دفع ما قيل من شبهات في متن وصية الرسول (ص) ليلة وفاته
الإشكال الأول: إنّ النبي (ص) أعطى لعلي (ع) أسماء وقال له لا تصح لأحد غيرك، فقال (ص) : (سماك الله تعالى في سمائه: علياً المرتضى، وأمير المؤمنين، والصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك). بينما في آخر الوصية أعطى لابن محمد بن الحسن (ع) اسم المهدي فقال (ص): (له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي، وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، ..).
فكيف يقول لعلي (ع) هذه الأسماء لا تصح لأحد غيرك ويسميه المهدي، ثم يعطي لابن محمد بن الحسن (ع) اسم المهدي، أليس هذا تناقضاً ؟
الجواب:
أولاً: لاحظوا يا أولادي أنّ النبي محمد (ص) له اسمان اسم في السماء، واسم في الأرض.
قال عيسى بن مريم (ع) لبني إسرائيل كما يقص القرآن: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين﴾([1]).
وروي: سأل بعض اليهود رسول الله (ص): لم سميت محمداً واحمداً وبشيراً ونذيراً ؟
قال: (أمّا محمد فإني في الأرض محمود، وأمّا أحمد فإني في السماء أحمد منه، وأمّا البشير فأبشر من أطاع الله بالجنة، وأمّا النذير فأنذر من عصى الله بالنار،...) ([2]).
في الوصية أعطى الرسول (ص) لعلي (ع) أسماءً في السماء، ومنها المهدي، فقال (ص): (سماك الله تعالى في سمائه: ،...، والمهدي، فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك)، وهذا لا ينافي أن يكون هذا الاسم لابن الإمام محمد بن الحسن العسكري (ع) في الأرض، ومن هنا تعرفون سطحية وضحالة من يقول بهذا الإشكال.
ثانياً: أنّ الأسماء بمجموعها لا تصح لأحد غير أمير المؤمنين (ع)، وهذا لا ينافي تسمية أحد أولاده بإسم منها.
الإشكال الثاني: إنّ الوصية تقول بأنّ الرسول (ص) قال لعلي بن أبي طالب (ع): (يا علي، أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم، وعلى نسائي: فمن ثبتها لقيتني غداً، ومن طلقتها فأنا برئ منها، لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي).
فما معنى أنّ علياً (ع) يكون وصياً للنبي (ص) على أهل بيته ونسائه بحيث يوكل النبي (ص) له أمر الطلاق، فمن طلقها علي (ع) لم تر النبي (ص) في عرصة القيامة، ومن ثبتها علي (ع) تلقى النبي يوم القيامة، والحال أنّ المرأة تعتد عدة الوفاة بعد وفاة زوجها، وتكون منفصلة عنه قهراً، ولها الحق أن تتزوج غيره إذا انتهت عدة الطلاق. فما معنى قول النبي المتقدّم لعلي بن أبي طالب (ع) ؟
فما معنى أنّ علياً (ع) يكون وصياً للنبي (ص) على أهل بيته ونسائه بحيث يوكل النبي (ص) له أمر الطلاق، فمن طلقها علي (ع) لم تر النبي (ص) في عرصة القيامة، ومن ثبتها علي (ع) تلقى النبي يوم القيامة، والحال أنّ المرأة تعتد عدة الوفاة بعد وفاة زوجها، وتكون منفصلة عنه قهراً، ولها الحق أن تتزوج غيره إذا انتهت عدة الطلاق. فما معنى قول النبي المتقدّم لعلي بن أبي طالب (ع) ؟
الجواب:
ـ هناك مختصات للنبي وأحكام خاصة به، منها تعدد الزوجات، فله (ص) أن يتزوج بأكثر من أربعة، ومنها عدم جواز زواج نسائه بعد وفاته، فهذا الحكم الذي جاء في الوصية من تلك الأحكام الخاصة به (ص)، بل من النص نستكشف ذلك.
ـ بل يمكن القول بأنّ هذا الحكم من مختصات خليفة النبي (ص) ووصيه، الذي هو أولى من المؤمنين بأنفسهم، فيكون له الحق حتى في طلاق زوجات النبي (ص) من بعد وفاته.
