إعـــــــلان

Collapse
No announcement yet.

الفرق بين معنى العدالة (( نيتي ونیایا )) في الادبيات الهندية

Collapse
X
 
  • Filter
  • الوقت
  • Show
Clear All
new posts
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    الفرق بين معنى العدالة (( نيتي ونیایا )) في الادبيات الهندية


    مقتبس من كتاب فكرة العدالة - امارتيا سن - صفحة 58

    في فهمنا التباين القائم بين النظرة المنصبة على الترتيب ((النظرة المافوقية)) وبين النظرة المنصبة على الإنجـاز الفعلى ((النظرة الماتحتية))، من المفيد أن نستدعي من الأدبيات السنسكريتية فارق قديما في الأخلاق والفقه. لنأخذ الكلمتين المختلفتين - نيتي Niti و نیایا Nyaya - اللتين تعنيان كلتاهما العدالة بالسنسكريتية الفصحي.

    من الاستخدامات الأساسية الكلمة ((نيتي )) معنى ((الملاءمة التنظيمية )) و((الصوابية السلوكية )).

    أما كلمة ((نيايا)) فتعني، بخلاف كلمة نیتی، مفهوما شاملا للعدالة الناجزة.

    وفق خط النظر ذاك، يتعين تقييم أدوار المؤسسات والقواعد والتنظيم، على أهميتها، من منظور النيايا الأشمل والأكثر استيعاباً، المرتبط حتما بالعالم التي يظهر في الواقع، وليس فقط المؤسسات أو القواعد الذي حدث أن صارت لدينا

    النأخذ تطبيقا خاصا، فقد تحدث منظرون قانونيون هنود قدماء باستخفاف عما سموه ماتسیانیایا matsyanyaya ((العدالة في عالم السمك))، حيث تلتهم السمكة الكبيرة متى شاءت السمكة الصغيرة.

    ونبهونا إلى أن تجنب ((عدالة السمك)) يجب أن يكون جزءا أساسيا من العدالة، وأن من الأهمية بمكان الحرص على ألا تغزو عدالة السمك عالم البشر.

    المدرك المركزي هنا هو أن تحقق العدالة بمعنی ((نیایا)) ليس فحسب مسألة الحكم على المؤسسات والقواعد بل الحكم على المجتمعات نفسها.

    فلا أهمية المدى ملاءمة التنظيمات والقواعد القائمة إذا كانت السمكة الكبيرة ما تزال تلتهم السمكة الصغيرة متى شاءت، عندئذِ، لا بد أن يكون ذلك خرقا واضحاً للعدالة البشرية متمثلة ب النيايا .


    دعني أضرب لك مثلا لتوضيح الفرق بين نيتي ونیایا. اشتهر عن إمبراطور روما المقدسة فرديناند الأول أنه قال ذات مرة: (( فليقم العدل ولو فنـي العالم ))


    يمكن تصوير هذا القول الماثور الحدي ك (( نيتي )) صارم جدا يؤيده البعض (كما كان تماما شأن الإمبراطور فردیناند في الواقع، لكن قد يكون من الصعب قبول كارثة شاملة مثلا لعالم عادل، عندما نفهم العدالة بشكلها الأوسع نیايا. فإن فني العالم فعلا، لا يعد لدينا شيء كثير الاحتفال بذلك الإنجاز، وإن كان يمكن تصور الدفاع عن ال نيتي الشديدة الصارمة المؤدية إلى هذه النتيجة الحدية بحجج مختلفة شديدة التعقيد .


    كذلك المنظور الماواقعي يجعل من السهل إدراك أهمية منع الظلم الواضح من العالم، بدل السعي العدالة الكاملة. وكما تبين من مثال عدالة السمك، ليس موضوع العدالة مجرد محاولة تحقيق - أو الحلم بتحقيق - نوع من المجتمع العادل أو الترتيبات الاجتماعية العادلة تماما، بل منع الظلم الفادح السافر (كتجنب دولة عدالة السمك الرهيبة.

    فمثلاً، عندما ثار الناس للقضاء على العبودية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم يفعلوا ذلك بشرط أن يؤدي القضاء على العبودية إلى عالم عادل تماما.

    بل كان يقولون إن مجتمع العبودية كان جائرا جدا من الكتاب آنفي الذكر الذين كانوا منشغلين تماما بتقديم هذا المنظور، آدم سميث وكوندورسيه وماري وولستونکرافت).

