السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليما كثيرا
بسم الله الرحمن الرحيم
الربذة
منطقة صحراوية بين مكّة و المدينة ، هي منطقة جرداء لا يسكنها أحد . و لكن في عام 30 هجرية ، كانت هناك خيمة وحيدة . في داخل الخيمة شيخٌ كبير و امرأة عجوز هي زوجته و ابنتهما .
لماذا جاء الشيخ إلى هذه المنطقة البعيدة في وسط الصحراء ؟
انّه لم يأت بإرادته ، لقد نفاه الخليفة ليموت في تلك الصحراء .
كان الشيخ مريضاً ، و كانت زوجته تبكي فقال لها :
ـ لماذا البكاء يا اُم ذر ؟
قالت العجوز :
ـ كيف لا أبكي و أنت تموت في هذه الصحراء .
قال الشيخ :
ـ كنت مع بعض أصحابي جالسين مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لنا : سيموت أحدكم في الصحراء و سيحضر موته جماعة من المؤمنين . لقد توفي كلّ أصحابي عند أهلهم و لم يبق سواي ، سوف يأتي مَن يساعدك .
قالت العجوز :
ـ لقد مضى موسم الحجّ و هذه الصحراء لا يمرّ بها أحد .
قال الشيخ :
ـ لا عليك اصعدي التلّ و انظري إلى طريق القوافل .
صعدت المرأة التلّ و راحت تنظر إلى طريق القوافل .
مرّ وقت طويل ، فشاهدت من بعيد قافلة قادمة .
لوّحت المرأة بقطعة قماش للقافلة ، و تعجّب المسافرون و تساءلوا مَن تكون هذه المرأة الوحيدة في الصحراء ؟!
فجاءوا اليها . سألوها عن شأنها فقالت :
ـ ان زوجي يموت و ليس قربه أحد .
و مَن هو زوجك ؟
فقالت المرأة و هي تبكي :
ـ أبو ذرّ صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
و تعجّب أهل القافلة فقالوا :
ـ أبو ذر صاحب النبي ؟! هيا بنا إليه .
و ذهب الرجال إلى الخيمة ، و عندما دخلوها وجدوا أبا ذر في فراشه . و قال الرجل :
السلام عليك يا صاحب رسول الله .
فقال أبو ذر بصوت ضعيف :
ـ و عليكم السلام مَن أنت ؟
قال الرجل :
ـ مالك بن الحارث الأشتر و معي رجال من أهل العراق ، نريد الذهاب إلى المدينة لنشتكي إلى الخليفة ما يحلّ بنا من الظلم .
ابتسم أبو ذر و قال :
ـ ابشروا يا إخواني لقد أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأنني سأموت في الصحراء ، و سيحضر وفاتي رجال مؤمنون .
فرح مالك و من معه بهذه البشرى النبويّة و جلسوا في خيمة أبي ذر ، و كان مالك الأشتر حزيناً من أجل الصحابي الجليل أبي ذر و ما حلَّ به على أيدي بني اُميّة .
الأشتر
ينتمي مالك بن الحارث النخعي إلى قبيلة يمنية عريقة ، أسلم في عهد النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و كان من المخلصين في ايمانه و إسلامه .
اشترك في معركة اليرموك و قاتل ببسالة فريدة ، و كانت له مواقف شجاعة في صدّ هجمات الروم على الجيش الإسلامي فشترت عينه بالسيف أي انشق جفنها السفلي و لذلك عُرِفَ بالأشتر .
في عام ثلاثين للهجره كان المسلمون في مدينة الكوفة و غيرها من المدن الإسلامية غاضبين من تصرّفات الولاة .
فمثلاً كان " الوليد بن عقبة " و هو أخو الخليفة عثمان حاكماً على الكوفة و كانت تصرفاته منافية للإسلام و الدين ، فهو يشرب الخمر ، و يقضي وقته في مجالس الغناء و اللهو .
ذات يوم جاء الوليد إلى المسجد سكران و صلّى بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات ، ثم التفت إلى المصلّين و قال مستهزئاً :
ـ أتريدون أن أزيدكم ؟
كان الناس غير راضين عن سيرته و كانوا ينتقدونه في الأسواق و البيوت و المساجد .
كانوا يتساءلون قائلين :
ـ ألم يجد الخليفة شخصاً غير هذا الفاسق لكي يجعله والياً ؟!
ـ انّه يعتدي على حرمات الدين و المسلمين .
لهذا فكّروا بطريقة للحلّ ، فوجدوا ان أفضل طريق هو أن يستشيروا أهل التقوى و الصلاح ، فذهبوا إلى مالك الأشتر فهو شخص تقيّ و شجاع و لا يخاف أحداً غير الله . قال مالك الأشتر :
ـ الأفضل أن ننصحه أوّلاً فاذا لم يرتدع نشكوه إلى الخليفة .
ذهب مالك و معه بعض الناس الصالحين إلى قصر الوالي .
عندما دخلوا ، وجدوه يشرب الخمر كعادته ، فنصحوه أن يكفّ عن تصرفاته المشينة و لكنّه انتهرهم و طردهم .
عندها قرّروا السفر إلى المدينة المنوّرة و مقابلة الخليفة لإطلاعه على الأمر .
قابل الوفد الخليفة و لكنّه ـ مع الأسف ـ انتهرهم و طردهم و رفض شهادتهم ، فخرجوا يائسين .
فكّروا في الذهاب إلى ابن عمّ سيّدنا محمّد (( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) فهو الأمل الوحيد في الإصلاح .
الوفود
و في تلك الفترة جاءت وفود من المدن الإسلامية الاُخرى كلّها تشكوا من ظلم الولاة و سوء سيرتهم .
و ذهب الصحابة إلى منزل الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) و اشتكوا عنده ما يلاقيه المسلمون من الظلم و الفساد .
كان الإمام علي يشعر بالحزن لذلك ، فذهب إلى قصر الخليفة و دخل على عثمان و نصحه قائلاً :
ـ يا عثمان ان المسلمين يشتكون من الظلم . و لست أدلّك على أمر لا تعرفه ، و اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر ، فيلقى في جهنّم فيدور كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنّم " . و انّي اُحذّرك الله ، فانّ عذابه شديد .
فكّر عثمان قليلاً و أطرق حزيناً و اعترف بأخطائه و وعده بأن يتوب إلى الله و يعتذر من المسلمين .
خرج الإمام علي يبشّر المسلمين بذلك و عمّت الفرحة الجميع .
و لكن مروان و كان رجلاً منافقاً دخل على الخليفة و تحدّث اليه فغيّر رأيه و قال له :
ـ الأفضل أن تخرج إلى الناس و تهدّدهم حتى لا يتجرأوا على مقام الخلافة .
الثورة
تراجع عثمان عن وعوده بإصلاح سيرته و تغيير الولاة و اتبع سياسة قاسية تجاه الناس .
أشار معاوية و هو حاكم الشام آنذاك بنفي بعض الصحابة .
كان الخليفة قد نفى الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري فمات وحيداً في صحراء " الربذة " و قام بضرب الصحابي عمّار بن ياسر و هو ابن أول شهيدين في الإسلام .
كما جلد الصحابي عبد الله بن مسعود لهذا تذمّر الناس من سياسة عثمان و ولاته .
و بعث صحابة سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) برسائل إلى كافّة المدن الإسلامية و مضمونها :
ـ أيُّها المسلمون ، تعالوا الينا ، و تداركوا خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فان كتاب الله قد بدّل و سنّة رسوله قد غيّرت . فأقبلوا الينا ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر . فأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم .
و تدفّق المسلمون الثائرون من كلّ أنحاء الدولة الإسلامية إلى المدينة المنوّرة .
كان مالك الأشتر يمثّل الثائرين فدخل على عثمان لإجراء المفاوضات من أجل إصلاح الاُمور .
و كانت مطالب الثّوار هي أن يعتزل عثمان الخلافة .
لم يستجب الخليفة لذلك .
حاول الإمام علي ( عليه السَّلام ) التدخّل مرّة اُخرى و إصلاح الاُمور و لكن بلا فائدة .
