إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

هـل تحتـاج نظريــة التطـور إلى إعـادة تفكيــر؟البرفسور كيفن لالاند

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5279

    هـل تحتـاج نظريــة التطـور إلى إعـادة تفكيــر؟البرفسور كيفن لالاند

    هـل تحتـاج نظريــة التطـور إلى إعـادة تفكيــر؟البرفسور كيفن لالاند



    تخيّل تشارلز داروين حدوث التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي دون أن يعلم بوجود الجينات.

    الآن ينحو الاتجاه السائد في نظرية التطور نحو حصر التركيز تقريبًا بالتوريث الجيني والعمليات التي تغير تواترات الجين.

    ومع ذلك.. فالبيانات الجديدة المتدفقة من المجالات المجاورة قد بدأت بتقويض هذا المنظور الضيق.

    هناك رؤية بديلة للتطور آخذة بالتبلور، وفيها يجري التعرّف على العمليات التي تنمو بها الكائنات الحية وتتطور باعتبارها أسبابًا للتطور.

    اجتمع بعضنا لأول مرة قبل ست سنوات لمناقشة هذه التطورات.

    ومنذ ذلك الحين، بوصفنا أعضاء في فريق متعدد التخصصات، عملنا بشكل مكثف لوضع إطار أوسع، أطلقنا عليه وصف التخليق التطوري الممتد1 (EES)، ولتجسيد بنيته وفرضياته وتوقعاته. في جوهره، يحافظ هذا التخليق على المؤثرات المهمة للتطوّر، تلك التي لا يمكن اختزالها بالجينات، والتي يجب أن تُوضع في لُب نظرية التطوّر.

    إننا نعتقد أن التخليق التطوري الممتد سيسلِّط ضوءًا جديدًا على طريقة عمل التطور، ونتمسك بكون الكائنات الحية قد تشكلت في أثناء التطور، ولم تتم «برمجتها» ببساطة لكي تطورها الجينات.
    لا تتطور الكائنات الحية لتناسب بيئات موجودة مسبقًا، ولكنها تشارك بيئاتها في البناء والتطور، ضمن عملية تغيير هيكل النظم البيئية.

    إن عدد علماء الأحياء الداعين إلى تغيير كيفية تصوّر التطور آخذٌ في التزايد بسرعة. ويأتي دعم قوي من التخصصات المساندة، وعلى الأخص الأحياء النمائية، إضافة إلى علم الجينوميات، والوراثة غير الجينية، وعلم البيئة، والعلوم الاجتماعية1,2.

    يمكننا القول إن علم الأحياء التطوري بحاجة إلى مراجعة إذا كان يُراد له الاستفادة الكاملة من هذه التخصصات الأخرى. والبيانات التي تدعم موقفنا تكتسب قوةً يومًا بعد يوم.

    ومع ذلك.. فإن مجرد ذكر التخليق التطوري الممتد غالبًا ما يثير ردود فعل انفعالية، بل وعدوانية بين علماء الأحياء التطورية.

    وكثيرًا ما تتردى مناقشات حيوية لتصبح لاذعة، ترافقها اتهامات بالبلبلة أو سوء التقديم. ربما يودّ علماء الأحياء التطورية - لكونهم ملاحَقين بهاجس التصميم الذكي.. أن يظهروا كجبهة متحدة أمام المُعَادِين للعِلْم. وقد يخشى البعض تناقص الدعم المالي والتقدير، إذا تمكَّن الغرباء −مثل علماء الفسيولوجيا أو علماء الأحياء التطورية− من التدفق إلى مجال عملهم.

    ولكن، هناك عامل آخر أكثر أهمية: العديد من علماء الأحياء التطورية التقليدية يدرسون العمليات التي نشير إليها باعتبارها مهملة، ولكنهم يستوعبونها بطريقة مختلفة جدًّا (انظر: «لا، كل شيء على ما يرام»). هذه ليست زوبعة في مقهى أكاديمي، بل هي نضال من أجل روح الانضباط بحد ذاتها.

    سنوضح هنا منطق التخليق التطوري الممتد؛ أملاً في تخفيف احتقان هذا الجدل، وتشجيع النقاش المفتوح حول الأسباب الأساسية للتغيير التطوري (انظر المعلومات المكمّلة؛ go.nature.com/boffk7).