فمن ثبتها وصيه علي (ع) تلقاه غداً في يوم القيامة، ومن طلقها علي (ع)، فهو (ص) بريء منها يوم القيامة، ولا تراه ولا يراها.
الإشكال الثالث: إنّ الوصية تقول إذا حضرت الإمام المهدي (ع) الوفاة فليسلمها إلى ابنه، ومعنى ذلك إذا لم تحضره الوفاة فلا يسلمها إليه، وهذا هو المعروف من أنّ الوصي يكون بعد وفاة الموصي لا قبله، بينما أحمد الحسن (ع)، ادعى الوصية في حياة أبيه الإمام المهدي (ع).
الجواب:
ـــ إنّ أحمد الحسن (ع) وصي أبيه لورود اسمه في الوصية، فهو الوصي لأبيه، وهذا مما لا إشكال فيه، كما أنّه رسول أبيه إلى الناس، وبهذه الصفة - أي كونه رسول أبيه إلى الناس - يكون هو اليماني كما تقدّم، وقد ثبت حرمة الالتواء عليه، كما أوجبت الروايات المبادرة إلى نصرته وخصوصاً الروايات التي دلت على خروج شاب من أهل بيت الإمام المهدي (ع) في المشرق، وقد عرفنا فيما تقدّم أنّ ذلك الشاب هو ابن الإمام المهدي (ع) المذكور في رواية رسول الله (ص).
فهو احتج بالوصية لورود اسمه فيها، كما ووصفته الوصية بأنّه أول المؤمنين، بمعنى أول أنصار أبيه (ع) وعليه فلابد أن يكون موجوداً في زمن الظهور المبارك، ومن هنا قلنا سابقاً باتحاد لفظي اليماني والمهدي الذي هو الاسم الثالث لابن الإمام محمد بن الحسن (ع) في شخص واحد، و هو (أحمد).
ـــ ثم إنّ الأوصياء دائماً نجدهم في حياة الموصي، فقد كان هارون (ع) وصياً لموسى (ع) في حياته.
قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾([3])، وكان هارون واجب الطاعة عند غياب موسى(ع) .
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾([4]).
كما كان الإمام علي (ع) وصياً لرسول الله (ص) في حياته.
روى الكليني بسنده: (جاءت أم أسلم يوماً إلى النبي (ص) وهو في منزل أم سلمة، فسألتها عن رسول الله (ص)، فقالت: خرج في بعض الحوائج والساعة يجيئ، فانتظرته عند أم سلمة حتى جاء (ص)، فقالت أم أسلم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني قد قرأت الكتب وعلمت كل نبي ووصي، فموسى كان له وصي في حياته ووصي بعد موته، وكذلك عيسى، فمن وصيك يا رسول الله ؟ فقال لها: يا أم أسلم، وصيي في حياتي وبعد مماتي واحد، ثم قال لها: يا أم أسلم، من فعل فعلي هذا فهو وصيي، ثم ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بأصبعه فجعلها شبه الدقيق، ثم عجنها، ثم طبعها بخاتمه، ثم قال: من فعل فعلي هذا فهو وصيي في حياتي وبعد مماتي.
فخرجت من عنده، فأتيت أمير المؤمنين (ع) فقلت: بأبي أنت وأمي، أنت وصي رسول الله (ص)؟ قال: نعم يا أم أسلم. ثم ضرب بيده إلى حصاة ففركها فجعلها كهيئة الدقيق، ثم عجنها وختمها بخاتمه....) ([5]).
وكان الإمام الحسن (ع) وصي أبيه في حياته، وكان الإمام زين العابدين (ع) وصياً لأبيه في حياته، وهكذا سائر الأئمة (ع)، فكذلك اليوم أحمد الحسن (ع) وصي أبيه في حياته.
الإشكال الرابع: إنّ رواية الوصية في متنها اضطراب، وجاء هذا الاضطراب، من أنها تقول أنّ لابن المهدي (ع) ثلاثة أسماء، ثم تذكر أربعة.
الجواب: في الحقيقة أنّي لأعجب بل لا ينقضي عجبي من هكذا كلام، والسر في ذلك أنّ رواية الوصية لم تذكر أربعة أسماء بل ذكرت ثلاثة، ولا أعلم كيف فهم المستشكل أنها أربعة أسماء، وإليكم العبارة لنرى ماذا نفهم منها.