كان المسلمون غاضبين من سيرة عثمان و ولاته و ظلمهم و كان عثمان يعاند مصرّاًًًًً على سياسته .
حاصر الثوّار قصر عثمان ، فطلب الإمام ( عليه السَّلام ) من ولديه الحسن و الحسين أن يقفا للحراسة .
غير ان الثوّار تسوّروا جدران القصر ، و اقتحموا غرفة الخليفة و قتلوه ، و فرّ مروان و غيره من المنافقين .
كان طلحة و الزبير يطمعان في الخلافة فساعدا الثوّار و لكن الناس كانوا لا يفكرون إلاّ بشخص واحد ليكون خليفة عليهم و هو الإمام علي ( عليه السَّلام ) .
تدفقت الجماهير إلى منزل الإمام و طلبوا منه أن يكون خليفة ، و لكن الإمام رفض ذلك .
أصرّ مالك الأشتر و غيره من الصحابة على ذلك ، و ألقى مالك خطاباً حماسياً في الجماهير قائلاً :
ـ أيُّها الناس
هذا وصي الأوصياء .
و وارث علم الأنبياء .
الذي شهد له كتاب الله بالايمان .
و رسوله بجنّة الرضوان .
من كملت فيه الفضائل .
و لم يشكّ في سابقته و علمه الأواخر و الأوائل .
و هكذا كان مالك أول من بايع علي بن أبي طالب و تبعته جماهير المسلمين .
و عندما أصبح الإمام علي خليفة ، بدأ عهد جديد فقد أصدر أمراً بإقالة جميع الولاة الظالمين و عيّن مكانهم أشخاصاً معروفين بالتقوى و الصلاح .
معركة الجمل
كان البعض يطمع بالخلافة و الحكم ، من هؤلاء " طلحة " و " الزبير " فذهبا إلى مكّة و حرّضا اُم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر .
استغل مروان ذلك فراح ينفق من أموال المسلمين التي سرقها ، و ألّف جيشاً كبيراً ، و رفعوا شعار الثأر لدم عثمان .
توجّه الجيش إلى مدينة البصرة ، و هناك طردوا الوالي بعد أن نتفوا لحيته و استولوا على بيت المال .
و كان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يواجه هذا التمرّد بحزم ، فزحف بجيشه إلى البصرة .
أرسل الإمام ابنه الحسن ( عليه السَّلام ) و الصحابي الجليل عمّار بن ياسر إلى " الكوفة " و دعوة أهلها للجهاد .
كان والي الكوفة آنذاك " أبو موسى الأشعري " فراح يدعو الناس للتقاعس عن الجهاد و عصيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .
مرّت الأيام و لم يعُد الحسن و عمّار بن ياسر فبعث الإمام مالكاً الأشتر في أثرهما .
كان مالك الأشتر رجلاً شجاعاً معروفاً بالحزم ، و هو يدرك ان المسلمين في الكوفة يؤيدون الإمام ضد أعدائه ، و ان العقبة الوحيدة هي " ابو موسى الأشعري " .
وصل مالك الأشتر الكوفة و راح يدعو الناس في أن يتبعوه ، و اجتمع حوله جمهور غفير ، فاقتحم بهم قصر الامارة و طرد الحرّاس منه .
كان أبو موسى الأشعري وقتها في المسجد يدعو الناس إلى لزوم بيوتهم و عدم الاستجابة لأوامر أمير المؤمنين . فجاء الحرّاس و أخبروه بسقوط القصر في قبضة مالك الأشتر .
طلب " أبو موسى الأشعري " مهلة يوم واحد لمغادرة الكوفة ، فأُجيب طلبه .
و في نفس اليوم أسرع مالك الأشتر إلى المسجد و خطب في الجماهير يحرّضهم لنصرة الإمام علي .
فاجتمع منهم جيش بلغ تعداده ثمانية عشر ألفاً من المقاتلين ، تسعة آلاف في قيادة الحسن فسلك بهم الطريق البرّي ، فيما سلك الباقون الطريق النهري لكي يلتحق الجميع بجيش الإمام علي في منطقة " ذي قار " في جنوب العراق .
اتّجه الجيش بقيادة الإمام إلى مدينة البصرة فالتقى بجيش عائشة و طلحة و الزبير و مروان بن الحكم .
كان مالك الأشتر قائداً للجناح الأيمن و كان عمّار بن ياسر قائداً للجناح الأيسر ، فيما وقف الإمام في قلب الجيش حيث حمل الراية ابنه محمد بن الحنفية .
بدأ جيش عائشة بالعدوان فأمطر جيش الإمام بوابل من السهام ، فسقط عددٌ من القتلى و الجرحى .
أراد جيش الإمام المقابلة بالمثل فمنعهم الإمام و قال :
ـ من يأخذ هذا المصحف و يذهب إليهم فيدعوهم للاحتكام عليه ؟
انّهم يقتلونه لا محالة .
و هنا انبرى شابّ و قال :
ـ أنا آخذه يا أمير المؤمنين .
تقدّم مسلم نحو جيش الجمل رافعاً المصحف .
صاحت عائشة :
ـ ارشقوه بالسهام . فأمطره الرماة بوابل من السهام فسقط فوق الأرض شهيداً .
و في تلك اللحظات رفع أمير المؤمنين يديه إلى السماء داعياً الله سبحانه أن ينصر الحق و أهله و قال :
ـ اللّهم إليك شخصت الأبصار .
و بسطت الأيدي .
ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق .
و أنت خير الفاتحين .
ثم أصدر الإمام أمره بالهجوم الشامل ، و تقدّم الأشتر يقاتل ببسالة ، و حدثت اشتباكات عنيفة حول الجمل .
أدرك الإمام ان عقر الجمل سوف يضع حدّاً لنزيف الدم ، و اقتتال الاخوة .
قاد مالك الأشتر هجوماً عنيفاً باتجاه الجمل .
كان مالك الأشتر يقتل بشجاعة و فروسية ، أي انّه لا يقتل الجرحى و لا يطارد الذين يفرّون من المعركة .
كان مالك يقتدي في أخلاقه بالإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فهو يحبّ وصي رسول الله ، و كذلك كان الإمام يحبّ مالكاً لأنّه من أهل التقوى ، و الله يحبّ المتقين .
الانتصار
و بعد معارك ضارية تمكّن جيش الإمام من عقر الجمل فانهارت معنويات الجيش المقابل و فرّ المقاتلون من ساحة المعركة .
أصدر الإمام أمراً أوقف فيه العمليات الحربية ، و أمر بمعاملة عائشة بكلّ احترام و إعادتها إلى المدينة معزّزة مكرّمة .
أطلق الإمام الأسرى و أمر بمعالجة الجرحى و عفا عن الجميع .
و دخل مالك الأشتر و عمّار بن ياسر على عائشة فقالت :
ـ لقد كدت يا مالك أن تقتل ابن اختي .
أجاب مالك :
ـ نعم و لولا انّي كبير و كنت صائماً ثلاثة أيام لأرحت منه اُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .
في الكوفة
و بعد أن أقام الإمام في البصرة أيّاماً عاد بجيشه قاصداً مدينة الكوفة .
كان مالك الأشتر في المعارك كالأسد يُقاتل بشجاعة لا نظير لها ، و لهذا كان الأعداء يخافون منه .
و لكنّه في الأيّام العادية كان يبدو كرجل فقير فهو يرتدي ثياباً بسيطة و يمشي بتواضع حتى أن أكثر الناس لا يعرفونه .
ذات يوم و عندما كان مالك يسير في الطريق ، كان أحد السفهاء يأكل تمراً و يرمي النوى هنا و هناك .
و عندما مرّ مالك أمامه ، رماه بنواة في ظهره و راح يضحك عليه .
فقال له رجل رآه :
ـ ماذا تفعل ؟! هل تعرف مَن هذا الرجل ؟
أجاب :
ـ كلاّ ، مَن هو ؟
ـ إنّه مالك الأشتر .