    كان تشخيص ظلم العبودية الذي لا يطاق هو الذي جعل القضاء عليها أولوية مهيمنة، ولم يستوجب ذلك البحث عن إجماع على ما يعتبر مجتمعاً عادلا تماما.

    وأولئك الذين ظنوا، من كل عقولهم، أن الحرب الأهلية الأمريكية، التي أدت إلى القضاء على العبودية، كانت إنجازا كبيرا اللعدالة بأمریکا ربما يضطرون إلى ترويض أنفسهم على تقبل حقيقة أنه لا يوجد الكثير مما يقال في منظور المؤسسية المافوقية (( حيث لا تباین سوی بین ما هو عادل تماما وما سوى ذلك )) حول تقدم العدالة من خلال القضاء على العبودية .

    اهمية الصيرورات والمسؤليات

    ربما كان أولئك الذين يميلون إلى النظر إلى العدالة من خلال ال نيتي بدل النيايا ، بصرف النظر عما يسمون هذا الانقسام الثنائي، متأثرين بخوفهم من أن يميل بهم التركيز على التطورات المعنية إلى تجاهل أهمية الصيرورات الاجتماعية، بما في ذلك ممارسة الواجبات والمسؤوليات الفردية، قد تكون نفعل الصواب ومع ذلك لا تجد او، قد تحصل على نتيجة طيبة ليس لأن سویا با ما آخر، ربما كان حتی عارضا، وقد وهم وهما العدالة تحتفت.

    ورب قائل إلى التركيز فحسب على ما يحدث في الواقع، وتجاهل الصيرورات والمساعي والسلوكيات جملة واحدة، قد لا يكون كافيا.

    وقد يختلط الأمر على الفلاسفة الذين يشددون على دور الواجب والسمات الأخرى لما يسمونه ((متقارية الواجب )) فيظن أن التمی ببین الترتيبات النظرية ) والتبلورات الفعلية يشبه ربما إلى حد بعيدالتباين القديم القائم المقارية المنصبة على الواجب والمقاربة المنصبة على العواقب إلى العدالة

    أو لنأخذ مثالا آخر مختلفا. في القصيدة الملحمية الهندية الماهابهاراتا، وفي الجزء منها المسـمى بهاغاٹادجيتا أو جیتا، اختصارا

    عشية المعركة التي هي الحدث المركزي في الملحمة الشعرية، يعبر البطل الذي لا يهزم، أرجونا، عن قلقه العميق مما ستؤدي إليه المعركة من ضحايا كثيرة تجعله يتردد في خوضها. أشار عليه مستشاره، کریشنا، بأن يعطي الأولوية لواجبه، أي، أن يخوض المعركة، بصرف النظر عن العواقب.

    غالبا ما يفسر ذلك الجدل الشهير على أنه صراع بين أدب الواجب والنظر في العواقب ، يحث فقیه کریشنا، عالم الأخلاق، أرجونا على أداء واجبه، بينما ينتاب الأخير الناظر المزعوم في العواقب، القلق من العواقب الرهيبة للحرب..

    أراد کريشنا من تلبية مطالب الواجب كسب النقاش، على الأقل كما يرى من المنظور الديني.

    بالفعل، أصبحت البها غافادجيتا رسالة بالغة الأهمية في الفلسفة الهندية، تركز خاصة على نزع الشكوك من فكر أرجونا . وقد ايد بقوة كثير من شُرّاح الفلسفة والأدب في العالم.

    ففي الرباعيات الأربع، يلخص تي إس إليوت رأي کريشتا بصيغة نصح: فامض، یا رکب، للأمام./ لا تعبا مع الإقدام ويشرح إليوت لنا النقطة حتى لا يفوتنا المقصود: لا وداعا أقول: أيها الركب، إنما للأمام.

    قلت في كتاب آخر ((الهندي المجادل )) إننا إذا خرجنا من الحدود الضيقة لخاتمة الجمال في الجزء من ال هابهاراتا المسمى بهاغاقادجيتا، ونظرنا إلى المقاطع الأولي لهذا الجزء التي يعرض فيها أرجونا رأيه، أو نظرنا إلى الماهابهاراتا ككل، اتضحت لنا تماما محدوديات رأي کريشنا أيضا .

