ما هي كوكبة الجبار او ما يدعى "راعي الجنة المخلص" عند السومريين ؟
كوكبة الجبار أو كما كانت تعرف قديماً الجوزاء (باللاتينية: Orion) هي واحدة من كوكبات السماء الحديثة الثمانية والثمانين، وإحدى أشهر الكوكبات في الثقافات الإنسانية القديمة وأكثرها رواجاً بين هواة الفلك. كوكبة الجبار هي واحدةٌ من أشهر الكوكبات السماوية لوضوحها الكبير وشدَّة لمعان معظم نجومها، ويجعل ذلك تمييزها سهلاً حتى في حال وجود تلوث ضوئي عالٍ، كما أنَّ هيئتها - التي تخيَّلها الناس منذ القدم - واضحةٌ كثيراً كمحارب يقف حاملاً سلاحه وعلى خصره حزام من ثلاثة نجوم. وتشمل الكوكبة أيضاً عدداً من الأجرام الهامة والمعروفة، من أبرزها سديم الجبار - أحد أشهر سدم السماء - وسديم رأس الحصان وسديم اللهب، بالإضافة إلى نجمي رجل الجبار (سادس ألمع نجوم السماء جميعاً) ومنكب الجوزاء (الثامن).
لا تعد الجبار بين كوكبات نصف الكرة الشمالي ولا الجنوبي، بل هي تُعتبر من كوكبات خط الاستواء السماوي، حيث أن جزءاً متساوياً تقريباً منها يقع على جانبي خط الاستواء، ومن ثم فيُمكن رؤية نصف منها من كلا القطبين الجنوبي والشمالي، ويُمكن رؤيتها بكاملها من دوائر عرض عالية نسبياً نتيجة لهذا (لكنها تكون قريبة من الأفق).
نسج القدماء - خصوصاً العرب والإغريق وغيرهم - الكثير من الأساطير المختلفة حول كوكبة الجبار، فتخيَّلوها على هيئة إنسانٍ واقفٍ يحمل في إحدى يديه ترساً وبالأخرى هراوة يقاتل بها الثور المتمثّل بكوكبة الثور، ووراءه كلباه: الكلب الأصغر والكلب الأكبر، كما أن هناك أساطيراً عدَّة تصف حادثة مقتله وعلاقتها بكوكبة العقرب.
وقد رسم القدماء بالنُّجوم الكثير من التفاصيل للكوكبة، فجعلوا النجوم الثلاثة الأفقية في وسطها حزاماً، والثلاثة العامودية تحتها سيفاً، وأما قوس النجوم على يمين الكوكبة فهو القوس أو الترس الذي يحمله المحارب
الأساطير القديمة
بلاد الرافدين
أطلق على الجبار في السجلات البابلية القديمة العائدة إلى العصر البرونزي المتأخر اسم "مول سيبا زيانا"، الذي يعني "راعي آنو الحقيقي" أو "راعي الجنة المخلص"، حيث أن "آنو" هو إله الجنة باعتقاد قدماء البابليين، وهذا هو الاسم الذي عُرِفَت به الكوكبة في مجمل بلاد ما بين النهرين القديمة، شاملةً سومر وأكاد وبابل. ولاحقاً أصبحت تعرف عند الأكاديِّين باسم "سيتادالو"، حيث تعني "سيتا" السلاح، و"آلو" الثور (كوكبة الثور) الواقع إلى يمين كوكبة الجبار مباشرةً، وقد يعني ذلك ربطاً بين الجبار والثور في اسم "صاحب السلاح المُوجَّه إلى الثور". إلا أن اسم "مول سيبا زيانا" أو "راعي آنو" ظلَّ الاسم السائد لكوكبة الجبار في المنطقة لقرابة ألفي عام، حتى عهد الإمبراطورية البابلية الحديثة في منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد.
كانت للسومريين أسطورتهم الخاصَّة حول الجبار، وهي أسطورة جلجامش. بحسب الأسطورة، فإنَّ ملكهم جلجامش - ممثلاً بكوكبة الجبار - يقاتل في معركة ملحمية ثور السماء - ممثلاً بالثور -، وكانوا يطلقون عليه اسم "أورو أن-نا" أي "ضوء السماء"، وأما الثور فقد سمُّوه "غود أن-نا" أي "ثور السماء".