كان مالك الأشتر قد مضى في طريقه ، لأن المؤمن لا يهتم لما يفعله السفهاء من الناس ، و تذكّر ما كان يفعله المشركون بسيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في مكّة عندما كانوا يلقون عليه التراب و القاذورات فلا يقول شيئاً .
دخل مالك المسجد و راح يصلّي لله و يستغفر لذلك الشخص الذي رماه بالنواة .
جاء الرجل مهرولاً و دخل المسجد و ألقى بنفسه على مالك يعتذر إليه و قال :
ـ اعتذر إليك ممّا فعلت فاقبل عذري .
أجاب مالك بابتسام :
ـ لا عليك يا أخي ، و الله ما دخلت المسجد إلاّ لكي أُصلّي و استغفر لك .
معركة صفين
كان الإمام يختار الصالحين من أهل التقوى و الإدارة و الحزم ولاةً على المدن ، لهذا عيّن مالكاً الأشتر حاكماً على الموصل و سنجار و نصيبين و هيت و عانات ، و هي مناطق واقعة على حدود الشام .
كان معاوية قد أعلن العصيان للخلافة و انفرد بحكم الشام .
حاول الإمام إقناع معاوية بالطاعة فبعث برسائل عديدة و أوفد إليه من يتحدّث معه ، و لكن بلا فائدة .
لهذا جهّز الإمام جيشاً و أسند قيادته إلى مالك الأشتر .
زحف الجيش باتجاه الشام و وصل منطقة " قرقيسيا " فاصطدم بجيش الشام تحت قيادة " أبي الأعور السلمي " .
حاول مالك الأشتر إقناع " قائد الجيش " بإنهاء التمرّد و الدخول في طاعة أمير المؤمنين الذي ارتضاه الناس خليفة لهم فرفض ذلك .
و في الليل ، انتهز جيش الشام الفرصة و قام بهجوم دون سابق انذار ، و كان هذا العمل مخالفاً للشريعة و الأخلاق لأنّه غدر .
قاوم جيش الخلافة الهجوم المباغت و كبّد المهاجمين العديد من القتلى و أجبره على الإنسحاب إلى مواقعه .
و مرّة اُخرى تجلّت فروسية مالك الأشتر ، فارسل إلى " أبي الأعور " مبعثواً يدعوه للمبارزة .
قال الرسول :
ـ يا أبا الأعور إن مالك الأشتر يدعوك للمبارزة .
جبن قائد جيش معاوية و قال :
ـ لا أُريد مبارزته .
وصلت إمدادات كبيرة بقيادة معاوية ملتحقة بجيش الشام .
و تقابل الجيشان في سهل " صفين " على ضفاف نهر الفرات .
احتلّت قطعات من جيش معاوية الشواطئ و فرضت حصاراً على النهر .
كان هذا العمل أيضاً مخالفاً للشريعة الإسلامية و لتقاليد الحروب .
بعث الإمام أحد صحابة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و هو " صعصعة بن صوحان " للتفاوض :
دخل صعصعة خيمة معاوية و قال :
ـ يا معاوية إن عليّاً يقول : دعونا نأخذ حاجتنا من الماء حتى ننظر فيما بيننا و بينكم ، و إلاّ تقاتلنا حتى يكون الغالب هو الشارب .
سكت معاوية و قال :
ـ سوف يأتيك ردّي فيما بعد .
خرج مبعوث الإمام ، و استشار معاوية رجال فقال الوليد بحقد :
ـ امنع الماء منهم ، حتى يضطروا للاستسلام .
و حظي هذا الرأي بتأييد كامل .
لقد جمع معاوية حوله كلّ الأشرار الذين لا يعرفونه حرمة للدين و الإنسانية .
كان مالك الأشتر يراقب ما يجري على الشواطئ فشاهد وصول تعزيزات عسكرية ، فأدرك أن معاوية يفكِّر بتشديد الحصار .
شعر جنود الإمام بالعطش ، و كان مالك عطشان أيضاً ، فقال له جندي :
ـ في قربتي ماء قليل اشربه .
رفض مالك ذلك و قال :
ـ كلاّ حتى يشرب جميع الجنود .
ذهب مالك إلى الإمام و قال :
ـ يا أمير المؤمنين ان جنودنا يصرعهم العطش و لم يبق أمامنا سوى القتال .
أجاب الإمام :
أجل لقد أعذر من أنذر .
و خطب الإمام في الجنود و حثّهم على الاستبسال قائلاً :
ـ الموت في حياتكم مقهورين .
و الحياة في موتكم قاهرين .
أي أن الموت هو أن يرضى الإنسان بالذلّ .
و انّ الحياة في أن يموت المرء شهيداً .
و قاد مالك الأشتر أوّل هجوم في حرب صفين و راح يقاتل ببسالة و يتقدّم باتجاه شواطئ الفرات .
و بعد اشتباكات عنيفة تمّ تحرير ضفاف النهر و إجبار جيش معاوية على الإنسحاب .
أصبح جيش معاوية بعيداً عن المياه ، و لهذا فكّر في حيلة لاستعادة مواقعه على نهر الفرات .
و في اليوم التالي سقط سهم بين جنود الإمام و كان في السهم رسالة ، قرأها الجنود باهتمام .
و انتقلت الرسالة بين الجنود بسرعة و انتشر الخبر : " من أخ ناصح لكم في جيش الشام : ان معاوية يريد أن يفتح عليكم النهر و يغرقكم ، فاحذروا " .
و صدّق الجنود ما ورد في تلك الرسالة فانسحبوا و انتهز جيش الشام الفرصة فأعاد احتلاله للشواطئ مرّة اُخرى .
غير أن جيش الإمام شن هجوماً كاسحاً و حرّر المنطقة من قبضة الاحتلال .
شعر معاوية بالقلق ، فسأل عمرو بن العاص :
ـ هل تظنّ ان عليّاً سيمنع علينا الماء ؟
أجاب عمرو بن العاص :
ـ إن عليّاً لا يفعل مثلما تفعل أنت .
كان جنود الشام يشعرون بالقلق أيضاً .
و لكن سرعان ما وصلت الأخبار بأن الإمام عليّاً سمح لهم بورود النهر و ترك لهم مساحة من الشواطئ كافية .
أدرك بعض أهل الشام الفرق بين معاوية و علي ، فمعاوية يفعل كلّ شيء من أجل أن ينتصر ، أمّا علي فلا يفكّر في ذلك ، إنّه يسير في ضوء المُثل و الأخلاق الإنسانية .
لهذا تسلل بعض الجنود ليلاً و انتقلوا إلى جبهة علي لأنّها تُمثّل الحقّ و الإنسانية .
معاوية
كان معاوية يشعر بالقلق من وجود مالك الأشتر ، لأن شجاعته و بسالته في القتال ألهب الحماس في جيش علي و بثت الذعر في جنود الشام .
فكّر معاوية في القضاء عليه عن طريق المبارزة الفردية ، فعرض الأمر على مروان ، و لكن مروان كان يخاف من مالك فاعتذر إلى معاوية و قال :
ـ لماذا لا تكلّف " ابن العاص " بذلك فهو ساعدك الأيمن .
عرض معاوية اقتراحه على عمرو بن العاص فاضطر لقبوله .
خرج ابن العاص يطلب مبارزة الأشتر .
تقدّم مالك نحوه و بيده رمحه ، و لم يترك له فرصة للدفاع فسدّد له ضربة عنيفة جرحت قسماً من وجهه فلاذ عمرو بن العاص بالفرار .
استشهاد عمّار
تصاعدت حدّة الاشتباكات و كان عمّار يقود الجناح الأيسر من جيش الإمام ، و يقاتل ببسالة رغم شيخوخته .
و عندما جنحت الشمس للمغيب طلب عمّار رضي الله عنه شيئاً يفطر به لأنّه كان صائماً .
أحضر أحد الجنود إناءً مليئاً باللبن و قدّمه إليه ، استبشر عمّار بذلك و قال :
ـ ربّما أُرزق الشهادة هذه الليلة فقد قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ، و آخر شرابك من الدنيا ضياح ( إناء ) من لبن .