    بالفعل، في أواخر الماهابهاراتا، بعد الخراب الكامل للأرض الذي أعقب النهاية المظفرة ل الحرب العادلة، وفيما كانت محارق الجثث تنتقد بانسجام والنساء ينحن على من هلك من أحبائهن، يصعب الاقتناع بغلبة راي گريشنا تماما على رأي أرجونا الأشمل. وربما بقي مغزى قوي في ((وداعاً )) كذلك، لا في ((إلى الأمام)) فحسب.

    وبالرغم من أن هذا التعارض ربما ينطبق عليه عموما معنى التمييز بين وجهة النظر في العواقب ووجهة النظر إلى الواجب، فمن المهمهنا تجاوز ذلك التناقض البسيط إلى معاينة نحوی شواغل أرجونا ككل حول تردده في الإقدام.

    فلم يكن أرجونا قلقا نحسب من حقيقة أنه، أو كان للحرب أن تقع، وكان هو قائد الحشود التي تقف إلى جانب العدالة والنزول عند مقتضيات الواجب، الناس يقتلون.

    بل كان أرجونا يعبر كذلك عن قلقه، في القسم الأول من الجيتا ذاتها، من أنه هو نفسه سيقتل حتما كثيرا من الناس الذين كان يكن لأكثرهم ودا وكانت تربطه علاقات شخصية، في هذه المعركة بين جناحي العائلة نفها،. التي انضم إليها آخرون، يعرفهم الطرفان.

    بالفعل، فالحدث الحقيقي الذي قلق أرجونا بتجاوز النظرة المنفصلة عن الصيرورة إلى العواقب.

    فالفهم الصحيح للإنجاز الاجتماعي - ذي الأهمية المركزية للعدالة بصفتها نيابا - يجب أن يأخذ في الاعتبار الشكل الشامل للسرد المشتمل على الصيرورة وسيكون من الصعب إسقاط منظور الإنجازات الاجتماعية بحجة أنه محصور بالنظر في العواقب فحسب ويتجاهل الأساس الفكري الشواغل الواجب.



    المؤسسية المافوقية واللامبالاة العالمية

    أنهي هذه المناقشة التمهيدية بملاحظة أخيرة حول جانب مفيد خاص التركيز المهيمن في الفلسفة السياسية السائدة على المؤسسة المافوقية. لنأخذ أيا من التعديلات الكبيرة الكثيرة التي يمكن أن تطرح لإصلاح البنية المؤسسية لعالم اليوم لجعله أكثر عدلأ وأقل جورا بالمعایر المقبولة عموما.

    خذ، مثلا، إصلاح قوانين الاختراع التي تجعل الأدوية الثابتة رخيصة الإنتاج أيسر تناولا على المرضى الفقراء الذين يعانون من الإيدز، مثلا) - وهذه قضية تتسم بعض الأهمية للعدالة العالمية.

    السؤال المتوجب علينا طرحه هنا هو:

    ما هي الإصلاحات الدولية التي نحتاج الجعل العالم أقل جورا بقليل مما هو عليه الآن؟

    لكن ذلك النوع من النقاش حول تعزيز العدالة عموما، وتوسيع العدالة العالمية خصوصا، سوف يبدو مجرد حدي فضفاض لأولئك المقنعين بدعوى هوبس - وراولز – أننا نحتاج إلى دولة ذات سيادة لتطبيق مبادئ العدالة من خلال اختبار مجموعة مثالية من المؤسسات: وهذا انعكاس مباشر لأخذ مسائل العدالة في إطار المؤسسية المافرقية. وسوف تتطلب العدالة العالمية الكاملة، من خلال مجموعة من المؤسسات العادلة تماما إن أمكن إيجاد هكذا شيء، حتما دولة عالمية ذات سيادة، وفي غياب مثل هذه الدولة، تبدو مسائل العدالة العالمية للمافوقين غير واردة

    لنأخذ النبذ القوي لفكرة العدالة العالمية من جانب واحد من أكثر الفلاسفة المعاصرين أصالة وقرة وإنسانية، صدیقي ((توماس ناجل)) ، الذي تعلمت منه الكثير.

    ففي مقال له شديد الأسر في مجلة الفلسفة والشؤون العامة فهم المافوقي للعدالة ليخلص إلى أن العدالة العالمية موضوع لا يصلح للنقاش، لأن المتطلبات المؤسسية الدقيقة التي يتطلبها العالم العادل لا يمكن تلبيتها على المستوى العالمي في هذا الوقت.