    قيم أساسية

    تمت بلورة جوهر نظرية التطور الحالية في ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته. فقد جمعت بين الانتقاء الطبيعي والوراثة وغيرها من المجالات ضمن توافق حول كيفية حدوث التطور. سمح هذا «التخليق الحديث» بإعطاء العملية التطورية وصفًا رياضيًّا باعتبارها تواترات لتنوعات جينية في مجموعة سكانية تتغير على مر الزمن، كما يحدث ـ على سبيل المثال ـ في انتشار المقاومة الجينية لفيروس الورم المخاطي لدى الأرانب.

    في العقود التالية، أدرجت الأحياء التطورية تحديثات تتسق مع مبادئ التخليق الحديث.

    أحد هذه النماذج هي «النظرية المحايدة»، التي تبرز الأحداث العشوائية في التطور.

    على أي حال، تحتفظ نظرية التطور القياسية (SET) إلى حد كبير بالافتراضات نفسها الموجودة في التخليق الحديث الأصلي، الذي يستمر بتوجيه مسار تفكير الناس عن التطور.


    إن القصة التي ترويها نظرية التطور القياسية بسيطة: ينشأ تنوع جديد عن طريق تحوّر جيني عشوائي، يحدث التوريث عن طريق الحمض النووي، والانتقاء الطبيعي هو السبب الوحيد للتكيّف، أي العملية التي تصبح الكائنات الحية بواسطتها مناسبة تمامًا لبيئاتها.

    من وجهة النظر هذه، يكتسب تعقُّد التطور الحيوي ـ التغيُّرات الحادثة في أثناء نمو الكائن الحي وتقدمه في العمر ـ أهمية ثانوية، بل ضئيلة.

    من وجهة نظرنا، يفشل هذا التركيز «المتمحور حول الجين» في التقاط السلسلة الكاملة من العمليات التي توجه التطور.

    وتشمل الأجزاء المفقودة طريقة تأثير النمو البدني على جيل من التنوع (التحيز النمائي)، وكيف تشكّل البيئة سمات الكائنات بشكل مباشر (اللدونة)، وكيف تعدّل الكائنات الحية الأوساط البيئية (إنشاء المواضع)، وكيف تنقل الكائنات الحية ما هو أكثر من الجينات عبر الأجيال (التوريث غير الجيني). بالنسبة لنظرية التطور القياسية، تُعَدُّ هذه الظواهر مجرد نتائج للتطور، وبالنسبة للتخليق التطوري الممتد، هي أسباب أيضًا.

    تأتي نظرة ثاقبة حول أسباب التكيف وظهور السمات الجديدة من أحياء النماء التطورية («evo−devo»).

    وقد أثبتت بعض نتائجها التجريبية صعوبة دمجها واستيعابها في نظرية التطور القياسية.

    الملحوظة الشائكة بشكل خاص هي أن كثيرًا من التنوعات ليست عشوائية؛ لأن العمليات النمائية تولد أشكالًا معينة بسهولة أكبر من سواها3. فمثلًا، ضمن إحدى مجموعات الحريش (مئويات الأرجل)، ثمة عدد فردي من القطع الحاملة للأرجل في كلٍّ من الأنواع التي تربو على الألف نوع، بسبب آليات تطور الأجزاء3.

    من وجهة نظرنا، يساعد هذا المفهوم ـ التحيّز النمائي ـ على شرح طريقة تكيُّف الكائنات الحية مع بيئاتها وتنوعها إلى العديد من الأنواع المختلفة. فمثلًا، ارتباط السمك البلطي في بحيرة مالاوي بالسمك البلطي الآخر في بحيرة ملاوي أوثق من ارتباطه بالموجود في بحيرة تنجانيقا، ولكن الأنواع في كلتا البحيرتين ذات أجسام متشابهة بطريقة لافتة للنظر4. في كل حالة، بعض السمك يتميز بشفاه لحمية كبيرة، وبعضه بجبهة بارزة، والبعض الآخر بفك سفلي قصير غليظ.

