مقتبس من كتاب فكرة العدالة - امارتيا سن - صفحة 58
في فهمنا التباين القائم بين النظرة المنصبة على الترتيب ((النظرة المافوقية)) وبين النظرة المنصبة على الإنجـاز الفعلى ((النظرة الماتحتية))، من المفيد أن نستدعي من الأدبيات السنسكريتية فارق قديما في الأخلاق والفقه. لنأخذ الكلمتين المختلفتين - نيتي Niti و نیایا Nyaya - اللتين تعنيان كلتاهما العدالة بالسنسكريتية الفصحي.
من الاستخدامات الأساسية الكلمة ((نيتي )) معنى ((الملاءمة التنظيمية )) و((الصوابية السلوكية )).
أما كلمة ((نيايا)) فتعني، بخلاف كلمة نیتی، مفهوما شاملا للعدالة الناجزة.
وفق خط النظر ذاك، يتعين تقييم أدوار المؤسسات والقواعد والتنظيم، على أهميتها، من منظور النيايا الأشمل والأكثر استيعاباً، المرتبط حتما بالعالم التي يظهر في الواقع، وليس فقط المؤسسات أو القواعد الذي حدث أن صارت لدينا
النأخذ تطبيقا خاصا، فقد تحدث منظرون قانونيون هنود قدماء باستخفاف عما سموه ماتسیانیایا matsyanyaya ((العدالة في عالم السمك))، حيث تلتهم السمكة الكبيرة متى شاءت السمكة الصغيرة.
ونبهونا إلى أن تجنب ((عدالة السمك)) يجب أن يكون جزءا أساسيا من العدالة، وأن من الأهمية بمكان الحرص على ألا تغزو عدالة السمك عالم البشر.
المدرك المركزي هنا هو أن تحقق العدالة بمعنی ((نیایا)) ليس فحسب مسألة الحكم على المؤسسات والقواعد بل الحكم على المجتمعات نفسها.
فلا أهمية المدى ملاءمة التنظيمات والقواعد القائمة إذا كانت السمكة الكبيرة ما تزال تلتهم السمكة الصغيرة متى شاءت، عندئذِ، لا بد أن يكون ذلك خرقا واضحاً للعدالة البشرية متمثلة ب النيايا .
دعني أضرب لك مثلا لتوضيح الفرق بين نيتي ونیایا. اشتهر عن إمبراطور روما المقدسة فرديناند الأول أنه قال ذات مرة: (( فليقم العدل ولو فنـي العالم ))
يمكن تصوير هذا القول الماثور الحدي ك (( نيتي )) صارم جدا يؤيده البعض (كما كان تماما شأن الإمبراطور فردیناند في الواقع، لكن قد يكون من الصعب قبول كارثة شاملة مثلا لعالم عادل، عندما نفهم العدالة بشكلها الأوسع نیايا. فإن فني العالم فعلا، لا يعد لدينا شيء كثير الاحتفال بذلك الإنجاز، وإن كان يمكن تصور الدفاع عن ال نيتي الشديدة الصارمة المؤدية إلى هذه النتيجة الحدية بحجج مختلفة شديدة التعقيد .
كذلك المنظور الماواقعي يجعل من السهل إدراك أهمية منع الظلم الواضح من العالم، بدل السعي العدالة الكاملة. وكما تبين من مثال عدالة السمك، ليس موضوع العدالة مجرد محاولة تحقيق - أو الحلم بتحقيق - نوع من المجتمع العادل أو الترتيبات الاجتماعية العادلة تماما، بل منع الظلم الفادح السافر (كتجنب دولة عدالة السمك الرهيبة.
فمثلاً، عندما ثار الناس للقضاء على العبودية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم يفعلوا ذلك بشرط أن يؤدي القضاء على العبودية إلى عالم عادل تماما.
بل كان يقولون إن مجتمع العبودية كان جائرا جدا من الكتاب آنفي الذكر الذين كانوا منشغلين تماما بتقديم هذا المنظور، آدم سميث وكوندورسيه وماري وولستونکرافت).
كان تشخيص ظلم العبودية الذي لا يطاق هو الذي جعل القضاء عليها أولوية مهيمنة، ولم يستوجب ذلك البحث عن إجماع على ما يعتبر مجتمعاً عادلا تماما.
