بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما
سلسة حلقات "عربية الوحي والعربية المحرفة"
بقلم الشيخ ناظم العقيلي
من على صفحته الرسمية على الفيسبوك
(1)
اللغة العربية متغيرة أم ثابتة ؟
يقضي القانون العام للكون بأنَّ جميع الموجودات في حالة تغير دائم من نقص الى كمال ومن كمال الى نقص، وهو سنة الله تعالى في عالم الإمكان، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. وجاء في تفسير هذه الآية عن علي بن الحسين (ع) قال: (يحيي ويميت ويرزق ويزيد وينقص). وقال الشيخ الطبرسي في تفسير هذه الآية: (أي: كلُّ وَقْت وحين يُحدِثُ أُموراً ويُجَدِّدُ أَحْوالاً).
فكان من شأن اللغات التغير والزيادة والنقصان، لأنها مرهونة بألسن الناس التي بدورها رهن بعوامل كثيرة داعية الى عدم الثبوت والجمود، منها خَلقية ومنها دينية واجتماعية وسياسية وربما حتى مناخية وجغرافية، فاللغة دائمة التغير والابتعاد عن أصلها وحقيقتها حتى تصل الى مرحلة المسخ والاندراس، وقد مرت البشرية ومنذ عصور سحيقة بما يمكن أنْ نسميه (غزو اللغات)، فمثلاً يقول الدكتور إسرائيل ولفنسن عن اللغة العبرية:
(وفي القرن السادس والخامس ق.م. أخذت بعض الأمم تفنى بالحروب الطاحنة التي اشتعلت نيرانها بين الدول الكبرى ذي ذلك الحين كبابل وأشور ومصر من ناحية بتسرب اللغة الآرامية اليها وانتشارها بينها من ناحية أخرى.
وكان انتشار اليهود بعد السبي البابلي في نواحي الفرات من الأسباب القوية التي أدت الى انتشار اللغة الآرامية بين الطبقات اليهودية ثم رسخت قدمها بينهم حتى شعر علماء اليهود وأحبارهم بالخطر المحدق بلغتهم القومية فنشطوا الى مقاومة اللغة الآرامية مقاومة شديدة وعملوا بكل الوسائل الممكنة لدفع خطرها عن لغتهم ...) تاريخ اللغات السامية ص96.
فكل لغة بعد نشأتها تتعرض لعدة عوامل تعصف بها من كل جانب، فكل لغة تخوض صراعين؛ صراع داخلي، وصراح خارجي:
الصراع الداخلي:
ربما لا أكون مجازفاً إنْ قلت بأنَّ الصراع الداخلي للغة يبدأ من أول متلقي لها عن استاذها الأول، أو من أول جيل نشأت فيه اللغة، ولكن سأتجاوز هذا والخوض في تفاصيله، واتكلم بالقدر المتيقن الواضح للجميع، فالصراع الداخلي للغة ينقسم قسمين؛ زماني ومكاني، يتمثل العامل الزماني بتطاول الدهور والقرون على اللغة، مما يؤدي الى تغيرها وتبدلها وتفككها تدريجياً شيئاً فشيئاً، تبعاً لاختلاف الأجيال على المستوى الحضاري والثقافي والديني والسياسي وكذلك الخَلقي في أعضاء النطق، فهذه الأمور متفاوتة في الجيل الواحد، فكيف بعشرات أو مئات الأجيال ؟!
ويبقى طول ثبات اللغة وجمودها على أصالتها مرهوناً بحَمَلتِها وانتشار ثقافة التدوين والكتابة، على أنَّ هذين العاملين يؤخران تغير اللغة وانحرافها لا منعه على نحو الاطلاق، ففي حالة دقة مراعاة حملة اللغة لها وانتشار ثقافة التدوين والكتابة يتأخر تغيير وانحراف اللغة ويسير ببطء، وربما لا يتضح التغيير والانحراف إلا بعد عدة قرون، أما إنْ فقد العاملان الحافظان فربما يتضح انحراف اللغة عن أصلها خلال قرن واحد من نشأتها.
أما العامل المكاني، فيتمثل بانتشار أهل اللغة الواحدة في بلاد متباعدة عن موطن اللغة الأم، فيعيش أهل هذه اللغة على شكل قبائل أو أقوام منتشرة على سطح المعمورة، ثم كلما تقادم الزمان بهذه القبائل أو الأقوام، كلما زاد استقلال هذه الأقوام بعضها عن البعض الآخر، حتى يكون كل قوم أو قبيلة لهم عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الخاصة على مختلف الأصعدة، وهذا الاستقلال والاختلاف سينعكس سلباً على اللغة، حيث ستكون لكل قبيلة لهجة تختلف عن أخواتها، فتتعدد اللهجات للغة الواحدة بتعدد الأقوام والقبائل، وهذه اللهجات بمثابة اللغات العامية بالنسبة الى اللغة الفصحى، حتى يصل الحال الى أنْ تكون هذه اللهجات بعيدة كل البعد عن اللغة الفصحى الأم، وخذ مثالاً حياً اليوم اختلاف لهجات العرب باختلاف البلاد، فمثلاً العرب من أهل العراق يصعب عليهم لفظ حرف (الضاد) ويلفظونه (ظاء)، والعرب من أهل الشام يثقل عليهم لفظ حرف (الذال) فيلفظونه (زاي)، وحرف (القاف) فيلفظونه (ألف)، وعرب مصر يثقل عليهم لفظ حرف (الجيم)، والأمثلة كثيرة من هذا النوع، أما اللغة العامية في البلاد البعيدة عن أصل اللغة العربية كالمغرب العربي مثلاً فتجدها لغة لا يفهمها كل أو أكثر عرب الخليج وعرب الشام ومصر ...الخ، وكأنها لغة مستقلة لا يفهمها إلا أهلها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام عن الصراع الخارجي.
والفرق بين نتيجة العامل الزماني والعامل المكاني أنَّ الأول يتجه فيه تغير اللغة وانحرافها عن أصلها بصورة موحدة تقريباً، بينما نتيجة العامل الثاني ستكون انحراف اللغة بصور متعددة كأنها مستقلة وإنْ اتفقت في بعض الأصول اللغوية العامة.