أفطر الصحابي الجليل و تقدّم إلى ساحات القتال بقلبٍ عامر بالإيمان و ظلّ يقاتل حتى هوى على الأرض شهيداً .
جاء الإمام و جلس قرب الشهيد و قال بحزن :
ـ رحم الله عمّاراً يوم أسلم ، و رحم الله عمّاراً يوم استشهد ، و رحم الله عمّاراً يوم يبعث حيّاً . هنيئاً لك يا عمّار .
كان لإستشهاد عمّار بن ياسر في ساحة الحرب أثره في سير المعارك ، فقد ارتفعت معنويات جيش الإمام فيما انخفضت لدى جنود معاوية ، لأن المسلمين جميعاً يحفظون حديث سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) لعمّار بن ياسر : " يا عمّار تقتلك الفئة الباغية " أي المعتدية .
و أدرك الجميع ان معاوية و جنوده هم المعتدون و انّ علياً و أصحابه على الحقّ .
لهذا تصاعدت حدّة الحملات الهجومية في جبهة الإمام ، و راح معاوية و جيشه يستعدّون للهزيمة .
حيلة جديدة
فكّر معاوية بحيلة جديدة يخدع بها جيش الإمام ، فاستشار " عمرو بن العاص " .
قال عمرو بن العاص :
ـ أرى أن نخدعهم بالقرآن . نقول لهم : بيننا و بينكم كتاب الله .
فرح معاوية لهذه الحيلة و أمر برفع المصاحف على الرماح .
عندما شاهد جنود الإمام المصاحف ، فكّروا في إيقاف الحرب ، و بذلك انطلت الحيلة على كثير من الجنود .
قال الإمام : انّها مكيدة . أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله و أوّل من أجاب إليه . انّهم عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده .
و لكن عشرين ألفاً من الجنود عصوا أمر الإمام و قالوا :
ـ اصدر أمرك بايقاف القتال و قل للأشتر ينسحب .
أرسل الإمام أحد الجنود إلى مالك الأشتر يأمره بايقاف العمليات الحربية .
استمر مالك الأشتر في القتال و قال :
ـ ما هي إلاّ لحظات و نحرز النصر النهائي .
قال الجندي :
ـ و لكن الإمام محاصر بعشرين ألف من المتمرّدين و هم يهددون بقتله إذا لم توقف القتال .
اضطر مالك الأشتر للإنسحاب و قال :
ـ لا حول و لا قوّة إلاّ بالله .
التحكيم
كان مالك الأشتر يدرك أن ما قام به معاوية هو مجرّد حيلة ، و لكنه انصاع لأمر الإمام حتى لا تحدث الفتنة ، فكان قائداً شجاعاً و جندياً مطيعاً .
توقفت المعارك و اتفق الطرفان على الاحتكام إلى كتاب الله .
فأرسل معاوية عمرو بن العاص ممثّلاً عنه في المفاوضات .
و أراد الإمام أن يختار رجلاً عاقلاً فطناً عالماً بكتاب الله فاختار عبد الله بن عباس حبر الاُمّة .
و لكن المتمرّدين رفضوا ذلك مرّة اُخرى و قالوا :
نختار " أبا موسى الأشعري " .
فقال الإمام ( عليه السَّلام ) ناصحاً :
ـ أنا لا أرضى به ، و عبد الله بن عباس أجدر منه .
رفض المتمردون ذلك فقال الإمام :
ـ إذن اختار الأشتر .
فرفضوا أيضاً و أصرّوا على " أبي موسى الأشعري " .
و حتى لا تحدث الفتنة قال الإمام :
ـ اصنعوا ما شئتم .
و هكذا اجتمع الممثلان للمفاوضات .
فكّر عمرو بن العاص أن يخدع " الأشعري " فقال له :
ـ يا أبا موسى إن سبب الفتنة وجود معاوية و علي ، فتعال لنخلعهما عن الخلافة و نختار رجلاً آخر .
كان " الأشعري " لا يحبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فرحّب بالفكرة ، فقال أمام الجميع :
ـ إنّني أخلع عليّاً عن الخلافة كما أخلع خاتمي من يدي .
ثم نزع خاتمه .
و هنا قال عمرو بن العاص بخبث :
ـ أما أنا فأُثبّت معاوية في الخلافة كما أُثبّت خاتمي في يدي .
ثم لبس خاتمه .
شعر المتمرّدون بالندم ، و بدل أن يتوبوا و يعودوا إلى طاعة أمير المؤمنين فإنّهم طلبوا من الإمام أن يتوب و يعلن الحرب .
و لكن الإمام كان إنساناً يحترم العهود و المواثيق و قد اتّفق على الهدنة و إيقاف القتال لمدّة سنة .
طلب الإمام منهم أن يصبروا هذه المدّة و لكنهم عصوا أوامره أيضاً و خرجوا على طاعة الإمام لهذا سمّوا ب " الخوارج " .
مصر
فكّر معاوية أن يستولي على مصر ، فأرسل جيشاً كبيراً لاحتلالها .
كان الوالي على مصر محمّد بن أبي بكر " الخليفة الأوّل " .
أرسل الوالي يطلب الإمدادات العسكرية بأقصى سرعة قبل أن تسقط مصر بأيدي الغزاة .
فأرسل الإمام مالكاً الأشتر و قال له :
ـ توجّه إلى مصر رحمك الله ، و لست أوصيك بشيء لأنني أكتفي برأيك .
استعن بالله .
استعمل اللين في مواضعه و الشدّة في مواضعها .
و انطلق الأشتر إلى مصر .
السمّ و العسل
شعر معاوية بالقلق فهو يدرك ان وصول مالك الأشتر إلى مصر يعني إنقاذها ، لهذا فكّر بقتله .
كان معاوية إذا أراد أن يغتال شخصاً دسّ إليه العسل المخلوط بالسمّ .
و كان معاوية يستورد هذه السموم من القسطنطنية ، و كان الروم يسمحون بتصديرها لأنّهم يعرفون ان معاوية يستخدمها لقتل المسلمين .
قال عمرو بن العاص :
ـ انّي أعرف رجلاً يسكن مدينة القلزم على حدود مصر و هو يملك أراضٍ واسعة و لابدّ أن يمرّ الأشتر في هذه المدينة و يتوقّف فيها للإستراحة .
قال معاوية :
ـ إذن اتصل به و اخبره إذا تمكّن من اغتيال الأشتر فسنعفيه من دفع الضرائب مدى الحياة .
و هكذا انطلق مبعوث معاوية على وجه السرعة ، و أخذ معه العسل المسموم ليتصل بذلك الرجل و يقنعه بهذه المهمّة .
الشهادة
وافق الرجل على اقتراح معاوية و أخذ الخليط القاتل ، يترقّب وصول مالك الأشتر .
و بعد أيام قليلة وصل مالك مدينة القلزم .
دعا الرجل والي مصر الجديد لأن يحلّ ضيفاً في منزله .
لبّى مالك الأشتر الدعوة شاكراً .
وضع الرجل إناء العسل المسموم في مائدة الطعام .
و عندما تناول الضيف ملعقة واحدة شعر بألم شديد في أمعائه و أدرك المؤامرة ، فقال و هو يضع يده على بطنه :
ـ بسم الله . . إنّا لله و إنّا إليه راجعون .
و استقبل مالك الأشتر الموت بشجاعة المؤمن المطمئن الذي يعرف انّ طريقه هو طريق الإسلام و الجنّة .
و عندما استشهد مالك الأشتر ، كاد معاوية أن يطير من الفرح و قال :
ـ لقد كانت لعليّ بن أبي طالب يدان .
قطعت إحداهما يوم صفين و هو عمّار بن ياسر .
و قطعت الاُخرى اليوم و هو مالك الأشتر .
أمّا أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) فقد شعر بالأسف العميق و قال بحزن :
ـ رحم الله مالكاً . .
فقد كان لي كما كنت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
أي ان مالكاً ( رضوان الله عليه ) كان يحبّ عليّاً و يطيعه كما كان عليّ ( عليه السَّلام ) يحبّ سيدنا محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) و يطيعه .