عند الأرمن يُمثِّل الجبار الرجل المعروف باسم "هايك"، وهو بطل أسطوري قديم، كان بحسب الميثولوجيا الأرمنية مؤسس مملكة الأرمن الأولى في الألفية الثالثة قبل الميلاد. كلمة "هايك" تعني "العملاق"، وبطريقةٍ ما أصبح هايك مرتبطاً بالأسطورة الإغريقية حول الجبار. ومن المحتمل أيضاً أن هايك ليست بالواقع إلا الترجمة الأرمنية لاسم "أورايون" الإغريقي الوارد في الأساطير اليونانية.
آسيا القديمة
يذكر الكتاب المقدس الجبار ثلاث مرات باسم "كيسل" (بالعبرية: כסיל)، التي تعني حرفياً "الأحمق"، إلا أن أصل الاسم قد يكون جاء في الواقع من "كيسلف"، اسم الشهر التاسع في التقويم اليهودي. أول ذكر له هو في 9:9 سفر أيوب: «صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ»، والثاني في 38:31 سفر أيوب أيضاً: «هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟»،] والثالث في 5:8 سفر عامسو: «الَّذِي صَنَعَ الثُّرَيَّا وَالْجَبَّارَ وَيُحَوِّلُ ظِلَّ الْمَوْتِ صُبْحاً وَيُظْلِمُ النَّهَارَ كَاللَّيْلِ».
وخلال الألفية الثانية قبل الميلاد كانت لدى شعب الحيثيين في تركيا أساطيرهم الخاصة حول الجبار، حيث كان يُمثِّل عندهم صياداً أسطورياً معروفاً اسمه أقهات. وقد أحبته إلهة الحرب أنات، فطلبت منه إعطاءها قوسه، إلا أنه رفض ذلك، فأرسلت من يسرقه لها، إلا أن الرجل الذي أرسلته أساء فهم المهمة المطلوبة منه، فقتل أقهات ورمى قوسه في البحر. ولهذا السبب - بحسب الأسطورة - تغيب كوكبة الجبار تحت الأفق لشهرين كل سنة خلال فصل الربيع.
كانت كوكبة الجبار واحدةً من 28 منزلاً للقمر في علم الفلك الصيني القديم، كان يسمى الواحد منها "سِيْو". وقد كانوا يُطلقون على الكوكبة اسم "شن" الذي يعني الثلاثة، وربَّما كان ذلك إشارةً إلى حزام الجبار. وقد كان يعني المقطع الصيني 參 (بينيين: شين) بالأصل كوكبة الجبار، حيث كان شكله المستعمل في عهد مملكة شانغ قبل ثلاثة آلاف سنة يمثّل نجوم حزام الجبار الثلاثة فوق رأس رجل.
يُسمِّي الريجفدا كوكبة الجبار "مريغا"، التي تعني بلغته حيوان الأيل.
كان لكوكبة الجبار وجودٌ كبيرٌ في علم الفلك الياباني القديم، وخصوصاً حزامه الذي استرعى اهتمام الفلكيّين بشكلٍ خاص، حيث كان له تأثير عظيم على الثقافة اليابانية، وكان يُطلَق عليه "ميتسو بوشي". وتسمى الكوكبة في اليابان اليوم على الأغلب "تسوزومي بوشي"، والتسوزومي هي طبلة يابانية، حيث تخيَّل اليابانيون أن نجمي منكب الجوزاء والمرزم يشكّلان أحد وتريها فيما يشكّل نجما رجل الجبار وسيف وترها الآخر، وأما نجوم الحزام فهي الرّباط المستخدم لشدّ الوترين إلى الوسط.
مصر القديمة
كان يرى المصريون القدماء الجبار على أنه يمثل إلههم أوزيريس.