الصراع الخارجي:
لم يقتصر صراع اللغة على صراعها مع أبناء جلدتها والناطقين بها، بل هناك صراع أشد شراسة بكثير من الصراع الداخلي، وهو صراع اللغة ضد الغزو الذي يأتيها من الخارج، وهو صراع اللغات فيما بينها، فمنذ عشرات القرون نشب الصراع على قدم وساق بين اللغات المتعددة، فكل لغة لأي شعب ما تحيط بها لغات كثيرة لشعوب مجاورة، أو بعيدة ولكن ترتبط معها ببعض الروابط التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ومما لا شك فيه أنَّ تلك المجاورة والعلاقات تستلزم احتكاك اللغات بعضها بالبعض الآخر، من خلال اختلاط الشعوب وتسلط بعضها على البعض الآخر سياسياً أو ثقافياً ...، وبتطاول الزمان إما أنْ تبتلع اللغاتُ المتنفذة والمتسلطة اللغات الضعيفة والمقهورة وتقضي عليها تماماً، وإما أنْ تتداخل اللغات فيما بينها وتمتزج كامتزاج مجموعة ألوان عندما توضع في قارورة واحدة، والفرق أنَّ الألوان تمتزج خلال ثوان واللغات تمتزج خلال قرون من الزمن، وهذا الامتزاج قد يكون عن عمد وتخطيط، وقد يكون كنتيجة طبيعة عند اختلاط اللغات وتسلط بعضها على البعض الآخر، وهذا من النواميس الطبيعية التي لا ينكرها إلا مكابر. وبسبب انتشار أهل اللغة الواحدة في بلاد متباعدة، سينتج تغاير انفعال كل بلد باللغات الغازية، فتكون لكل لغة عدة لهجات مختلفة تبتعد عن اللغة الأم حسب شدة تأثرها باللغات احتكت واختلطت معها.
والعوامل الأساسية لهكذا صراع ثلاثة: الأول الهجرة، والثاني التجارة، والثالث الحروب والغزو، وبالنسبة الى الهجرة فقد دأبت الشعوب والقبائل منذ القدم على الهجرة ابتغاء لمصالحهم الاقتصادية بالدرجة الأساس، فتجدهم يحطون رحالهم عند كل بقعة خصبة غنية بالماء والكلأ، وسرعان ما يرحلون عندما يضرب القحط أطنابهم بحثاً عن بلاد أخرى تضمن لهم قوتهم وقوت أنعامهم، والى جانب هذه الهجرات الجماعية توجد هجرات فردية، كأهل الحرف المختلفة الذين يتسللون من قبيلة الى أخرى.
فنتج عن تلك الهجرات تجاور الشعوب والقبائل واختلاطها، وبالتالي اختلاط اللغات واحتكاكها، وتصمد اللغة صاحبة الأرض بما أوتيت من قوة، ولكن هذا الصمود لا يطول أو يبقى للأبد، وخصوصاً إنْ كانت اللغة المهاجرة أوسع ثقافة أو أكثر رواجاً وشهرة، فتتحلل عرى اللغات شيئاً فشيئاً لتنتج لغات هجينة تختلف عن أمهاتها وأصولها.
والحال واضح عن التجارة والحرب والغزو، وخصوصاً تجارة الرقيق التي تأتي محملة بعدة لغات لتستوطن بلداً ما فتبث لغاتها وتأخذ أيضاَ من لغة البلد المضيف.
وأرى من الضروري أنْ أنبه على ملاحظتين مهمتين:
الملاحظة الأولى: أن تغير اللغات وامتزاجها بغيرها ثم تحريفها جزئياً أو كلياً لا يحصل بين ليلة وضحاها، ولا خلال سنين قليلة، بل الأمر يحصل تدريجياً خلال قرون تكثر أو تقل حسب شدة الصراع الداخلي والخارجي بين اللغات، وقد يسير بانسيابية ربما لا يشعر به عامة المجتمع، كما أنَّ أحدنا لا يلتفت الى تغير ملامح أولاده الذين يكبرون أمام عينيه، إلا إذا استرجع ذاكرة الماضي أو رأى صورهم في الصغر، بينما إنْ تركهم صغاراً ورجع اليهم وهم شبان يجدهم قد تغيرت ملامحهم الى درجة أنه ربما لا يعرفهم لأول وهلة إنْ رآهم قبل أنْ يُعرفونه بأنفسهم.
نبهت على هذا الأمر لكي لا يتوهم أحد بأني أرمي الى القول بأنَّ اللغات تتغير بمجرد أنْ تختلط بغيرها هكذا خلال سنيين قليلة.
الملاحظة الثانية: عندما قلت بأنَّ صراع اللغات سوف يفضي الى إما تحريف كلا الطرفين المتصارعين إنْ كانا متماثلين سطوة وثقافة وشهرة، وإما الى انتصار واضح وجلي للغة التي تتحلى بعوامل القوة والشراسة، ولكن انتصار اللغة الشرسة لا يعني أنها ستخرج من معركتها هذه سليمة الجسد من الجراح والكدمات، فهذا مخالف لعادة النواميس الطبيعية في أي صراع واقتتال، وتختلف نسبة جراح اللغة المنتصرة كثرة وعمقاً حسب طول الصراع وقوته، فقد تكون الجراح والكدمات بسيطة وطفيفة، وقد تكون عميقة، وربما تصل أحياناً الى فقدان بعض الأعضاء أو الأطراف.
إذن فعند تتصارع اللغات لا تسلم لغة من التغيير والانحراف عن أصلها سواء كانت اللغة المنهزمة أم اللغة المنتصرة، وإنْ اختلفت نسبة التغيير والانحراف عن الأصل.
ومن خلال صراع اللغات ستتولد من كل لغة عدة لهجات أو لغات، تبتعد عن أمها حسب ما نالها من تأثير تبعاً لطول الصراع وشدته، بل حتى لغة الأدب والكتابة لا تصمد طويلاً أو الى الأبد أمام الصراعات اللغوية، وخصوصاً إنْ اتصفت تلك الصراعات بالشراسة وطول المدة، فستنال حظها من التغيير والانحراف وإنْ كان أقل وأخف من الانحراف الحاصل في لغة المحادثة العامية، وخصوصاً إنْ كانت اللغة مشهورة بالأدب والتدوين.