    تفسر نظرية التطور القياسية متوازيات كهذه باعتبارها تطورًا متقاربًا: الظروف البيئية المتماثلة تختار تنوعات جينية عشوائية تؤدي إلى نتائج متكافئة. هذه النظرة تتطلب صدفة غير عادية لتفسير الأشكال المتوازية المتعددة التي تطورت بشكل مستقل في كل بحيرة. ثمة فرضية أكثر إيجازًا تفيد أن التحيز النمائي والانتقاء الطبيعي يعملان معًا4,5. وبدلًا من كون الانتقاء حرًّا في تخطي أي إمكانية جسدية، يتم ترشيده على امتداد طرق معينة تتيح عمليات النماء وجودها5,6.



    يحدث نوع آخر من التحيز النمائي عندما يتجاوب الأفراد مع بيئاتهم عن طريق تغيير أشكالهم، ضمن ظاهرة تسمى اللدونة.

    فمثلًا، يتغير شكل ورقة النبات وفق مياه التربة وكيميائها.

    ترى نظرية التطور القياسية هذه اللدونة باعتبارها مجرد ضبط، أو ربما ضوضاء. في حين يعُدُّها التخليق التطوري الممتد خطوة أولى معقولة في التطور التكيفي.

    وتتمثل النتيجة الرئيسة هنا في أن اللدونة لا تتيح للكائنات الحية التعامل ضمن ظروف بيئية جديدة وحسب، بل تتيح أيضًا استحداث سمات مناسبة لها تمامًا. وإذا كان الانتقاء يحافظ على المتغيرات الجينية التي تتجاوب بفعالية عند تغير الظروف، عندئذٍ يحدث التكيُّف بشكل كبير نتيجة لتراكم التنوّعات الجينية التي تثبِّت سمة ما بعد أول ظهور لها5,6. بعبارة أخرى.. كثيرًا ما تكون السمة هي التي تأتي أولاً؛ تتبعها الجينات التي تدعمها، بعد عدة أجيال أحيانًا5.

    تشير الدراسات المجراة على السمك والطيور والبرمائيات والحشرات إلى أن التكيّفات التي حدثت لأسباب بيئية بشكل رئيس، قد تشجع استيطان أوساط بيئية جديدة وتسهل ظهور أنواع جديدة5,6. ونجد بعض أفضل الأمثلة المدروسة هنا في السمك، مثل سمك أبو شوكة، وسمك شار في القطب الشمالي. فقد سبّب الاختلافُ في النظم الغذائية وظروف معيشة السمك في القاع وفي المياه المفتوحة ظهورَ أشكال متمايزة للأجسام، يبدو أنها تطوِّر تباعدًا نسليًّا، وهي مرحلة من مراحل تشكيل الأنواع الجديدة. لا يعتمد عدد الأنواع في سلالة على كيفية تذرية (غربلة) التنوّع الجيني العشوائي من خلال المناخل البيئية المختلفة. إنه يتعلّق أيضًا بالخصائص النمائية التي تسهم في «قابلية السلالة للتطور» evolvability.

    في جوهرها، تعامل نظرية التطوّر القياسية البيئةَ باعتبارها «الظروف الخلفية»، التي قد تستهدف تعديل الانتقاء أو تؤدي إليه، ولكنها بحد ذاتها لا تمثل جزءًا من العملية التطورية. إنها لا تفرّق بين الطريقة التي تكيّف بها النمل الأبيض مع التلال التي يبنيها، وكيف تكيّفت الكائنات الحية ـ مثلًا ـ مع الاندفاعات البركانية. إننا نرى هذه الحالات مختلفة جوهريًّا7.

    والاندفاعات البركانية هي أحداث ذاتية التحساس ومستقلة عن أفعال الكائنات. وعلى النقيض من ذلك، فالنمل الأبيض يبني بيوته وينظِّمها بأسلوب توجيهي قابل للتكرار، تشكّل بفعل الانتقاء الماضي ويحفّز الانتقاء المستقبلي. وبشكل مشابه، تعمل الثدييات والطيور والحشرات على الدفاع عن أعشاشها وصيانتها وتحسينها −وهي استجابات تكيّفية لبناء العش تطورت مرارًا وتكرارًا7. إن «بناء الموضع» هذا، كالتحيز النمائي، يعني أن الكائنات تشارك في إدارة تطورها الذاتي عن طريق تغيير الأوساط البيئية بشكل منهجي، فهي إذن تطبق تحيز الانتقاء7.


