الوسائل ج 4 ص 301 – 302: عن الصادق (عليه السلام) قال : ما لأحدكم إذا ضاق بالأمر ذرعا ، ان [ لا ] يتناول المصحف بيده ، عازما على امر يقتضيه من عند الله ، ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثلاثا ، والاخلاص ثلاثا ، وآية الكرسي ثلاثا ، وعنده مفاتح الغيب ثلاثا ، والقدر ثلاثا والجحد ثلاثا والمعوذتين ثلاثا ويتوجه بالقرآن قائلا :
(اللهم إني أتوجه إليك بالقرآن العظيم ، من فاتحته إلى خاتمته ، وفيه اسمك الأكبر ، وكلماتك التامات ، يا سامع كل صوت ، يا جامع كل فوت ، ويا بارئ النفوس بعد الموت ، يا من لا تغشاه الظلمات ، ولا تشتبه عليه الأصوات ، أسألك ان تخير لي بما أشكل علي به ، فإنك عالم بكل معلوم غير معلم ...... ثم تنظر آخر سطر تجده كالوحي فيما تريد ، إن شاء الله تعالى).
12 – بحار الأنوار ج 92 ص 398 – 400: عن أمير المؤمنين (ع):
(...... يا من لا تشتبه عليه الأصوات ، يا من لا تضجره المسئلات ، ولا تغشاه الظلمات ، يا نور الأرض والسماوات . يا سابع النعم ، يا دافع النقم ، يا بارئ النسم ، يا جامع الأمم ، يا شافي السقم يا خالق النور والظلم ، يا ذا الجود والكرم ، يا من لا يطأ عرشه قدم . يا أجود الأجودين ، يا أكرم الأكرمين يا أسمع السامعين ، يا أبصر الناظرين ، يا جار المستجيرين ، يا أمان الخائفين ، يا ظهير اللاجين ، يا ولي المؤمنين يا غياث المستغيثين ، يا غاية الطالبين).
13 - بحار الأنوار ج 92 ص 154 – 155: عن أبي عبد الله (ع):
(يا من لا يحجبه سماء عن سماء ، ولا أرض عن أرض ، ولا جنب عن قلب ، ولا ستر عن كن ولا جبل عما في أصله ، ولا بحر عما في قعره ، يا من لا تشتبه عليه الأصوات ، ولا تغلبه كثرة الحاجات ، ولا يبرمه إلحاح الملحين ، صل على محمد وآل محمد " ثم سل حاجتك).
14 - بحار الأنوار ج 94 ص 264 – 265:
(يا من لا يشغله سمع عن سمع ، يا من لا تشتبه عليه الأصوات ، ولا يغلطه السائلون ، ولا تختلف عليه اللغات ، يا من لا يبرمه إلحاح الملحين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، برحمتك يا أرحم الراحمين ويا خير الغافرين).
ولا تخفى دلالة هذه الأدعية الشريفة على أن معرفة كل اللغات هي من صفات الله تعالى.
فإن قيل بأن معرفة كل اللغات تتوقف عليها هداية البشر، فكيف يستطيع النبي أو الإمام أن يهدي أو يبلغ أو يحكم لمن لا يتكلمون لغته ؟
أقول:
1 – تقدم إثبات أن معرفة كل اللغات من صفات الله تعالى ومختصاته، ولا يمكن لمخلوق أن يتصف بذلك على نحو الإطلاق، ومعرفة بعض اللغات إما أن يكون معرفة عدد خارج عن قدرة البشر وهو معجزة والمعجزة لا تكون دائماً وخصوصاً مع وجود الأسباب الطبيعية وفعاليتها، وإما أن يكون معرفة بعض اللغات على سبيل معرفة عدد منها باستطاعة البشر أن يحيطوا بها، وقلت بأن هذا لا يكون دليلاً على معرفة الإمام أو الحجة ولا من مختصاته، ولا يجب توفرها.
2 – النبي محمد (ص) كان نبياً مرسلاً للعالمين، والى الآن الخلاف قائم هل أنه كان يحسن القراءة والكتابة أم لا، فافترق المسلمون بين مانع ومجوز وموجب. وعدم معرفة القراءة والكتابة يعني أنه يحتاج الى من يكتب ويقرأ ويترجم له الكتب، ولا يخفى أن ذلك لا يقدح في نبوته ورسالته، وخصوصاً عند عدم قيام الدليل القطعي على خلافه حسب ما صرح به السيد المرتضى (ره) – كما يأتي -، أذن فلا إشكال حتى لو كان الإمام لا يحسن علوم لغة قومه كالقراءة والكتابة فضلا عن سائر اللغات.
ومن المعلوم أن النبي محمداً (ص) عندما راسل الملوك والرؤساء كتب لهم بالعربية وليس بلغاتهم، وحينئذ أكيداً سيعتمد بيان مراد النبي ومضمون رسائله على المترجمين، وهذا يعني جواز التعويل على المترجمين في بيان رسالة النبي أو الإمام.
أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ، عن رسول الله (ص) أنه قال : (... إن الله بعث كل نبي كان قبلي إلى أمته بلسان قومه ، وبعثني إلى كل أسود وأحمر بالعربية ...) ( ).
وكل أسود وأبيض يعني إلى كل الناس على اختلاف لغاتهم، أي إن النبي محمداً (ص) بعثه الله تعالى إلى كل البشر بالعربية وليس بغيرها.
إذن فالنبي محمد (ص) أرسل بلغة قومه إلى جميع العالمين، وهذا يعني أنه يبين لقومه الحق والهدى، وقومه هم من ينشروا رسالته إلى بقية الأمم على اختلاف ألسنتهم.
ثم إن القرآن الكريم بتعاليمه وهدايته عام لكل البشر وليس للعرب فقط، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان من أهل الإسلام، فلماذا لم يعمد النبي (ص) الى ترجمته الى جميع لغات من تشملهم تكاليف القرآن وتعاليمه ؟ لماذا ترك هذا الأمر الى المترجمين ؟ أليس على فكر المستشكل أن هداية بقية الأمم غير العرب تتوقف على فهم معاني القرآن ومضامينه ؟ فلماذا ترك النبي ترجمة القرآن الى لغاتهم ؟!
كل هذا يدل على أن بقية الأمم مكلفون بإيجاد مقدمات فهم معاني القرآن وتعاليمه، كترجمة القرآن وسنة النبي (ص) الى لغاتهم، ويضاف الى ذلك أن المؤمنين أيضا مكلفون بنشر تعاليم القرآن وسنة النبي (ص) الى بقية اللغات وحسب الإمكان.
والنتيجة أن هداية بقية الأمم لا تستلزم أن يكون الإمام عارفاً بجميع لغاتها ما دام أن هناك أسباباً طبيعية يمكن أن تفي بهذا الغرض، فلا داع للإعجاز.
المصدر: صفحة الشيخ ناظم العقيلي - على الفيس بوك
Comment