وبعد أنْ تتولد عدة لهجات من اللغة الواحدة، يفتح ميدان جديد تتصارع فيه تلك اللهجات، وميدان آخر تتصارع فيه مع لهجات اللغات الأخرى، وسيكتب النصر لأحدى اللهجات، وسيموت بعض اللهجات، ويبقى البعض الآخر موجوداً ولكنه خاضع ومتذلل للهجة المنتصرة، وهذه اللهجة المنتصرة لم تخرج بعد انتصارها سليمة تماماً من آثار اللهجات المهزومة، بل ستأخذ منها بعض الصفات رغماً عنها، فتكون هذه اللهجة المنتصرة قد مرت بطورين من الصراع، وقد ابتعدت أكثر عن اللغة الأم، وإذا كتب لهذه اللهجة أن تسود كثيراً، فستبسط نفوذها على أكبر رقعة ممكنة، وسيعتاد عليها أغلب المجتمع أو كله، وهكذا بمرور الوقت ربما ستكون هي لغة الأدب والتدوين، وتندرس اللغة الأم كلياً أو جزئياً.
ثم يعود الأمر كما بدأ، فتعود نفس العوامل التي حرَّفت اللغة الأم، ومن الداخل والخارج، لينفصل من هذه اللغة المنتصرة عدة لهجات، وتتصارع هذه اللهجات فيما بينها، وأيضاً تتصارع مع لهجات اللغات الأخرى، لينتج هذا الصراع لهجة جديدة منتصرة ومتأثرة أيضاً بجراح عديدة، وهكذا ربما تتكرر هذه الصراعات مرات ومرات، وفي كل مرة تنتج لغة أو لهجة منتصرة منحرفة عن أصلها قد تم مسخها عدة مرات.
يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه علم اللغة: (متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض تحت تأثير عامل أو أكثر من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً. فلا تلبث أن تنشعب الى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها. ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينها وبين أخواتها حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة ولحمة ونسب لغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه، ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد أن يكتمل نمو هذه اللغات.
ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها الى العصر الحاضر .... وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيراً من آثار هذا القانون. فاللغة اللاتينية، وهي احدى لغات الفرع الايطالي المنشعب من الهندية – الأوربية، قد أخذت هي نفسها، في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى، تنشعب الى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها حتى انفصلت عنها انفصالاً تاماً، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها (الفرنسية، الايطالية، الاسبانية، والبرتغالية، لغة رومانيا ...) ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات ...) انتهى كلام الدكتور علي عبد الواحد، علم اللغة، ص172 – 173.
وطبعاً اللغة العربية ليست بمنأى عن صراع اللغات، بل نالها ما نال نظيراتها من سائر اللغات في العالم، فقد خاضت اللغة العربية صراعات مريرة منذ أول نشأتها، حيث ولدت في أحضان أقوى اللغات آنذاك وهي اللغة العبرية والسريانية، فالراجح أنَّ اللغة العربية ولدت بعد الطوفان، ولا يوجد لها أثر بين الناس قبل ذلك، فإنْ قلنا بأنَّ أول من نطق بالعربية هو نبي الله هود (ع)، فإنَّ من مبعث نبي الله هود (ع) حتى ولادة إسماعيل بن إبراهيم الخليل (730) سنة – حسب بعض المصادر -، وهذه السبعة قرون كافية لتولد عدة لهجات عن عربية نبي الله هود (ع)، بل لم يبق منها إلا لهجة عامية من لهجاتها أو لهجة عامية منبثقة عن عدة صراعات وقعت بين لهجات عربية هود (ع)، وهذا يعني أنَّ في زمن نبي الله إسماعيل (ع) قد مرت بأكثر من مرحلة من الانحراف والابتعاد عن أصلها الموحى من الله تعالى، والقدر المتيقن أنَّ العربية في ذلك الوقت مُحرَّفة ولم تثبت خلال السبعة قرون، والدليل على ذلك أنَّ العربية قد تم تجديدها بالوحي أو الإلهام لنبي الله إسماعيل (ع)، كما نطقت بذلك الروايات الآتية:
روي عن الباقر عليه السلام: (أن إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، فكان أبوه يقول له: - وهما يبنيان البيت - يا إسماعيل هابي ابن أي أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل: يا أبت هاك حجرا، فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة) بحار الأنوار ج12 ص87.
وعنه (عليه السلام) انّه قال: (أوّل من شقّ لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه فهو أوّل من نطق بها وهو الذبيح) تحف العقول، لابن شعبة الحراني: ص297.
وعن رسول الله (ص): (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، و هو ابن أربع عشرة سنة) الجامع الصغير: للسيوطي: ج1 ص435 برقم 2837.
وأخرج ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم: (ان إسماعيل ألهم من يوم ولد لسان العرب وولد إبراهيم أجمعون على لسان إبراهيم) الدر المنثور، للسيوطي: ج4 ص273.
وعنه (ص): (أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسانَ العربيَّ إلهاماً) الجامع الصغير ج1ص239..
وعن ابن عباس: (أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل) المزهر، للسيوطي: ص27.
فلو كانت اللغة العربية عند ولادة إسماعيل (ع) غضَّة كما نطق بها نبي الله هود (ع)، لما كان هناك داعٍ الى تجديدها بالوحي الى إسماعيل (ع)، أضف الى هذا أنَّ التعبير بـ (شق لسانه) و (فتق لسانه) و (العربية المبينة) و (العربية المحضة)، فيه إشارة واضحة الى أنَّ عربية إسماعيل (ع) تختلف كثيراً عن العربية التي كانت متعارفة عند القبائل العربية كحمير وجرهم، ويؤكد ذلك عدّ إسماعيل أول من تكلم بالعربية، أي أول من تكلم بها بعد اندراسها وتحريفها، هذا إنْ استبعدنا الاحتمال الآخر؛ وهو كونه أول من نطق بالعربية من ولد إبراهيم (ع).
ويزداد الطين بِلة لو عرفنا أنَّ الأقوام العربية القديمة قد بادت وهلكت قبل مولد إسماعيل (ع)، حسب ما تذكر كتب التاريخ والأنساب، وهم (عاد، وثمود، وطَسْم، وجَدِيس، وأُميم، وعَبيل، والعَمالقة، وعبد ضَخْم، وجُرْهم الأولى، وغيرهم). فلك أنْ تتصور كم لهجة لكل قوم من هؤلاء، وكم يكون مجموع كل اللهجات، وكلها قد بادت بهلاك أهلها، فكم قد تغير من معالم العربية بتعدد هذه اللهجات، وكم مات من معالمها بموت هذه اللهجات واللغات ؟
ثم نشأت العرب العاربة الباقية، في اليمن من قحطان بن عابر بن شالخ بن أد بن سام بن نوح (ع)، وهم قد تعلموا العربية من العرب البائدة، لأنَّ قحطان وكذلك ابنه يعرب لم يكن لسانهما في الأصل عربياً، كما تبين بعض المصادر، ولا يخفى على القارئ ما يشوب اللغة عندما تنتقل من قوم الى قوم آخرين. وقبيلة جرهم التي نزلت على إسماعيل (ع) في مكة كما نصت بعض الأخبار؛ هي من نسل جرهم بن قحطان بن عابر، أما قبيلة حِمير فهم من نسل حِمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر.