قال (ص): (ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، (فإذا حضرته الوفاة) فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كإسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أول المؤمنين).
فلاحظوا:
الاسم الأول: أحمد، والذي قال عنه رسول الله (ص) اسم كاسمي، وهو بين المراد من اسمه فقال (ص): أحمد. فلفظ أحمد هو شرح لقول رسول الله (ص) (كإسمي).
الاسم الثاني: عبد الله، وهو الذي قال عنه الرسول (ص): (كإسم أبي)، فلفظ عبد الله شرح لقول (ص): (كإسم أبي).
الاسم الثالث: المهدي، وقد صرحت الوصية بذلك فقالت: (والاسم الثالث: المهدي).
هل لاحظتم ؟ إذن فكيف يقال بأنّ رواية الوصية تقول له ثلاثة أسماء وتذكر أربعة ؟
إنّما يدل هذا الكلام على سطحية قائله، أو إفلاسه، لذا تراه يتعلل بأوضح الأمور ويعتبرها إشكالاً !
الإشكال الخامس: إنّ الرواية لا يوجد فيها تصريح بأنّ الإمام المهدي (ع) يسلم الإمامة والقيادة العامة لابنه، إذ ابنه هو أول المهديين (ع) وقد جاءت الرواية تصفهم بأنّهم قوم من شيعة أهل البيت (ع)، كما جاء ذلك في الرواية.
عن أبي بصير، قال: (قلت للصادق جعفر بن محمد (ع): يا ابن رسول، إني سمعت من أبيك (ع) أنه قال: يكون بعد القائم اثنا عشر إماماً. فقال: إنما قال: اثنا عشر مهدياً ولم يقل اثنا عشر إماماً، ولكنهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا) ([6]).
فيتعين أن يكون المقصود من قوله (ص): (فليسلمها،...) هو تسليم بعض المسؤوليات الدينية لا الإمامة والقيادة العامة.
الجواب: أنّ الأمر الذي يسلمه الإمام المهدي (ع) لابنه هو منصب الإمامة العامة وخلافة الأرض، والذي يدل على ذلك وحدة السياق، حيث إنّ هذه العبارة جاءت في سياق تسليم الأئمة الإمامة والوصاية أحدهم لآخر، فكذلك يكون تسليم المهدي (ع) لابنه، فما يسلمه الحسن العسكري (ع) لابنه محمد بن الحسن (ع) عينه يسلمه محمد بن الحسن (ع) لابنه؛ لأنّ السياق في الجميع واحد.
وأمّا الرواية التي عن الإمام الصادق (ع) والتي تقول بأنّ المهديين قوماً من شيعتهم، إنما تدل على أنّ مقام المهديين (ع) أقل من مقام الأئمة (ع)، كما أنّ مقام الأئمة أعلى من مقام الأنبياء سوى النبي محمد (ص)، فهو لا يدانيه في المقام أحد. أو أنّ الإمام الصادق (ع) قد استعمل التقية لوجود من يتقى منه، أو أنّ الإمام لا يريد أحداً يتعرّف على هذا السر لخوف الإذاعة وما إلى ذلك.
الامام (ع) صحح قول ابيه ولم ينف مقاما :
فـليس في مقام نفي الإمامة عن المهديين (ع) بل أكد على أنّ أبيه الإمام الباقر (ع) قد قال: (اثنا عشر مهدياً) ولم يقل: (اثنا عشر إماماً)، وهذا لا يستفاد منه نفي الإمامة عنهم، فإثبات نص ما قاله الإمام الباقر (ع) شيء ونفي الإمامة عن المهديين شيء آخر، وخصوصاً إذا علمنا تصريح الأئمة (ع) بأنهم يتكلمون على سبعين وجه وكل وجه لهم منه المخرج كما تقدّم ذلك في المقدمة الأولى من القسم الأول من هذا الحوار.
فالمهديون حجج كسائر حجج الله تعالى، ولا ينافي ذلك كون مقامهم أقل من مقام الأئمة (ع) كما لا ينافي كون الأنبياء حججاً لكن مقام محمد (ص) أعلى من مقامهم (ص).