و هكذا ختم مالك الأشتر ( رضوان الله عليه ) حياته الحافلة بالجهاد لتبقى سيرته المضيئة مثالاً لشباب الإسلام في كل مكان .
الحمد لله وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليما كثيرا
بسم الله الرحمن الرحيم
الربذة
منطقة صحراوية بين مكّة و المدينة ، هي منطقة جرداء لا يسكنها أحد . و لكن في عام 30 هجرية ، كانت هناك خيمة وحيدة . في داخل الخيمة شيخٌ كبير و امرأة عجوز هي زوجته و ابنتهما .
لماذا جاء الشيخ إلى هذه المنطقة البعيدة في وسط الصحراء ؟
انّه لم يأت بإرادته ، لقد نفاه الخليفة ليموت في تلك الصحراء .
كان الشيخ مريضاً ، و كانت زوجته تبكي فقال لها :
ـ لماذا البكاء يا اُم ذر ؟
قالت العجوز :
ـ كيف لا أبكي و أنت تموت في هذه الصحراء .
قال الشيخ :
ـ كنت مع بعض أصحابي جالسين مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لنا : سيموت أحدكم في الصحراء و سيحضر موته جماعة من المؤمنين . لقد توفي كلّ أصحابي عند أهلهم و لم يبق سواي ، سوف يأتي مَن يساعدك .
قالت العجوز :
ـ لقد مضى موسم الحجّ و هذه الصحراء لا يمرّ بها أحد .
قال الشيخ :
ـ لا عليك اصعدي التلّ و انظري إلى طريق القوافل .
صعدت المرأة التلّ و راحت تنظر إلى طريق القوافل .
مرّ وقت طويل ، فشاهدت من بعيد قافلة قادمة .
لوّحت المرأة بقطعة قماش للقافلة ، و تعجّب المسافرون و تساءلوا مَن تكون هذه المرأة الوحيدة في الصحراء ؟!
فجاءوا اليها . سألوها عن شأنها فقالت :
ـ ان زوجي يموت و ليس قربه أحد .
و مَن هو زوجك ؟
فقالت المرأة و هي تبكي :
ـ أبو ذرّ صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
و تعجّب أهل القافلة فقالوا :
ـ أبو ذر صاحب النبي ؟! هيا بنا إليه .
و ذهب الرجال إلى الخيمة ، و عندما دخلوها وجدوا أبا ذر في فراشه . و قال الرجل :
السلام عليك يا صاحب رسول الله .
فقال أبو ذر بصوت ضعيف :
ـ و عليكم السلام مَن أنت ؟
قال الرجل :
ـ مالك بن الحارث الأشتر و معي رجال من أهل العراق ، نريد الذهاب إلى المدينة لنشتكي إلى الخليفة ما يحلّ بنا من الظلم .
ابتسم أبو ذر و قال :
ـ ابشروا يا إخواني لقد أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأنني سأموت في الصحراء ، و سيحضر وفاتي رجال مؤمنون .
فرح مالك و من معه بهذه البشرى النبويّة و جلسوا في خيمة أبي ذر ، و كان مالك الأشتر حزيناً من أجل الصحابي الجليل أبي ذر و ما حلَّ به على أيدي بني اُميّة .
الأشتر
ينتمي مالك بن الحارث النخعي إلى قبيلة يمنية عريقة ، أسلم في عهد النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و كان من المخلصين في ايمانه و إسلامه .
اشترك في معركة اليرموك و قاتل ببسالة فريدة ، و كانت له مواقف شجاعة في صدّ هجمات الروم على الجيش الإسلامي فشترت عينه بالسيف أي انشق جفنها السفلي و لذلك عُرِفَ بالأشتر .
في عام ثلاثين للهجره كان المسلمون في مدينة الكوفة و غيرها من المدن الإسلامية غاضبين من تصرّفات الولاة .
فمثلاً كان " الوليد بن عقبة " و هو أخو الخليفة عثمان حاكماً على الكوفة و كانت تصرفاته منافية للإسلام و الدين ، فهو يشرب الخمر ، و يقضي وقته في مجالس الغناء و اللهو .
ذات يوم جاء الوليد إلى المسجد سكران و صلّى بالمسلمين صلاة الصبح أربع ركعات ، ثم التفت إلى المصلّين و قال مستهزئاً :
ـ أتريدون أن أزيدكم ؟
كان الناس غير راضين عن سيرته و كانوا ينتقدونه في الأسواق و البيوت و المساجد .
ـ ألم يجد الخليفة شخصاً غير هذا الفاسق لكي يجعله والياً ؟!
ـ انّه يعتدي على حرمات الدين و المسلمين .
لهذا فكّروا بطريقة للحلّ ، فوجدوا ان أفضل طريق هو أن يستشيروا أهل التقوى و الصلاح ، فذهبوا إلى مالك الأشتر فهو شخص تقيّ و شجاع و لا يخاف أحداً غير الله . قال مالك الأشتر :
ـ الأفضل أن ننصحه أوّلاً فاذا لم يرتدع نشكوه إلى الخليفة .
ذهب مالك و معه بعض الناس الصالحين إلى قصر الوالي .
عندما دخلوا ، وجدوه يشرب الخمر كعادته ، فنصحوه أن يكفّ عن تصرفاته المشينة و لكنّه انتهرهم و طردهم .
عندها قرّروا السفر إلى المدينة المنوّرة و مقابلة الخليفة لإطلاعه على الأمر .
قابل الوفد الخليفة و لكنّه ـ مع الأسف ـ انتهرهم و طردهم و رفض شهادتهم ، فخرجوا يائسين .
فكّروا في الذهاب إلى ابن عمّ سيّدنا محمّد (( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) فهو الأمل الوحيد في الإصلاح .
الوفود
و في تلك الفترة جاءت وفود من المدن الإسلامية الاُخرى كلّها تشكوا من ظلم الولاة و سوء سيرتهم .
و ذهب الصحابة إلى منزل الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) و اشتكوا عنده ما يلاقيه المسلمون من الظلم و الفساد .
كان الإمام علي يشعر بالحزن لذلك ، فذهب إلى قصر الخليفة و دخل على عثمان و نصحه قائلاً :
ـ يا عثمان ان المسلمين يشتكون من الظلم . و لست أدلّك على أمر لا تعرفه ، و اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر ، فيلقى في جهنّم فيدور كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنّم " . و انّي اُحذّرك الله ، فانّ عذابه شديد .
فكّر عثمان قليلاً و أطرق حزيناً و اعترف بأخطائه و وعده بأن يتوب إلى الله و يعتذر من المسلمين .
خرج الإمام علي يبشّر المسلمين بذلك و عمّت الفرحة الجميع .
و لكن مروان و كان رجلاً منافقاً دخل على الخليفة و تحدّث اليه فغيّر رأيه و قال له :
ـ الأفضل أن تخرج إلى الناس و تهدّدهم حتى لا يتجرأوا على مقام الخلافة .
الثورة
تراجع عثمان عن وعوده بإصلاح سيرته و تغيير الولاة و اتبع سياسة قاسية تجاه الناس .
أشار معاوية و هو حاكم الشام آنذاك بنفي بعض الصحابة .
كان الخليفة قد نفى الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري فمات وحيداً في صحراء " الربذة " و قام بضرب الصحابي عمّار بن ياسر و هو ابن أول شهيدين في الإسلام .
كما جلد الصحابي عبد الله بن مسعود لهذا تذمّر الناس من سياسة عثمان و ولاته .
و بعث صحابة سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) برسائل إلى كافّة المدن الإسلامية و مضمونها :
ـ أيُّها المسلمون ، تعالوا الينا ، و تداركوا خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فان كتاب الله قد بدّل و سنّة رسوله قد غيّرت . فأقبلوا الينا ان كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر . فأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم .
و تدفّق المسلمون الثائرون من كلّ أنحاء الدولة الإسلامية إلى المدينة المنوّرة .
كان مالك الأشتر يمثّل الثائرين فدخل على عثمان لإجراء المفاوضات من أجل إصلاح الاُمور .