فقد مرت اللغة العربية بمرحلتين حتى زمن إسماعيل (ع)؛ الأولى هي مرحلة العرب البائدة، والمرحلة الثانية هي عربية اليمن من بني قحطان بن عابر، وكل مرحلة تتضمن صراعات داخلية وخارجية، وبالتالي كل مرحلة تتضمن عدة تقلبات للغة العربية تبتعد بها كثيراً عن أصلها الذي بات مجهولاً تماماً لنا، حتى وصل الحال أنْ تعد لغة حِمير بعد ظهور الإسلام بأنها غير عربيتنا، حسب قول أبي عمرو بن العلاء، إذ قال: (ما لسان حِمير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم عربيتنا) المزهر، للسيوطي: ص174.
نعم، بعد أنْ ابتعدت العربية عن أمها الأصل حتى لكأنها لغة أخرى وإنْ كانت تشترك مع أمها في بعض الأمور، بعد ذلك جددت وتم احياؤها بالوحي أو الإلهام لإسماعيل بن إبراهيم الخليل (ع)، ولكن كما تقدم القول أنها ولدت بين عدة لغات سائدة آنذاك من أبرزها اللغة السريانية والعبرية، وتطاول بها الزمان تتصارع مع تلك اللغات وتتصارع أيضاً مع ألسنة الناطقين بها من بني إسماعيل (ع)، فبعض المصادر تدلنا على أنَّ بين وفاة إسماعيل (ع) وبين مبعث النبي محمد (ص) (2655) سنة، يعني ستة وعشرون قرناً ونصف ، وذكر القلقشندي في قلائد الجمان أنَّ بين نزول إسماعيل (ع) بمكة وبين هجرة النبي (ص) منها (2793) سنة، يعني نحو ثمانية وعشرين قرناً، وخلال كل هذه القرون تتصارع اللغة العربية مع أبناء جلدتها ومع جيرانها وأعدائها، فلك أنْ تتصور مدى الضرر الذي سيلحق بها، ومدى التشوه الذي سيبدو عليها، ويضاف الى ذلك أنَّ بعد إسماعيل (ع) لم يرسل نبي من العرب، بل قامت أشهر رسالتين قبل رسالة نبينا محمد (ص)؛ وهما رسالة نبي الله موسى (ع)، ورسالة نبي الله عيسى (ع)، وكان لسانهما غير العربية قطعاً، مما ساعد كثيراً على تقوية شوكة لغة هاتين الرسالتين وانتشارهما وسيادتهما على حساب اللغة العربية.
ويضاف الى تحريف اللغة العربية عن أصلها؛ ضياع الكثير من كلام العرب، أي ضياع الكثير من الجذور والمواد اللغوية، بحيث قد تعد بعض الكلمات الآن دخيلة على اللغة العربية، بينما هي أصيلة قد تسبب تعاقب القرون بضياعها ونسيانها، وكان السبب الرئيس في ذلك هو أنَّ اللغة العربية لم تكن لغة تدوين، بمعنى لم يشتهر أو حتى يُعرف العرب قديماً بالكتابة والتدوين، وهذا يتسبب بضياع كلام العرب إضافة الى ضعف جمود وثبات اللغة العربية على حالتها الأولى، فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي محمد (ص) أنه قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر ...).
يقول الدكتور إسرائيل ولفنسن في كتابه تاريخ اللغات السامية: (لم تكن الكتابة منتشرة في بلاد العرب بل كان لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا القليل النادر فكانوا من أجل ذلك لا يدونون أخبارهم العظيمة ومنتجات قرائحهم البارعة فطبيعي [أ]لا يصل إلينا ما نستطيع به أن نعرف لهجاتهم ونستكشف أصل لغتهم إلا بقايا ضئيلة من هذا النادر القليل مما يجعل مهمة الباحث في هذه الموضوع شاقة صعبة ويضطره الى أن يحتاط في استنتاجاته ويبذل أقصى ما يستطيع من الجهود ليصل الى نتائج بريئة من الخطأ جهد الطاقة والامكان)
ويقول جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية: (فآداب العرب في جاهليتهم الثانية يراد بها آدابهم قبيل الإسلام وهم أهل بادية لا يقرأون ولا يكتبون .. وإنما جمعت هذه الآداب بعد الإسلام بالأخذ عن الأفواه).
فكما يقال: ما كتب قر وما حفظ فر. فعدم الكتابة والتدوين عند العرب كان عاملاً من عوامل التحريف والضياع، وضياع كثير أو أكثر كلام العرب قد اعترف به علماء اللغة أنفسهم:
قال الكسائي: (قد دَرَسَ من كلام العرب كثير) لسان العرب، ج2 ص594.
وحكى ابن حبيب البصري عن أبي عمرو أنه قال: (ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير) المحصول، لفخر الدين الرازي: ج1 ص214.
وقال ابن فارس في كتابه «الصاحبي»: (ذهب علماؤنا أو أكثرهم الى أنَّ الذي انتهى الينا من كلام العرب هو الأقل. ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعرٌ كثير وكلام كثير.
وأحرِ بهذا القول أن يكون صحيحاً...).
وروى ابن جني بإسناده عن ابن سيرين عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الاسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم وغفلت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا فيه إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وقد هلك من العرب من هلك فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره) المحصول، لفخر الدين الرازي: ج1 ص213.
ثم يعلق ابن جني على ذلك معترفاً بكثرة تغير اللغة العربية وليس بنقصانها فحسب، إذ يقول في كتابه "الاختصاص": (وهذا ونحوه مما يدلك على تنقل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغولها وتغيرها.
فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يُسمَع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ، ما وُجِد طريق الى تقبل ما يورده ... ).