هم قوم من شيعتنا
لقد جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾([7])، إنّ إبراهيم (ع) من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
عن أبي بصير، قال: سأل جابر الجعفي أبا عبد الله (ع) عن تفسير قوله (عز وجل): ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾، فقال: (إنّ الله لما خلق إبراهيم كشف له عن بصره فنظر فرأى نوراً إلى جنب العرش فقال: إلهي ما هذا النور ؟ فقال له: هذا نور محمد (ص) صفوتي من خلقي.
ورأي نوراً إلى جنبه فقال: إلهي وما هذا النور ؟ فقيل له: هذا نور علي بن أبي طالب (ع) ناصر ديني. ورأي إلى جنبهم ثلاثة أنوار فقال: إلهي وما هذه الأنوار ؟ فقيل له: هذا نور فاطمة (ص) فطمت محبيها من النار ونور ولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال: إلهي وأرى أنواراً تسعة قد حفوا بهم ؟ قيل: يا إبراهيم، هؤلاء الأئمة (ع) من ولد علي وفاطمة.
فقال: إلهي أرى أنواراً قد أحدقوا بهم لا يحصى عددهم إلاّ أنت ؟ قيل: يا إبراهيم، هؤلاء شيعتهم شيعة علي (ع).
فقال إبراهيم (ع): وبم تعرف شيعته ؟ قال: بصلاة الإحدى والخمسين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والقنوت قبل الركوع، والتختم باليمين.
فعند ذلك قال إبراهيم: اللهم اجعلني من شيعة أمير المؤمنين (ع). قال: فأخبر الله في كتابه فقال: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾) ([8]).
بل روي أنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) من شيعة الإمام علي (ع) في جواب الرضا (ع) لمن زعموا أنهم من شيعة علي (ع)، قال: (... ويحكم، إنما شيعته الحسن والحسين وأبو ذر وسلمان والمقداد وعمار ومحمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئاً من أوامره ... ) ([9]).
وبنفس هذا الاعتبار يكون المهديون (ص) من شيعة الأئمة (ع)، لكن مقام المهديين أيضاً أعلى من مقام الأنبياء (ص) غير محمد (ص)، وقد تقدّم تفصيل ذلك.
ــ ثم إنّ الروايات قد أعطت للمهديين القيادة العامة بعد الإمام المهدي (ع)، وسمتهم أئمة وقوّاماً :
عن الإمام الصادق (ع)قال في أحد الأدعية المشهورة: (اللهم كن لوليك القائم بأمرك محمد بن الحسن المهدي عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ومؤيداً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طولاً وعرضاً وتجعله وذريته من الأئمة الوارثين) ([10]).
وجاء في الدعاء عن الإمام المهدي (ع) في كيفية الصلاة على محمد وآل محمد إلى أن يصل إلى نفسه فيقول (ع): (... اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تقر به عينه وتسر به نفسه ... إلى قوله (ع): وصل على وليك وولاة عهده والأئمة من ولده، ومدّ في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم دنيا وآخرة ...) ([11]).
وجاء في دعاء الإمام الرضا (ع) للإمام المهدي في عصر الغيبة: (اللهم أعطه في نفسه وأهله وَوَلـَدِه وذريته وأمته وجميع رعيته ما تقر به عينه وتسر به نفسه وتجمع له ملك المملكات كلها ... إلى أن يقول: اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده وبلغهم آمالهم وزد في آجالهم وأعز نصرهم ...) ([12]).
فكيف يمكن الاقتصار في فهم مقام المهديين (ع) على رواية واحدة كونهم قوم من شيعتنا، وتترك الكثير من الروايات الاخرى التي سمتهم ائمة وولاة عهد وقوام ؟!
الإشكال السادس: احتمال التصحيف في كلمة (ابنه).
قال الشيخ الحر العاملي في سياق كلام له: (...، لاحتمال أن يكون لفظ ابنه تصحيفاً، وأصله أبيه بالياء آخر الحروف، ويراد به الحسين (ع)، لما روي سابقاً في أحاديث كثيرة من رجعة الحسين (ع) عند وفاة المهدي (ع) ليغسله ...) ([13]).
قال الشيخ الحر العاملي في سياق كلام له: (...، لاحتمال أن يكون لفظ ابنه تصحيفاً، وأصله أبيه بالياء آخر الحروف، ويراد به الحسين (ع)، لما روي سابقاً في أحاديث كثيرة من رجعة الحسين (ع) عند وفاة المهدي (ع) ليغسله ...) ([13]).