وأولئك الذين ظنوا، من كل عقولهم، أن الحرب الأهلية الأمريكية، التي أدت إلى القضاء على العبودية، كانت إنجازا كبيرا اللعدالة بأمریکا ربما يضطرون إلى ترويض أنفسهم على تقبل حقيقة أنه لا يوجد الكثير مما يقال في منظور المؤسسية المافوقية (( حيث لا تباین سوی بین ما هو عادل تماما وما سوى ذلك )) حول تقدم العدالة من خلال القضاء على العبودية .
اهمية الصيرورات والمسؤليات
ربما كان أولئك الذين يميلون إلى النظر إلى العدالة من خلال ال نيتي بدل النيايا ، بصرف النظر عما يسمون هذا الانقسام الثنائي، متأثرين بخوفهم من أن يميل بهم التركيز على التطورات المعنية إلى تجاهل أهمية الصيرورات الاجتماعية، بما في ذلك ممارسة الواجبات والمسؤوليات الفردية، قد تكون نفعل الصواب ومع ذلك لا تجد او، قد تحصل على نتيجة طيبة ليس لأن سویا با ما آخر، ربما كان حتی عارضا، وقد وهم وهما العدالة تحتفت.
ورب قائل إلى التركيز فحسب على ما يحدث في الواقع، وتجاهل الصيرورات والمساعي والسلوكيات جملة واحدة، قد لا يكون كافيا.
وقد يختلط الأمر على الفلاسفة الذين يشددون على دور الواجب والسمات الأخرى لما يسمونه ((متقارية الواجب )) فيظن أن التمی ببین الترتيبات النظرية ) والتبلورات الفعلية يشبه ربما إلى حد بعيدالتباين القديم القائم المقارية المنصبة على الواجب والمقاربة المنصبة على العواقب إلى العدالة
أو لنأخذ مثالا آخر مختلفا. في القصيدة الملحمية الهندية الماهابهاراتا، وفي الجزء منها المسـمى بهاغاٹادجيتا أو جیتا، اختصارا
عشية المعركة التي هي الحدث المركزي في الملحمة الشعرية، يعبر البطل الذي لا يهزم، أرجونا، عن قلقه العميق مما ستؤدي إليه المعركة من ضحايا كثيرة تجعله يتردد في خوضها. أشار عليه مستشاره، کریشنا، بأن يعطي الأولوية لواجبه، أي، أن يخوض المعركة، بصرف النظر عن العواقب.
غالبا ما يفسر ذلك الجدل الشهير على أنه صراع بين أدب الواجب والنظر في العواقب ، يحث فقیه کریشنا، عالم الأخلاق، أرجونا على أداء واجبه، بينما ينتاب الأخير الناظر المزعوم في العواقب، القلق من العواقب الرهيبة للحرب..
أراد کريشنا من تلبية مطالب الواجب كسب النقاش، على الأقل كما يرى من المنظور الديني.
بالفعل، أصبحت البها غافادجيتا رسالة بالغة الأهمية في الفلسفة الهندية، تركز خاصة على نزع الشكوك من فكر أرجونا . وقد ايد بقوة كثير من شُرّاح الفلسفة والأدب في العالم.
ففي الرباعيات الأربع، يلخص تي إس إليوت رأي کريشتا بصيغة نصح: فامض، یا رکب، للأمام./ لا تعبا مع الإقدام ويشرح إليوت لنا النقطة حتى لا يفوتنا المقصود: لا وداعا أقول: أيها الركب، إنما للأمام.
قلت في كتاب آخر ((الهندي المجادل )) إننا إذا خرجنا من الحدود الضيقة لخاتمة الجمال في الجزء من ال هابهاراتا المسمى بهاغاقادجيتا، ونظرنا إلى المقاطع الأولي لهذا الجزء التي يعرض فيها أرجونا رأيه، أو نظرنا إلى الماهابهاراتا ككل، اتضحت لنا تماما محدوديات رأي کريشنا أيضا .