والحمد لله وحده.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليما
سلسة حلقات "عربية الوحي والعربية المحرفة"
بقلم الشيخ ناظم العقيلي
من على صفحته الرسمية على الفيسبوك
(1)
اللغة العربية متغيرة أم ثابتة ؟
يقضي القانون العام للكون بأنَّ جميع الموجودات في حالة تغير دائم من نقص الى كمال ومن كمال الى نقص، وهو سنة الله تعالى في عالم الإمكان، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. وجاء في تفسير هذه الآية عن علي بن الحسين (ع) قال: (يحيي ويميت ويرزق ويزيد وينقص). وقال الشيخ الطبرسي في تفسير هذه الآية: (أي: كلُّ وَقْت وحين يُحدِثُ أُموراً ويُجَدِّدُ أَحْوالاً).
فكان من شأن اللغات التغير والزيادة والنقصان، لأنها مرهونة بألسن الناس التي بدورها رهن بعوامل كثيرة داعية الى عدم الثبوت والجمود، منها خَلقية ومنها دينية واجتماعية وسياسية وربما حتى مناخية وجغرافية، فاللغة دائمة التغير والابتعاد عن أصلها وحقيقتها حتى تصل الى مرحلة المسخ والاندراس، وقد مرت البشرية ومنذ عصور سحيقة بما يمكن أنْ نسميه (غزو اللغات)، فمثلاً يقول الدكتور إسرائيل ولفنسن عن اللغة العبرية:
(وفي القرن السادس والخامس ق.م. أخذت بعض الأمم تفنى بالحروب الطاحنة التي اشتعلت نيرانها بين الدول الكبرى ذي ذلك الحين كبابل وأشور ومصر من ناحية بتسرب اللغة الآرامية اليها وانتشارها بينها من ناحية أخرى.
وكان انتشار اليهود بعد السبي البابلي في نواحي الفرات من الأسباب القوية التي أدت الى انتشار اللغة الآرامية بين الطبقات اليهودية ثم رسخت قدمها بينهم حتى شعر علماء اليهود وأحبارهم بالخطر المحدق بلغتهم القومية فنشطوا الى مقاومة اللغة الآرامية مقاومة شديدة وعملوا بكل الوسائل الممكنة لدفع خطرها عن لغتهم ...) تاريخ اللغات السامية ص96.
فكل لغة بعد نشأتها تتعرض لعدة عوامل تعصف بها من كل جانب، فكل لغة تخوض صراعين؛ صراع داخلي، وصراح خارجي:
الصراع الداخلي:
ربما لا أكون مجازفاً إنْ قلت بأنَّ الصراع الداخلي للغة يبدأ من أول متلقي لها عن استاذها الأول، أو من أول جيل نشأت فيه اللغة، ولكن سأتجاوز هذا والخوض في تفاصيله، واتكلم بالقدر المتيقن الواضح للجميع، فالصراع الداخلي للغة ينقسم قسمين؛ زماني ومكاني، يتمثل العامل الزماني بتطاول الدهور والقرون على اللغة، مما يؤدي الى تغيرها وتبدلها وتفككها تدريجياً شيئاً فشيئاً، تبعاً لاختلاف الأجيال على المستوى الحضاري والثقافي والديني والسياسي وكذلك الخَلقي في أعضاء النطق، فهذه الأمور متفاوتة في الجيل الواحد، فكيف بعشرات أو مئات الأجيال ؟!
ويبقى طول ثبات اللغة وجمودها على أصالتها مرهوناً بحَمَلتِها وانتشار ثقافة التدوين والكتابة، على أنَّ هذين العاملين يؤخران تغير اللغة وانحرافها لا منعه على نحو الاطلاق، ففي حالة دقة مراعاة حملة اللغة لها وانتشار ثقافة التدوين والكتابة يتأخر تغيير وانحراف اللغة ويسير ببطء، وربما لا يتضح التغيير والانحراف إلا بعد عدة قرون، أما إنْ فقد العاملان الحافظان فربما يتضح انحراف اللغة عن أصلها خلال قرن واحد من نشأتها.
أما العامل المكاني، فيتمثل بانتشار أهل اللغة الواحدة في بلاد متباعدة عن موطن اللغة الأم، فيعيش أهل هذه اللغة على شكل قبائل أو أقوام منتشرة على سطح المعمورة، ثم كلما تقادم الزمان بهذه القبائل أو الأقوام، كلما زاد استقلال هذه الأقوام بعضها عن البعض الآخر، حتى يكون كل قوم أو قبيلة لهم عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الخاصة على مختلف الأصعدة، وهذا الاستقلال والاختلاف سينعكس سلباً على اللغة، حيث ستكون لكل قبيلة لهجة تختلف عن أخواتها، فتتعدد اللهجات للغة الواحدة بتعدد الأقوام والقبائل، وهذه اللهجات بمثابة اللغات العامية بالنسبة الى اللغة الفصحى، حتى يصل الحال الى أنْ تكون هذه اللهجات بعيدة كل البعد عن اللغة الفصحى الأم، وخذ مثالاً حياً اليوم اختلاف لهجات العرب باختلاف البلاد، فمثلاً العرب من أهل العراق يصعب عليهم لفظ حرف (الضاد) ويلفظونه (ظاء)، والعرب من أهل الشام يثقل عليهم لفظ حرف (الذال) فيلفظونه (زاي)، وحرف (القاف) فيلفظونه (ألف)، وعرب مصر يثقل عليهم لفظ حرف (الجيم)، والأمثلة كثيرة من هذا النوع، أما اللغة العامية في البلاد البعيدة عن أصل اللغة العربية كالمغرب العربي مثلاً فتجدها لغة لا يفهمها كل أو أكثر عرب الخليج وعرب الشام ومصر ...الخ، وكأنها لغة مستقلة لا يفهمها إلا أهلها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام عن الصراع الخارجي.
والفرق بين نتيجة العامل الزماني والعامل المكاني أنَّ الأول يتجه فيه تغير اللغة وانحرافها عن أصلها بصورة موحدة تقريباً، بينما نتيجة العامل الثاني ستكون انحراف اللغة بصور متعددة كأنها مستقلة وإنْ اتفقت في بعض الأصول اللغوية العامة.