الجواب:
أولاً: إنّ دعوى التصحيف مجرّد احتمال [في الحقيقة احتمال ساقط] لا يمكن البناء عليه مع تصريح الروايات بأنّ المهديين من ذرية الإمام المهدي (ع)، فقد رفعت الروايات هذا الاحتمال رفعاً قطعياً؛ لتصريحها بوجود ابناً للإمام المهدي (ع) يطلّع عليه في زمن غيبته، وهو المولى الذي يلي أمره.
عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: (إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: أحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات، ويقول بعضهم: قتل، ويقول بعضهم: ذهب حتى لا يبقى على أمره من أصحابه إلاّ نفر يسير لا يطلّع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلاّ المولى الذي يلي أمره)([14]).
ورواه النعماني في الغيبة بهذا المتن: (إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قتل، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير، لا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره، إلاّ المولى الذي يلي أمره)، وعلّق عليه النعماني بقوله: ولو لم يكن يروى في الغيبة إلاّ هذا الحديث لكان فيه كفاية لمن تأمله ([15]).
عن الباقر (ع) أنه قال في حديث طويل: (... ثم قام إليه رجل من صلب أبيه وهو من أشد الناس ببدنه وأشجعهم بقلبه ماخلا صاحب هذا الأمر، فيقول: يا هذا ما تصنع، فو الله إنك لتجفل الناس إجفال النعم أفبعهد من رسول الله (ص) أم بماذا ؟! فيقول المولى الذي ولي البيعة: والله لتسكتن أو لأضربن الذي فيه عيناك. فيقول القائم: أسكت يا فلان، أي والله إنّ معي عهد من رسول الله (ص) هات لي العيبة، فيأتيه فيقرأ العهد من رسول الله (ص) فيقول: جعلني الله فداك أعطني رأسك اقبله، فيعطيه رأسه فيقبل بين عينيه، ثم يقول: جعلني الله فداك جدد لنا البيعة، فيجدد لهم البيعة...) ([16]).
عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) أنه قال: (يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب - وأومى بيده إلى ناحية ذي طوى - حتى إذا كان قبل خروجه أتى المولى الذي كان معه حتى يلقى بعض أصحابه فيقول: كم أنتم هاهنا ؟ فيقولون: نحو من أربعين رجلاً. فيقول: كيف أنتم ولو رأيتم صاحبكم ؟ فيقولون: والله لو ناوى بنا الجبال لناويناها معه، ثم يأتيهم من القابلة ويقول: أشيروا إلى رؤسائكم أو خياركم عشرة فيشيرون إليهم فينطلق بهم حتى يلقوا صاحبهم ويعدهم الليلة التي تليها...) ([17]).
وروى الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد عن الرضا (ع): قال: (كأني برايات من مصر مقبلات خضر مصبغات حتى تأتي الشامات فتهدى إلى ابن صاحب الوصيات) ([18]).
فمع وجود كل هذه الروايات المصرّحة بوجود ابنٍ للإمام المهدي (ع) يبطل احتمال التصحيف الذي ذكره الحر العاملي.
ثانياً: بعد أن احتمل التصحيف تكون العبارة (فليسلمها إلى أبيه) بدل أبنه، ومن هنا قال الحر العاملي بأنّ المراد من أبيه هو الحسين (ع)؛ لأنّه هو الذي يتكفل تغسيل ولده المهدي (ع).
وهذا الاعتقاد منه (رحمه الله) بسبب رواية رواها الشيخ النعماني في كتاب الغيبة: محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن سليمان بن رشيد، عن الحسن بن علي الخزاز قال: (دخل علي بن أبي حمزة على أبي الحسن الرضا (ع) فقال له: أنت إمام ؟ قال: نعم، فقال له: إني سمعت جدك جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: لا يكون الإمام إلاّ وله عقب. فقال: أنسيت يا شيخ أو تناسيت ؟ ليس هكذا قال جعفر (ع)، إنما قال جعفر (ع): لا يكون الإمام إلاّ وله عقب إلاّ الإمام الذي يخرج عليه الحسين بن علي (عليهما السلام) فإنه لا عقب له، فقال له: صدقت جعلت فداك هكذا سمعت جدّك يقول) ([19]).
