منقول من كتابات
موت المرجعيات المزيفة
كتابات - أبو محمد الأنصاري
غريب جداً ما يحدث في العراق ، فالشعب العراقي الذي ارتبط تأريخه ، البعيد منه والقريب على حد سواء ، بصفحات مشرقة من المقاومة ورفض المحتل ، وأقربها ما حدث مطلع القرن المنصرم إبان الثورة العراقية في العشرين ، هذا الشعب ( هل هو نفس الشعب ؟ ) يبدو اليوم شعباً ميتاً تماماً ، بلا دين ولا تأريخ ولا حتى ذاكرة وطنية تستحثه على الانتفاض لكرامته المستباحة .
الشعب العراقي يعيش حالة من الإغتراب عن تأريخه وثقافته ودينه ، حتى لكأنه نبتة كمأ تطفو على السطح دون جذور ، أو كأنه مجموع من الناس حملهم السيل ذات صدفة ، فلا عمق يربط بينهم ولا تجربة مشتركة عانوا مرارتها معاً ، بل هم أقرب ما يكونون الى الهيولى غير المنتظمة سرعان ما تشكلهم الصور الطارئة .
وإذا كانت حركة الشعوب تنطلق في العادة بدفع من مرجعيات ذات كاريزمات دينية أو وطنية أو ثقافية فإن موت الحركة الواضح يشير حتماً الى موت هذه المرجعيات في العراق ، و حقيقة الموت هذه واضحة ، وإن تباينت الأسباب ، وتعددت أشكال الموت نفسه . وبالنسبة لواقع ثقافي كالواقع العراقي يسيطر فيه رجال الدين (كذا) على الشارع بشكل كبير جداً ، ويشكلون الى حد بعيد المرجعية الوحيدة ذات التأثير الحقيقي في الجماهير ، في ظل هكذا واقع لابد أن تمتد أصابع الاتهام وتشخيص الخلل الى هذه الفئة من الناس بدرجة أكبر وأولى من سواها ، ولعل هذه الحقيقة لا تخفى عن أحد ، فليس أشهر من دور المؤسسة السيستانية عن موت الإرادة وتغييب الوعي الجماهيري سواء في زمن الديكتاتورية الصدامية أو زمن الإحتلال الأمريكي ، بل لعل فترة الإحتلال قد فضحت هذه المؤسسة وأزالت عنها البرقع الذي كانت تستر به وجهها القبيح ، فلطالما تذرعت مرجعية السيستاني بالتقية وقسوة النظام الصدامي لتخدع الجماهير وتبرر جبنها ونكوصها عن وظيفتها ، هذه الذريعة سقطت اليوم بعد أن أصبح رجال السيستانية هم المتحكمون بمصير البلاد والعباد ، و الجلادون الذين تلهب سياطهم ظهور الجماهير وتملأ فضائحهم ومفاسدهم البر والبحر .
ولعل ثمة من يبرر حالة الفوضى والوهن التي تميز المشهد العراقي بالأدواء المستوطنة التي توارثها العراقيون من قبيل الطائفية والتخلف الثقافي غير أن مثل هذا التبرير ليس في الحقيقة سوى قطع لتسلسل الفكرة التي لابد من الوقوف بها عند العلة الأصل المتمثلة بمرجعيات الوعي ، فهذه المرجعيات كان لها دور ليس في الفشل في تقديم الحلول المناسبة فقط ، ولكن أيضاً في ديمومة أمراض الوعي واستثمارها في تحقيق مآربها ومصالحها الضيقة ، ولعل الكشف عن هذه الحقيقة بالوضوح الذي نراها عليه هي الحسنة الوحيدة – إن كانت ثمة من حسنة – للإحتلال ، فالعراق المستباح يُظهّر صورة واحدة – وربما وحيدة – متفق عليها هي صورة الوطن الذي يستثمر أهل الحل والعقد فيه خلافات أبنائه لتعزيز مواقعهم .
إن العراق اليوم أحوج ما يكون الى البحث عن مرجعيات تنتشله من دائرة الموت المؤكد التي أوقعته بها مرجعياته التقليدية ، وعلى رأس هذه المرجعيات بطبيعة الحال المرجعية الدينية . وإذا كان البحث يستدعي بالضرورة تدشين إعلان رسمي بموت المرجعيات التقليدية ، وهو الإعلان الذي تأجل كثيراً للأسف الشديد ، بفعل إشكالية الوعي الشيعي الذي مازال يراوح في دائرة التضليل والمخاوف التي يأسره فيها الفقهاء والسياسيون المعتاشين على تأجيج العُقد ، فإن هذه الإعلان لابد أن يتخذ صورة فضح هذه المرجعيات بكل الطرق المشروعة ، وعدم منحهم الذريعة التي يحتاجونها في إطالة بقائهم المقيت ، كما أن البحث لا ينبغي أن يتخذ صورة تلفيق مرجعيات غريبة عن ثقافة المجتمع وهويته الحضارية ، بل لابد من الإنطلاق من هذه الهوية وهذه الثقافة تحديداً بعد تنقيتها من كل الشوائب التي ألحقتها بها المرجعيات التقليدية ، ولابد من وضوح فكرة أن موت المرجعيات القديمة يمر عبر تنقية الدين من شوائب هذه المرجعيات فهي المتنفس الذي يمد في عمرها الثقيل .
لا غنى لبذرة الوعي الجديد من ملاحظة حقيقة مهمة والتركيز عليها ، وهي أن كل الفصول المأساوية التي يكتبها المحتل وعملاؤه ترتضع مدادها من عمالة أو ممالئة المرجعيات الدينية على نحو خاص ، ففضائح المحتل هي فضائح المرجعيات الدينية بالدرجة نفسها على الأقل ، فعلى مطارق الوعي إذن أن تديم القرع كل يوم وكل لحظة على جرائم المحتل دون أن تنسى ولو للحظة نصيب المرجعيات من هذه الجرائم .
فالمرجعيات التي تسمي نفسها دينية ظلماً وعدواناً خذلت العراقيين ، وتركتهم مستفردين بإزاء عدو شرس ، بل اصطفت بالكامل في خندق هذا العدو ، من هنا لابد من الحرص الأكيد على تحريض الجموع الشعبية على مرجعيات الخيانة والمضي بهذا التحريض إلى غاياته القصوى ، المتمثلة بتقطيع كل الروابط مع هذه المرجعيات ، وتهيئة الشعب للثورة العارمة التي تقتلعهم من جذورهم ، وهو يوم قريب بإذن الله ، بل لعله أقرب مما يتصور أشد الناس تفاؤلاً .