    وكما يقول، فإنه يبدو الي صعب جدا مقاومة دعوى هوبس حول العلاقة بين العدالة والسيادة وإذا كان هوبس على حق، فإن فكرة العدالة العالمية بلا حكومة عالمية وهم.

    في السياق العالمي، يركز ناجل، بالتالي، على توضيح المتطلبات الأخري، التي يمكن تمييزها عن متطلبات العدالة، كال الحد الأدنى من الفضيلة الإنسانية التي تحكم علاقتنا بكل الأشخاص الآخرين( وكذا الاستراتيجيات طويلة المدى للتغيير الجذري في الترتيبات المؤسية

    Thomas Nagel, The Problem of Global Justice', Philosophy and Public Affairs, 33 (2005), p. 115



    أعتقد أن المسار الأرجح إلى نوع ما من العدالة العالمية سيكون من خلال خلق هياكل سلطوية جائرة وغير شرعية بشكل سافر يمكن التغاضي أكثر الدول الأمم الحالية قوة.

    التناقض هنا هو بین النظر إلى الإصلاحات المؤسسية بدلالة دورها في أخذنا إلى العدالة المافوقية (كما يعرفها ناجل)، وبين تقييمها بدلالة التحسين الذي تأتي به هذه الإصلاحات بالفعل، لاسيما من خلال إلغاء ما يعتبر حالات ظلم سافر ).

    في مقارية راولز أيضا، يتطلب تطبيق نظرية ما في العدالة مجموعة كبيرة من المؤسسات تشكل الهيكل الأساسي للمجتمع العادل تماما.
    لا غرابة، فراولز يتخلى في الواقع عن مبدايه للعدالة عندما يتعلق الأمر بتقييم كيفية التفكير في العدالة العالمية، ولا يمضي في الاتجاه الخيالي فيطالب بحكومة عالمية.

    وفي كتاب صدر له لاحقا بعنوان (( قانون الأمم )) يستدعي راولز نوعا من ((المتمم)) لمسعاه الوطني أو، داخل البلد الواحد لتلبية متطلبات العدالة بصفتها إنصاف.

    لكن هذا ((المتمم)) يأتي في صورة هزيلة جدا، من خلال نوع من التفاوض بين ممثلي مختلف البلدان حول بعض المسائل الأولية جدا للكياسة والإنسانية - ما يمكن اعتباره سمات محدودة جدا للعدالة.

    في الحقيقة، لا يحاول راولز استنباط مبادئ عدلية مما قد يتمخض عن تلك المفاوضات )بالفعل، لا يمكن أن يتمخض عن هذه المفاوضات شيء يمكن أن يستی پهذا الاسم، ویرکز بدلا من ذلك على بعض المبادئ العامة للسلوك الإنساني

    بالفعل، تقلص نظرية العدالة، على النحو الذي صيغت به في إطار المؤسسية الماقوقية الحالية - وإن بحسن نية - كثيرا من أكثر القضايا صلة بالعدالة إلى كلام فارغ.

    فعندما يتحرك الناس في العالم للحصول على قدر أكبر من العدل - واشدد هنا على الكلمة النسبية "أكبر - لا يطالبون بنوع من الحد الأدني من الإنسانية.

    ولا هم يتحركون سعيا لمجتمع عالمي عادل تماما، بل لرفع بعض الترتيبات الجائرة بشكل طاغ لتعزيز العدالة العالمية، كما فعل آدم سميث، أو كوندورسيه او ماري و ولستونکرافت في زمنهم، يمكن التوصل إلى الاتفاق عليها بالنقاش العام، بالرغم من استمرار تباعد الآراء في مسائل اخرى وإلا، فلا عزاء للمظلومين ربما إلا في قصيدة سيموس هيني المؤثرة



    يقول التاريخ لا أمل.. في هذا الجنب من القبر


    ولكن يعلو مد العدل.. المأمول يوما في العمر


    وتسقط لا من لا أمل.

    بالرغم من شدة التوق إلى أن تسقط الا من لا أمل، ليس في المؤسسية المافوقية منع كبير لذاك الوعد.