بالفعل، في أواخر الماهابهاراتا، بعد الخراب الكامل للأرض الذي أعقب النهاية المظفرة ل الحرب العادلة، وفيما كانت محارق الجثث تنتقد بانسجام والنساء ينحن على من هلك من أحبائهن، يصعب الاقتناع بغلبة راي گريشنا تماما على رأي أرجونا الأشمل. وربما بقي مغزى قوي في ((وداعاً )) كذلك، لا في ((إلى الأمام)) فحسب.
وبالرغم من أن هذا التعارض ربما ينطبق عليه عموما معنى التمييز بين وجهة النظر في العواقب ووجهة النظر إلى الواجب، فمن المهمهنا تجاوز ذلك التناقض البسيط إلى معاينة نحوی شواغل أرجونا ككل حول تردده في الإقدام.
فلم يكن أرجونا قلقا نحسب من حقيقة أنه، أو كان للحرب أن تقع، وكان هو قائد الحشود التي تقف إلى جانب العدالة والنزول عند مقتضيات الواجب، الناس يقتلون.
بل كان أرجونا يعبر كذلك عن قلقه، في القسم الأول من الجيتا ذاتها، من أنه هو نفسه سيقتل حتما كثيرا من الناس الذين كان يكن لأكثرهم ودا وكانت تربطه علاقات شخصية، في هذه المعركة بين جناحي العائلة نفها،. التي انضم إليها آخرون، يعرفهم الطرفان.
بالفعل، فالحدث الحقيقي الذي قلق أرجونا بتجاوز النظرة المنفصلة عن الصيرورة إلى العواقب.
فالفهم الصحيح للإنجاز الاجتماعي - ذي الأهمية المركزية للعدالة بصفتها نيابا - يجب أن يأخذ في الاعتبار الشكل الشامل للسرد المشتمل على الصيرورة وسيكون من الصعب إسقاط منظور الإنجازات الاجتماعية بحجة أنه محصور بالنظر في العواقب فحسب ويتجاهل الأساس الفكري الشواغل الواجب.
المؤسسية المافوقية واللامبالاة العالمية
أنهي هذه المناقشة التمهيدية بملاحظة أخيرة حول جانب مفيد خاص التركيز المهيمن في الفلسفة السياسية السائدة على المؤسسة المافوقية. لنأخذ أيا من التعديلات الكبيرة الكثيرة التي يمكن أن تطرح لإصلاح البنية المؤسسية لعالم اليوم لجعله أكثر عدلأ وأقل جورا بالمعایر المقبولة عموما.
خذ، مثلا، إصلاح قوانين الاختراع التي تجعل الأدوية الثابتة رخيصة الإنتاج أيسر تناولا على المرضى الفقراء الذين يعانون من الإيدز، مثلا) - وهذه قضية تتسم بعض الأهمية للعدالة العالمية.
السؤال المتوجب علينا طرحه هنا هو:
ما هي الإصلاحات الدولية التي نحتاج الجعل العالم أقل جورا بقليل مما هو عليه الآن؟
لكن ذلك النوع من النقاش حول تعزيز العدالة عموما، وتوسيع العدالة العالمية خصوصا، سوف يبدو مجرد حدي فضفاض لأولئك المقنعين بدعوى هوبس - وراولز – أننا نحتاج إلى دولة ذات سيادة لتطبيق مبادئ العدالة من خلال اختبار مجموعة مثالية من المؤسسات: وهذا انعكاس مباشر لأخذ مسائل العدالة في إطار المؤسسية المافرقية. وسوف تتطلب العدالة العالمية الكاملة، من خلال مجموعة من المؤسسات العادلة تماما إن أمكن إيجاد هكذا شيء، حتما دولة عالمية ذات سيادة، وفي غياب مثل هذه الدولة، تبدو مسائل العدالة العالمية للمافوقين غير واردة
لنأخذ النبذ القوي لفكرة العدالة العالمية من جانب واحد من أكثر الفلاسفة المعاصرين أصالة وقرة وإنسانية، صدیقي ((توماس ناجل)) ، الذي تعلمت منه الكثير.
ففي مقال له شديد الأسر في مجلة الفلسفة والشؤون العامة فهم المافوقي للعدالة ليخلص إلى أن العدالة العالمية موضوع لا يصلح للنقاش، لأن المتطلبات المؤسسية الدقيقة التي يتطلبها العالم العادل لا يمكن تلبيتها على المستوى العالمي في هذا الوقت.