و كانت مطالب الثّوار هي أن يعتزل عثمان الخلافة .
لم يستجب الخليفة لذلك .
حاول الإمام علي ( عليه السَّلام ) التدخّل مرّة اُخرى و إصلاح الاُمور و لكن بلا فائدة .
كان المسلمون غاضبين من سيرة عثمان و ولاته و ظلمهم و كان عثمان يعاند مصرّاًًًًً على سياسته .
حاصر الثوّار قصر عثمان ، فطلب الإمام ( عليه السَّلام ) من ولديه الحسن و الحسين أن يقفا للحراسة .
غير ان الثوّار تسوّروا جدران القصر ، و اقتحموا غرفة الخليفة و قتلوه ، و فرّ مروان و غيره من المنافقين .
كان طلحة و الزبير يطمعان في الخلافة فساعدا الثوّار و لكن الناس كانوا لا يفكرون إلاّ بشخص واحد ليكون خليفة عليهم و هو الإمام علي ( عليه السَّلام ) .
تدفقت الجماهير إلى منزل الإمام و طلبوا منه أن يكون خليفة ، و لكن الإمام رفض ذلك .
أصرّ مالك الأشتر و غيره من الصحابة على ذلك ، و ألقى مالك خطاباً حماسياً في الجماهير قائلاً :
ـ أيُّها الناس
هذا وصي الأوصياء .
و وارث علم الأنبياء .
الذي شهد له كتاب الله بالايمان .
و رسوله بجنّة الرضوان .
من كملت فيه الفضائل .
و لم يشكّ في سابقته و علمه الأواخر و الأوائل .
و هكذا كان مالك أول من بايع علي بن أبي طالب و تبعته جماهير المسلمين .
و عندما أصبح الإمام علي خليفة ، بدأ عهد جديد فقد أصدر أمراً بإقالة جميع الولاة الظالمين و عيّن مكانهم أشخاصاً معروفين بالتقوى و الصلاح .
معركة الجمل
كان البعض يطمع بالخلافة و الحكم ، من هؤلاء " طلحة " و " الزبير " فذهبا إلى مكّة و حرّضا اُم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر .
استغل مروان ذلك فراح ينفق من أموال المسلمين التي سرقها ، و ألّف جيشاً كبيراً ، و رفعوا شعار الثأر لدم عثمان .
توجّه الجيش إلى مدينة البصرة ، و هناك طردوا الوالي بعد أن نتفوا لحيته و استولوا على بيت المال .
و كان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يواجه هذا التمرّد بحزم ، فزحف بجيشه إلى البصرة .
أرسل الإمام ابنه الحسن ( عليه السَّلام ) و الصحابي الجليل عمّار بن ياسر إلى " الكوفة " و دعوة أهلها للجهاد .
كان والي الكوفة آنذاك " أبو موسى الأشعري " فراح يدعو الناس للتقاعس عن الجهاد و عصيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .
مرّت الأيام و لم يعُد الحسن و عمّار بن ياسر فبعث الإمام مالكاً الأشتر في أثرهما .
كان مالك الأشتر رجلاً شجاعاً معروفاً بالحزم ، و هو يدرك ان المسلمين في الكوفة يؤيدون الإمام ضد أعدائه ، و ان العقبة الوحيدة هي " ابو موسى الأشعري " .
وصل مالك الأشتر الكوفة و راح يدعو الناس في أن يتبعوه ، و اجتمع حوله جمهور غفير ، فاقتحم بهم قصر الامارة و طرد الحرّاس منه .
كان أبو موسى الأشعري وقتها في المسجد يدعو الناس إلى لزوم بيوتهم و عدم الاستجابة لأوامر أمير المؤمنين . فجاء الحرّاس و أخبروه بسقوط القصر في قبضة مالك الأشتر .
طلب " أبو موسى الأشعري " مهلة يوم واحد لمغادرة الكوفة ، فأُجيب طلبه .
و في نفس اليوم أسرع مالك الأشتر إلى المسجد و خطب في الجماهير يحرّضهم لنصرة الإمام علي .
اتّجه الجيش بقيادة الإمام إلى مدينة البصرة فالتقى بجيش عائشة و طلحة و الزبير و مروان بن الحكم .
كان مالك الأشتر قائداً للجناح الأيمن و كان عمّار بن ياسر قائداً للجناح الأيسر ، فيما وقف الإمام في قلب الجيش حيث حمل الراية ابنه محمد بن الحنفية .
بدأ جيش عائشة بالعدوان فأمطر جيش الإمام بوابل من السهام ، فسقط عددٌ من القتلى و الجرحى .
أراد جيش الإمام المقابلة بالمثل فمنعهم الإمام و قال :
ـ من يأخذ هذا المصحف و يذهب إليهم فيدعوهم للاحتكام عليه ؟
انّهم يقتلونه لا محالة .
و هنا انبرى شابّ و قال :
ـ أنا آخذه يا أمير المؤمنين .
تقدّم مسلم نحو جيش الجمل رافعاً المصحف .
صاحت عائشة :
ـ ارشقوه بالسهام . فأمطره الرماة بوابل من السهام فسقط فوق الأرض شهيداً .
و في تلك اللحظات رفع أمير المؤمنين يديه إلى السماء داعياً الله سبحانه أن ينصر الحق و أهله و قال :
ـ اللّهم إليك شخصت الأبصار .
و بسطت الأيدي .
ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق .
و أنت خير الفاتحين .
ثم أصدر الإمام أمره بالهجوم الشامل ، و تقدّم الأشتر يقاتل ببسالة ، و حدثت اشتباكات عنيفة حول الجمل .
أدرك الإمام ان عقر الجمل سوف يضع حدّاً لنزيف الدم ، و اقتتال الاخوة .
قاد مالك الأشتر هجوماً عنيفاً باتجاه الجمل .
كان مالك الأشتر يقتل بشجاعة و فروسية ، أي انّه لا يقتل الجرحى و لا يطارد الذين يفرّون من المعركة .
كان مالك يقتدي في أخلاقه بالإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فهو يحبّ وصي رسول الله ، و كذلك كان الإمام يحبّ مالكاً لأنّه من أهل التقوى ، و الله يحبّ المتقين .
الانتصار
و بعد معارك ضارية تمكّن جيش الإمام من عقر الجمل فانهارت معنويات الجيش المقابل و فرّ المقاتلون من ساحة المعركة .
أصدر الإمام أمراً أوقف فيه العمليات الحربية ، و أمر بمعاملة عائشة بكلّ احترام و إعادتها إلى المدينة معزّزة مكرّمة .
أطلق الإمام الأسرى و أمر بمعالجة الجرحى و عفا عن الجميع .
و دخل مالك الأشتر و عمّار بن ياسر على عائشة فقالت :
ـ لقد كدت يا مالك أن تقتل ابن اختي .
أجاب مالك :
ـ نعم و لولا انّي كبير و كنت صائماً ثلاثة أيام لأرحت منه اُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .
في الكوفة
و بعد أن أقام الإمام في البصرة أيّاماً عاد بجيشه قاصداً مدينة الكوفة .
كان مالك الأشتر في المعارك كالأسد يُقاتل بشجاعة لا نظير لها ، و لهذا كان الأعداء يخافون منه .
و لكنّه في الأيّام العادية كان يبدو كرجل فقير فهو يرتدي ثياباً بسيطة و يمشي بتواضع حتى أن أكثر الناس لا يعرفونه .
ذات يوم و عندما كان مالك يسير في الطريق ، كان أحد السفهاء يأكل تمراً و يرمي النوى هنا و هناك .
و عندما مرّ مالك أمامه ، رماه بنواة في ظهره و راح يضحك عليه .
فقال له رجل رآه :
ـ ماذا تفعل ؟! هل تعرف مَن هذا الرجل ؟
أجاب :
ـ كلاّ ، مَن هو ؟
ـ إنّه مالك الأشتر .