    الوراثة ما وراء الجينية

    لطالما قررت نظرية التطور القياسية أن آليات التوريث خارج الجينات حالات خاصة، الثقافة البشرية هي المثال الرئيس. ويقرّ التخليق التطوري الممتد صراحة بأن أوجه الشبه بين الوالدين والأبناء تعود جزئيًّا إلى الآباء الذين يعيدون بناء بيئاتهم التطورية من أجل أبنائهم.

    تشمل «الوراثة خارج الجينية» انتقال علامات لا جينية (تغيُّرات كيميائية تسبب تغيُّر تعبير الحمض النووي دون أن تغيِّر التسلسل الأساسي) تؤثر على الخصوبة، وطول العمر، ومقاومة الأمراض عبر الأصناف8.

    بالإضافة إلى ذلك.. يشمل الميراث خارج الجيني السلوك المنتقل اجتماعيًّا في الحيوانات، مثل تكسير الجوز لدى الشمبانزي، أو أنماط هجرة سمك الشعاب المرجانية8,9. وهو يشمل أيضًا تلك الهياكل والظروف المتغيرة التي تتركها الكائنات الحية لذرِّيَّاتها من خلال بناء مواضعها المناسبة −من سدود القنادس إلى التراب المعامل من قبل الديدان7,10.

    أثبتت البحوث التي أجريت خلال العقد الماضي أن توريثًا كهذا منتشر على نطاق واسع، بحيث يجب أن يكون جزءًا من نظرية عامة.

    تضع النماذج الرياضية لديناميات التطور -التي تتضمن الميراث خارج الجيني- توقعات مختلفة عن تلك التي لا تتضمنه7−9. وتساعد النماذج الشاملة على تفسير مجموعة واسعة من الظواهر المحيِّرة، كالاستعمار السريع لأمريكا الشمالية من قِبل العصفور الدوري، وقدرة النباتات الغازية ذات التنوع الجيني المنخفض على التكيُّف، وكيفية تأسيس التباعد الإنجابي. وهذه الموروثات يمكنها حتى أن تولِّد أنماطًا تطورية كبرى. على سبيل المثال.. تشير الدلائل إلى أن الإسفنج زوّد المحيط بالأكسجين، وخلق بذلك فرصًا أتاحت للكائنات الحية الأخرى العيش في قاع البحر10. تشير البيانات الأحفورية المتراكمة إلى أن التعديلات البيئية الموروثة من قبل الأنواع سهلت -مرارًا وتكرارًا، وأحيانًا بعد ملايين السنين- تطورَ أنواع ونظم بيئية جديدة10.


    معــًـا أفضل

    ترد الرؤى المقدَّمة أعلاه من مجالات مختلفة، ولكنها تتناسب معًا بتناسق يدعو للدهشة. إنها تُظهر أن التباين ليس عشوائيًّا، وأن هناك ما هو أكثر من الجينات في الوراثة، وأن هناك طرقًا متعددة للتناسب بين الكائنات الحية وبيئاتها. وهي تثبت -بدرجة كبيرة من الأهمية- أن النماء هو السبب المباشر الذي يبرر لماذا وكيف يحدث التكيّف وتنشأ الأنواع الجديدة، ومعدلات التغيُّر التطوري وأنماطه.

    تضع نظرية التطور القياسية باستمرار أطرًا لهذه الظواهر بطريقة تقلل من أهميتها. فمثلًا، يُعدُّ التحيُّز النمائي عاملاً يفرض «قيودًا» على ما يمكن للانتقاء أن يحققه –أي كعائق يفسر فقط غياب التكيُّف. على النقيض من ذلك، فإن التخليق التطوري الممتد يعترف بعمليات النماء بوصفها عنصر إبداع، يحدد أي الأشكال والميزات تتطور، ويفسّر بالتالي لماذا تمتلك الكائنات الحية صفاتها.

    يسرّع الباحثون في المجالات الممتدة من الفسيولوجيا وعلم البيئة إلى الأنثروبولوجيا سعيهم ضد الافتراضات المقيِّدة لإطار عمل نظرية التطور القياسية، دون أن يدركوا أن سواهم يفعل الشيء نفسه. إننا نعتقد أن تعدد وجهات النظر في العلم يشجع تطوير الفرضيات البديلة، ويحفز العمل التجريبي. لقد توقف التخليق التطوري الممتد عن كونه حركة احتجاج، فهو الآن إطار عمل موثوق يستلهم أعمالًا مفيدة من خلال استقدام باحثين في مجالات متنوعة تحت سقف نظري واحد لإحداث تغيير في مفاهيم الأحياء التطورية.