كان يعرف الجبار في مصر القديمة باسم "ساهو" أو "ساه". كان يُمثِّل الجبار في الأساطير والميثولوجيا المصرية القديمة صورة إله الموت والحياة الثانية أوزيريس، الذي كان يظهر دائماً في رسومات قدماء المصريّين كرجلٍ يحمل على رأسه تاج مصر الأبيض، ويقع هذا التاج بحسب الميثولوجيا مباشرةً فوق ذراع الجبار اليسرى حيث يمثّل كوكبة الثور، وتبدو ذراعا الجبار مرفوعتين كأنه يضع التاج فوق رأسه. وقد تخيَّل المصريون كوكبة الأرنب على أنها عرشٌ كبيرٌ يجلس عليه، وكان اسمها "كرسي الجبار".
كما مثَّلَ الجبار عند بعض المصريّين القدماء فرعوناً من الأسرة الخامسة اسمه أوناس، كان بحسب نصوص الأهرام يكتسب قوَّته عن طريق قتل أعدائه وأكل لحمهم، بل والآلهة نفسها، حيث كان هناك اعتقاد في الأساطير المصرية بأن أكل لحم العظماء ينقل قوَّتهم. وبعد أن اكتسب أوناس هذه القوة أصبح يبحر عبر سماء النهار والمساء، ليُصبِحَ "ساهو" أو الجبار.
تفيد إحدى النظريات بأنَّ الأهرامات المصرية بُنِيت على نسق نجوم حزام الجبار الثلاثة من حيث المواقع (نسبةً إلى المسافات بين نجوم الحزم) والحجم (نسبةً إلى لمعان النجوم).
الإغريق والرومان
الجبار كما تخيَّله قدماء الإغريق.
اشتقَّ اسم كوكبة الجبار اللاتيني "أورايون" من الميثولوجيا الإغريقية القديمة، التي تُصوِّر الجبار كصيَّادٍ بدائيّ عملاق. تقول الأسطورة أن الجبار كان ابن بوسيدون إله البحر ويوريل ابنة مينوس ملك كريت. وقد منح بوسيدون بحسب الأساطير الجبار القدرة للسير على الماء. تُصوِّر الأوديسة الجبار كصياد عملاق يحمل في يده اليمنى هراوة هائلة وفي اليسرى سيفاً برونزياً.
تربط الأساطير الإغريقية القديمة الجبار بالثريا (الشقيقات السبع)، فبحسب الأسطورة أصبح الجبار يلاحق شقيقات الثريا ووالدتهن دائماً عبر السماء، ويأتي هذا التخيل من حقيقة أن كوكبة الجبار تشرق وتغرب بعد الثريا، فيبدو وكأنها في مطاردة دائمةٍ مع عنقود الثريا بالسماء. ومن باب الرحمة بشقيقات الثريا قام الإله زيوس بعد رجاءٍ من أرتميس بتحويلهنَّ إلى سرب من الحمام، حيث تمكنوا من الهروب من الجبار والطيران إلى السماء،وبعد هذه الحادثة غضبت أرتميس لأنها كانت صديقة للثريا، فقامت بقتل الجبار (مع أن هناك عدة روايات لطريقة موته). وبعد قتله وضعته في السماء بجانب الثريا، حيث ما زال يلاحق الشقيقات السبع المُلاحقة الأبدية.
بحسب روايةٍ أخرى عن موت الجبار، كانت جونو زوجة الإله جوبيتر (المشتري) تكره الرجال المتبجّحين. وقد كان الجبار مغتراً بنفسه، فكان يتغنَّى دائماً بأنه ما من حيوانٍ على وجه الأرض يمكنه إيذاؤه، فقرَّرت أن تلقّنه درساً. قامت جونو بوضع عقرب على الطريق الذي يسلكه الجبار كل يوم للصَّيد، فلدغه العقرب وقتله. وبعد موته، قامت صديقته ديانا إلهة القمر بوضعه في السَّماء تخليداً لذكراه، مع كلبي صيده المخلصين، اللذين أصبحا كوكبتي الكلب الأكبر والأصغر اللَّتين تقعان خلف الجبار مباشرة، إلا أن جونو أصرَّت بالمقابل أن تخلّد ذكرى العقرب أيضاً، فوضعته هو الآخر في السماء، إلا أن جوبيتر لم يقبل بوضع العدوَّين اللدودين - الجبار والعقرب - بجانب بعضهما البعض، بل وضع كلاً منهما على جانبٍ من السماء. وفعلاً، لا تشرق إحدى كوكبتي الجبار والعقرب إلا مع غروب الأخرى، ولا يمكن رؤيتهما في السماء في آن واحد.