حيث إنّ الرواية تنص على أنّ الإمام الذي يخرج عليه الحسين (ع)، لا عقب له، والحال أنّ المراد بلفظ الإمام فيها ليس الإمام محمد بن الحسن العسكري (ع)، بل هو المهدي الثاني عشر (ع) من ذرية الإمام المهدي (ع)، وبهذا يكون الجمع بين الروايات التي تدل على ثبوت الذرية للإمام المهدي محمد بن الحسن (ع)، وبين الرواية التي تقول بأنّ الإمام الذي يخرج عليه الحسين (ع) لا عقب له، وبين روايات المهديين (ع).
وفي الحقيقة أنّ المرتكز في ذهن الحر العاملي وغيره أنّ بعد وفاة الإمام المهدي محمد بن الحسن (ع) يأتي دور الرجعة، ولذا وقفوا من روايات المهديين موقفاً سلبياً، فبين من ردّها، وبين من أولها بالرجعة، ومن الذين أولوها بالرجعة هو الحر العاملي (رحمه الله).
ــ ثم إنّ الحر العاملي بعد أن احتمل التصحيف وأنّ المراد بابنه هو (أبيه - أي الحسين (ع))، وقع في مشكلة أخرى، وهي: أنّ احتمال التصحيف لا يرفع الإشكال بسبب ذكر الأسماء الثلاثة، وهي (أحمد، عبد الله، المهدي) فليس أحد هذه الأسماء منطبقاً على الحسين (ع)، فحتى لو بنينا - جدلاً - على التصحيف لا يثبت ما أراده الحر العاملي من حمل الروايات على الرجعة.
ومن هنا حاول الحر العاملي لدفع ما وقع فيه فقال: (ولا ينافي ذلك الأسماء الثلاثة، لاحتمال تعدد الأسماء والألقاب لكل واحد منهم (ص)، وإن ظهر بعضها ولم يظهر الباقي ولاحتمال تجدد وضع الأسماء في ذلك الزمان له (ع)، لأجل اقتضاء الحكمة الإلهية) ([20]).
وهكذا بناء التوجيه الثاني على صرف الاحتمال، وهو يحتمل تعدد الأسماء والألقاب لكل واحد من الأئمة (ع)، ومن هنا يحتمل أنّ هذه الأسماء الثلاثة (أحمد، عبد الله، المهدي) هي أسماء للحسين (ع) في الرجعة، بسبب تجدد وضع الأسماء في الرجعة لحكمة إلهية.
وأنتم كما ترون ، أنّ ما ذكرهما الحر العاملي من احتمالين لا يمكن قبولهما، إذ الدليل قائم على خلاف هذا الاحتمال، فينبغي الركون للدليل لا إلى صرف احتمالات ظنية واجتهادات شخصية، وإذا انفتح باب الافتراض والاحتمال فلن يُغلق إلاّ بعد أن يُطاح بكل الثوابت.
=====
الهوامش
[1]- الصف: 6.
[2]- تفسير القمي: ج2 ص365.
[3]- الأعراف: 142.
[4]- طه: 90.
[5]- الكافي: ج1 ص355.
[6]- كمال الدين: ص358.
[7]- الصافات: 83.
[8]- تأويل الآيات: ص496، مستدرك الوسائل: ج4 ص187، الحدائق الناضرة: ج8 ص171.
[9]- تفسير البرهان: ج23 مج6 ص424.
[10]- بحار الأنوار: ج94 ص349، مكيال المكارم: ج2 ص38.
[11]- غيبة الطوسي: ص186، جمال الأسبوع: ص301.
[12]- جمال الأسبوع: ص309، مصباح المتهجد: ص409، مفاتيح الجنان: ص618.
[13]- الإيقاظ من الهجعة: ص370.
[14]- غيبة الطوسي: ص162.
[15]- غيبة النعماني: ص176.
[16]- بشارة الإسلام: ص227 .
[17]- غيبة النعماني: ص187 .
[18]- الإرشاد: ص250.
[19]- غيبة الطوسي: ص224، دلائل الإمامة: ص435.
[20]- الإيقاظ من الهجعة: ص370.
Comment