    *******

    لا، كل شيء على ما يرام
    النظرية تكيّف الأدلة بالتخليق المتعنت، وفق رأي جريجوري إيه. راي، وهوبي إي. هوكسترا وزملائهما.


    في أكتوبر 1881، قبل ستة أشهر فقط من وفاته، نشر تشارلز داروين كتابه الأخير، «تشكيل قوالب الخضر، عن طريق أعمال الديدان»11 (The Formation of Vegetable Mould, Through the Actions of Worms)، والذي بيع بسرعة: فقد ضمنت منشورات داروين السابقة سمعته. لقد كرّس كتابًا كاملاً لهذه المخلوقات المتواضعة، ويرجع ذلك بشكل جزئي لتجسيدها عملية تغذية راجعة مثيرة للاهتمام، فالديدان مكيّفة للانتعاش في بيئة تعدّلها بفعل نشاطها الذاتي.

    اكتسب داروين معلوماته عن ديدان الأرض من محادثاته مع المزارعين ومن تجاربه الخاصة البسيطة. كانت لديه موهبة تجميع رؤى نافذة حول العمليات التطورية ـ غالبًا بعد عدة سنوات من بيانات الرصد والتجربة ـ وقد عمل على موضوعات متباينة كالزراعة والجيولوجيا وعلم الأجنة والسلوك. ومنذ ذلك الحين اتبع التفكير التطوري نهج داروين في تركيزه على الأدلة وتوليف المعلومات من المجالات الأخرى.

    بدأ تحوُّل أساسي في التفكير التطوري خلال عشرينات القرن الماضي، عندما بدأت مجموعة من الإحصائيين وعلماء الوراثة بهدوء وضع الأسس لتحول دراماتيكي. وتُوِّج عملهم بين عامي 1936 و1947 في «التخليق الحديث»، الذي وحّد مفهوم داروين للانتقاء الطبيعي مع حقل علم الوراثة الوليد، وبدرجة أقل، مع علم الإحاثة وتصنيف الأحياء. والأهم من ذلك، أنه وضع الأسس النظرية لفهم كمّي شديد الدقة لتكيُّف الأنواع الجديدة ونشوئها، اللذَين يمثلان اثنتين من أكثر العمليات التطورية أساسية.



    في العقود التالية، عملت أجيال من علماء الأحياء التطورية على تعديل إطار عمل التخليق الحديث وتصحيحه وتوسيعه بطرق لا حصر لها. ومثل داروين، استمدوا الكثير من المجالات الأخرى. عندما حدد علماء الأحياء الجزيئية الحمض النووي كأساس مادي للوراثة وتنوع السمات، مثلًا، حفّزت اكتشافاتهم التوسعات الأساسية لنظرية النشوء والارتقاء. فمثلًا، أدى إدراك أن العديد من التغييرات الوراثية لا تأثير لها على اللياقة البدنية إلى حدوث تقدمات نظرية كبيرة في علم وراثة المجموعات. ودفع اكتشاف الحمض النووي «الأناني» لمناقشات حول الانتقاء على مستوى الجينات بدلًا من السمات. وتمثل نظرية انتقاء ذوي القربى، التي تصف كيف يجري اختيار الصفات التي تؤثر على الأقارب، توسعًا آخر12.

    مع ذلك، عدد من علماء الأحياء التطورية (انظر: «نعم، بشكل عاجل») يحاجُّ بأن النظرية قد تحجّرت منذ ذلك الحين حول المفاهيم الوراثية. وبشكل أكثر تحديدًا، هم يؤكدون أن أربع ظواهر تعدُّ عمليات تطورية مهمة: اللدونة المظهرية، وبناء الموضع، والميراث الشامل، والتحيز النمائي. لا يسعنا إلا أن نوافق.. فنحن أنفسنا ندرسها، لكننا لا نعتقد أن هذه العمليات تستحق اهتمامًا خاصًّا كهذا لتكون جديرة باسم جديد مثل «التخليق التطوري الممتد». فيما يلي نركز على ثلاثة أسباب تبرر لماذا نعتقد أن هذه الموضوعات تلقى بالفعل ما هي جديرة به في نظرية النشوء والارتقاء الحالية.