    تقدم هذه المحدودية مثالا للحاجة إلى بينونة كبيرة عن نظريات العدالة السائدة، وذلك هو موضوع هذا الكتاب
    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار
  • نجمة الجدي
    مدير متابعة وتنشيط
    • 25-09-2008
    • 5278

    #2
    رد: الفرق بين معنى العدالة (( نيتي ونیایا )) في الادبيات الهندية

    مقتبس من كتاب فكرة العدالة - امارتيا سن - صفحة 309


    التبلورات الفعلية والعواقب والمشيئة

    تحدثت في المقدمة عن محادثة مهمة جرت في ملحمة مهابهاراتا السنسكريتية القديمة.
    الحوار بين أرجونا، المحارب العظيم بطل الملحمة، وبين کريشنا، صديقه ومستشاره، عشية معركة(( کورو کشطرا الكبرى))، في مكان غير بعيد عن مدينة دلهي.
    يدور الحوار حول واجبات البشر عموما وواجبات أرجونا خصوصا، يصدر فيها أرجونا و کریشنا عن آراء متباعدة جذرية. وأستهل هذا الفصل بمعاينة وافية للمسائل التي انطوى عليه الجدال بين الاثنين .

    كانت معركة کوروكشطرا بين ((الپندافاء )) العائلة المالكة الفاضلة وعلى رأسها يودستيرا (أخي أرجونا الأكبر والوريث الشرعي للعرش)، من جهة، وبين الكورافا، أبناء عمومتهم، من جهة أخرى، الذين أخذوا المملكة غصب.
    وقد اتخذت أغلب العائلات الحاكمة في مختلف ممالك الهند،شمالها وشرقها وغربها، هذا الجانب أو ذاك في هذه المعركة الملحمية ،وضم الجيشان المتواجهان نسبة كبيرة من الرجال الأقوياء في البلاد.
    كان أرجونا المحارب العظيم الذي لا يقهر يقف في الجانب الصحيح، جانب الپندافا. وكریشنا هو سائق عربة أرجونا، لكن أريد له في الملحمة أن يجسد الرب في صورة بشر.
    تُغني قوة جدال أرجونا-کريشنا قصة الملحمة، لكنها ولدت كذلك على مر العصور كثيرا من المداولات الأخلاقية والسياسية .
    يُدعى القسم من الملحمة الذي وردت فيه هذه المجادلة ((بهاغافادجيتا )) أو جيتا اختصارا، وقد شد اهتماما دينيا وفلسفيا استثنائيا فضلا عن أسره القراء العاديين بالطبيعة المثيرة للمجادلة نفسها .
    نظر أرجونا وكريشنا إلى الجيشين على الطرفين وفكرا في المعركة الكبرى التي توشك أن تقع. ثم عبر أرجونا عن شكوكه العميقة حول ما إذا كان ينبغي له القتال.
    لم يشك أرجونا في عدالة قضيته، وأن هذه حرب عادلة، وأن جانبه كذلك سيكسبها بالنظر إلى قوته (لا أقله لأن مهارات أرجونا الفذة في صفه کمحارب وقائد عظيم)، لكن أرجونا يرى أن مقتلةً رهيبة ستقع. وأرّقه كذلك أنه سيضطر إلى قتل عدد كبير من الناس هو نفسه، وأن أغلب الذين سيشاركون في القتال وقد يلقون حتفهم فيه لم يفعلوا شيئا يلامون عليه إلا أنهم اتخذوا هذا الجانب أو ذاك (غالباً بدافع ولاءات القربي وغير ذلك من روابط ).
    ولئن كان قلق أرجونا مرده الماساة التي توشك أن تعم البلاد، والتي يمكن تقييدها كذلك دون اعتبار خاص لدوره هو في المذبحة، فإن جانبا من هذا القلق يأتي ولا شك من أنه نفسه سيقتل كثيرا من الناس الذين يكن لأكثرهم ودا وتربطه بهم علاقات شخصية.
    وهكذا، فثمة سمات موضعية وظرفية لرأي أرجونا الراغب عن القتال .