الصراع الخارجي:
لم يقتصر صراع اللغة على صراعها مع أبناء جلدتها والناطقين بها، بل هناك صراع أشد شراسة بكثير من الصراع الداخلي، وهو صراع اللغة ضد الغزو الذي يأتيها من الخارج، وهو صراع اللغات فيما بينها، فمنذ عشرات القرون نشب الصراع على قدم وساق بين اللغات المتعددة، فكل لغة لأي شعب ما تحيط بها لغات كثيرة لشعوب مجاورة، أو بعيدة ولكن ترتبط معها ببعض الروابط التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ومما لا شك فيه أنَّ تلك المجاورة والعلاقات تستلزم احتكاك اللغات بعضها بالبعض الآخر، من خلال اختلاط الشعوب وتسلط بعضها على البعض الآخر سياسياً أو ثقافياً ...، وبتطاول الزمان إما أنْ تبتلع اللغاتُ المتنفذة والمتسلطة اللغات الضعيفة والمقهورة وتقضي عليها تماماً، وإما أنْ تتداخل اللغات فيما بينها وتمتزج كامتزاج مجموعة ألوان عندما توضع في قارورة واحدة، والفرق أنَّ الألوان تمتزج خلال ثوان واللغات تمتزج خلال قرون من الزمن، وهذا الامتزاج قد يكون عن عمد وتخطيط، وقد يكون كنتيجة طبيعة عند اختلاط اللغات وتسلط بعضها على البعض الآخر، وهذا من النواميس الطبيعية التي لا ينكرها إلا مكابر. وبسبب انتشار أهل اللغة الواحدة في بلاد متباعدة، سينتج تغاير انفعال كل بلد باللغات الغازية، فتكون لكل لغة عدة لهجات مختلفة تبتعد عن اللغة الأم حسب شدة تأثرها باللغات احتكت واختلطت معها.
والعوامل الأساسية لهكذا صراع ثلاثة: الأول الهجرة، والثاني التجارة، والثالث الحروب والغزو، وبالنسبة الى الهجرة فقد دأبت الشعوب والقبائل منذ القدم على الهجرة ابتغاء لمصالحهم الاقتصادية بالدرجة الأساس، فتجدهم يحطون رحالهم عند كل بقعة خصبة غنية بالماء والكلأ، وسرعان ما يرحلون عندما يضرب القحط أطنابهم بحثاً عن بلاد أخرى تضمن لهم قوتهم وقوت أنعامهم، والى جانب هذه الهجرات الجماعية توجد هجرات فردية، كأهل الحرف المختلفة الذين يتسللون من قبيلة الى أخرى.
فنتج عن تلك الهجرات تجاور الشعوب والقبائل واختلاطها، وبالتالي اختلاط اللغات واحتكاكها، وتصمد اللغة صاحبة الأرض بما أوتيت من قوة، ولكن هذا الصمود لا يطول أو يبقى للأبد، وخصوصاً إنْ كانت اللغة المهاجرة أوسع ثقافة أو أكثر رواجاً وشهرة، فتتحلل عرى اللغات شيئاً فشيئاً لتنتج لغات هجينة تختلف عن أمهاتها وأصولها.
والحال واضح عن التجارة والحرب والغزو، وخصوصاً تجارة الرقيق التي تأتي محملة بعدة لغات لتستوطن بلداً ما فتبث لغاتها وتأخذ أيضاَ من لغة البلد المضيف.
وأرى من الضروري أنْ أنبه على ملاحظتين مهمتين:
الملاحظة الأولى: أن تغير اللغات وامتزاجها بغيرها ثم تحريفها جزئياً أو كلياً لا يحصل بين ليلة وضحاها، ولا خلال سنين قليلة، بل الأمر يحصل تدريجياً خلال قرون تكثر أو تقل حسب شدة الصراع الداخلي والخارجي بين اللغات، وقد يسير بانسيابية ربما لا يشعر به عامة المجتمع، كما أنَّ أحدنا لا يلتفت الى تغير ملامح أولاده الذين يكبرون أمام عينيه، إلا إذا استرجع ذاكرة الماضي أو رأى صورهم في الصغر، بينما إنْ تركهم صغاراً ورجع اليهم وهم شبان يجدهم قد تغيرت ملامحهم الى درجة أنه ربما لا يعرفهم لأول وهلة إنْ رآهم قبل أنْ يُعرفونه بأنفسهم.
نبهت على هذا الأمر لكي لا يتوهم أحد بأني أرمي الى القول بأنَّ اللغات تتغير بمجرد أنْ تختلط بغيرها هكذا خلال سنيين قليلة.
الملاحظة الثانية: عندما قلت بأنَّ صراع اللغات سوف يفضي الى إما تحريف كلا الطرفين المتصارعين إنْ كانا متماثلين سطوة وثقافة وشهرة، وإما الى انتصار واضح وجلي للغة التي تتحلى بعوامل القوة والشراسة، ولكن انتصار اللغة الشرسة لا يعني أنها ستخرج من معركتها هذه سليمة الجسد من الجراح والكدمات، فهذا مخالف لعادة النواميس الطبيعية في أي صراع واقتتال، وتختلف نسبة جراح اللغة المنتصرة كثرة وعمقاً حسب طول الصراع وقوته، فقد تكون الجراح والكدمات بسيطة وطفيفة، وقد تكون عميقة، وربما تصل أحياناً الى فقدان بعض الأعضاء أو الأطراف.
إذن فعند تتصارع اللغات لا تسلم لغة من التغيير والانحراف عن أصلها سواء كانت اللغة المنهزمة أم اللغة المنتصرة، وإنْ اختلفت نسبة التغيير والانحراف عن الأصل.
ومن خلال صراع اللغات ستتولد من كل لغة عدة لهجات أو لغات، تبتعد عن أمها حسب ما نالها من تأثير تبعاً لطول الصراع وشدته، بل حتى لغة الأدب والكتابة لا تصمد طويلاً أو الى الأبد أمام الصراعات اللغوية، وخصوصاً إنْ اتصفت تلك الصراعات بالشراسة وطول المدة، فستنال حظها من التغيير والانحراف وإنْ كان أقل وأخف من الانحراف الحاصل في لغة المحادثة العامية، وخصوصاً إنْ كانت اللغة مشهورة بالأدب والتدوين.