كان مالك الأشتر قد مضى في طريقه ، لأن المؤمن لا يهتم لما يفعله السفهاء من الناس ، و تذكّر ما كان يفعله المشركون بسيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في مكّة عندما كانوا يلقون عليه التراب و القاذورات فلا يقول شيئاً .
دخل مالك المسجد و راح يصلّي لله و يستغفر لذلك الشخص الذي رماه بالنواة .
جاء الرجل مهرولاً و دخل المسجد و ألقى بنفسه على مالك يعتذر إليه و قال :
ـ اعتذر إليك ممّا فعلت فاقبل عذري .
أجاب مالك بابتسام :
ـ لا عليك يا أخي ، و الله ما دخلت المسجد إلاّ لكي أُصلّي و استغفر لك .
معركة صفين
كان الإمام يختار الصالحين من أهل التقوى و الإدارة و الحزم ولاةً على المدن ، لهذا عيّن مالكاً الأشتر حاكماً على الموصل و سنجار و نصيبين و هيت و عانات ، و هي مناطق واقعة على حدود الشام .
كان معاوية قد أعلن العصيان للخلافة و انفرد بحكم الشام .
حاول الإمام إقناع معاوية بالطاعة فبعث برسائل عديدة و أوفد إليه من يتحدّث معه ، و لكن بلا فائدة .
لهذا جهّز الإمام جيشاً و أسند قيادته إلى مالك الأشتر .
زحف الجيش باتجاه الشام و وصل منطقة " قرقيسيا " فاصطدم بجيش الشام تحت قيادة " أبي الأعور السلمي " .
حاول مالك الأشتر إقناع " قائد الجيش " بإنهاء التمرّد و الدخول في طاعة أمير المؤمنين الذي ارتضاه الناس خليفة لهم فرفض ذلك .
و في الليل ، انتهز جيش الشام الفرصة و قام بهجوم دون سابق انذار ، و كان هذا العمل مخالفاً للشريعة و الأخلاق لأنّه غدر .
قاوم جيش الخلافة الهجوم المباغت و كبّد المهاجمين العديد من القتلى و أجبره على الإنسحاب إلى مواقعه .
و مرّة اُخرى تجلّت فروسية مالك الأشتر ، فارسل إلى " أبي الأعور " مبعثواً يدعوه للمبارزة .
قال الرسول :
ـ يا أبا الأعور إن مالك الأشتر يدعوك للمبارزة .
جبن قائد جيش معاوية و قال :
ـ لا أُريد مبارزته .
وصلت إمدادات كبيرة بقيادة معاوية ملتحقة بجيش الشام .
و تقابل الجيشان في سهل " صفين " على ضفاف نهر الفرات .
احتلّت قطعات من جيش معاوية الشواطئ و فرضت حصاراً على النهر .
كان هذا العمل أيضاً مخالفاً للشريعة الإسلامية و لتقاليد الحروب .
بعث الإمام أحد صحابة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و هو " صعصعة بن صوحان " للتفاوض :
دخل صعصعة خيمة معاوية و قال :
ـ يا معاوية إن عليّاً يقول : دعونا نأخذ حاجتنا من الماء حتى ننظر فيما بيننا و بينكم ، و إلاّ تقاتلنا حتى يكون الغالب هو الشارب .
سكت معاوية و قال :
ـ سوف يأتيك ردّي فيما بعد .
خرج مبعوث الإمام ، و استشار معاوية رجال فقال الوليد بحقد :
ـ امنع الماء منهم ، حتى يضطروا للاستسلام .
و حظي هذا الرأي بتأييد كامل .
لقد جمع معاوية حوله كلّ الأشرار الذين لا يعرفونه حرمة للدين و الإنسانية .
كان مالك الأشتر يراقب ما يجري على الشواطئ فشاهد وصول تعزيزات عسكرية ، فأدرك أن معاوية يفكِّر بتشديد الحصار .
شعر جنود الإمام بالعطش ، و كان مالك عطشان أيضاً ، فقال له جندي :
ـ في قربتي ماء قليل اشربه .
رفض مالك ذلك و قال :
ـ كلاّ حتى يشرب جميع الجنود .
ذهب مالك إلى الإمام و قال :
ـ يا أمير المؤمنين ان جنودنا يصرعهم العطش و لم يبق أمامنا سوى القتال .
أجاب الإمام :
أجل لقد أعذر من أنذر .
و خطب الإمام في الجنود و حثّهم على الاستبسال قائلاً :
ـ الموت في حياتكم مقهورين .
و الحياة في موتكم قاهرين .
و انّ الحياة في أن يموت المرء شهيداً .
و قاد مالك الأشتر أوّل هجوم في حرب صفين و راح يقاتل ببسالة و يتقدّم باتجاه شواطئ الفرات .
و بعد اشتباكات عنيفة تمّ تحرير ضفاف النهر و إجبار جيش معاوية على الإنسحاب .
أصبح جيش معاوية بعيداً عن المياه ، و لهذا فكّر في حيلة لاستعادة مواقعه على نهر الفرات .
و في اليوم التالي سقط سهم بين جنود الإمام و كان في السهم رسالة ، قرأها الجنود باهتمام .
و انتقلت الرسالة بين الجنود بسرعة و انتشر الخبر : " من أخ ناصح لكم في جيش الشام : ان معاوية يريد أن يفتح عليكم النهر و يغرقكم ، فاحذروا " .
و صدّق الجنود ما ورد في تلك الرسالة فانسحبوا و انتهز جيش الشام الفرصة فأعاد احتلاله للشواطئ مرّة اُخرى .
غير أن جيش الإمام شن هجوماً كاسحاً و حرّر المنطقة من قبضة الاحتلال .
شعر معاوية بالقلق ، فسأل عمرو بن العاص :
ـ هل تظنّ ان عليّاً سيمنع علينا الماء ؟
أجاب عمرو بن العاص :
ـ إن عليّاً لا يفعل مثلما تفعل أنت .
كان جنود الشام يشعرون بالقلق أيضاً .
و لكن سرعان ما وصلت الأخبار بأن الإمام عليّاً سمح لهم بورود النهر و ترك لهم مساحة من الشواطئ كافية .
أدرك بعض أهل الشام الفرق بين معاوية و علي ، فمعاوية يفعل كلّ شيء من أجل أن ينتصر ، أمّا علي فلا يفكّر في ذلك ، إنّه يسير في ضوء المُثل و الأخلاق الإنسانية .
لهذا تسلل بعض الجنود ليلاً و انتقلوا إلى جبهة علي لأنّها تُمثّل الحقّ و الإنسانية .
معاوية
كان معاوية يشعر بالقلق من وجود مالك الأشتر ، لأن شجاعته و بسالته في القتال ألهب الحماس في جيش علي و بثت الذعر في جنود الشام .
فكّر معاوية في القضاء عليه عن طريق المبارزة الفردية ، فعرض الأمر على مروان ، و لكن مروان كان يخاف من مالك فاعتذر إلى معاوية و قال :
ـ لماذا لا تكلّف " ابن العاص " بذلك فهو ساعدك الأيمن .
عرض معاوية اقتراحه على عمرو بن العاص فاضطر لقبوله .
خرج ابن العاص يطلب مبارزة الأشتر .
تقدّم مالك نحوه و بيده رمحه ، و لم يترك له فرصة للدفاع فسدّد له ضربة عنيفة جرحت قسماً من وجهه فلاذ عمرو بن العاص بالفرار .
استشهاد عمّار
تصاعدت حدّة الاشتباكات و كان عمّار يقود الجناح الأيسر من جيش الإمام ، و يقاتل ببسالة رغم شيخوخته .
و عندما جنحت الشمس للمغيب طلب عمّار رضي الله عنه شيئاً يفطر به لأنّه كان صائماً .
أحضر أحد الجنود إناءً مليئاً باللبن و قدّمه إليه ، استبشر عمّار بذلك و قال :
ـ ربّما أُرزق الشهادة هذه الليلة فقد قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ، و آخر شرابك من الدنيا ضياح ( إناء ) من لبن .
أفطر الصحابي الجليل و تقدّم إلى ساحات القتال بقلبٍ عامر بالإيمان و ظلّ يقاتل حتى هوى على الأرض شهيداً .
