(1)
الجزاء من جنس العمل
ما زِلتُ أذكُر ذلك اليوم، كنتُ بانتظار أخ وصديق حبيب، فخرجتُ إلى الشارع أنتظِر مَقدِمه، ووقَعت أمامي أحداث هذه القصة:
البداية كانت بمَقدِم مجموعةٍ من الشباب، جلَسوا على قارِعة الطريق، وكل منهم يحكي عن بطولاته المُخزية والمشينة، فقال أحدهم: هل تعرِفون فلانة؟! هي صديقتي، وأتَّصِل عليها وتتَّصل عليَّ مرات عديدة في الليل والنَّهار عبر الجوال، وبدأ كل منهم بالحديث عن أمور مُشابِهةٍ، وبعد فترة أنهى الشبابُ حديثَهم، ثم ترَكوا المكان ورحلوا.
بعدها بدقائق جاءت مجموعة أخرى من الشباب، جلَس أحدُهم في نفْس مكان صاحبنا الأوَّل، وقال أحدهم مُتسائلاً: هل هذا فلان؟
نعم، إنَّه هو، هل تعلمون أن شقيقتَه هي صديقتي، وأنا وهي على اتِّصال في الليل والنهار عبر الجوال؟!
قلتُ: سبحان الله، حقًّا "الجزاء من جِنس العمل"، وعليهم تنطَبِق القصة "دقَّة بدقة ولو زدت لزاد السقا".
نعم، "دقة بدقة ولو زِدتَ لزاد السَّقا"، تلك القصةُ التي كثيرًا ما تردَّدتْ على مسامِعنا لنأخذ منها العِبر والدروس، كان يحكيها لنا الأهلُ في البيت، والشيخُ في الجامع.
هذه القصة وردتْ في كثيرٍ من الكتب، وقد وقَفتُ عليها في كتاب "عدالة السماء"؛ للواء الركن محمود شيت خطاب - رحمه الله - وقد سرَدها بأسلوب قَصصي رائع.
وإليك القصة:
كان تاجرًا كبيرًا، وكانتْ تِجارته بين العراق وسوريا، يَبيع الحبوب في سوريا، ويستورِد منها الصابون والأقمشة، وكان رجلاً مُستقيمًا في خُلُقه، يظهر عليه التديُّن، يُزكِّي ماله، ويُغدِق على الفقراء مما أفاء الله به عليه من خير، وكان يقضي حاجات الناس، لا يكاد يردُّ سائلاً، وكان يقول: "زكاة المال من المال، وزكاة الجاه قضاء الحاجات"، وكان يعود مرضى محلته، ويتفقَّدهم كل يوم تقريبًا، وكان يصلِّي العشاء في مسجد صغير قُرب داره، فلا يتخلَّف عن الصلاة أحدٌ مِن جيرانه إلا ويسأل عنه، فإذا كان مريضًا عادَهُ، وإذا كان مُحتاجًا إلى المال أعطاه من ماله، وإذا كان مُسافرًا خلَفه في عياله، وكان له ولدٌ وابنةٌ واحدة بلَغا عمرَ الشباب.
وفي يوم مِنَ الأيام سأل ولدَه الوحيد أن يُسافِر إلى سوريا بتِجارته قائلاً له:
"لقد كبرتُ يا ولدي، فلا أقوى على السَّفر، وقد أصبحتَ رجلاً والحمد لله، فسافِر على بركة الله مع قافلة الحبوب إلى حلب، فبِع ما معك، واشترِ بها صابونًا وقماشًا ثم عُد إلينا، وأوصيكَ بتقوى الله، وأطلب منك أن تُحافِظ على شرَف أختِك".
وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأُولى، يوم لم يكن حينذئذٍ قطاراتٌ ولا سياراتٌ.
وسافَر الشابُّ بتجارة أبيه من مرحلة إلى مرحلة، يسهَر على إدارة القافلة، ويحرِص على حماية ماله، ويقوم على رجاله، وفي حلب الشَّهْباء، باع حبوبه، واشترى بثمنِها مِن صابونها المتميِّز، وقماشها الفاخر، ثم تجهَّز للعودة إلى إدراجه؛ الموصل الحدباء.
وفي يوم من الأيام قبيل عودته مِن حلب، رأى شابَّة جميلة تخطر بغلالة من اللاذ[1]،في طريقٍ مُقفِرٍ بعد غروب الشمس، فراودتْه نفْسه الأمَّارة بالسوء على تقبيلها، وسَرعان ما اختطَف منها قُبلة ثم هرب على وجهه، وهربت الفتاة، وما كاد يستقرُّ به المقام في مستقرِّه إلا وأخذ يؤنِّب نفْسه، وندِم على فعلته - ولات حين مَندَم.
وكتَم أمره عن أصحابه، ولم يبحْ بسرِّه لأحد، وبعد أيام عاد إلى بلده وكان والده يُطِل منها على حوش الدار، حين طرَق البابَ السَّقا، فهرعت ابنته إلى الباب تفتحه، وحمَل السقاء قربته وصبَّها في الحب[2]،وأخت الفتى تنتظِره على الباب لتُغلِقه بعد مغادرة السقاء الدار، وعاد السقاء بقربته الفارغة، فلما مَرَّ بالفتاة قبَّلها، ثم هرب لا يلوي على شيء.