وبعد أنْ تتولد عدة لهجات من اللغة الواحدة، يفتح ميدان جديد تتصارع فيه تلك اللهجات، وميدان آخر تتصارع فيه مع لهجات اللغات الأخرى، وسيكتب النصر لأحدى اللهجات، وسيموت بعض اللهجات، ويبقى البعض الآخر موجوداً ولكنه خاضع ومتذلل للهجة المنتصرة، وهذه اللهجة المنتصرة لم تخرج بعد انتصارها سليمة تماماً من آثار اللهجات المهزومة، بل ستأخذ منها بعض الصفات رغماً عنها، فتكون هذه اللهجة المنتصرة قد مرت بطورين من الصراع، وقد ابتعدت أكثر عن اللغة الأم، وإذا كتب لهذه اللهجة أن تسود كثيراً، فستبسط نفوذها على أكبر رقعة ممكنة، وسيعتاد عليها أغلب المجتمع أو كله، وهكذا بمرور الوقت ربما ستكون هي لغة الأدب والتدوين، وتندرس اللغة الأم كلياً أو جزئياً.
ثم يعود الأمر كما بدأ، فتعود نفس العوامل التي حرَّفت اللغة الأم، ومن الداخل والخارج، لينفصل من هذه اللغة المنتصرة عدة لهجات، وتتصارع هذه اللهجات فيما بينها، وأيضاً تتصارع مع لهجات اللغات الأخرى، لينتج هذا الصراع لهجة جديدة منتصرة ومتأثرة أيضاً بجراح عديدة، وهكذا ربما تتكرر هذه الصراعات مرات ومرات، وفي كل مرة تنتج لغة أو لهجة منتصرة منحرفة عن أصلها قد تم مسخها عدة مرات.
يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه علم اللغة: (متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض تحت تأثير عامل أو أكثر من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً. فلا تلبث أن تنشعب الى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها. ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينها وبين أخواتها حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة ولحمة ونسب لغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه، ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد أن يكتمل نمو هذه اللغات.
ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها الى العصر الحاضر .... وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيراً من آثار هذا القانون. فاللغة اللاتينية، وهي احدى لغات الفرع الايطالي المنشعب من الهندية – الأوربية، قد أخذت هي نفسها، في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى، تنشعب الى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها حتى انفصلت عنها انفصالاً تاماً، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها (الفرنسية، الايطالية، الاسبانية، والبرتغالية، لغة رومانيا ...) ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات ...) انتهى كلام الدكتور علي عبد الواحد، علم اللغة، ص172 – 173.
وطبعاً اللغة العربية ليست بمنأى عن صراع اللغات، بل نالها ما نال نظيراتها من سائر اللغات في العالم، فقد خاضت اللغة العربية صراعات مريرة منذ أول نشأتها، حيث ولدت في أحضان أقوى اللغات آنذاك وهي اللغة العبرية والسريانية، فالراجح أنَّ اللغة العربية ولدت بعد الطوفان، ولا يوجد لها أثر بين الناس قبل ذلك، فإنْ قلنا بأنَّ أول من نطق بالعربية هو نبي الله هود (ع)، فإنَّ من مبعث نبي الله هود (ع) حتى ولادة إسماعيل بن إبراهيم الخليل (730) سنة – حسب بعض المصادر -، وهذه السبعة قرون كافية لتولد عدة لهجات عن عربية نبي الله هود (ع)، بل لم يبق منها إلا لهجة عامية من لهجاتها أو لهجة عامية منبثقة عن عدة صراعات وقعت بين لهجات عربية هود (ع)، وهذا يعني أنَّ في زمن نبي الله إسماعيل (ع) قد مرت بأكثر من مرحلة من الانحراف والابتعاد عن أصلها الموحى من الله تعالى، والقدر المتيقن أنَّ العربية في ذلك الوقت مُحرَّفة ولم تثبت خلال السبعة قرون، والدليل على ذلك أنَّ العربية قد تم تجديدها بالوحي أو الإلهام لنبي الله إسماعيل (ع)، كما نطقت بذلك الروايات الآتية:
روي عن الباقر عليه السلام: (أن إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، فكان أبوه يقول له: - وهما يبنيان البيت - يا إسماعيل هابي ابن أي أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل: يا أبت هاك حجرا، فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة) بحار الأنوار ج12 ص87.
وعنه (عليه السلام) انّه قال: (أوّل من شقّ لسانه بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه فهو أوّل من نطق بها وهو الذبيح) تحف العقول، لابن شعبة الحراني: ص297.
وعن رسول الله (ص): (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، و هو ابن أربع عشرة سنة) الجامع الصغير: للسيوطي: ج1 ص435 برقم 2837.
وأخرج ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم: (ان إسماعيل ألهم من يوم ولد لسان العرب وولد إبراهيم أجمعون على لسان إبراهيم) الدر المنثور، للسيوطي: ج4 ص273.
وعنه (ص): (أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسانَ العربيَّ إلهاماً) الجامع الصغير ج1ص239..
وعن ابن عباس: (أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل) المزهر، للسيوطي: ص27.
فلو كانت اللغة العربية عند ولادة إسماعيل (ع) غضَّة كما نطق بها نبي الله هود (ع)، لما كان هناك داعٍ الى تجديدها بالوحي الى إسماعيل (ع)، أضف الى هذا أنَّ التعبير بـ (شق لسانه) و (فتق لسانه) و (العربية المبينة) و (العربية المحضة)، فيه إشارة واضحة الى أنَّ عربية إسماعيل (ع) تختلف كثيراً عن العربية التي كانت متعارفة عند القبائل العربية كحمير وجرهم، ويؤكد ذلك عدّ إسماعيل أول من تكلم بالعربية، أي أول من تكلم بها بعد اندراسها وتحريفها، هذا إنْ استبعدنا الاحتمال الآخر؛ وهو كونه أول من نطق بالعربية من ولد إبراهيم (ع).
ويزداد الطين بِلة لو عرفنا أنَّ الأقوام العربية القديمة قد بادت وهلكت قبل مولد إسماعيل (ع)، حسب ما تذكر كتب التاريخ والأنساب، وهم (عاد، وثمود، وطَسْم، وجَدِيس، وأُميم، وعَبيل، والعَمالقة، وعبد ضَخْم، وجُرْهم الأولى، وغيرهم). فلك أنْ تتصور كم لهجة لكل قوم من هؤلاء، وكم يكون مجموع كل اللهجات، وكلها قد بادت بهلاك أهلها، فكم قد تغير من معالم العربية بتعدد هذه اللهجات، وكم مات من معالمها بموت هذه اللهجات واللغات ؟
ثم نشأت العرب العاربة الباقية، في اليمن من قحطان بن عابر بن شالخ بن أد بن سام بن نوح (ع)، وهم قد تعلموا العربية من العرب البائدة، لأنَّ قحطان وكذلك ابنه يعرب لم يكن لسانهما في الأصل عربياً، كما تبين بعض المصادر، ولا يخفى على القارئ ما يشوب اللغة عندما تنتقل من قوم الى قوم آخرين. وقبيلة جرهم التي نزلت على إسماعيل (ع) في مكة كما نصت بعض الأخبار؛ هي من نسل جرهم بن قحطان بن عابر، أما قبيلة حِمير فهم من نسل حِمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر.