    يقول أرجونا لكريشنا إنه ما ينبغي له في الواقع أن يقاتل ويقتل، وربما كان الأجدر بهم بساطة ترك(( الكورافا )) يحكمون المملكة التي اغتصبوها دون وجه به حق، وأن هذا ربما كان أهون الشرين.
    أما کریشنا فیری خلاف ذلك، مشددا على أولوية قيام المرء بالواجب بصرف النظر عن العواقب.
    وهو ما صار يستدعي مرة بعد مرة في المناقشات الهندية في الفلسفة الدينية والأخلاقية.
    بالفعل. فبالتحول التدريجي لكريشنا من نبيل ولكن محارب موال للباندا فا إلى تجسيد للرب، صارت الجيتا كذلك وثيقة ذات أهمية لاهوتية كبيرة .
    يجادل کريشنا في أن على أرجونا القيام بواجبه، وليكن ما يكون ولا يسعه التنازل عن التزاماته كمحارب وقائد عام ينتظر منه ألا يخذل الذين وقفوا في صفه.
    وكان حين الواجب العالي عند کریشنا، وتفكيره المنصب على وجوب القيام بالواجب بصرف النظر عن العواقب، مؤثرا جدا في الجدالات الأخلاقية التي شهدتها العصور التالية.
    أتصور أنه إشادة بقوة النظرية الصرفة أن ألهمت كلمات کریشنا حول وجوب قيام المرء بالواجب بصرف النظر عن العواقب حتى المسالم العظيم، غاندي ((الذي اقتبس مرارا كلمات كريشنا في ال جيتا)) ، وإن كان الواجب في هذه الحال يحتم على أرجونا خوض حرب عنيفة وألا يضيق صدره بقتل الآخرين، وهي مسألة ما كان يتوقع من غاندي عادة أن يتحمس لها.
    كذلك حظي موقف کریشنا الأخلاقي بتأييد بليغ من كثير من شارحي الفلسفة والأدب في العالم؛ وكان الإعجاب بال جيتا، لاسيما بآراء کریشنا، ظاهرة دائمة في جوانب من الثقافة الفكرية الأوروبية. وقد ترجم ((كريستوفر إيشرو ود )) الـ بهاغاقادجيتا إلى الإنجليزية، وفسر تي.إس. إليوت فکر کریشنا و غلف بالشعر رسالته الأساسية في صورة وصية فامض، يا رب، للأمام. لا تعبأ بمغبة الإقدام. لا وداعا أقول، أيها الركب إنما إلى الامام .

    حجج أرجونا
    ويتواصل الجدال، ويعرض أرجونا و کریشنا كل منهما أفكاره على مؤيديه، ما يمكن اعتباره مناظرة كلاسيكية بين خلق أداء الواجب بصرف النظر عن العواقب وبين التقييم المتحسب لهذه العواقب.
    يذعن أرجونا في النهاية،بعد أن يسند کریشنا القوة الفكرية لحجته بنوع من الإظهار الخارق لربانيته .
    لكن هل كان أرجونا مخطئا فعلا ؟
    لم نود أن يقال كما قال إليوت امض بارك للأمام، فحسب لا وداعا كذلك؟
    هل يمكن أن يبطل اعتقاد المرء وجوب أن يقاتل نصرة لقضية عادلة بصرف النظر عن العواقب أسباب إحجامه عن قتل الناس، بمن فيهم أولئك الذين يكن له ودا؟
    وهل هذه حجة مقنعة؟
    بيت القصيد هنا ليس أن أرجونا سيكون معه الحق كل الحق في رفض القتال ((وقد كانت هناك حجج كثيرة ضد انسحاب أرجونا من المعركة غير تلك التي ركز عليها کريشنا))، بل هناك كثير مما يتطلب الترجيح والموازنة، وإن رأي أرجونا المنصب علی المحافظة على الحياة البشرية لا يمكن دحظه بمجرد استدعاء ظاهر القول بواجب القتال، دون النظر في المآل .
    بالفعل، هاهنا انقسام بين موقفين جوهريين يمكن الدفاع عن كل منهما بطرق مختلفة.
    لكن لما كانت معركه(( كوروشطرا )) ستلقي بظلالها الكثيفة على حيوات الناس في البلاد، كما ترى في الملحمة الشعرية نفسها، لا بد أن تستدعي القرارات حول ما الذي ينبغي عمله تقييماً انتقادياً واسعاً الا مجرد رد بسيط قائم على إغماض العين عن سائر الشواغل إلا واجب القتال المفترض، ما حصل، أن كان ذلك واجب أرجونا كجندي .
    وبالرغم من أن ال جیتا کوثيقة دينية تفسر على أنها تأخد بحزم جانب کریشنا، فإن ملحمة مهابهاراتا التي جرت فيها المجادلة كجزء من أوسع تعطي الجانبين كليهما فسحة أرحب کلا لبناء حججه.
    بالفعل،تنتهي الملحمة بطامة ورثاء القتلى والأشلاء، فقد ديف النصر والظفر بالكرب والكدر، وساد العدل وباد الناس. يصعب على المرء ألا يرى في هذا مبرر لشكوك أرجونا العميقة. .
    روبرت أوپنهایمر، الذي قاد في 16 يوليو 1945 ، عندما رأى جيه. روبرد الفريق الأمريكي الذي طور القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية القوة المذهلة لأول تفجير نووي من صنع الإنسان، استحضر من ال جيتا کلمات کریشنا ((صرت أنا الموت، مدمدم العوالم)).
    وكالنصيحة التي تلقاها من کریشنا أرجونا المحارب أن عليه أن يقاتل في سبيل القضية العادلة، وجد أوپنهايمر الفيزيائي مبر راً، آنذاك، لالتزامه التقني بتطوير قنبلة لصالح ما كان واضحا أنه الطرف الصحيح.
    لكنه في مناقشته العميقة إسهامه في تطوير القنبلة، بعد تطويرها، سيعيد اوپنهایمر النظر في موقفه بنوع من الإدراك المتأخر ويقول: عندما ترى شيئا بارعا من الناحية الفنية، تمضي إلى عمله غير متسائل ما الذي ستصنع به إلا بعد أن تصنعه وتدرك نجاحك الفني .
    وبالرغم من هذا الدافع الذي لا يقاوم المضي للأمام، كان لدي او پهایمر ما يكفي من سبب للتأمل كذلك في شواغل ارجونا: كيف يمكن أن يأتي الخير من قتل هذا العدد من البشر (لا أن يستثار فحسب بکلمات كريشنا)؟
    ولم ينبغي بواجبه كفیز يائي ، متجاهلا سائر العواقب ومنها ما سينجم عن قيامه به من شفاء و موت ؟