ولَمح أبوها من نافذة غرفته ما حدَث، فردَّد من صميم قلبه:
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، ولم يقل الأب شيئًا، ولم تقُل الفتاةُ شيئًا.
وعاد السقا في اليوم الثاني إلى دار الرجل كالمُعتاد، وكان مُطأطئ الرأس خجَلاً، وفتحتْ له الفتاة الباب، ولكنه لَم يعُد إلى فعلته مرة أخرى.
لقد كان هذا السقاء يزوِّد الدار بالماء منذ سنين طويلة، كما كان يزوِّد المحلة كلها بالماء، ولم يكنْ في يوم من الأيام موضِعَ ريبة، ولم يحدُث له أن نظَر إلى محارم الناس نظرةَ سوء، وكان في العِقد الخامس من عمره، وقد ولَّى عنه عهد الشباب، وما قد يَصحبه من تهوُّر وطيش وغرور، وقدِم الفتى إلى الموصِل، موفور الصحة، وافِر المال، ولم يفرَح والده بالصحة وبالمال، لم يسأل ولده عن تِجارته ولا عن سفره، ولا عن أصحابه التُّجار في حلب.
لقد سأل ولده أول ما سأله: ماذا فعلتَ منذ غادَرت الموصل إلى أن عُدت إليها؟
وابتدأ الفتى يسرُد قصة تِجارته، فقاطَعه أبوه متسائلاً: (هل قبَّلت فتاة؟! ومتى وأين؟)، فسقط في يد الشاب[3]،ثم أنكر، واحْمَّر وجه الفتى وتلعثَم، وأطرَق برأسه إلى الأرض في صمتٍ مُطلَق كأنه صخرة من صخور الجبال، لا يتحرَّك ولا يَريم[4].
ساد الصمت فترة قصيرة من عُمر الزمن، ولكنه كان كالدهر طولاً وعَرضًا.
وأخيرًا، قال أبوه: لقد أوصيتُك أن تصونَ عِرض أُختك في سفرك، ولكنك لَم تفعل.
وقصَّ عليه قصة أخته، وكيف قبَّلها السقاء، فلا بدَّ أنَّ هذه القُبلة بتلك وفاء لدَينٍ عليك، وانهار الفتى واعترَف بالحقيقة.
وقال أبوه مُشفِقًا عليه وعلى أخته وعلى نفْسه: "إني لأعلم أنني لم أكشِف ذيلي في حرام، وكنتُ أصون عِرضي حين كنت أصون أعراض الناس، ولا أذكُر أن لي خيانةً في عِرض أو سقْطة مِن فاحشة، وأرجو ألا أكون مَدينًا لله بشيء من ذلك، وحين قبَّل السَّقاء أختك تيقَّنتُ أنك قبَّلت فتاة ما، فأدَّت أختك عنك دينكَ، لقد كانت "دقة بدقَّة، وإن زدتَ لزاد السقا"[5]!!
ورحِم الله القائل:
يا هاتِكًا حُرُمَ الرِّجالِ وقاطِعًا
سُبُلَ المودَّة عِشتَ غيرَ مُكرَّمِ
لوكنتَ حرًّا مِن سُلالة ماجدٍ
ما كنتَ هتَّاكًا لِحُرْمة مُسْلِمِ
مَن يَزنِ يُزنَ به ولو بِجِدارهِ
إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافَْهمِ
مَنْ يَزْنِ في بيتٍ بألفَي درهمٍ
فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ
الجزاء من جِنس العمل: هي قاعدة أصوليَّة، احتوتْها كثيرٌ من كتُب الفقهاء الأصوليِّين، دعنا نتعرَّف وإياك على هذه القراءة بشكل موجَز، فتكرَّم بمواصلة القراءة مشكورًا مأجورًا.
هذه القاعدةُ مُطرِدة شرعًا وقدَرًا؛ فإنَّ الله تعالى يُجازي العبد مِن جنس عمَله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما فَطَر عباده على أن حُكْم الشيء حُكْم مثله، وحُكم النظير حكم نظيره.
أمثلة على القاعدة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة:
1- أشار القرآن الكريم إلى "قاعدة الجزاء من جِنس العمل" في أكثر من مائة موضِع، نذكُر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
أ- قوله تعالى: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26].
ب- قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
ج- قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124- 126]،ه - في تفسير هذه الآية: "هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جُوزي من جنس عمله، فإنه لما أعرَض عن الذِّكر الذي بعَث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعُمِيت عنه بصيرته، أعمى الله بصرَه يوم القيامة، وترَكه في العذاب كما ترَك الذكر في الدنيا، فجازاه على عَمى بصره في الآخرة وعلى ترْكه العذاب
2- ومن السنة النبوية: حدَّثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قالوا: حدَّثنا إسماعيل - وهو ابن جعفر - عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى عليَّ واحدة، صلَّى الله عليه عشرًا))[12].
Comment