    كلمات جديدة لمفاهيم قديمة

    إن الظواهر التطورية التي دافع عنها لالاند وزملاؤه مندمجة فعلًا بشكل جيد بالفعل في الأحياء التطورية، التي لطالما قدمت معلومات مفيدة. وفي الواقع، تعود هذه المفاهيم كافة إلى داروين نفسه، كما يتضح من تحليله للتغذية الراجعة الحادثة مع تكيّف ديدان الأرض مع حياتها في التربة.

    اليوم نحن نطلق على عملية كهذه اسم ((بناء الموضع))، ولكن الاسم الجديد لا يغيِّر حقيقة أن علماء الأحياء التطورية كانوا يدرسون التغذية الراجعة بين الكائنات الحية والبيئة لمدة دامت أكثر من قرن13.

    لطالما كانت التعديلات المذهلة، مثل تلال النمل الأبيض، وسدود القنادس، وعروض طير التعريشة، من دعامات الدراسات التطورية.

    والحالات التي لا يمكن تقديرها إلا على النطاق المجهري، أو الجزيئي ليست أقل إبهارًا، مثل الفيروسات التي تجيّر الخلايا المضيفة للإنتاج و«استشعار النصاب»، وهو نوع من التفكير الجماعي للبكتيريا.

    أثارت عملية أخرى، اللدونة المظهرية، اهتمامًا كبيرًا لدى علماء الأحياء التطورية.

    فقد جرى توثيق حالات لا حصر لها تؤثر فيها البيئة مسببة اختلاف السمات −بدءًا من فكي سمك البلطي الذي يغير شكله عند تبدل مصادر الغذاء، إلى الحشرات التي تحاكي أوراق النبات البنية إذا وُلدت في موسم الجفاف، والخضراء في الموسم الرطب. وقد كشفت التطورات التكنولوجية في العقد الماضي عن درجة لا تصدق من المرونة في التعبير الجيني استجابة للظروف البيئية المتنوعة، فاتحة الباب أمام فهم أساسها المادي. كثيرًا ما نوقش الكتاب5 الذي وضعته ماري جين وست-إيبرهارد المختصة بالسلوكيات، والذي استكشف كيف يمكن للدونة أن تسبق التغيرات الجينية في أثناء فترات التكيف.

    إذن، لم يكن هناك إهمال لأي من الظواهر التي دافع عنها لالاند وزملاؤه في الأحياء التطورية. ولكنها ككل الأفكار، بحاجة إلى إثبات قيمتها في سوق النظريات شديدة الدقة، والنتائج التجريبية، والنقاشات الحاسمة. إن البروز الذي تفرضه هذه الظواهر الأربع في خطاب نظرية التطور المعاصرة يعكس قوتها التفسيرية المثبتة، وليس عدم الاهتمام.


    التوسع الحديث

    إضافة إلى ذلك، فإن الظواهر التي تهم لالاند وزملاؤه لا تتعدى أربعًا من بين العديد من الظواهر الواعدة مستقبلًا في علم الأحياء التطورية. ولدى معظم علماء الأحياء التطورية قائمة بالموضوعات التي يودون رؤيتها تُولَى مزيدًا من الاهتمام. قد يزعم البعض أن الرَّوكَبة (التفوق الجيني) -أي التفاعلات المعقدة بين المتغيرات الجينية- طالما كانت مبخوسة التقدير، ويدافع البعض الآخر عن التنوعات الجينية الخفية (الطفرات التي تؤثر فقط على السمات في ظل ظروف وراثية أو بيئية محددة)، في حين يؤكد البعض الآخر أهمية الانقراض، أو التكيّف مع تغير المناخ، أو تطور السلوك. والقائمة تطول.

    يمكننا التوقف والمجادلة فيما إذا كان هناك اهتمام «كافٍ» بأيٍّ من هذه الظواهر، أو يمكننا التشمير عن سواعدنا، والانهماك في العمل، والاكتشاف من خلال إرساء أسس النظرية وبناء سجل صلب للحالات من الدراسات التجريبية. يمكن للتأييد أن يأخذ فكرة جيدة عند هذا الحدّ فقط.