العرب
رسم الفلكي عبد الرحمن الصوفي للكوكبة في كتابه صور الكواكب الثمانية والأربعين.
عرف قدماء العرب كوكبة الجبار باسم كوكبة الجوزاء، وقد ذكر الراجز أنَّها كانت تسمى بين العامة الميزان، وهو اسم لم يرد ذكره عند ابن قتيبة والمرزوقي، بينما أشار سليمان المهري إلى الكوكبة به في كتابه "العمدة المهرية"، حيث قال: «الجوزان تُسمَّى الميزان والنظم» (وقد يكون استبدال النون بهمزة "الجوزاء" مجرَّد خطأٍ من ناسخ المخطوطة). كما وتُسمَّى الكوكبة اليوم في نجران وما حولها من مناطق جنوب شبه الجزيرة العربية "المشبح" نسبةً إلى نجوم حزام الجبار التي شبَّهُوهَا بعقد المشبحة. وقد شملت كوكبة الجوزاء القديمة بحسب تصور العرب معظم كوكبة الجبار الحالية بالإضافة إلى جزءٍ من كوكبة التوأمين الحديثة.
وقد جاء ذكر الجوزاء كواحدة من كوكبات السماء العربية الثمانية والأربعين في كتاب عبد الرحمن بن عمر الصوفي المُسمَّى صور الكواكب الثمانية والأربعين، وقد أوردها تحت اسمي الجبار والجوزاء، وقال في بداية وصفها:
«كوكبة الجبار وهو الجوزا: وكواكبه ثمانية وثلاثون كوكباً من الصورة، وهي صورة رجل قائم في ناحية الجنوب عن طريقة الشمس أشبه شيءٍ بصورة الإنسان، وله رأسٌ ومنكِبان ويدان ورجلان، وسُمِّي الجبار لأنه على كرسيَّين وبيده عصا على وسطه سيف، والأول من كواكبه هو السحابي الذي على موضع الرأس، وهو ثلاثة كواكب صغارٌ متقاربةٌ على مثلَّثٍ صغير، أقام بطليموس وسط المثلث مقام كوكبٍ ووضع طوله وعرضه في الكتاب، وهو على الرأس بين المنكبين يميل عنهما إلى الشمال وهو إلى المنكب الأيسر أقرب.»
وقد قال في الكوكبة ابنه "أبو علي حسين بن الصوفي" في كتاب الأرجوزة شعر:
تتبعها كواكب الجبار وهي التي تعرف في الأمصار
بين العوام أنها الميزان يعرفها الرجال والصبيان
وربما سمي بالجوزاء كواكب تشرق في الظلماء
كواكب منيرة مشهورة خلالهن أنجم صغيرة
خبرني من لم يدن بالبين بأنها والنجم كالنجمين
منها نجوم جمعت في بقعة ثلاثة قد لقبت بالهقعة
ماإن يرى مثل لهن في السما يتبعن في مطلعهن أنجما
منظومة من هذه الكواكب تعرف بالتاج وبالذوايب
كان رأس الجبار (نجوم "الهقعة" الثلاث) أحد منازل القمر عند العرب القدماء.
كما كان العرب يقولون عن الجوزاء (الجبار) أنها تردف الثريا، حيث أن "رَدْف" جرم لجرم آخر تَعني أن الأول أصبح "رَدفاً" للثاني، أي أصبح خلفه. وكان العرب يقولون: «إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثريّا»، وذلك لأَن الجَوْزاء دائماً خَلْف الثريا كالرِّدْف.
وقد سمى العرب القدماء أغلب نجوم كوكبة الجبار بأسماء مختلفة ومتنوّعة مستمدَّة من ثقافتهم، وقد تخيلوا أيضاً عدداً من المجموعات المتفرّعة منها (بعضها مذكور في فقرة التقسيمات الفرعية أعلاه)، ونسجوا حولها القصص والحكايات التي تداولوها فيما بينهم، كما وضعوا عنها الكثير الجزيل من الأشعار والقصائد.
Comment