    الآن، بانتقالنا من هاهنا إلى ما لهذا كله من صلة بمتطلبات العدالة ، من المفيد التمييز بين عناصر ثلاثة مختلفة، وإن كانت متشابكة، في تفكير أرجونا، غالبا ما جعل معا في الأدبيات الأوسع التي ولدتها ال جیتا، لكنها نقاط متمايزة، تتطلب كل منها اهتماما منفصلا .

    أولاً، الشي المركزي في فكر أرجونا اعتقاده العام أن ما يحصل للعالم مهم وأنه يجب أن يكون له شأن في تفكيرنا الأخلاقي والسياسي
    لا يسع المرء أن يغلق عينيه عما يجري في الواقع، ويلزم مفهوم نيتي للعدالة (أي الصوابية السلوكية)، متجاهلا تماما ما ينشأ من ذلك من واقع .
    يتمم هذا الجانب من زعم أرجونا، الذي يمكن تسميه ((صلة العالم الفعلي)) تحديد الجزء من العالم الفعلي الذي يهتم له: أي حياة وموت الناس المعنيين.

    ثمة حج عام هنا حول أهمية الحياة، تظل تلح علينا مهما لنا إلى غيرها من حجج، کتجنب المرء ما يواجه من انتقادات قاسية ليسلك السلوك الصحيح، وكإعلاءِ مجد أسرة حاكمة أو مملكة ما أو لأجل أن تنتصر الأمة، كما بدا ربما بأوروبا في الحرب العالمية الأولى الدامية

    من حيث التمييز الكلاسيكي بين ال ((نیایا )) وال (( نیتي )) الذي أقمنا في المقدمة، تميل حجج أرجونا بقوة إلى جانب نيايا، لا إلى جانب نيتي: أي خوض حرب عادلة مراعاة في المقام الأول لواجب المرء كقائد عسكري(( أي بدافع من صوابية هذا السلوك في القوانين والأعراف السائدة))
    فما كنا ندعوه ((الإنجاز أو التبلور الاجتماعي)) هام جدا في هذا النقاش.

    وفي ذلك الإطار العام، هناك حجة نراها حاضرة دوماً في فكر أرجونا، وهي أننا لا نستطيع تجاهل ما يحصل لحيوات الناس خاصة في تقييم أخلاقي أو سياسي من هذا النوع .



    قال يماني ال محمد الامام احمد الحسن (ع) ليرى أحدكم الله في كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، وقبل كل شيء . حتى يعرف الله ، وينكشف عنه الغطاء ، فيرى الأشياء كلها بالله ، فلا تعد عندكم الآثار هي الدالة على المؤثر سبحانه ، بل هو الدال على الآثار

    Comment

    Working...
    X
    😀
    🥰
    🤢
    😎
    😡
    👍
    👎