جاء الإمام و جلس قرب الشهيد و قال بحزن :
ـ رحم الله عمّاراً يوم أسلم ، و رحم الله عمّاراً يوم استشهد ، و رحم الله عمّاراً يوم يبعث حيّاً . هنيئاً لك يا عمّار .
كان لإستشهاد عمّار بن ياسر في ساحة الحرب أثره في سير المعارك ، فقد ارتفعت معنويات جيش الإمام فيما انخفضت لدى جنود معاوية ، لأن المسلمين جميعاً يحفظون حديث سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) لعمّار بن ياسر : " يا عمّار تقتلك الفئة الباغية " أي المعتدية .
و أدرك الجميع ان معاوية و جنوده هم المعتدون و انّ علياً و أصحابه على الحقّ .
لهذا تصاعدت حدّة الحملات الهجومية في جبهة الإمام ، و راح معاوية و جيشه يستعدّون للهزيمة .
حيلة جديدة
فكّر معاوية بحيلة جديدة يخدع بها جيش الإمام ، فاستشار " عمرو بن العاص " .
قال عمرو بن العاص :
ـ أرى أن نخدعهم بالقرآن . نقول لهم : بيننا و بينكم كتاب الله .
فرح معاوية لهذه الحيلة و أمر برفع المصاحف على الرماح .
عندما شاهد جنود الإمام المصاحف ، فكّروا في إيقاف الحرب ، و بذلك انطلت الحيلة على كثير من الجنود .
قال الإمام : انّها مكيدة . أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله و أوّل من أجاب إليه . انّهم عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده .
و لكن عشرين ألفاً من الجنود عصوا أمر الإمام و قالوا :
ـ اصدر أمرك بايقاف القتال و قل للأشتر ينسحب .
أرسل الإمام أحد الجنود إلى مالك الأشتر يأمره بايقاف العمليات الحربية .
استمر مالك الأشتر في القتال و قال :
ـ ما هي إلاّ لحظات و نحرز النصر النهائي .
قال الجندي :
ـ و لكن الإمام محاصر بعشرين ألف من المتمرّدين و هم يهددون بقتله إذا لم توقف القتال .
اضطر مالك الأشتر للإنسحاب و قال :
ـ لا حول و لا قوّة إلاّ بالله .
التحكيم
كان مالك الأشتر يدرك أن ما قام به معاوية هو مجرّد حيلة ، و لكنه انصاع لأمر الإمام حتى لا تحدث الفتنة ، فكان قائداً شجاعاً و جندياً مطيعاً .
توقفت المعارك و اتفق الطرفان على الاحتكام إلى كتاب الله .
فأرسل معاوية عمرو بن العاص ممثّلاً عنه في المفاوضات .
و أراد الإمام أن يختار رجلاً عاقلاً فطناً عالماً بكتاب الله فاختار عبد الله بن عباس حبر الاُمّة .
و لكن المتمرّدين رفضوا ذلك مرّة اُخرى و قالوا :
نختار " أبا موسى الأشعري " .
فقال الإمام ( عليه السَّلام ) ناصحاً :
ـ أنا لا أرضى به ، و عبد الله بن عباس أجدر منه .
رفض المتمردون ذلك فقال الإمام :
ـ إذن اختار الأشتر .
فرفضوا أيضاً و أصرّوا على " أبي موسى الأشعري " .
و حتى لا تحدث الفتنة قال الإمام :
ـ اصنعوا ما شئتم .
و هكذا اجتمع الممثلان للمفاوضات .
فكّر عمرو بن العاص أن يخدع " الأشعري " فقال له :
ـ يا أبا موسى إن سبب الفتنة وجود معاوية و علي ، فتعال لنخلعهما عن الخلافة و نختار رجلاً آخر .
كان " الأشعري " لا يحبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فرحّب بالفكرة ، فقال أمام الجميع :
ـ إنّني أخلع عليّاً عن الخلافة كما أخلع خاتمي من يدي .
ثم نزع خاتمه .
و هنا قال عمرو بن العاص بخبث :
ـ أما أنا فأُثبّت معاوية في الخلافة كما أُثبّت خاتمي في يدي .
ثم لبس خاتمه .
شعر المتمرّدون بالندم ، و بدل أن يتوبوا و يعودوا إلى طاعة أمير المؤمنين فإنّهم طلبوا من الإمام أن يتوب و يعلن الحرب .
و لكن الإمام كان إنساناً يحترم العهود و المواثيق و قد اتّفق على الهدنة و إيقاف القتال لمدّة سنة .
طلب الإمام منهم أن يصبروا هذه المدّة و لكنهم عصوا أوامره أيضاً و خرجوا على طاعة الإمام لهذا سمّوا ب " الخوارج " .
مصر
فكّر معاوية أن يستولي على مصر ، فأرسل جيشاً كبيراً لاحتلالها .
كان الوالي على مصر محمّد بن أبي بكر " الخليفة الأوّل " .
أرسل الوالي يطلب الإمدادات العسكرية بأقصى سرعة قبل أن تسقط مصر بأيدي الغزاة .
فأرسل الإمام مالكاً الأشتر و قال له :
ـ توجّه إلى مصر رحمك الله ، و لست أوصيك بشيء لأنني أكتفي برأيك .
استعن بالله .
استعمل اللين في مواضعه و الشدّة في مواضعها .
و انطلق الأشتر إلى مصر .
السمّ و العسل
شعر معاوية بالقلق فهو يدرك ان وصول مالك الأشتر إلى مصر يعني إنقاذها ، لهذا فكّر بقتله .
و كان معاوية يستورد هذه السموم من القسطنطنية ، و كان الروم يسمحون بتصديرها لأنّهم يعرفون ان معاوية يستخدمها لقتل المسلمين .
قال عمرو بن العاص :
ـ انّي أعرف رجلاً يسكن مدينة القلزم على حدود مصر و هو يملك أراضٍ واسعة و لابدّ أن يمرّ الأشتر في هذه المدينة و يتوقّف فيها للإستراحة .
قال معاوية :
ـ إذن اتصل به و اخبره إذا تمكّن من اغتيال الأشتر فسنعفيه من دفع الضرائب مدى الحياة .
و هكذا انطلق مبعوث معاوية على وجه السرعة ، و أخذ معه العسل المسموم ليتصل بذلك الرجل و يقنعه بهذه المهمّة .
الشهادة
وافق الرجل على اقتراح معاوية و أخذ الخليط القاتل ، يترقّب وصول مالك الأشتر .
و بعد أيام قليلة وصل مالك مدينة القلزم .
دعا الرجل والي مصر الجديد لأن يحلّ ضيفاً في منزله .
لبّى مالك الأشتر الدعوة شاكراً .
وضع الرجل إناء العسل المسموم في مائدة الطعام .
و عندما تناول الضيف ملعقة واحدة شعر بألم شديد في أمعائه و أدرك المؤامرة ، فقال و هو يضع يده على بطنه :
ـ بسم الله . . إنّا لله و إنّا إليه راجعون .
و استقبل مالك الأشتر الموت بشجاعة المؤمن المطمئن الذي يعرف انّ طريقه هو طريق الإسلام و الجنّة .
و عندما استشهد مالك الأشتر ، كاد معاوية أن يطير من الفرح و قال :
ـ لقد كانت لعليّ بن أبي طالب يدان .
قطعت إحداهما يوم صفين و هو عمّار بن ياسر .
و قطعت الاُخرى اليوم و هو مالك الأشتر .
أمّا أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) فقد شعر بالأسف العميق و قال بحزن :
ـ رحم الله مالكاً . .
فقد كان لي كما كنت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
أي ان مالكاً ( رضوان الله عليه ) كان يحبّ عليّاً و يطيعه كما كان عليّ ( عليه السَّلام ) يحبّ سيدنا محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) و يطيعه .
و هكذا ختم مالك الأشتر ( رضوان الله عليه ) حياته الحافلة بالجهاد لتبقى سيرته المضيئة مثالاً لشباب الإسلام في كل مكان .
الحمد لله وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليما كثيرا