وكما يقول، فإنه يبدو الي صعب جدا مقاومة دعوى هوبس حول العلاقة بين العدالة والسيادة وإذا كان هوبس على حق، فإن فكرة العدالة العالمية بلا حكومة عالمية وهم.
في السياق العالمي، يركز ناجل، بالتالي، على توضيح المتطلبات الأخري، التي يمكن تمييزها عن متطلبات العدالة، كال الحد الأدنى من الفضيلة الإنسانية التي تحكم علاقتنا بكل الأشخاص الآخرين( وكذا الاستراتيجيات طويلة المدى للتغيير الجذري في الترتيبات المؤسية
Thomas Nagel, The Problem of Global Justice', Philosophy and Public Affairs, 33 (2005), p. 115
أعتقد أن المسار الأرجح إلى نوع ما من العدالة العالمية سيكون من خلال خلق هياكل سلطوية جائرة وغير شرعية بشكل سافر يمكن التغاضي أكثر الدول الأمم الحالية قوة.
التناقض هنا هو بین النظر إلى الإصلاحات المؤسسية بدلالة دورها في أخذنا إلى العدالة المافوقية (كما يعرفها ناجل)، وبين تقييمها بدلالة التحسين الذي تأتي به هذه الإصلاحات بالفعل، لاسيما من خلال إلغاء ما يعتبر حالات ظلم سافر ).
في مقارية راولز أيضا، يتطلب تطبيق نظرية ما في العدالة مجموعة كبيرة من المؤسسات تشكل الهيكل الأساسي للمجتمع العادل تماما.
لا غرابة، فراولز يتخلى في الواقع عن مبدايه للعدالة عندما يتعلق الأمر بتقييم كيفية التفكير في العدالة العالمية، ولا يمضي في الاتجاه الخيالي فيطالب بحكومة عالمية.
وفي كتاب صدر له لاحقا بعنوان (( قانون الأمم )) يستدعي راولز نوعا من ((المتمم)) لمسعاه الوطني أو، داخل البلد الواحد لتلبية متطلبات العدالة بصفتها إنصاف.
لكن هذا ((المتمم)) يأتي في صورة هزيلة جدا، من خلال نوع من التفاوض بين ممثلي مختلف البلدان حول بعض المسائل الأولية جدا للكياسة والإنسانية - ما يمكن اعتباره سمات محدودة جدا للعدالة.
في الحقيقة، لا يحاول راولز استنباط مبادئ عدلية مما قد يتمخض عن تلك المفاوضات )بالفعل، لا يمكن أن يتمخض عن هذه المفاوضات شيء يمكن أن يستی پهذا الاسم، ویرکز بدلا من ذلك على بعض المبادئ العامة للسلوك الإنساني
بالفعل، تقلص نظرية العدالة، على النحو الذي صيغت به في إطار المؤسسية الماقوقية الحالية - وإن بحسن نية - كثيرا من أكثر القضايا صلة بالعدالة إلى كلام فارغ.
فعندما يتحرك الناس في العالم للحصول على قدر أكبر من العدل - واشدد هنا على الكلمة النسبية "أكبر - لا يطالبون بنوع من الحد الأدني من الإنسانية.
ولا هم يتحركون سعيا لمجتمع عالمي عادل تماما، بل لرفع بعض الترتيبات الجائرة بشكل طاغ لتعزيز العدالة العالمية، كما فعل آدم سميث، أو كوندورسيه او ماري و ولستونکرافت في زمنهم، يمكن التوصل إلى الاتفاق عليها بالنقاش العام، بالرغم من استمرار تباعد الآراء في مسائل اخرى وإلا، فلا عزاء للمظلومين ربما إلا في قصيدة سيموس هيني المؤثرة
يقول التاريخ لا أمل.. في هذا الجنب من القبر
ولكن يعلو مد العدل.. المأمول يوما في العمر
وتسقط لا من لا أمل.
بالرغم من شدة التوق إلى أن تسقط الا من لا أمل، ليس في المؤسسية المافوقية منع كبير لذاك الوعد.
تقدم هذه المحدودية مثالا للحاجة إلى بينونة كبيرة عن نظريات العدالة السائدة، وذلك هو موضوع هذا الكتاب
Comment