    ما يطلق لالاند وزملاؤه عليه اصطلاحًا نظرية التطور القياسية هو صورة كاريكاتورية تنظر إلى هذا المجال كجسم ساكن أحادي. وهم يرون علماء الأحياء التطورية اليوم غير مستعدين لوضع الأفكار التي تتحدى العُرف في اعتبارهم.

    إننا نرى عالمًا شديد الاختلاف. فنحن نحسب أنفسنا محظوظين للعيش والعمل في الحِقبة الأكثر إثارة وشمولية وتقدمًا للبحث التطوري منذ التخليق الحديث. وبعيدًا عن التمسك بالماضي، فإن نظرية التطور الحالية مبدعة بحيوية وتتنامى بسرعة في مجالها. يستلهم علماء الأحياء التطورية اليوم من مجالات متنوعة، كالجينوميات والطب والبيئة والذكاء الاصطناعي وعلم الروبوتات. إننا نعتقد أن داروين كان سيوافقنا.


    الجينات محورية

    أخيرًا، تخفيف ما يسخر منه لالاند وزملاؤه باعتباره رأيًا «متمحورًا حول الجين» سيقلل من التأكيد على العنصر الأكثر قابلية للتوقع، والتطبيق على نطاق واسع، والتحقق تجريبيًّا، للنظرية التطورية. التغييرات في المادة الوراثية تشكل جزءًا أساسيًّا من التكيف وتكوين الأنواع الجديدة. لقد جرى توثيق الأساس الجيني الدقيق لتعديلات لا حصر لها بطريقة مفصلة، بدءًا من مقاومة المضادات الحيوية في البكتيريا إلى التلون التمويهي في الفأر الغزال، وصولاً إلى تحمُّل اللاكتوز لدى البشر.

    رغم أن التغيرات الجينية مطلوبة من أجل التكيُّف، إلا أنه يمكن للعمليات غير الجينية أن تؤدي أحيانًا دورًا في كيفية تطور الكائنات الحية. إن لالاند وزملاؤه محقّون في أن اللدونة المظهرية، مثلًا، يمكن أن تسهم في التكيف الفردي. من الممكن أن تتجه الشتلات نحو الضوء الأكثر سطوعًا؛ لكي تنمو وتصبح شجرة ذات شكل مختلف عن أترابها. لقد أظهرت العديد من الدراسات أن هذا النوع من اللدونة مفيد، وأنه يستطيع أن يتطور بسهولة إذا كان هناك تباين وراثي في الاستجابة14. هذا الدور للدونة في التغيُّر التطوري موثَّق بشكل جيد جدًّا، بحيث لا يحتاج معها إلى دفاع خاص.

    أما إذا كانت اللدونة تستطيع أن «تقود» التنوُّع الجيني في أثناء التكيف فهو أمر أقل وضوحًا بكثير. قبل أكثر من نصف قرن، وصف المختص بالأحياء النمائية كونراد وادينجتون عملية أطلق عليها اسم الاستيعاب الجيني15. هنا، يمكن للطفرات الجديدة في بعض الأحيان تحويل سمة لدنة إلى أخرى تتطور حتى بدون الظروف البيئية المحددة التي حرضت على وجودها أصلًا. وقد جرى توثيق عدة حالات خارج المختبر. على أي حال، إذا كان هذا عائدًا إلى غياب الاهتمام الجدي، أو كان يعكس ندرة حقيقية في الطبيعة، فهو أمر لا يمكن الإجابة عليه إلا بالمزيد من الدراسة.

    إن عدم كفاية الأدلة يجعل من الصعب أيضًا تقييم الدور الذي قد يلعبه التحيُّز النمائي في تطور (أو غياب تطور) السمات التكيفية. العمليات النمائية -استنادًا إلى ملامح الجينوم التي قد تكون نوعية لمجموعة معينة من الكائنات الحية- يمكنها بالتأكيد أن تؤثر على مجموعة من السمات التي قد يعمل الانتقاء الطبيعي عليها، ولكن ما يهم في نهاية المطاف ليس مدى تباين السمات، ولا حتى أسبابها الآلية الدقيقة، بل الاختلافات القابلة للتوريث من السمات، خاصة تلك التي تسبغ بعض المزايا الانتقائية. بالمثل، يتوفر القليل من الأدلة عن دور التعديل اللاجيني الموروث (جزء مما كان يسمى «الميراث الشامل») في التكيّف: إننا لا نعرف حالة، أظهرت سمة جديدة ذات أساس لا جيني تمامًا، منفصلة بالكامل عن تسلسل الجين. في كلا الموضوعين، سيكون إجراء مزيد من البحوث قيّمًا.