فقد مرت اللغة العربية بمرحلتين حتى زمن إسماعيل (ع)؛ الأولى هي مرحلة العرب البائدة، والمرحلة الثانية هي عربية اليمن من بني قحطان بن عابر، وكل مرحلة تتضمن صراعات داخلية وخارجية، وبالتالي كل مرحلة تتضمن عدة تقلبات للغة العربية تبتعد بها كثيراً عن أصلها الذي بات مجهولاً تماماً لنا، حتى وصل الحال أنْ تعد لغة حِمير بعد ظهور الإسلام بأنها غير عربيتنا، حسب قول أبي عمرو بن العلاء، إذ قال: (ما لسان حِمير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم عربيتنا) المزهر، للسيوطي: ص174.
نعم، بعد أنْ ابتعدت العربية عن أمها الأصل حتى لكأنها لغة أخرى وإنْ كانت تشترك مع أمها في بعض الأمور، بعد ذلك جددت وتم احياؤها بالوحي أو الإلهام لإسماعيل بن إبراهيم الخليل (ع)، ولكن كما تقدم القول أنها ولدت بين عدة لغات سائدة آنذاك من أبرزها اللغة السريانية والعبرية، وتطاول بها الزمان تتصارع مع تلك اللغات وتتصارع أيضاً مع ألسنة الناطقين بها من بني إسماعيل (ع)، فبعض المصادر تدلنا على أنَّ بين وفاة إسماعيل (ع) وبين مبعث النبي محمد (ص) (2655) سنة، يعني ستة وعشرون قرناً ونصف ، وذكر القلقشندي في قلائد الجمان أنَّ بين نزول إسماعيل (ع) بمكة وبين هجرة النبي (ص) منها (2793) سنة، يعني نحو ثمانية وعشرين قرناً، وخلال كل هذه القرون تتصارع اللغة العربية مع أبناء جلدتها ومع جيرانها وأعدائها، فلك أنْ تتصور مدى الضرر الذي سيلحق بها، ومدى التشوه الذي سيبدو عليها، ويضاف الى ذلك أنَّ بعد إسماعيل (ع) لم يرسل نبي من العرب، بل قامت أشهر رسالتين قبل رسالة نبينا محمد (ص)؛ وهما رسالة نبي الله موسى (ع)، ورسالة نبي الله عيسى (ع)، وكان لسانهما غير العربية قطعاً، مما ساعد كثيراً على تقوية شوكة لغة هاتين الرسالتين وانتشارهما وسيادتهما على حساب اللغة العربية.
ويضاف الى تحريف اللغة العربية عن أصلها؛ ضياع الكثير من كلام العرب، أي ضياع الكثير من الجذور والمواد اللغوية، بحيث قد تعد بعض الكلمات الآن دخيلة على اللغة العربية، بينما هي أصيلة قد تسبب تعاقب القرون بضياعها ونسيانها، وكان السبب الرئيس في ذلك هو أنَّ اللغة العربية لم تكن لغة تدوين، بمعنى لم يشتهر أو حتى يُعرف العرب قديماً بالكتابة والتدوين، وهذا يتسبب بضياع كلام العرب إضافة الى ضعف جمود وثبات اللغة العربية على حالتها الأولى، فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي محمد (ص) أنه قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر ...).
يقول الدكتور إسرائيل ولفنسن في كتابه تاريخ اللغات السامية: (لم تكن الكتابة منتشرة في بلاد العرب بل كان لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا القليل النادر فكانوا من أجل ذلك لا يدونون أخبارهم العظيمة ومنتجات قرائحهم البارعة فطبيعي [أ]لا يصل إلينا ما نستطيع به أن نعرف لهجاتهم ونستكشف أصل لغتهم إلا بقايا ضئيلة من هذا النادر القليل مما يجعل مهمة الباحث في هذه الموضوع شاقة صعبة ويضطره الى أن يحتاط في استنتاجاته ويبذل أقصى ما يستطيع من الجهود ليصل الى نتائج بريئة من الخطأ جهد الطاقة والامكان)
ويقول جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية: (فآداب العرب في جاهليتهم الثانية يراد بها آدابهم قبيل الإسلام وهم أهل بادية لا يقرأون ولا يكتبون .. وإنما جمعت هذه الآداب بعد الإسلام بالأخذ عن الأفواه).
فكما يقال: ما كتب قر وما حفظ فر. فعدم الكتابة والتدوين عند العرب كان عاملاً من عوامل التحريف والضياع، وضياع كثير أو أكثر كلام العرب قد اعترف به علماء اللغة أنفسهم:
قال الكسائي: (قد دَرَسَ من كلام العرب كثير) لسان العرب، ج2 ص594.
وحكى ابن حبيب البصري عن أبي عمرو أنه قال: (ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير) المحصول، لفخر الدين الرازي: ج1 ص214.
وقال ابن فارس في كتابه «الصاحبي»: (ذهب علماؤنا أو أكثرهم الى أنَّ الذي انتهى الينا من كلام العرب هو الأقل. ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعرٌ كثير وكلام كثير.
وأحرِ بهذا القول أن يكون صحيحاً...).
وروى ابن جني بإسناده عن ابن سيرين عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الاسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم وغفلت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا فيه إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وقد هلك من العرب من هلك فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره) المحصول، لفخر الدين الرازي: ج1 ص213.
ثم يعلق ابن جني على ذلك معترفاً بكثرة تغير اللغة العربية وليس بنقصانها فحسب، إذ يقول في كتابه "الاختصاص": (وهذا ونحوه مما يدلك على تنقل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغولها وتغيرها.
فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يُسمَع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ، ما وُجِد طريق الى تقبل ما يورده ... ).
والحمد لله وحده.
Comment