    كل الظواهر الأربع التي يسوقها لالاند وزملاؤه هي ’إضافات‘ إلى العمليات الأساسية المفضية إلى التغيُّر التطوري: الانتقاء الطبيعي، والانحراف، والطفرة، وإعادة التركيب، والتدفق الجيني. إن أيّ إضافة من هذه الإضافات ليست ضروريّة للتطور، ولكنها تستطيع تغيير العملية في ظل ظروف معينة. لهذا السبب.. هي تستحق أن تُدرَس بعناية.

    إننا نوجه دعوة إلى لالاند وزملائه للانضمام إلينا في إطار أكثر اتساعًا، بدلًا من تخيُّل تقسيمات لا وجود لها. إننا نقدِّر أفكارهم باعتبارها جزءًا مهمًّا مما قد تؤول إليه نظرية التطور في المستقبل. كما أننا نريد بدورنا تخليقًا تطوُّريًّا ممتدًّا، ولكن بالنسبة لنا، تبقى هذه الكلمات صغيرة لأن هذه كانت هي الطريقة التي تقدم بها مجالنا دائمًا16.

    إن أفضل طريقة لإعلاء شأن الظواهر المثيرة للاهتمام حقًّا كاللدونة المظهرية، والميراث الشامل، وبناء الموضع، والتحيز النمائي (والكثير الكثير غيرها)، هي تعزيز الدليل على أهميتها.

    وقبل ادعاء أن ديدان الأرض «أدت دورًا أكثر أهمية في تاريخ العالم مما افترضه معظم الناس في البداية»11، كان داروين قد جمع بيانات أكثر من 40 عامًا. وحتى في ذلك الوقت، فقد نشرها فقط خشية «الانضمام إليها» عما قريب17.

    References
    Pigliucci, M. & Müller, G. B. Evolution: The Extended Synthesis (MIT Press, 2010).

    Noble, D. et al. J. Physiol. 592, 2237–2244 (2014).

    Arthur, W. Biased Embryos and Evolution (Cambridge Univ. Press, 2004).

    Brakefield, P. M. Trends Ecol. Evol. 21, 362–368 (2006).

    West-Eberhard, M. J. Developmental Plasticity and Evolution (Oxford Univ. Press, 2003).

    Pfennig, D. W. et al. Trends Ecol. Evol. 25, 459–467 (2010).

    Odling-Smee, F. J., Laland, K. N. & Feldman, M. W. Niche Construction: The Neglected Process in Evolution (Princeton Univ. Press, 2003).

    Hoppitt, W. & Laland, K. N. Social Learning: An Introduction to Mechanisms, Methods, and Models (Princeton Univ. Press, 2013).

    Erwin, D. H. & Valentine J. W. The Cambrian Explosion: The Construction of Animal Biodiversity (Roberts, 2013).

    Darwin, C. The Formation of Vegetable Mould, Through the Actions of Worms (John Murray, 1881).

    Alcock, J. The Triumph of Sociobiology (Oxford Univ. Press, 2001).

    Bailey, N. W. Trends Ecol. Evol. 27, 561–569 (2012).

    Wada, H. & Sewall, K. B. Integ. Comp. Biol. http://dx.doi.org/10.1093/icb/icu097 (2014).

    Waddington, C. H. Nature 150, 563–565 (1942).

    Callebaut, W. in Evolution: The Extended Synthesis (Pigliucci, M. & Müller, G. B. eds) 443–482 (MIT Press, 2010).

    Browne, J. Charles Darwin: The Power of Place Vol. II 479 (Jonathan Cape, 2003).

    Jablonka, E. & Lamb, M. Evolution in Four Dimensions: Genetic, Epigenetic, Behavioral, and Symbolic Variation in the History of Life (MIT Press, 2014).
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار
Working...
X
😀
🥰
🤢
😎
😡
👍
👎